شبهات وردود حول القرآن الكريم

الشيخ محمّد هادي معرفة

شبهات وردود حول القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-06-1983-3
الصفحات: ٦٠٧

سروستان وفيروزآباد على أقواس وقباب لأبنية قديمة ، يعتقد أنّها من بقايا عصر كورش الكبير ، كما يوجد حجر مكعّب الشكل يعرف بتخت طاوس في پاسارگاد على مقربة من مقبرة كورش كان واحدا من أعتاب معبد قديم.

أضف إلى ذلك «ترعة سويس» ـ قناة تصل البحر الأحمر بالمتوسط ـ ذلك المشروع العظيم ، كان أوّل من أمر بحفرها هو الملك الفارسي داريوش الأول الهخامنشي. وذلك بعد أن استولى على مصر وبلاد إفريقيّة مجاورة. وقد عثر في حفريّات هناك على ضفاف الترعة كتيبة فيها دلالة واضحة على السيرة الحسنة التي كان يراعيها ملوك فارس مع أبناء البلاد التي كانوا يمتلكونها آنذاك. الأمر الذي يدلّ على حضارة راقية كانت تسود إمبراطوريّة فارس. (١)

والأمثلة لا حصر لها في هذا المبحث من موضوعنا ، وكلّها تجيب على السؤال المطروح : هل كانت فارس على درجة من التحضّر والتقدّم بما يوفّر الخبرة الهندسيّة لتشييد السدود والأعمال العمرانية؟

ومن العرض البسيط قد تحقّقنا من تقديم كورش الخبرة والمهندسين والإشراف لسكّان منطقة سهول القوقاز وبحر قزوين والبحر الأسود.

* * *

وأمّا عن الإمكانيّات التي يمكن أن يكون قد طلبها ذو القرنين من الامم المسالمة في المنطقة الوادعة ، حسب فهمنا للآية الكريمة ، فنأخذ أوّلا : القوّة البشرية (العمالة) التي يمكن أن يكون كورش قد طلبها. فإنّ المنطقة حسب التخمين العام كانت آهلة ومزدحمة بالسكّان ويمكن حساب عدد السكّان (تقريبا) في إقليم آذربيجان ـ إرمينيّة ـ داغستان ـ جورجيا وما والاها سنة ٥٥٠ ق. م كان على الأرجح ما يقرب من ٠٠٠ / ١٧٠ نسمة. (٢)

__________________

(١) راجع : تاريخ إيران ، ص ١٢٤ ـ ١٣٢.

(٢) وذلك على حسب الإحصاءات التقريبيّة والتي قدّرت عدد نفوس العالم قبل الميلاد بثمانية آلاف سنة ، وكانت خمسة ملايين نسمة. وقبل خمسة قرون من الميلاد بعشرين مليون. وقبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة بأربعين مليون. وقبل الميلاد بألف سنة بمائة مليون. وبعده بألف : ٠٠٠ / ٠٠٠ / ٢٧٥ وفي سنة ١٦٥٠ م : ٠٠٠ / ٠٠٠ / ٥٤٥. وذلك على ـ

٥٠١

فلو افترضنا أنّ العمالة كانت تمثّل بنسبة ٦% من السكّان ، لعرفنا أنّ العمالة التي تقدّر للاشتراك في بناء السدّ ما يزيد على (٠٠٠ / ١٠٠) مائة ألف عامل.

وهذا العدد يمكنه بالفعل إنجاز العمل في سدّ ثغرة «داريال» لمدّة عشر سنوات تقريبا.

والموادّ الخام التي شيّد منها سدّ ذي القرنين حسب وصف القرآن الكريم : خامات الحديد.

تحتوي أراضي آذربيجان على معادن الحديد بكمّيات كبيرة ، ويشهد لذلك قيام صناعة الحديد والصلب الآن في مدينة «باكو». فإذا كان الإقليم غنيّا به الآن فلا شكّ أنّه كان أغنى زمن كورش بالطبع.

أمّا إرمينيّة فغنيّة بمعادنها ، ويكثر بها على وجه الخصوص خام الحديد والنحاس والرصاص والزرنيخ وحجر الشبّ والكبريت والذهب. وابن الفقيه (١) هو الكاتب الإسلامي الوحيد الذي أمدّنا بمعلومات قيّمة عن الثروة المعدنيّة في إرمينيّة.

ويذكر المؤرّخ الأرمني (ليونتيوس) أنّ مناجم الحديد والفضّة في تلك البلاد كشفت حوالي نهاية القرن الثامن للميلاد ، وتدلّ ملامح الأرض على مناطق محفورة في الجبال تشير إلى استنفاد السّكّان الأقدمين لاحتياطي الحديد القديم الذي كان يستخرج في العراء دون عناء كبير. وهي تقع في منتصف الطريق بين أطرابزندة وأرزن الروم. كما يوجد الحديد بوفرة في جورجيا بالقرب من «تسخالطابو» و «محج قلعة» و «دربند» في داغستان وغيرها. وفي مناطق الحدود الإرمينيّة في تركيا إقليم الحديد المشهور الذي يقدّر احتياطيه بحوالي ٢٥ مليون طنّ وتبلغ نسبة الحديد في الفلز ما بين ٦٠ ـ ٦٦% وهي نسبة عالية. وقد استخرج الحيثيّون من آلاف السنين كمّيّات هائلة من الحديد من هذا الإقليم ، وأهمّ مناطق انتاجه الآن هناك إقليم «ديفرجي».

__________________

ـ حساب (O.A.F) المعروف. مفاهيم جغرافية ، ص ٣٠٤. وبذلك يقدّر عدد نفوس العالم سنة (٥٥٠ ق. م) : ١٦٨ مليون نسمة. ويكون قسط إقليم آذربيجان وإرمينيّة وداغستان وجورجيا ذلك العهد ـ على حساب التقسيم على المائة ـ ما يقرب من ٠٠٠ / ١٧٠ نسمة.

(١) كاتب شاعر مجيد من أهل الموصل توفي ٦٣٦ ه‍ / ١٢٣٨ م.

٥٠٢

أمّا عن الفحم والأخشاب اللازمين لصهر الحديد ، فتكوينيّات منطقة «كلاكنت» بأرمينيّة فيها احتياطيّ كبير. وفي سواحل البحر الأسود تعتبر مناجم «زونفلداك» من المناطق الغنيّة جدّا بخامات الفحم ، وهو من النوع البيتومين ويعطي نوعا جيّدا من فحم الكوك الذي يستخدم في صناعة الحديد.

وأمّا عن الأخشاب فيذكر ابن حوقل أنّ إقليم أردبيل كثير البساتين والأنهار والمياه والأشجار والفواكه الحسنة والخيرات والغلّات ، وكذلك إقليم المراغة. ويقول عن إقليم اروميّة : إنّه كثير الكروم والمياه الجارية والضياع والرساتيق. ويضمّ الإقليم أيضا : أشنة ، كثيرة الشجر والخضر والخيرات ومدينة برذعة ، كثيرة الخصب والزرع والثمار والأشجار.

