شبهات وردود حول القرآن الكريم

الشيخ محمّد هادي معرفة

شبهات وردود حول القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-06-1983-3
الصفحات: ٦٠٧

(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)(١)

شاهد ثالث أخذوه دليلا على عموم الطوفان :

قال العلّامة الطباطبائي : هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعا أو معظمها الذي هو بمنزلة الجميع. قال : ولو كان الطوفان خاصّا بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها ـ كالعراق على ما قيل ـ لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. (٢)

وهذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان لعلّة استبقاء نسلها لئلّا تنقرض. قال صاحب المنار : والتقدير ـ على قراءة حفص [بتنوين كلّ] ـ : احمل فيها من كلّ نوع من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكرا وأنثى ، لأجل أن تبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض. (٣)

وعامّة المفسّرين على ذلك ، ولعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة وتوارد الإسرائيليات بهذا المعنى. جاء في سفر التكوين : ومن جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وانثى ، ومن البهائم غير الطاهرة اثنين ذكرا وانثى ، ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا وانثى ، لاستبقاء نسل على وجه كلّ الأرض. (٤) وهكذا ورد في الإسرائيليات. (٥)

ولكن ما قدر السفينة حتّى يحمل فيها مثل هذا العدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهلية والوحشية والحشار والطيور لئلّا ينقرض نسل الأحياء. بل وفي هذه الروايات : حمل الأزواج من أنواع النبات والشجر والأعشاب ، وهو من الغرابة بمكان!!

وبحقّ قال سيّد قطب : ومرّة اخرى تتفرّق الأقوال حول (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). وتشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليات قويّة.

وتعقّبه بقوله : أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتطّ حول النصّ (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ممّا يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء ، وما وراء ذلك خبط عشواء. (٦)

__________________

(١) هود ١١ : ٤٠ ؛ المؤمنون ٢٤ : ٢٧.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٠ ، ص ٢٧٤.

(٣) تفسير المنار ، ج ١٢ ، ص ٧٦.

(٤) سفر التكوين ، إصحاح ٧ / ٢ ـ ٣.

(٥) راجع : الدرّ المنثور للسيوطي ، ج ٤ ، ص ٤٢٣ فما بعد.

(٦) في ظلال القرآن ، ج ١٢ ، ص ٦٢ ، مجلّد ٤ ، ص ٥٤٨.

٤١

وهذا هو الرأي الصحيح ، فقد رخّص الله لنوح أن يحمل معه ما يملكه من الحيوانات الأهلية بقدر ما يحتاج إليه من زاد وراحلة ، ولا يثقل حمله حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأولى. وأمّا سائر الأحياء الأهلية والوحش فتتشرّد لوجهها ولا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث ، كما هو مألوف. هذا ما يدلّ عليه نصّ القرآن لا أكثر.

والزوجان ـ في الآية ـ يراد به المتعدّد في تشاكل ، أي من كلّ جنس عددا يفي لتأمين الحاجة بها.

وهذا نظير قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها) (في الأرض) (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)(١) أي من كلّ نوع في أشكال وألوان متقاربة ومتنوّعة ، كالتفّاحة في أشكالها وألوانها ، وهكذا الليمون والرّمان وسائر الفواكه من كلّ نوع فيها أزواج متشابهة. كما قال تعالى : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ)(٢) أي متشاكلا وغير متشاكل.

وجاء في وصف فواكه الجنّة : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ)(٣) أي صنفان متشاكلان. والمراد المتعدّد في أشكال وأصناف ، كما قال : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً)(٤) أي متشاكلا.

ومن الواضح أنّ الثمرة ـ وهي الفاكهة ـ ليس فيها ذكر ولا انثى ولا تزاوج لقاح ، وإنّما ذاك في بذور الأزهار لا في الفواكه والثمار.

على أنّها لغة دارجة : أن يراد بالمثنّى الشياع في الجنس لا الاثنان عددا. قال أبو علي : الزوجان في قوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) يراد بهما الشياع وليس يراد بهما عدد الاثنين ، كما قال الشاعر :

فاعمد لما يعلو فمالك بالذي

لا تستطيع من الامور يدان

يريد : الأيدي والقوى الكثيرة حتّى يستطيع التغلّب بها على الامور.

قال : ويبيّن هذا المعنى أيضا قول الفرزدق :

وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما

تعاطى القنا قوما هما أخوان (٥)

__________________

(١) الرعد ١٣ : ٣.

(٢) الأنعام ٦ : ١٤١.

(٣) الرحمن ٥٥ : ٥٢.

(٤) البقرة ٢ : ٢٥.

(٥) تعاطى مخفّف تعاطيا ، حذف اللام للضرورة. جامع الشواهد ، ص ٣٢٤.

٤٢

إذ رفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحل ، وإنما يريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين.

وأمّا وصف الزوجين بالاثنين فلإرادة التأكيد والتشديد في المتبوع ، كما قال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)(١) خطابا مع المشركين ، نهى عن اتخاذ الآلهة ، ومع ذلك جاء تأكيده بالاثنين ، زيادة في المبالغة. (٢) ومن ثمّ عقّبه بقوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

وإنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إله آخر معه سبحانه ، أي لا تتّخذوا مع الله إلها آخر ، والمعنى : النهي عن التعدّد في الآلهة وإن كان في صياغة المثنّى (٣) وقد بحثنا عن إرادة الشياع من المثنّى بتفصيل فليرجع إليه. (٤)

(وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ)(٥)

يقال : إنّه تعريب «جورداي» اليونانية ، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شماليّ العراق فإلى تركيا وبلاد أرمينية ذات قمّة رفيعة (٥١٧٥ مترا) عرفت ب «آراراط». شاع عند الأرامنة ـ القاطنين في المنطقة ـ أنّها مرسى سفينة نوح ، وأخذ عنهم العرب من غير تحقيق.