كما أنّ مجموعة أنهار كورا (كوروش) ونهر ترك ، وكذلك صولاق ونهر آراكس ونهر آيورا ، كلّها محاطة بمساحات هائلة من الأخشاب ، لانتشار أشجار الدردار والبلوط والصنوبر والارز والشوح والعرعر والزيتون البرّي.

خامات النحاس ـ التي طلبها «كورش ذو القرنين» من سكّان الإقليم حسبما عبّر القرآن الكريم : (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) ... هذه الخامات ثبت علميّا وتأريخيّا توفّرها بالمنطقة ، فالدراسات الجيولوجيّة الحديثة أثبتت وجودها بوفرة في تكوينيّات «زنجان» و «أنارك» وشمال أصفهان وفي جنوب آذربيجان ، كميّات هائلة منه. وفي إرمينيّة أصبحت مناجم النحاس الكبيرة المعروفة منذ القدم ، شاهد على استخراج السكّان القدامى لخاماته ، خصوصا في منطقة «كدابك» وما يتبعها من منجم فرعي في إقليم «كلاكنت» ـ بين البزاوتيول وبحيرة كوك جاي ـ وقد اعيد إحياء مجد الإقليم في مجال استخراج النحاس حديثا في السنوات الأخيرة ، بفضل إدارة إخوان «سيمنس» مؤسّسي مصانع سبك المعادن هناك.

ومن ناحية توفّر العدد اللازم من حيوانات الجرّ والحمل ، فالإقليم غنيّ بالثروة الرعويّة والحيوانيّة ، لأنّه يقع بين خطّي عرض ٣٠ ـ ٤٥ شمالا ، وينحصر بين إقليم البحر

٥٠٣

المتوسط غربا وإقليم الصين شرقا ويمتدّ في اوراسيا بين التركستان الصينيّة ورومانيا ، ويشمل بذلك كلّ آذربيجان وإرمينيّة والقوقاز وجورجيا وداغستان وأنجازيا وأجاريا. ولكثرة حشائش الإقليم سمّيت إقليم المراعي المعتدلة الدفيئة ، وهي غنيّة تكفي رعي الماعز والضأن على الهضاب ، والأبقار والمواشي في السهول ، والجمل أيضا معروف هناك وهو من نوع ذي السنامين وحيوان الياك (kAY). (١) وقد استخدمه السكّان في النقل تماما كالحمير ، وهو يمتاز على الحمير بوجود أظفار في رجليه تساعده على ارتقاء المرتفعات والتنقّل بأحماله بينها. كما يوجد هناك منذ القدم عشرات الآلاف من الخيول السيسي الشهيرة بقدرتها على حمل الأثقال وجرّ العربات.

ومن حيث توفّر المؤن لمواجهة استهلاك العمّال والمهندسين من غذاء لازم حتّى إتمام تشييد السّدّ ، فقد عرف الإقليم جميع الحبوب من آلاف السنين ، وكانت إرمينيّة تعتبر من أخصب أملاك الخلافة العباسيّة ، وكانت الغلال تستنبت فيها بكثرة وتصدر إلى الخارج كبغداد مثلا ، (٢) وكان السمك يكثر في بحيراتها وأنهارها ويصدر إلى الخارج أيضا ، (٣) وكانت خيرات الإقليم تتوجّه زمن كورش إلى همدان وسائر البلاد المعروفة ذلك اليوم.

وأودية هذا الإقليم الكبير مزدحمة بغابات الأشجار المثمرة ، وفي مناطق العراء كانت زراعة البطاطا والشمندر السكّري من أهمّ حرف السكّان في العصور القديمة.

ففي آذربيجان كان القمح الشتوي يزرع هناك بنجاح كبير ، علاوة على أنواع اخرى من الحبوب وكذلك الكروم والجوز ... وداغستان بلاد زراعيّة بالدرجة الاولى من

__________________

(١) نوع من البقر الوحش عظيم الجثّة وقوّتها. يكثر وجوده في جبال آسيا الغربيّة والوسطى ولا سيما هضبات تبّتب. وقد استخدموه لحمل الأثقال.

(٢) انظر : تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٥. (مفاهيم جغرافية ، ص ٣١١).

(٣) وقد ورد أنّ شهرة الإقليم بالأسماك كمورد غذائي للسكّان والتصدير لا تضارع ، حيث كانت الأسماك تكثر في بحيرات إرمينيّة وسواحل القوقاز وخصوصا بحيرة «وان» التي اشتهرت بنوع خاصّ وبكميّات هائلة منه ، وهو الذي يعرفه العرب باسم «الطرّيخ» وكان هذا السمك في العصور القديمة يملّح ويصدر إلى الجهات البعيدة كالهند. انظر : القزويني ، طبعة قستنفلد ، ج ٢ ، ص ٣٥٢. (مفاهيم جغرافية ، ص ٣١١). ولا يزال الناس في إرمينيّة وآذربيجان وبلاد القوقاز وآسيا الصغرى يستطيبون هذا السمك المملّح حتّى يومنا هذا.

٥٠٤

العصور القديمة حتّى الآن ، فهي تنتج القمح والذرّة والبطاطا والخضروات والكرمة ، كما أنّ الماشية ترعى في سفوح الجبال وأشهر مواشيها الأغنام ... ومناخ جورجيا (گرجستان) من آلاف السنين ملائم لزراعة الحبوب وخاصّة الذرّة والكرمة والحمّضيّات والشمندر السكّري (١) وهذه المزروعات تجدها في كلّ أنحاء الإقليم. وثروة الإقليم بالماشية هائلة ، إذ تنتشر المراعي الواسعة كما رأينا وتربّى عليها قطعان الماشية وخاصّة الأغنام.

ومن الملامح التي عرضناها بإيجاز تأكّد لنا قدرة الإقليم على تموين العمّال والمهندسين بالطعام والشراب الكافي ، دون أن يحدث نقص في إمدادات الغذاء ، أي أنّ الأمن الغذائي كان مكفولا.

والموادّ الخام اللازمة كانت متوفّرة ، من حديد ونحاس وفحم وأخشاب ، وحيوانات الجرّ والحمل كانت موجودة تفي بالغرض تماما. والأيدي العاملة الرخيصة كانت متوفّرة كذلك. والخبرة الفارسيّة ، والتخطيط الدقيق لكورش كلّها كانت مقوّمات نجاح تشييد أعظم السدود في العالم ، لدرجة جعلت القرآن يصفه بالردم ، أي السّدّ الضخم الهائل في قوله تعالى : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً). (٢)

وبعد فإليك الكلام عن السدّ (سدّ ذي القرنين الذي ذكره القرآن) وهل هو سدّ كورش التاريخي؟

سدّ كورش (ذي القرنين) التاريخي؟

في وصف شامل لسدّ كورش (ذي القرنين) وتحديد موقعه الجغرافي حاليّا على الخريطة السياسيّة ، وتحديد نوعيّة الدولة التي كانت تسيطر على المنطقة الجبليّة التي شيّد فيها ، يمكن القول : إنّه من المعطيات السابقة ، تتبلور ملامح سدّ كورش التاريخي في :

__________________

(١) فقد عرف الإقليم جميع الحبوب من آلاف السنين ـ حسبما تقول الجغرافيا التاريخيّة ـ وعثر عليها في الآثار القديمة ، ووجدت قوارير مملوءة بالحبوب وغيرها (القمح ـ الذرّة ـ القصب ـ الارز). انظر : مواطن الشعوب الإسلاميّة ، قفقازيا لمحمود شاكر ، ص ٦٢ ـ ٦٩. (مفاهيم جغرافية ، ص ٣١١).