ويرجع هذا الشياع إلى عهد متأخّر (منذ القرن العاشر بعد الميلاد) حيث ترجمت عبارة التوراة : (رست السفينة على جبل الأكراد) بجبل آراراط.

ولم تكن الأرامنة تعرف لذلك الوقت مرسى متعيّنا للسفينة ، حتى شوّهت عليهم هذه الترجمة الخاطئة ، وجعلت الأوهام تحيك حولها أساطير.

جاء في دائرة المعارف الإسلامية : والمحقّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن وغيرهم من الكتّاب أنّ جبل «آراراط» لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة ما بحادث

__________________

(١) النحل ١٦ : ٥١.

(٢) راجع : مجمع البيان للطبرسي ، ج ٥ ، ص ١٦١.

(٣) المصدر : ج ٦ ، ص ٣٦٥.

(٤) فيما يأتي في البحث عن آية وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ فيما توهّم من المخالفة مع العلم.

(٥) هود ١١ : ٤٤.

٤٣

الطوفان. فالرواية الأرمنية القديمة لا تعرف ـ على التحقيق ـ شيئا على جبل استقرّت عليه فلك نوح. فلمّا أن جاء ذكر جبل في المؤلّفات الأرمنية المتأخّرة تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المقدّس ، المتزايد في هذه المؤلّفات. والكتاب المقدّس هو الذي يقول إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط. وأعلى هذه الجبال وأشهرها جبل «ماسك» (ماسيس) ومن ثمّ فلا بدّ أنّ نوحا قد حطّ بسفينته على هذا الجبل.

أمّا المرحلة الثانية من نموّ هذه الرواية الأرمنية فتردّ إلى الأوربيّين الّذين أطلقوا اسم آراراط (بالإرمينية : إيراراط) وهو اسم ناحية على جبل ماسك ، استنادا على تفسير خاطئ لسفر التكوين. (١)

وإنّما أخذت الرواية القائلة بأنّ «ماسك» هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة ، تجد مكانا في المؤلّفات الأرمنية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وتذهب التفاسير الدينية السابقة على هذا في الزمن ، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل «الجوديّ» أو جبال «جورديين» (بالسريانية : قردو. وبالإرمينية : كردخ) ـ كما تقول المصادر النصرانية ـ هو المكان الذي رست عليه سفينة نوح.

والمحقّق أنّ هذا التحديد للمكان الذي استقرّت عليه السفينة ـ وهو التحديد الذي ذكر حتّى في الترغوم (الترجمة الكلدانية للعهد القديم) ـ يسند إلى الرواية البابلية. وقد نشأ من الاسم البابلي «برسوس».

زد على ذلك أنّ جبل «نصر» الذي ذكر في قصّة الطوفان في الكتابات المسمارية يصحّ أيضا أن يحدّد مكانه في جبال «جورديين» بالمدلول الواسع لهذا الاسم. وقد أخذ النصارى بالرواية البابلية اليهودية القديمة ، وعرفها العرب منهم عند ما وصلوا بفتوحاتهم إلى إقليم «بهستان» (بلاد أرمينية). وأطلق العرب اسم الجودي ـ الوارد في القرآن ـ في غير تثبّت على جبل «قردو» المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن.

__________________

(١) المصدر : ٨ / ٤.

٤٤

وما زالت المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلى يومنا هذا حافلة ـ كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط ـ بالأساطير والذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان وحياة نوح بعد إذ غادر السفينة. (١)

* * *

وهكذا نرى الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) متأثّرا بتلكم الأساطير المسطّرة ، يقول : الجوديّ جبل مطلّ على جزيرة «ابن عمر» في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل. عليه استوت سفينة نوح عليه‌السلام.

ثمّ يذكر نصّ التوراة ـ مستشهدا به ـ : «... واستقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا ويوم كذا ... ويقول : هذا تعريب التوراة حرفا حرفا». (٢)

ما ندري ما ذا كان الأصل حتى ترجمه إلى ذلك. ولعلّه لقّن بذلك ـ وهو روميّ الأصل ـ من بعض الأرامنة المسيحيّين. وهكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب!

هذا ، ومن ورائهم زرافات من المفسّرين سواء في الغابر والحاضر ـ مع الأسف ـ من غير تريّث ولا تحقيق ، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير ، أشهرها وأشنعها تفسيرهم ذا القرنين بالإسكندر الكبير!

ومن مضاعفات هذا الزعم ـ كما نبّه عليه المحقّق الشعراني ـ (٣) القول بعموم الطوفان المستحيل. (٤) إذ لازمه أن يكون الماء قد غمر رءوس الجبال الشامخات ، حيث رست السفينة ـ بعد ما أخذت المياه في النضوب ـ على قمّة جبل ترتفع خمس كيلومترات!

وممّا يجدر التنبّه له : أنّ القوم حسبوا من كلمة «الجودي» ـ باعتبارها اسم جبل ـ أنّها أعجمية معرّبة ، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو «جورداين» أو «جورداي» أو «قوردو» أو غيرها؟

__________________

(١) راجع : دائرة المعارف الإسلامية المترجمة إلى العربية ، ج ٧ ، ص ١٦١ ـ ١٦٣ (الجودي).