(٢) مفاهيم جغرافية ، الفصل السابع ، ص ٣٠١ ـ ٣١٢.

٥٠٥

أنّ السّدّ بني فيما بين عامي ٥٣٩ ق. م. و ٥٢٩ ق. م. في مكان جبليّ شاهق شديد التضرّس قائم كجدارين شامخين على جانبيه ، وبذلك ـ وعلى هذه الصورة ـ يكون السّدّ حجازا مضافا على الجدارين ، في مكان المضيق الجبلي الذي كان موجودا بينهما ، ويعرف بمضيق «داريال» ، وهو موسوم في جميع الخرائط الإسلاميّة والروسيّة في جمهوريّة جورجيا (گرجستان).

وقد استخدمت في تشييد السدّ زبر الحديد أي قطع الحديد الكبيرة ، وافرغ عليها النحاس المنصهر. وهذا هو وصف القرآن ، ولا نقبل عنه بديلا ، مهما كانت درجة التقارب أو التشابه ، ونرفض أيّ سدّ آخر يكون قد شيّد من الحجارة ـ مثل سور الصين العظيم ـ حتى ولو كانت عناصر ومقوّمات وظروف إنشائه مشابهة لما جاء عن سدّ ذي القرنين.

وقد رأينا خلال السرد التاريخي أنّ القبائل المغولية ـ وراء سلسلة جبال قوقاز ـ كانت لا تتكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد.

وكلّ صفحات التاريخ تذكر لنا أنّ ثمّة توقّف مفاجئ حدث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المتوحّشة ، وتشير أصابع الدقّة التاريخيّة نحو الحقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي!

ومن ثمّ جاء قول المؤرّخين بأنّ هذه القبائل التي سمّيت «ميگاگ» عند اليونان و «منگوگ» عند الصينيّين ، هم قوم «يأجوج ومأجوج» الذين جاء ذكرهم في القرآن. وقد تقدّم الكلام عن ذلك.

هذا وقد تتّبع مولانا أبو الكلام آزاد ، من خلال استقراء التاريخ ومراجعة النصوص في العهد القديم وما جاء فيها عن يأجوج ومأجوج ، ووصل إلى نفس ما هو قائم في الواقع في جمهورية جورجيا (گرجستان) الآن ، وقد عثر على كتل هائلة من الحديد المخلوط بالنحاس ، موجودة في جبال قوقاز ، مبعثرة في منطقة مضيق «داريال» الجبلي.

وهذه حقيقة قائمة لكلّ من أراد أن يشاهدها برأي العين.

٥٠٦

جبال شاهقة تمتدّ من البحر الأسود حتّى بحر قزوين ، التي تمتدّ لتصل بين البحرين طوال ١٢٠٠ ك. م. وهي جبال التوائيّة حديثة التكوين ، شامخة متجانسة التركيب ، إلّا من كتل هائلة من الحديد الصافي المخلوط بالنحاس الصافي في مضيق داريال. غير أنّ جسم الجبال الصخري (جبال قوقاز) من جانبي السدّ تآكل بفعل عوامل التعرية طوال ٢٥٠٠ سنة وصار هناك فراغ فيما بين الصخور الجبليّة وجسم السدّ الحديدي النحاسي. وأصبح كتلا ضخمة تبعثرت في معبر المضيق.

ويشار إلى هذا السدّ في الأطالس الجغرافيّة الحديثة بين فلادي (idalF) وكوكس (ssakauiK) وبين تفليس. ويذكره الأرمن ـ هناك ـ في صفحات تاريخهم (الشاهد على أحداثهم) باسم «بهاك غورائي» و «كابان غورائي» أي مضيق كورش أو «ممرّ كورش». كما أنّ سكّان گرجستان يعرفونه في بلادهم باسم الباب الحديدي ، وذكره الأتراك في كتاباتهم أيضا باسم «دامركاپو» (قاپو). (١) و «دامر» ـ بالتركيّة ـ يعنى : الحديد. و «قاپو» : الباب.

فالسدّ شيّد في منطقة جبليّة بين صدفين في مضيق داريال ، وليس في مناطق سهليّة مثل سور الصين العظيم. وقد اقيم لإيقاف زحف الأجناس المتوحّشة عبر جبال القوقاز إلى شمال مملكة فارس وغرب آسيا ، ولم يكن لحجز مياه السيول والفيضان مثل سدّ مأرب.

وقد شيّد من خامات الحديد واشعلت النيران لصهر النحاس ليصبّ فوق الحديد. وبقاياه تدلّ فعلا على انطباق مواصفاته مع ما جاء في القرآن الكريم.

ولذلك عبّر القرآن عن متانته بقوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً).

إذن ، لم يكن السدّ من الحجر ، مثل سور الصين العظيم. (٢) أو جدار «دربند» الذي بناه

__________________

(١) كورش الكبير ، ص ٢٨٠.

(٢) بناه الإمبراطور «تشين شيه هوانج» بعد سنة (٢٢١ ق. م) ، حاجزا بين «منغوليا» والصين. وهو مشيّد من الطوب (اللبن ـ

٥٠٧

أنوشيروان الملك الساساني (١) بعد (١٠٠٠ عام) من بناء سدّ كورش. أو سدّ «مأرب» الذي شيّد لتنظيم الريّ ووقاية المنطقة ـ وعاصمتها مدينة مأرب قاعدة المملكة السبئيّة (باليمن) ـ من أخطار الفيضانات الموسميّة ، وتهدّم بين (٥٧٠ ـ ٥٤٢ ق. م) على أثر السيل العرم (الهائج المدمّر) ونتيجة للإهمال بشأن ترميم ثلمها. (٢)

هذا هو سدّ كورش ذي القرنين ـ كما وصفه القرآن الكريم ـ يشهد على ذلك جميع الشعوب التي دخلت اوربا عن شمال جبال قوقاز وشاهدته بعد ما شيّد أو اجتازت مضيق داريال قبل تشييده. هذا هو السدّ ، في منطقة استراتيجيّة ذات أهمّية كبيرة ، جرّ عليها موقعها هذا صعابا كثيرة ، فطمعت فيها كلّ الدول المجاورة!

هكذا ، فكلّ من سيطر على الإقليم صارت كلّ المناطق شماله وجنوبه تحت رحمته ، لذلك فقد وصل الغزاة إلى المنطقة من فجر التاريخ. فغزاها الآشوريّون والكلدانيّون والمصريّون والقدماء والفارسيّون ، ثمّ اليونانيّون ... وخضعت لنفوذ بيزانطة في القرن الثالث الميلادي بعد أن انتشرت المسيحيّة في جنوبها في القرن الأوّل الميلادي. وكذلك استولت الصين على جنوب قوقاز في القرن الرابع الميلادي. وكانت دولتا الفرس والروم كفرسي رهان على امتلاك إرمينيا وقوقاز وآذربيجان طول التاريخ.