(٢) معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ١٧٩.

(٣) معجم لغات القرآن للشعراني ، ج ١١ ، ص ١٤٤.

(٤) عادة في الطبيعة. ولا ضرورة تدعو إلى مثل هذا الإعجاز!

٤٥

لكن لا مبرّر لهذا الحسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص ولها سابق التعبير في جاهلية العرب. قال اميّة بن أبي الصلت :

سبحانه ثمّ سبحانا يعود له

وقبله سبّح الجوديّ والجمد

الجودي ـ من الجود ـ : الربوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها وابل آتت أكلها ضعفين. والجمد : الحزنة من الأرض تجمد بنباتها وتبخل سواء أصابها وابل أو طلّ.

قال أبو مسلم الأصبهاني : الجودي اسم لكلّ جبل وأرض صلبة. (١) في مقابلة الرخوة أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير ذات وحل ، وكانت ذات بركة عليه حينما نزل بها.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ). (٢) فأوّل مفاتح البركات نزوله بأرض ذات بركة وجود.

وأين هذا من حسبان نزوله في أعالي جبال شامخات ترتفع عن الأرض السهلة بخمس كيلومترات؟!

وهل كان نزوله حينذاك بسلام وبركات أم بشقاء وعناء؟!

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ)(٣)

هذه العبارة «وفار التنّور» إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعنى : وثار غضب الربّ ، كما يقال : فار فائره إذا اشتدّ غضبه. وبنو فلان تفور علينا قدرهم أي يشتدّ غضبهم علينا.

قال الشاعر :

تفور علينا قدرهم فنديمها

ونفثؤها عنّا إذا حميها غلا (٤)

وهكذا فار تنّورهم أي احتدّ سخطهم وثارت نائرتهم. فمعنى «فار التنّور» : حمى

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٦٥.

(٢) هود ١١ : ٤٨.

(٣) هود ١١ : ٤٠.

(٤) أساس البلاغة للزمخشري ، ج ٢ ، ص ٢١٧. وفثأ القدر ـ بالثاء المثلّثة ـ : إذا صبّ عليه ماء باردا ليفتر غليانه.

٤٦

غضب الربّ وإمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مفجر الماء.

غير أنّ التنّور ـ في أصله ـ اسم لما يخبز فيه ، والكلمة فارسيّة واستعملتها العرب بلا تحوير.

قال ابن دريد : التنّور فارسيّ معرّب. لا تعرف العرب له اسما غير هذا ، فلذلك جاء في التنزيل لأنّهم خوطبوا بما يعرفون.

وقال ابن قتيبة : روي عن ابن عبّاس أنّه قال : التنّور بكلّ لسان ، عربىّ وعجمي. (١)

واستعير لمفجر الماء. والتنانير : ينابيع الماء ، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار.

قال الفيروزآبادي : التنّور : كلّ مفجر ماء ، ومحفل ماء الوادي أي مجتمعه. وتنانير الوادي محافله (مواضع تجتمع فيها المياه) وهي الوهاد والمستنقعات في البراري.

ومعنى الآية على ذلك : وفارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها وثارت.

وهكذا جاء التعبير في سورة القمر : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ). (٢)

(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(٣)

وهل يعيش إنسان في مثل هذا العمر الطويل؟ الأمر الذي لم يكد يكون معروفا وحتّى في القرون الماضية ، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام وأعمارهم لم تختلف عن أعمارنا وقد مرّ لهم أربعون قرنا أو أكثر ، فكيف يكون ذلك؟

يقول الاستاذ عبد الوهاب النجّار : لا مانع من أن يعمّر آدم ومن قرب منه أعمارا طويلة ، لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يحمل هموما ولم تعتوره الأمراض المختلفة ولم تنهك قوّته الأطعمة التي لا يقدر على هضمها ، فكان من المعقول أن يعيش طويلا. وأمّا نحن وأمثالنا ممّن كانوا قبل أربعين قرنا فقد جئنا بعد أن أنهكت النوع

__________________

(١) المعرّب لأبي منصور الجواليقي ، ص ٢١٣. وراجع : جمهرة اللغة لابن دريد ، ج ٣ ، ص ٥٠٢ ، وج ٢ ، ص ١٤ ؛ وأدب الكاتب لابن قتيبة ، ص ٣٨٤.

(٢) القمر ٥٤ : ١١ ـ ١٣.

(٣) العنكبوت ٢٩ : ١٤.

٤٧

الإنساني الأمراض وطحنته الأدواء. فالواحد منّا عصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه وأمّهاته ، فلم تعد قوانا تتحمّل العمر الطويل.