بناء جدار «دربند»

وفيما بين عامي (٥٣١ ـ ٥٧٩ م) حكم الفرس في عهد أنوشيروان هذه المنطقة ووجد الملك الفارسي أنّ السدّ (الذي بناه كورش قبل ١٠٠٠ عام) لم يعد يمنع المغيرين عن بلاد فارس ، خصوصا وأنّ النوعيّة قد تغيّرت ، فقد اضيف إليها العنصر الروماني

__________________

ـ المحروق) والطين والحجارة. يبلغ طوله (١٥٠٠ ميلا) ويمتدّ من البحر الأصفر حتّى سلاسل جبال «تاين داغ» ، لتحول دون القبائل الهمجيّة ـ التي كانت تسكن صحراوات منغوليا ـ الدائمة الإغارة على سهول الصين. ويشتمل السور على عدد من البوّابات الضخمة في مناطق متباعدة يقوم على حراستها جنود أشدّاء. مفاهيم جغرافيّة ، ص ١٢٨ ـ ١٢٩.

(١) بناه في منحدرات جبال قوقاز حتى شواطئ بحر قزوين حيث مدينة دربند في طول سبعة فراسخ ، سدّا لهجمات الرومان البيزنطيّين والأتراك حيث كانوا يتدفّقون على شمال فارس عبر الشريط الساحلي الذي بلغ اتّساعه ٣٠ ميلا بين بحر قزوين وجبال قوقاز. مفاهيم جغرافيّة ، ص ٣١٥ ؛ ولغت نامه دهخدا ، حرف الدال.

(٢) المنجد في الأعلام ، حرف الميم.

٥٠٨

والتركي.

فمن أين جاء التهديد هذه المرّة ، وكيف بطل مفعول السدّ الكورشي؟

... كان بحر قزوين يضرب بأمواجه أقدام جبال قوقاز من جهة الشرق ، وكانت مياه البحر الأسود تضرب أقدامها من ناحية الغرب. وكان من المستحيل على الغزاة بعد بناء سدّ كورش الشهير أن يتوغّلوا إلى جنوب قوقاز.

ولكن بعد (١٠٠٠ عام) من بناء السدّ في مضيق داريال ، كان البحر قد فعل مفعوله في مياه بحر قزوين.

وبما أنّه بحر مغلق لا يتّصل ببحار العالم ومحيطاتها ، فقد تناقصت مياهه وانحسرت عن شواطئه ، متراجعة نحو القاع ، فانكشف جزء مدرّج على طول امتداد تعاريج الساحل وظهر بذلك شريط ساحلي ضيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال قوقاز عند «دربند» وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك يتدفّقون على شمال فارس عبر هذا الشريط الساحلي الذي بلغ اتساعه ٣٠ ميلا بين بحر قزوين وجبال قوقاز.

لذلك أمر «أنوشيروان» ببناء جدار من الحجر بين مياه بحر قزوين وأقدام الجبال ، بعرض هذا الشريط الساحلي ، حتى التحم الجدار تماما بجبال قوقاز ، وبذلك عاد لسدّ كورش مفعوله مرّة اخرى. (١)

جدار «دربند» (٢)

ويجدر بنا ونحن على وشك الانتهاء من حديث ذي القرنين ، أن نتحدّث شيئا عن السدود المعروفة في العالم القديم وربما اشتبهت بسدّ ذي القرنين الآتي في القرآن الكريم :

__________________

(١) مفاهيم جغرافية ، ص ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٢) دربند ، مدينة في داغستان على ساحل بحر قزوين غربا ، سمّاها العرب «باب الأبواب» مشهورة بأسوارها التي تسدّ الممرّ بين البحر والجبل. احتلّها المسلمون عام ٢٢ ه‍ / ٦٤٣ م. وكانت آخر مدينة على حدود إيران الشمالية حتّى عهد فتحعلي شاه قاجار فاستلبها الروس عام ١٧٩٦ م.

٥٠٩

منها : «جدار دربند» أو «حائط قوقاز» الذي بناه الملك الساساني أنوشيروان في امتداد جبال قوقاز حتى مياه بحر قزوين في طول سبعة فراسخ ، سدّا لهجمات أقوام همج كانوا وراء السدّ ، كانوا يغيرون على حدود ممالك فارس ، فصدّهم ببناء هذا الحائط العظيم ، وجعل له بابا ضخما كان يوصد بوجه المغول والتتار. واشتهر بباب الأبواب وكانت مدينة «دربند» والتي بناها أنوشيروان في نفس المكان ، قد سمّيت بنفس الاسم. وهي اليوم عاصمة جمهوريّة «داغستان» على ساحل البحر ، (١) لقد كانت الحروب دامية بين ملوك فارس والقبائل الوحش خلف جبال قوقاز منذ عهد بعيد ، حيث أطماع تلك الأقوام الصحراويين في ثراء منطقة آذربيجان وإرمينيّة وداغستان وگرجستان وسائر البلاد الخصبة الغنيّة بالحرث والنسل. وكان الملك الساساني «قباد» (والد أنوشيروان) كان قد شنّ حملاته الدفاعية ضدّ أقوام التتر ، ليمنعهم عن إغارة البلاد ، وكانوا يغيرون عبر حدود ممالك فارس حتى نهر كورا (كورش القديم) ، فحاربهم «قباد» ومزّق شملهم في حروب دامية وقتلهم شرّ قتلة وسبى وغنم الكثير من أموالهم. وهكذا كانت الإغارات والهجمات ظلّت مستمرّة بين حين وآخر حتى جاء دور «أنوشيروان» وتسنّم الحكم ، فكان ممّا شدّ العزم على إنهاء تلك العرقلة ، أن قام بتشييد حائط متين يحجز دون إغارات الأقوام الهمج نهائيّا ، وليريح شعبه من المزاحمين طول حقبات. (٢)

وفيما بين عامي ٥٣١ ـ ٥٧٩ م (أي بعد بناء سدّ كورش بألف عام) وجد الملك أنوشيروان أنّ السدّ القديم لم يعد يمنع المغيرين عن فارس ، خصوصا وأنّ النوعيّة قد تغيّرت ، فقد اضيف إلى أقوام التتر والمغول ، العنصر الروماني والتركي ، وكان بحر قزوين قد أخذ في الانخفاض والانحسار عن أقدام جبال قوقاز ، نظرا لأنّه بحر مغلق لا يتّصل بالمحيطات ، فقد تناقصت مياهه وانحسرت عن شواطئه نحو القاع ، فانكشف جزء مدرّج على طول امتداد تعاريج الساحل ، وظهر بذلك شريط ساحليّ ضيّق بين خطّ ماء البحر الجديد وأقدام جبال القوقاز عند «دربند» وصار الرومان البيزنطيّون والأتراك ، مع البقايا

__________________

(١) لغت نامه دهخدا ، حرف الدال ، ص ١٠٥٥٤.