وعند العلماء بالطبّ والأحوال الاجتماعية أنّ الإنسان قواه محدودة والحياة العريضة تستنفدها بسرعة بخلاف الحياة الضيّقة ، فإنّها تكون طويلة لقلّة ما يستنفد من قوى الأجسام بتلك الحياة. فنحن الآن لا نعيش عيشة البساطة التي كان يعيشها آدم ومن قرب منه ، بل نتفنّن في أنواع الطعام ولذائذ المعيشة بما ينهك قوانا ، فلا غرابة أن تكون أعمارنا قصيرة ، وقد اجتمعت عليها الأمراض المتوارثة والتبسيط في العيش. ويقول بعض الأطبّاء الألمان : إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا اتّبع نظاما خاصّا. (١)

وهكذا ذكر الشيخ محمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار في عهد كانت الحياة غير موسّعة الأطراف والمعيشة على بساطتها الاولى غير معقّدة الجوانب ولا كانت مزدحم الأمراض والأدواء والشدائد والآلام حيث كانت طبيعة العمران ومعيشة الإنسان الفطرية أسلم للأبدان. (٢)

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ)(٣)

دلّت الآية على أنّه لم يبق بعد الطوفان سوى نوح وبنيه وذراريه. وحتّى الذين ركبوا معه في الفلك ممّن آمن به ونجوا من الغرق هلكوا وانقرضوا بلا عقب. هكذا جاءت في الروايات الإسلاميّة عن ابن عباس وقتادة. قال الكلبي : لمّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلّا ولده ونساءهم. (٤) ومن ثمّ كان نوح عليه‌السلام هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم عليه‌السلام.

لكنّه يتنافى وقوله تعالى خطابا لبني إسرائيل : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ). (٥)

__________________

(١) قصص الأنبياء للنجّار ، ص ٤٨.

(٢) تفسير المنار ، ج ١٢ ، ص ١٠٤.

(٣) الصافّات ٣٧ : ٧٧.

(٤) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٤٤٧.

(٥) الإسراء ١٧ : ٣.

٤٨

والموصول عامّ يشمل من ركب مع نوح من المؤمنين ، ولا يخصّ ولد صلبه ـ كما قيل ـ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ.

والقول بتشعّب البشر من ولد نوح الثلاثة (سام ، حام ، يافث) رواية إسرائيلية بحتة ذكرتها التوراة : «ومن هؤلاء تشعّب كلّ الأرض». (١)

غير أنّها ذكرت أيضا أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بنوه وأزواجهم فحسب (٢) ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقا ممّا يبدو غريبا جدّا أو كانوا آمنوا ولكنّهم بقوا ليكونوا مع المغرقين ، وهذا أبعد وأغرب!

فالصحيح ما ذكره القرآن : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ). (٣) فقد ركب معه من المؤمنين جماعة وإن كانوا في قلّة بالنسبة إلى قومه الأكثرين. وقد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفسا. (٤)

فلا بدّ أنّ هؤلاء الذين ركبوا معه ونجوا كانوا معه وهبطوا جميعا بسلام (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ). (٥)

والتعبير بالامم ممّن معه يعطي تناسل الأمم منهم ، منهم المؤمنون كآبائهم ومنهم الفاسقون ، وهذا أيضا مطلق شامل لكلّ من ركب معه وهبط إلى الأرض بسلام.

فالخطاب ـ مع بني إسرائيل ـ بأنّهم ذرّية من حملنا مع نوح (يعني الذين آمنوا به) يشمل الجميع.

ثمّ لو كان المراد ذرّية ولد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذرّية نوح أولى ، من غير ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم!!

والوجه فيما ذكره الكلبي وغيره أنّه تأثّر بروايات إسرائيليّة وينبو عنه ظاهر تعبير القرآن.

بقي قوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ)(٦) يظهر منه أنّ البشرية أصبحت جميعا

__________________

(١) سفر التكوين ، إصحاح ٩ / ١٨.

(٢) المصدر : ٧ / ٨.

(٣) هود ١١ : ٤٠.

(٤) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٦٤.

(٥) هود ١١ : ٤٨.

(٦) الصافّات ٣٧ : ٧٧.

٤٩

من ذرّية نوح ولم يعقّب الآخرون.

لكن في رواية أبي الجارود عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال : الباقون بالحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عقبه. قال : وليس كلّ من في الأرض من بني آدم ، من ولد نوح. واستشهد عليه‌السلام بالآية من سورة هود : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ). (١)

وهو تأويل وجيه يدعمه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ). (٢) وهذا هو معنى البقاء (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ). (٣) يعني إبراهيم عليه‌السلام وقال تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ...). (٤)

فالبقيّة الباقية في مصطلح القرآن هم الذين ورثوا الكتاب والنبوّة والإيمان ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. هذا هو البقاء وفي غيره الفناء ، الأمر الذي تحقّق في ذرّية نوح وإبراهيم عليهما‌السلام.

قال الحسن البصرى : هلك المتمتّعون في الدنيا ، لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة ، فلا يتفكّرون إلّا في الدنيا وعمارتها وملاذّها ... (٥)

قال الإمام أمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين : هلك خزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر. (٦)

نوح عليه‌السلام بعد الهبوط

قال تعالى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ). (٧)

دلّت الآية على أنّ نوحا هبط بسلام وبركات. فقد أسّس أمّة وبنى حضارة من

__________________

(١) تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ٢٢٣.

(٢) الحديد ٥٧ : ٢٦.

(٣) الزخرف ٤٣ : ٢٨.

(٤) هود ١١ : ١١٦.

(٥) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٦٨.

(٦) نهج البلاغة ، قصار الكلم ، رقم ١٤٧ ، في كلامه عليه‌السلام مع كميل بن زياد النخعي عليه الرحمة ، ص ٤٩٦.

(٧) هود ١١ : ٤٨.

٥٠

جديد وعمر الأرض وأحيى البلاد وسعى في إعلاء كلمة الله في الأرض على بنيان مرصوص.

فقد أخذ من تجارب ماضية دليلا هاديا له إلى تأسيس معالم جديدة تنير درب الإنسان إلى حيث سعادته الخالدة ، وكان التوفيق حليفه في هذا الشطر من حياته الكريمة ، وصار قدوة لمن جاء بعده من الأنبياء. وحتّى أنّ إبراهيم الخليل عليه‌السلام أصبح من شيعته ، (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). (١)

قال تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ...). (٢)

وكم عاش نوح بعد الطوفان؟ القرآن ساكت عنه ، وفي الروايات اختلاف ، خمسين إلى خمسمائة عام (٣) أو أكثر ممّا لا اعتداد به.

والد إبراهيم عليه‌السلام تارح أو آزر؟

ذكرت التوراة : أنّ والد إبراهيم عليه‌السلام هو «تارح» براء مفتوحة وحاء مهملة. (٤) وجاء في القرآن : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ...). (٥)

قال الزجّاج : لا خلاف بين النسّابين أنّ اسم والد إبراهيم عليه‌السلام تارح. ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن. وقال : هذا النسب ـ الذي جاء في القرآن ـ خطأ وليس بصواب.

وحاول الإمام الرازي الإجابة عن ذلك بأنّه من المحتمل أنّ والد إبراهيم كان مسمّى باسمين ، فلعلّ اسمه الأصلي آزر ، وجعل تارح لقبا له ، فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم ، والقرآن ذكره بالاسم. (٦)

ويتأيّد هذا الاحتمال بأنّ «تارح» بالعبرية يعطي معنى الكسول المتقاعس في

__________________

(١) الصافّات ٣٧ : ٨٤.

(٢) الصافّات ٣٧ : ٧٥ ـ ٨٤.

(٣) راجع : كمال الدين للصدوق ، ص ١٣٤ ، رقم ٣ ؛ وبحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٢٨٩.

(٤) سفر التكوين ، إصحاح ١١ / ٢٧.

(٥) الأنعام ٦ : ٧٤.

(٦) راجع : التفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ٣٧ ؛ وتفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ١٩٤.

٥١

العمل. (١) أمّا «آزر» فهو النشيط في العمل ، لأنّه من «الأزر» بمعنى القوّة والنصر والعون. ومنه «الوزير» أي المعين. قال تعالى حكاية عن موسى بشأن هارون : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي). (٢) وهذا المعنى قريب في اللغات الساميّة ، ومن ذلك عازر وعزير في العبرية ، وجاءت المادّة بنفس المعنى في العربية. قال الله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ). (٣) ومعلوم أنّ العين والهمزة يتعاوران في اللغتين العبرية والعربية. (٤)

فلعلّ اسمه الأصلي كان «آزر» بمعنى النشيط ، لكنّهم رأوا منه كسلا وفشلا في العمل والهمّة فلقّبوه بتارخ. وكما اشتهر نبيّ الله يعقوب بلقب «إسرائيل».

* * *

أمّا مفسّرو الشيعة الإمامية فيرون أنّ «آزر» هذا لم يكن والد نبيّ الله إبراهيم عليه‌السلام وإن كان إبراهيم يدعوه أبا ، لأنّ «الأب» أعمّ من الوالد ، فيطلق على الجدّ للامّ ، وعلى المربّي والمعلّم والمرشد ، وعلى العمّ أيضا حيث جاء إطلاق الأب عليه في القرآن. فقد حكى الله على أولاد يعقوب قولهم : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)(٥) وإسماعيل كان عمّا ليعقوب.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : والذي قاله الزجّاج يقوي ما قاله أصحابنا : أنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأمّه ، أو كان عمّه ، لأنّ أباه كان مؤمنا ، لأنّه قد ثبت عندهم أنّ آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آدم كلّهم كانوا موحّدين لم يكن فيهم كافر ، ولا خلاف بين أصحابنا في هذه المسألة.

قال : وأيضا روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : نقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، لم يدنّسني بدنس الجاهلية. وهذا خبر لا خلاف في صحّته. (٦) فبيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ

__________________

(١) جاء في قاموس الكتاب المقدّس (بالفارسية) ص ٢٤١ : «تارح : تنبل» أي الكسلان.

(٢) طه ٢٠ : ٣١.

(٣) الأعراف ٧ : ١٥٧.

(٤) راجع : قصص الأنبياء للنجّار ، ص ٧٠.

(٥) البقرة ٢ : ١٣٣.

(٦) ورد في تأويل قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ، الشعراء ٢٦ : ٢١٩ ، بطرق الفريقين أحاديث متظافرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لم أزل انقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات». راجع : التفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ٣٩ ؛ والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٣٢ ؛ مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٠٧.

٥٢

الله نقله من أصلاب الطاهرين ، فلو كان فيهم كافر لما جاز وصفهم بأنّهم طاهرون ، لأنّ الله وصف المشركين بأنّهم أنجاس : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ). (١)

قال : ولهم في ذلك أدلّة لا نطول بذكرها الكتاب لئلّا يخرج عن الغرض. (٢)

* * *

وللإمام الرازي هنا بحث طويل وحجج أقامها دعما لما يقوله مفسّرو الشيعة. وأخيرا يقول : فثبت بهذه الوجوه أنّ «آزر» ما كان والد إبراهيم عليه‌السلام بل كان عمّا له ، والعمّ قد يسمّى بالأب ، كما سمّى أولاد يعقوب إسماعيل أبا ليعقوب. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن عمّة العباس حين اسر : ردّوا عليّ أبي.