(٢) تاريخ إيران ، ص ٢٠٥ ـ ٢٠٦ و ٢١٥.

٥١٠

من أقوام التتر الهمج يتدفّقون على شمال فارس ، عبر هذا الشريط الساحلي الذي بلغ اتّساعه (٣٠ ميلا) (١) بين بحر قزوين وجبال قوقاز.

لذلك قام أنوشيروان ببناء جدار متين من الصخور الغلاظ ، ممتدّا من سفوح جبال قوقاز حتى مياه البحر ، وآخذا فيه بعض الشيء ـ على ما ذكره المسعودي والحموي ـ (٢) حتى التحم الجدار مع الجبال تماما.

* * *

وهل كان أنوشيروان هو الذي تبنّى بناء جدار دربند ، أم كان هو القائم بتجديد بنائه بعد انهيارات حصلت في أطرافه وتضعضع وأشرف على الخراب ، فأعاد أنوشيروان بناءه على اسس متينة وعلى استحكام بالغ بقي طيلة قرون. (وقد كان قائما حتى عهد المسعودي سنة ٣٢٣ ه‍)؟

يبدو من كتاب تاريخ كرمان : أنّ الجدار كان قد بني قبل ذلك بما أثّر فيه طول العهد

__________________

(١) حسب تقديره الآن وقد انحسر البحر أكثر. وو قد قدّره الحموي آنذاك على عهد الملك أنوشيروان بسبعة فراسخ ، كلّ فرسخ ثلاثة أميال اليوم ، فقد اتّسع هذا الشريط بعد ألفي عام بعرض عشرة فراسخ.

(٢) قال الحموي : وعلى مدينة باب الأبواب (دربند) سور من الحجارة ممتدّ من الجبل طولا ، ومع طول السور فقد مدّت قطعة في البحر شبه أنف طولاني ليمنع من تقارب السفن من السور ، وهي محكمة البناء موثّقة الأساس من بناء أنوشيروان. وهي أحد الثغور الجليلة العظيمة ، لأنّها كثيرة الأعداء الذين حفّوا بها من امم شتّى وألسنة مختلفة وعدد كثير. قال : وأقام أنوشيروان يبني الحائط بالصخر والرصاص ، ثمّ قاده في البحر. وقد أحكم هذا الممتدّ في البحر بحيث لا يتهيّأ سلوكه ، وقد بناه بالحجارة المنقورة المربّعة المهندمة ، لا يقلّ أصغرها خمسون رجلا ، وقد أحكمت بالمسامير والرصاص ، والقيت في قرار البحر حتى اعتلى السور على وجه البحر بما استوى مع الذي في البرّ في عرضه وارتفاعه. وقدّر طول الحائط من البحر إلى سفح الجبل بسبعة فراسخ. معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٣٠٣ ـ ٣٠٥. وذكر المسعودي أنّ كسرى أنوشيروان بنى السور من جوف البحر بمقدار ميل (٤٠٠٠ ذراع) بالصخر والحديد والرصاص ، ويسمّى هذا الموضع من السور في البحر : الصدّ. وهو باق إلى وقتنا هذا ، وهو سنة (٣٣٢ ه‍) مانعا للمراكب في البحر إن وردت من بعض الأعداء. ثمّ مدّ السور في البرّ ما بين الجبل والبحر. وزاد : أنّه مدّ السور حتى أعالي الجبال ومنخفضاته وشعابه (أي سدّ جميع الخلل والفرج هناك) نحوا من أربعين فرسخا إلى أن ينتهي إلى قلعة «طبرستان». مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١٧٦ و ٢٦٤. قلت : ولعلّه الصاروج بدل الرصاص وقد التبس عليهم ، لوجود المشابهة شكليّا وبعد مرور ألف عام على بنائه. والصاروج : خليط من حجر الكلس وأملاح الكلسيوم والباريوم محروق القصب وغيرها ، يستعمل في طلاء الجدران والأحواض والحمّامات. صنعة قديمة استخدمت في اسس البنايات الضخمة وأعمدة الجسور ولمخازن المياه ، لمقاومتها تجاه تأثير الرطوبة واستحكامها عن كلّ مؤثّرات الجوّ والمحيط. وهي على مقاومة الإسمنت في هذا العصر.

٥١١

من التضعضع والإشراف على الانهيار ، فكان أنوشيروان قام بترميمه وتجديد عمارته.

جاء فيه : أنّ شاهنشاه إيران أنوشيروان عمد من «المدائن» عاصمة ملوك الفرس ، قاصدا مدينة باب الأبواب لترميم السدّ في منطقة «شروان». (١) فأخذ طريقه على ساحل الخزر ومعه العمّال والمهندسون لعمارة السدّ. وأنفق أموالا طائلة ، لكن المشروع استنفدها دون الاكتمال. وبعد التدبّر والمشاورة رأى الملك أنّ أحدا من عظماء مملكته لا تسعه المساهمة في إكمال المشروع الجلل ، سوى الأمير «آذرماهان» وكان واليا على بلاد كرمان من قبل السلطان. وكانت بلاد كرمان يوم ذاك غنيّة بالثروات الطبيعيّة والزراعيّة بما يفوق سائر البلاد.

غير أنّ الملك لم يرقه تكليف موظّفيه بأكثر من المقرّر الرسمي المفروض عليهم ، حيث كان خلاف العدل السلطاني. ولذلك عزم على المسير إليه في ألف من خواصّه المهندسين والعمّال الفنّيين ، حتى ورد «إيلغار گواشير» (٢) نازلا في دار الأمير ، فوعدهم بالمساهمة في المشروع بما يكفي مئونة إكمال السدّ نهائيّا ... ذكروا أنّ السدّ اكتمل بما بذله أمير كرمان آنذاك. (٣)

شكوك حول كورش : هل هو ذو القرنين؟

ربما تشكّك البعض في الرأي القائل بأنّ ذا القرنين ـ الذي وصفه القرآن بالصلاح ـ هو كوروش الكبير الملك الفارسي العظيم؟!

وعمدة مسارب الشكّ هو جانب سلوكه السياسي المتسامح مع أصحاب الأديان وحتى مع عبدة الأوثان ، ومن غير أن يسير سعيا وراء إعلاء كلمة الله في الأرض. يشهد لذلك سلوكه الخاصّ مع البابليّين وإفساح المجال لهم في عقيدتهم الاولى ولا سيّما تزلّفه في تكريم كبير آلهتهم «مردوك» ـ حتى أنّه عدّ نفسه موضعا لعنايته في منشور عام ، كما ردّ إلى عبدة الأوثان كلّ ما نهب منهم من أصنام وجعلها في معابد كانت تسمّى «شادي

__________________

(١) شروان : منطقة في الجنوب الشرقي من بلاد قوقاز بين أعالي نهر أرس وكورا كانت في القديم من نواحى باب الأبواب.

(٢) إيلغار ، لفظة تركيه تعني : المعسكر ـ الحامية. وگواشير اسم قديم لمدينة كرمان الفعليّة.

(٣) راجع : كورش كبير ، ص ٢٨٣ ـ ٢٨٤ الهامش. عن تاريخ كرمان ، ص ٢٤.