قال : وأيضا يحتمل أنّ «آزر» كان والد أمّ إبراهيم. وهذا قد يقال له الأب. والدليل عليه قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ـ إلى قوله ـ (وَعِيسى). (٣) فجعل عيسى من ذرّية إبراهيم ، مع أنّه عليه‌السلام كان جدّا لعيسى من قبل الامّ. (٤)

* * *

ولسيّدنا الطباطبائي تحقيق بهذا الشأن ، استظهر من القرآن ذاته أنّ «آزر» الذي خاطبه إبراهيم بالأبوّة وجاء ذلك في كثير من الآيات لم يكن والده قطعيّا.

وذلك أنّ إبراهيم في بداية أمره حين كان بين أظهر قومه من أرض كلدان ، وكان تحت كفالة آزر ، وقد حاجّ قومه وحاجّ أباه كثيرا وفي فترات ومناسبات مؤاتية ، وكان أبوه آزر يطارده ويؤنّبه على جرأته على آلهة قومه : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا. قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي

__________________

(١) التوبة ٩ : ٢٨.

(٢) تفسير التبيان للطوسي ، ج ٤ ، ص ١٧٥. وراجع : أيضا مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٣٢٢.

(٣) الأنعام ٦ : ٨٤ و ٨٥.

(٤) التفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ٤٠.

٥٣

حَفِيًّا). (١)

فإبراهيم هنا قد وعد أباه أن يستغفر له ، وبالفعل وفى بوعده : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ. وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ). (٢)

لكن سرعان ما رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيرا ، ومن ثمّ تبرّأ منه حين لم يرج فيه الصلاح ويئس منه. قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ). (٣)

هذا في بداية أمره قبل مغادرة بلاده وقومه قاصدا البلاد المقدّسة. والدليل على ذلك أنّه يبدأ الدعاء بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ...) الخ.

* * *

وبعد ذلك يأتي دور مغادرته إلى الأرض المقدّسة ، ويبتهل إلى الله أن يرزقه أولادا صالحين. (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ. وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ). (٤)

وهنا يجيب الله دعاءه : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ). (٥)

ثمّ إنّه لمّا كبر ابنه إسماعيل وبنى البيت الحرام نراه يدعو لوالديه ويستغفر لهما : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) إلى قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ). (٦)

قال العلّامة الطباطبائي : والآية بما لها من السياق والقرائن المحتفة بها خير شاهدة على أنّ والده الذي دعا له واستغفر له هنا غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيام. فقد تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذكره في تلك الآيات لم يكن والد إبراهيم ولا أباه الحقيقي ،

__________________

(١) مريم ١٩ : ٤١ ـ ٤٧.

(٢) الشعراء ٢٦ : ٨٦ ـ ٨٩.

(٣) التوبة ٩ : ١١٤.

(٤) الصافّات ٣٧ : ٩٨ ـ ١٠٠.

(٥) الأنبياء ٢١ : ٧١ و ٧٢.

(٦) إبراهيم ١٤ : ٣٥ ـ ٤١.

٥٤

وإنّما صحّ إطلاق الأب عليه لوجود عناوين تسوغ اللغة مثل هذا الإطلاق ، كالجدّ للأمّ والعمّ ، وزوج الأمّ ، وكلّ من يتولّى شأن صغير ، وكذا كلّ كبير مطاع ، ونحو ذلك. وليس مثل هذا التوسّع في إطلاق لفظ الأب مختصّا بلغة العرب ، بل هو جار في سائر اللغات أيضا. (١)

الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق!

جاء في سفر التكوين ، الإصحاح ٢٢ :

١ ـ وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله امتحن إبراهيم ، فقال له : يا إبراهيم ، خذ ابنك وحيدك الذي تحبّه إسحاق واذهب إلى أرض المريّا وأصعده هناك.

٩ ـ فلمّا أتيا إلى الموضع ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب.

١٠ ـ ثمّ مدّ إبراهيم يده وأخذ السكّين ليذبح ابنه.

١١ ـ فناداه ملاك الربّ من السماء.

١٢ ـ فقال : لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا ، لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله ، فلم تمسك ابنك وحيدك عنّي.

١٣ ـ فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه ، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه.

١٥ ـ ونادى ملاك الربّ إبراهيم ثانية من السماء ، وقال : بذاتي أقسمت يقول الربّ : إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك ، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر. ويرث نسلك باب أعدائه ، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض. من أجل أنّك سمعت لقولي.

* * *

بطل هذه القصّة عند اليهود هو إسحاق ، ولعلّ لفظ إسحاق حشر حشرا في غضون القصّة ، وذلك حرصا من بني إسرائيل على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاء بنفسه في

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ، ج ٧ ، ص ١٦٨ ـ ١٧١.

٥٥

طاعة ربّه ، وبورك للعالمين في نسله.

غير أنّ التعبير ب «ابنك وحيدك» ـ دليلا على سخاء نفس إبراهيم بولده الوحيد يذبحه امتثالا لأمر ربّه ـ ممّا يتنافى وكون الذبيح هو إسحاق ، الذي كان أصغر من أخيه إسماعيل بأربعة عشرة عاما.

فالابن الوحيد الذي جادت نفس إبراهيم بذبحه ليس سوى إسماعيل.

وقرينة اخرى : إنّ الذي بورك العالمون بنسله وأفاض نسله بالبركات على العالمين هو إسماعيل ، دون إسحاق الذي كان ولا يزال نسله (بنو إسرائيل) نكبة في العالمين ، ومفجر الفساد بين العباد ، والعيث في البلاد.

وفي القرآن إشارة إلى ذلك ، حيث يقول تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ). (١)

فالتبشير الأول بغلام حليم ينبئ عن أنّ إبراهيم لم يكن صاحب ولد لحينذاك ، حيث بشّره بغلام.