٥١٢

دل» أي فرحة النفس.

يقول في ذلك الاستاذ محمد خير رمضان : تلك المقاطع التاريخيّة إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على وثنيّة كورش وتعظيمه للآلهة وإفساح المجال لعبادتها لكلّ الشعوب المقدّسة لها. ويكفيك ما قاله في منشوره العام : «أرجعت الآلهة التي نقلت إليها (معابد بابل) إلى مواطنها ... وأعدت إلى سومر وأكد آلهتها التي حملت إلى بابل ووضعتها في قصورها التي تسمّى «شادي دل» وبذلك أنهيت غضب الآلهة بأمر من مردوك الإله الكبير ـ ومردوك هو صنم بابلي.

وهذا يقوي ما ذهب إليه المؤرّخون ممّا قيل عن عقيدته وإعطائه الحريّة الدينيّة كيفما كانت ، وبخاصّة عبادة الأصنام. لا كما هي صفات ذي القرنين ـ حسبما جاءت في القرآن ـ من أنّه كان يحارب هذا الشرك. ولا يتعامل معهم ولا يقبل منهم إلّا الإيمان أو الحرب!! (١)

ومن ناحية اخرى هي جانب بناء السدّ ـ الذي ذكره القرآن ـ تشكّكوا في كونه من عمل كورش بالذات ، ولعلّه قام بترميمه نظير ما عمله أنوشيروان بعد ألف عام. ومستند الشكّ أنّه لم يأت في التاريخ ذكر عن بناء هذا السدّ على يد كورش ، في حين أنّه لم يكن بذلك البعيد بحيث يجهل تاريخ حياته ولا سيّما في مثل هذا العمل الضخم ، كما لم يذكره هو في مفاخره حيث ذكر مفاخر هي أقلّ شأنا من بناء هذا السدّ العظيم.

يقول الاستاذ محمد خير رمضان : لا دليل لاستناد بناء السدّ إلى كورش ، وعمدة ما يستدلّون به : أنّ القبائل المغوليّة كانت لا تتكاسل عن الانقضاض على مناطق آسيا الغربيّة خلال القرن السادس قبل الميلاد ... وكلّ صفحات التاريخ تذكر لنا أنّ ثمّة توقّفا مفاجئا حدث في عمليّة تدفّق هذه القبائل البدائيّة المتوحّشه ... وتشير أصابع الدقّة التاريخيّة نحو الحقبة التي ظهر فيها كورش الهخامنشي.

هذا هو الدليل الوحيد الذي استند إليه أصحاب القول بأنّ السدّ من عمل كورش

__________________

(١) ذو القرنين ، القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمّد خير رمضان يوسف ، ص ٢٣٦ ـ ٢٣٨.

٥١٣

الكبير. ولكن :

هل يعني توقّف هذه القبائل : أنّ كورش بنى السدّ؟!

لما ذا لا نقول : إنّ السدّ كان مبنيّا من قبل ، ولكنّ الحوادث الطبيعيّة أثّرت في جوانب السدّ ، كأن تكون مياه بحر قزوين قد انحسرت عن شواطئه فكانت القبائل تغزو من الساحل الذي كان مكانه الماء ، ثمّ اعيد ترميم السدّ في عهد ذلك الملك. ووقفت هجمات القبائل المتوحّشة على تلك المنطقة بعد هذا؟!

وهذا نظير ما حدث على عهد أنوشيروان بعد ألف عام ... أفليس من المعقول أن يكون كورش قد فعل مثل صنيع أنوشيروان في ذلك ، ويكون السدّ ـ بطبيعة الحال ـ قد بني قبله بزمن طويل؟!

قال : إنّني أرى ما ذكرته أسلم ، لأسباب :

١ ـ لم يثبت تاريخيّا قطّ أنّ كورش قد بنى سدّا هناك ...

٢ ـ لم يذكر كورش في الوثيقة السابقة التي كتبها ، أنّه بنى السدّ ... رغم أنّ هذا يعدّ عملا عظيما جدّا لا يرتقي إليه أيّ عمل من أعمال كورش السابقة ...

فكيف يهمل كورش ذكر هذا السدّ ـ والذي استغرق بناؤه عشر سنوات كما يقول الاستاذ خضر ـ والذي هو أبلغ آثاره على مرّ السنين ، ثمّ يذكر أشياء اخر أبسط منه بكثير ، والتي يشارك فيها ملوك غيره؟!!

٣ ـ ليس كورش بذلك الملك القديم جدّا حتى تخفى أخباره على جزيرة العرب ... في حين يجب أن لا ننسى أنّ قصص الفرس كانت منتشرة بين العرب ، وكان لهم أنصار بينهم ، وقد تأثّروا بأدبهم ورواياتهم وقصصهم الشعبيّة ... وتحدّثنا السيرة النبويّة الشريفة عن النضر بن الحارث ، الذي قدم من الحيرة وكان قد تعلّم بها أحاديث ملوك فارس وأحاديث رستم واسفنديار ... وكان يحدّث بها إثر ما يقوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مجلسه حينذاك ...

وإذا كان كورش من أعظم ملوك فارس ، فلا بدّ أنّه كان له نصيب من بين تلك

٥١٤

الأحاديث ...

قال : هذا ما بدا لي خلال هذا البحث ، والقارئ حرّ فيما يرتئيه ، وبخاصّة بعد أن بيّنت له كلّ الأوجه بدقّة وإنصاف ... (١)

* * *

إذن فمن هو ذو القرنين؟

يرى الاستاذ رمضان : إنّه رجل آخر. عاش في عصور غابرة. قبل تبّع. وقبل الإسكندر. وقبل كورش. فقد كان في زمن نبي الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام (أي قبل كورش هذا بألف عام) كما ذكره وصحّحه ثقات المؤرّخين!!

إذن فذو القرنين رجل آخر ضاعت أخباره على مرّ التاريخ ولم يسلم منها إلّا ما ذكره الله ـ عزوجل ـ وما ثبت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ونتف اخرى قليلة من التاريخ ، اعتمدها بعض الثقات من المؤرّخين. (٢)

وهنا أورد روايات وحكايات ـ أسندها إلى السلف ـ بشأن ذي القرنين :

ذو القرنين في الروايات

قال : وأنا هنا سأصل بالقارئ إلى النتيجة ، من تلك الروايات إلى ما سنستقرّ عليه بعونه تعالى.

فقد ذكر الأزرقي وغيره : أنّ ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل عليه‌السلام وطاف معه بالكعبة المكرّمة هو وإسماعيل عليه‌السلام.

وروي عن عبيد بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما : أنّ ذا القرنين حجّ ماشيا ، وأنّ إبراهيم لمّا سمع بقدومه تلقّاه ، فلما اجتمعا دعا له الخليل ورضّاه وأنّ الله سخّر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد.

وقال إسحاق بن بشر عن عثمان بن الساج عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان ذو القرنين ملكا صالحا رضي الله عمله وأثنى عليه في كتابه وكان منصورا وكان

__________________

(١) المصدر : ص ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٢) المصدر : ص ٢٤٨.