والتبشير الثاني جاء تصريحا باسم إسحاق نبيّا من الصالحين. فيدلّ على أنّ التبشير الأول كان بغير إسحاق ، وهو إسماعيل.

وفي الإصحاح ٢١ من سفر التكوين :

إن الربّ بشّر إبراهيم بنسل في ولده إسحاق. وبنسل في ولده إسماعيل ، ولكن يجعل من نسل إسماعيل أمّة.

جاء في العدد ١٢ : لأنّه بإسحاق يدعى لك نسل.

__________________

(١) الصافّات ٣٧ : ١٠١ ـ ١١٣.

٥٦

وفي العدد ١٣ : وابن الجارية أيضا سأجعله أمّة لأنّه نسلك.

ومن ذلك يعرف أنّ البركة العامّة الشاملة التي جعلت في نسل الذبيح خاصّة بولد إسماعيل فقد أصبحوا أمّة هيمنت ببركتها ما بين الخافقين.

قصّة لوط مع ابنتيه كما هي في التوراة

جاء في الإصحاح ١٩ من سفر التكوين :

٣٠ ـ وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه ، لأنّه خاف أن يسكن في صوغر ، فسكن في المغارة هو وابنتاه.

٣١ ـ وقالت البكر للصغيرة : أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلّ الأرض.

٣٢ ـ هلمّ نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه ، فنحيي من أبينا نسلا.

٣٣ ـ فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة ، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٤ ـ وحدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة : إنّي قد اضطجعت البارحة مع أبي ، نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه ، فنحيي من أبينا نسلا.

٣٥ ـ فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا ، وقامت الصغيرة واضطجعت معه ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.

٣٦ ـ فجعلت ابنتا لوط من أبيهما.

٣٧ ـ فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب ، وهو أبو المؤابيين إلى اليوم.

٣٨ ـ والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمّي. وهو أبو بني عمّون إلى اليوم.

* * *

هذا ، ولكنّ القرآن يأبى أن تتلوّث ساحة قدس نبيّ من أنبيائه بمثل هكذا تلوّث فضيع. فقد نزلت بشأنه ورفعة مقامه آيات تتلى ولتكون شهادة من الله بنزاهة ساحة قدس

٥٧

أوليائه الكرام :

قال تعالى : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ. وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). (١)

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ). (٢)

يعقوب ينتهب النبوّة من أخيه عيسو!

لم تتوان اليهود في الحطّ من كرامة الأنبياء حتّى ولقد مدّوا يد التدنيس إلى حياة أبيهم يعقوب ليجعلوه متزوّرا لبّس الأمر على أبيه إسحاق لينتهب النبوّة من أخيه «عيسو» حيث كان مرشّحا لها من قبل أبيه. فأغفل يعقوب أباه إسحاق واستغلّ عماه ليتصوّر أنّه عيسو فيبارك له بالنبوّة! في مثل هذا التلاعب الصبياني تذكر التوراة حادث انتقال النبوّة من إسحاق إلى يعقوب. يا لها من مهزلة حمقانيّة وإساءة أدب إلى ساحة أنبياء الله العظام! (٣)

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٧٤ و ٧٥.

(٢) الصافّات ٣٧ : ١٣٣ ـ ١٣٥.

(٣) جاء في الإصحاح ٢٧ من سفر التكوين : وحدث لمّا شاخ إسحاق وكلّت عيناه أنّه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال : اخرج إلى البريّة وتصيّد لي صيدا ، واصنع لي أطعمة حتّى تباركك نفسي قبل أن أموت. وكانت رفقة (زوجة إسحاق وأمّ يعقوب) سامعة إذ تكلّم إسحاق مع عيسو ابنه ، فكلّمت يعقوب ابنها بما قال أبوه ، قالت : فالآن يا ابني اذهب إلى الغنم وخذ جديين جيّدين من المعزى ، فاصنعهما أطعمه لأبيك كما يحبّ ، فتحضرها إليه ليأكل ويباركك قبل وفاته. فذهب يعقوب وأخذ وأحضر لأمّه ، فصنعت أطعمة كما كان يحبّ أبوه. وأخذت رفقة لباس عيسو الفاخرة وألبستها ابنها يعقوب. وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى ـ لأنّ عيسو كان أشعر ويعقوب كان أملس ـ صنعت ذلك تلبيسا على إسحاق. وأعطت الأطعمة في يد يعقوب. فدخل إلى أبيه وقال : يا أبي فقال : ها أنا ذا ، من أنت يا ابني؟ فقال يعقوب : أنا عيسو بكرك ، قد فعلت كما كلّمتني ، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك. فقال إسحاق : ما هذا الذي أسرعت؟ فقال : إنّ الربّ إلهك قد يسّر لي. فقال إسحاق : تقدّم لأجسّك يا ابني ، أأنت هو ابني عيسو أم لا. فتقدّم يعقوب ، فجسّه وقال : الصوت صوت يعقوب ، ولكن اليدين يدا عيسو. ولم يعرفه ، لأنّ يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه ، فباركه وقال : هل أنت هو ابن عيسو؟ فقال : أنا هو. فدعا له إسحاق وقال : ليستعبد لك شعوب ، وتسجد لك قبائل. كن سيّدا لإخوتك وليسجد لك بنو أمّك. وعند ما فرغ إسحاق من بركة يعقوب وخرج من عنده جاء عيسو وأتى بالصيد ليبارك له أبوه فارتعد إسحاق ارتعادا عظيما جدّا ، واتّضح الأمر ، فصرخ عيسو صرخة عظيمة ومرّة جدّا ، وقال لأبيه : باركني أيضا. فقال : قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. ورفع عيسو صوته وبكى ، وقال : قد أخذ يعقوب بكورتي وبركتي. وعزم على قتل أخيه ، لو لا فراره من وجهه واختفاؤه عند أخواله بإشارة من أمّه رفقة. وهكذا أصبح يعقوب نبيا وأصبح إخوته عبيدا له.

٥٨

يعقوب يصارع الربّ

وكارثة اخرى ألصقوها بنبيّ الله يعقوب ، وهي أنّه صارع الربّ ليلته كلّها ، ولم يتركه حتّى ضربه الربّ على حقّ فخذه أي رأس وركه ، فباركه حتى تركه يعقوب. (١)

أمّا القرآن فإنّه يصف إسحاق ويعقوب بأجمل وصف وأنّهما من عباد الله الصالحين : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ). (٢)

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). (٣)

والآيات بترفيع شأن إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب وإسماعيل كثيرة في القرآن ، على العكس ممّا جاء في التوراة اليهوديّة ، من الحطّ بكرامة الأنبياء عليهم‌السلام.

خروج بني إسرائيل وتجاوزهم البحر

جاء في سفر الخروج أنّ فرعون اضطرّ إلى إطلاق سراح بني إسرائيل لما أصاب القبطيّين من الجدب والبلاء ، لكنّه فور ما أطلق سراحهم ندم على ذلك فأخذ هو وجنوده

__________________

(١) جاء في الإصحاح ٣٢ من سفر التكوين رقم ٢٢ ـ ٢٩ : ثمّ قام في تلك الليلة وأخذ امرأتيه وجاريتيه وأولاده الأحد عشر ، وعبر مخاضة يبوق. أخذهم وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له. فبقى يعقوب وحده. وصارعه إنسان حتّى طلوع الفجر. ولمّا رأى أنّه لا يقدر عليه ضرب حقّ فخذه ، فانخلع حقّ فخذ يعقوب في مصارعته معه ، وقال : أطلقني لأنّه قد طلع الفجر. فقال لا اطلقك إن لم تباركني. فقال له ما اسمك؟ فقال : يعقوب. فقال : لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب ، بل إسرائيل. لأنّك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال : أخبرني باسمك. فقال : لما ذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل ، قائلا : لأنّي نظرت الله وجها لوجه.

(٢) ص ٣٨ : ٤٥ ـ ٤٧.

(٣) الأنعام ٦ : ٨٣ ـ ٨٨.

٥٩

يعقّبونهم ليردّوهم إلى الذلّ والعبوديّة الاولى ، غير أنّ بني إسرائيل ضلّوا الطريق إلى فلسطين ـ وكانت قريبة ـ فأخذوا في الطريق البعيد. وتقول التوراة : إنّ الله هو الذي أضلّهم كي لا يندموا إذا رأوا حربا فيرجعوا إلى مصر. فأدركهم فرعون وهم على ضفّة البحر الأحمر. فلمّا رأى بنو إسرائيل فرعون وجنوده ذعروا وفزعوا إلى موسى ، فأوحى الله إليه أنّهم ناجون وأنّ فرعون وجنوده سوف يغرقون ، وحال بينهم وبين فرعون ، فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر ويشقّه ، ففعل فأجرى الله بريح شرقية شديدة كلّ اللّيل وجعل البحر طريقا يابسة وانشقّ الماء ، فمشى بنو إسرائيل على اليابسة في وسط البحر والماء كالسور عن يمينهم وعن يسارهم وعبروا إلى الضفّة الاخرى. ورآهم فرعون يسيرون على اليابسة فسار في أثرهم ، فلمّا توسّط اليمّ وعبر بنو إسرائيل جميعا انطبق الماء على فرعون وجنوده فاغرقوا جميعا ولم يبق منهم ولا واحد. (١)

ونصّت التوراة أنّ البحر الذي جاوزه بنو إسرائيل هو بحر سوف ، (٢) والموضع الذي انشقّ منه كان عند فم الحيروث أتام بعل صفون. (٣) وجاء في قاموس الكتاب المقدّس أنّه «القلزم». (٤)

و «فم الحيروث» مضيق قرب نهاية خليج السويس على ما جاء في خارطة الأراضي المقدّسة ـ ملحق كتب العهدين.

وهكذا جاء في المأثور من دعاء «المسماة» المعروف بدعاء «شبّور» : «ويوم فرقت لبني إسرائيل البحر وفي المنبجسات التي صنعت بها العجائب في بحر سوف ...».

وقال العلّامة المجلسي ـ في شرح الدعاء ـ : سمّاه الهروي في الغريبين «إساف» قال : وهو الذي غرق فيه فرعون. قال المجلسي : وهذا البحر هو بحر القلزم. (٥)

ولعلّ ما جاء في عبارة الدعاء «وفي جبل حوريث» (٦) أيضا إشارة إلى «فم

__________________

(١) سفر الخروج ، إصحاح ١٠ ـ ١٤.

(٢) المصدر : ١٣ / ١٨ ، و ١٥ / ٥.

(٣) المصدر : ١٤ / ٩.

(٤) قاموس الكتاب المقدّس لجيمس هاكس ، ص ٤٩٦.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١١٢.

(٦) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١١٢.

٦٠