٥١٥

الخضر وزيره. وذكر أنّ الخضر عليه‌السلام كان على مقدّمة جيشه ، وكان عنده بمنزلة المشاور ... (١)

وروى الفاكهي من طريق عبيد بن عمير ـ أحد كبار التابعين ـ : أنّ ذا القرنين حجّ ماشيا فسمع به إبراهيم فتلقّاه. ومن طريق عطا عن ابن عباس : أنّ ذا القرنين دخل المسجد الحرام فسلّم على إبراهيم وصافحه ، ويقال : إنّه أوّل من صافح. (٢) ومن طريق عثمان بن الساج : أنّ ذا القرنين سأل إبراهيم أن يدعو له. فقال : وكيف وقد أفسدتم بئري! فقال ذو القرنين : لم يكن ذلك عن أمري ، يعني أنّ بعض الجند فعل ذلك بغير علمه! وذكر ابن هشام ـ في التيجان ـ : أنّ إبراهيم تحاكم إلى ذي القرنين في شيء فحكم له! وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أحمد : أن ذا القرنين قدم مكّة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة ، فاستفهمهما عن ذلك ، فقالا : نحن عبدان مأموران ، فقال : من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش (!؟) فشهدت! فقال : قد صدقتما. قال ابن حجر : فهذه الآثار يشدّ بعضها بعضا وتدلّ على قدم عهد ذي القرنين. (٣)

إزاحة شبهات؟!

تلك شبهات اثيرت حول الرأي القائل بأنّ ذا القرنين ـ الذي جاء وصفه في القرآن ـ هو كورش الهخامنشي الملك الفارسي العظيم!!

لكنّها لم تحسب حسابها الدقيق ، ومن ثمّ فإنّ الترجيح مع هذا القول المعتمد على اصول متينة ، أمّا الشبهات أو الشكوك فلا مجال لها بعد إحكام الدليل :

__________________

(١) انظر : البداية والنهاية لابن كثير ، ج ٢ ، ص ١٠٣.

(٢) وهكذا روى الشيخ في أماليه (المجلس ٨ والحديث ٢٥ ـ ترتيب الأمالي ، ج ٢ ، ص ٤٥ ، رقم ١٠ ـ ٦٠٣) بإسناده إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أوّل اثنين تصافحا على وجه الأرض ذو القرنين وإبراهيم الخليل ، استقبله إبراهيم فصافحه ...». وفي قصص الأنبياء للراوندي : وكان ذو القرنين أوّل الملوك بعد نوح عليه‌السلام ملك ما بين المشرق والمغرب. بحار الأنوار ، ج ١٢ ، ص ١٧٥. قال الصدوق : والصحيح الذي أعتقده في ذي القرنين أنّه لم يكن نبيّا ، وإنّما كان عبدا صالحا أحبّ الله فأحبّه الله ونصح لله فنصحه. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وفيكم مثله ـ يعني نفسه الشريفة. بحار الأنوار ، ج ١٢ ، ص ١٨١ ، رقم ٩.

(٣) انظر : فتح الباري بشرح البخاري ، ج ٦ ، ص ٢٧١.

٥١٦

أوّلا ـ ليس في الروايات أو الحكايات التي سردوها لغرض إثبات قدم عهد ذي القرنين بما يقارن عهد إبراهيم الخليل. ليس فيها ما يفيد اليقين ، لضعف الأسناد واضطراب المتون إلى حدّ بعيد.

يقول الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي ـ ردّا على اختيار الاستاذ محمد خير رمضان يوسف ـ : «كم كنت أتمنّى على الاستاذ ... أن يأتي على رأيه بأدلّة علميّة يقينيّة ، وهذه لا تكون إلّا فيما اخذ من القرآن والحديث الصحيح ، أمّا اعتماده على كلام مؤرّخين ومفسّرين ، لا دليل عليه من المصادر المعتمدة ، فهذا لا يقبل في البحث العلمي المنهجي اليقيني.

ولذلك نحن مضطرّون أن نخالف الاستاذ محمد خير في ترجيحه عن ذي القرنين ، من أنّه كان يعيش في زمن إبراهيم عليه‌السلام كما أنّنا مضطرّون إلى ترك كلّ الأقوال المذكورة في كتب التاريخ والتفسير ، عن التقاء ذي القرنين بإبراهيم عليه‌السلام في فلسطين أو الحجاز ، لكونها غير مذكورة في حديث واحد صحيح ، يمكن للإنسان أن يعتمده ويطمئنّ به ، والله أعلم». (١)

كورش هو ذلك العبد الصالح؟

جاء في وصف القرآن لذي القرنين ما ينمّ على صلاح وإيمان واعتقاد بالله العظيم ، وأنّه كان على بصيرة من أمره وموضع عنايته تعالى فيما انتهجه من الحياة السياسيّة الاجتماعيّة ، وفي سبيل إحياء كلمة الله في الأرض ، بما آتاه الله من القدرة والحكمة وحسن التدبير :

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ...)

(قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ...)

__________________

(١) مع قصص السابقين في القرآن (٢) من كنوز القرآن (٦) ـ دار القلم ـ دمشق ، ط ٢ ، ١٤١٦ ه‍ / ١٩٩٦ م. الدار الشاميّة ، بيروت ، دار البشير بجدّة ، المملكة العربيّة السعوديّة.

٥١٧

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ... هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ...)(١)

كان قد مكّنه الله في الأرض وكان قد استخدم سلطانه هذا في سبيل عمارة الأرض وإفشاء السلام فيها ، وبذلك وبنعمته تعالى أصبح عبدا شكورا!

وهل تتصادق صفات كهذه مع سيرة كورش السياسيّة آنذاك؟

الممعن في سيرة كورش بدقّة يجده على الوصف الذي جاء في القرآن الكريم :

كان مؤمنا معتقدا بالله العظيم وأن لا حول ولا قوّة إلّا به ، وأنّه تعالى هو الذي رعاه وألهمه الخير وهداه إلى سبيل الرشاد ، في إصلاح البلاد والعناية بشئون العباد. الأمر الذي يبدو بوضوح من سيرته الحكيمة مع مختلف شعوب الأرض :

يقول الدكتور خضر : ويميل كثير من المؤرّخين إلى اعتبار أنّ كورش كان ملكا يتّصف بالعقل والحزم والعزم والرأفة في آن واحد ، وأنّه كان يمضي إلى آخر المطاف في أيّ عمل يبدأه ، ولا يترك أيّ عمل دون إتمام. وكان يلجأ إلى العقل أكثر من لجوئه إلى القوّة.

وكان يعامل الشعوب المغلوبة معاملة حسنة تتّصف بالرأفة والشفقة ، بخلاف ما كان عليه الحال عند الملوك الآشوريّين والبابليّين ، وكان يعامل الملوك المهزومين معاملة طيّبة جدّا لدرجة أنّهم كانوا يصبحون أصدقاء حميمين له وكانوا يقدّمون له العون إذا تطلّب الأمر.

وكان العدل يرفرف على جميع الشعوب التي خضعت له من نهر السند حتى بحر إيجة (وهي مسافة تقرب من طول الولايات المتّحدة الأمريكيّة من الشرق إلى الغرب) ... ومن خليج عدن حتى صحراء بحر قزوين. وكان النظام الذي أرسى الحاكم العظيم كورش دعائمه في هذه الإمبراطوريّة المترامية الأطراف عملا خارقا يعدّ من الأعمال الخالدة المجيدة في تاريخ الشرق بل في تاريخ العالم كلّه ...

حقّا ... لقد كان حاكما رحيما مستنيرا يدعو إلى الخير ... وكان يلقّب بالملك

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٨٤ و ٨٦ و ٩٥ و ٩٨.

٥١٨

الأكبر ... وظلّ هذا تقليدا عامّا لكلّ عاهل فارسي.

ويرى العلّامة أبو الكلام آزاد : أنّ كورش كان يطبّق تعاليم الفيلسوف والحكيم المشهور «زرادشت» والتي تدعو إلى الخير وتعتقد بالحياة الاخرى وبقاء الروح. كما يرى أبو الكلام آزاد في تعاليم «زرادشت» أنّها محور دارت عليه الدعوة إلى طهارة النفس وحسن العمل ، يرى فيها أيضا تحريما لعبادة الأصنام في أيّ شكل من الأشكال.

ومن دلائل تديّن الحاكم العظيم كورش ما كشفه الاستاذ «هرتزفلد» (dlefzreH) من بقايا معبد قديم ، يعتقد أنّ كورش هو الذي بناه في مدينة «پاسارگاد» ويقوم هذا المعبد على مقربة من قصر الملك ، وقبره في تلك المنطقة. وهذا المعبد يعبّر عن مبلغ أهميّة هذه الديانة في عهد كورش ومن بعده. ويراها المؤرّخون ديانة قديمة كانت ذات أهميّة كبيرة عند أهل فارس القديمة ، وأنّها دعت كلّ إنسان وحثّته على اختيار أحد الطريقين : إمّا أن يملأ قلبه بالخير والنور أو ينغمس في الشرّ والظلمة. وعلى كلّ فسيلاقي جزاءه ويحاسب على ما آتاه. ويعتبر المؤرّخون هذه العقيدة أقدم ديانة ظهرت في آسيا تعتقد بالحساب بعد البعث.

قال الدكتور خضر : ولعلّنا نجد في قول ذي القرنين ما يشير إلى ذلك :

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً).

أي هناك إلها ، سيرد إليه كلّ إنسان يوم البعث للحساب ، فإن كان ظالما في حياته فسوف يعذّبه الله عذابا شديدا.

وقد ذكرت كتب المؤرّخين أنّ كورش لم يعمل السلب والنهب في القبائل الأيونية (١) التي أخضعها ، ولم يسمح بالنهب والقتل فيما آل إليه من مدن وممالك. وكان بذلك على العكس تماما من الملوك الآشوريّين ... فإنّهم جعلوا المدن التي فتحوها في مستوى الأرض ، وكانوا يتبجّحون بأنّهم تركوها خرابا يبابا ، فلم يعد يسمع فيها نباح كلب

__________________

(١) أيونيّة : منطقة وسيعة في غرب آسيا الصغرى تشمل السهول الساحليّة لبحر إيجة والبحر الأسود وجزر منتشرة هناك ، كان يسكنها المهاجرون اليونانيّون القدامى وأسّسوا هناك مملكة وسيعة مقتدرة حالفت ليديا وملكها «كرزوس» العاتي على كورش ، لكنّ كورش سامحهم بعد الاستيلاء عليهم جميعا.

٥١٩

أو صياح ديك. وقد ورد نفس الشيء عن ملوك عيلام.

وحين رأى الناس سلوك كورش ، وقارنوا ذلك بما كان سائدا ومتّبعا آنذاك ، كانوا يعتبرونه حاكما عادلا منصفا ، طيّب القلب يحبّ الخير للناس. (١)

ويعتبره المؤرّخون أوّل من أرسى الاسس الأخلاقيّة في العالم القديم وأدخل اسلوبا جديدا لمعاملة الممالك التابعة والشعوب المغلوبة. (٢)

ويذكر المؤرّخ اليوناني الكبير «هيرودتس» أنّ كورش ـ بعد إخضاع بابل ـ توجّه نحو الشمال الغربي لإعادة الأمن على البلاد ، وإخضاع القبائل الوحش (ماساجيت ـ مأجوج) التي كانت تشنّ إغارتها على البلاد الآمنة. يقول : وكان قد توجّه لذلك الصوب بدافع إلهي ... أوّلا : أصالة نزعته الإلهيّة ... وثانيا : ثقته النفسيّة اعتمادا على ما مكّنه الله تعالى من القوّة والسطوة وقدرته الفائقة على إخضاع كلّ الصعاب. (٣)

ويقول «ول ديورانت» : كان كورش من الحكّام الذين خلقوا ليكونوا حكّاما ، والذين يقول فيهم «إمرسن» : كان الناس يبتهجون عند ما يرون هؤلاء يتوّجون. فلقد كان ملكا بحقّ في روحه وأعماله ، قديرا في الأعمال الإداريّة والفتوح الخاطفة المحيّرة ، كريما في معاملة المغلوبين ، محبوبا لدى أعدائه السابقين ، فلا عجب والحالة هذه أن يتّخذ اليونان منه موضوعا لعدّة روايات بطوليّة وأن يصفوه بأنّه أكبر أبطال العالم. (٤)

كان وسيّما بهيّ الطلعة ـ وقد اتّخذه الفرس نموذجا للجمال البشري حتى آخر أيّام فنونهم القديمة ـ (٥) وأنّه أسّس الاسرة الهخامنشيّة اسرة الملوك العظام التي حكمت بلاد الفرس في أزهى أيّامها وأعظمها شهرة ، وأنّه نظّم قوّات ميديا وفارس الحربيّة ، فجعل منها

__________________

(١) مفاهيم جغرافيّة ، ص ٢٥١ ـ ٢٥٥.

(٢) تاريخ إيران ، ص ٧١ ـ ٧٢.

(٣) ـ «انگيزه هاى متعدّدى داشت ، يكى اصل وتبار ايزدى وى ، ديگر پيروزيهاى پى درپى ...». تاريخ هيرودت ، ص ٩٩.

(٤) قصة الحضارة ، ج ٢ ، ص ٤٠٣.

(٥) يبدو من وصف «ول ديورانت» عن الشعب الفارسي أنّهم كانوا أجمل شعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم ، فالآثار الباقية من عهدهم تصوّرهم شعبا معتدل القامات قويّ الأجسام ، قد وهبتهم طبيعة البلاد شدّة وصلابة ، ولكن ثروتهم الطائلة رقّقت طباعهم ، وهم ذوو ملامح متناسبة متناسقة ، شمّ الانوف ، تبدو على وجناتهم سمات النبل والروعة ـ ثمّ يأتي في وصف ملابسهم الجميلة ذوات وقار وإكبار ... قصّة الحضارة ـ تاريخ الشرق القديم ، ج ٢ ، ص ٤١٠.

٥٢٠