شبهات وردود حول القرآن الكريم

الشيخ محمّد هادي معرفة

شبهات وردود حول القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-06-1983-3
الصفحات: ٦٠٧

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ). (١)

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). (٢)

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ). (٣)

إلى غيرها من آيات جرى فيها الوصف مجرى العقلاء ، لما اضمر التشبيه بهم في النفس ، من باب الاستعارة التخييلية أو الاستعارة بالكناية ، على حدّ تعبيرهم.

مثنّى يراد به الجماعات

كثيرا ما تثنّى ألفاظ يراد بالواحد منها الجمع دون الفرد الحقيقي ، ولذلك قد يعود عليه بضمير الجمع نظرا إلى المعنى ، فاللفظ وإن كان مثنّى لكن يراد به الجمعان ، وهما معا جمع لا محالة.

من ذلك قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ). حيث المراد بالخصمين جماعة الكفّار وجماعة المؤمنين. حيث التخاصم بين الفريقين قائم على ساق. ولذلك تعقّبت الآية بقوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ... إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...). (٤)

قال الطبرسي : فالفرق الكافرة خصم ، والمؤمنون خصم ، وقد ذكروا فيما قبل. (٥)

* * *

وهكذا خطابات الجمع الموجّهة إلى آدم وحوّاء يراد بها : آدم وحوّاء وذريّتهما. حيث هبوطهما من الجنّة إلى الأرض هبوط ذرّيّتهما الذين سيولدون منهما أيضا. فالخطاب مع الجمع ـ جماعة بني الإنسان ـ وليس آدم وحوّاء وحدهما.

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٩٧.

(٢) فاطر ٣٥ : ١٣ و ١٤.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٧١ ـ ٧٣.

(٤) الحجّ ٢٢ : ١٩ ـ ٢٤.

(٥) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٧٧.

٤٠١

بدليل ذيل الآيات : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (١) (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ). (٢)

وقد وهم من زعم أنّ الخطاب يشترك فيه إبليس أو الحيّة أو غيرهما ، حيث لا تناسب له مع سياق الآيات. (٣)

* * *

قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما). (٤) زعموا فيه تهافتا ، وكان الوجه أن يقال : اقتتلا ، أو بينهم. فجمع الضمير ثمّ تثنيته تهافت. (٥)

لكن الجمع إنّما هو باعتبار أن الاقتتال يقع بين آحاد المؤمنين من كلّ طائفة. أمّا التصالح فإنّما هو بين الفريقين لا الآحاد. (٦)

جمع يراد به الاثنان فما فوق

قد يعبّر بلفظ الجمع ويراد به مطلق الجمع ، أي الجمع العرفي الصادق من اجتماع اثنين فما فوق ، نظير ضمير المتكلّم مع الغير ، يراد به الاثنان فما فوق. وهذا شائع في سائر اللغات التي لا توجد فيها صيغ للتثنية. والعرب قد تستعمل ذلك حسب العرف العامّ ونظرا للمعنى اللغوي للجمع الصادق مع الاثنين.

قال الطبرسي : والعرب تسمّي الاثنين بلفظ الجمع في كثير من كلامهم. حكى سيبويه أنّهم يقولون : وضعا رحالهما ، يريدون رحلي راحلتيهما. وقال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ). (٧) يعني : حكم داود وسليمان. (٨)

__________________

(١) البقرة ٢ : ٣٨.

(٢) الأعراف ٧ : ٢٤ و ٢٥.

(٣) راجع : مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٨٧.

(٤) الحجرات ٤٩ : ٩.

(٥) هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام ، ص ٤١٩.

(٦) الهدى إلى دين المصطفى ، ج ١ ، ص ٣٨٤.

(٧) الأنبياء ٢١ : ٧٨.

(٨) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٥.

٤٠٢

قال سيبويه ـ في باب ما لفظ به ممّا هو مثنّى كما لفظ بالجمع ـ : وهو أن يكون الشيئان كلّ واحد منهما بعض شيء مفرد من صاحبه ، وذلك قولك : ما أحسن رءوسهما ، وما أحسن عواليهما. وقال عزوجل : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(١). (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٢) فرّقوا بين المثنّى الذي هو شيء على حدة وبين ذا. وقال الخليل : نظيره قولك : فعلنا ، وأنتما اثنان فتكلّم به كما تكلّم به وأنتم ثلاثة.

وقد قالت العرب في الشيئين اللّذين كلّ واحد منهما اسم على حدة وليس واحد منهما بعض شيء ، كما قالوا في ذا (أي فيما كان كلّ واحد منهما بعض شيء) لأنّ التثنية جمع ، فقالوا كما قالوا فعلنا. وزعم يونس أنّهم يقولون : ضع رحالهما وغلمانهما ، وإنّما هما اثنان. قال الله عزوجل : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ). (٣) وقال : (كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ). (٤)

* * *

وفي كتاب «إعراب القرآن» المنسوب إلى الزجّاج (٥) جاء الباب الثامن والأربعون لبيان ما جاء في القرآن من الجمع يراد به التثنية.

فمن ذلك قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). (٦) وأجمعت الامّة على أنّ الأخوين يحجبان الامّ من الثلث إلى السدس بدلالة الآية.

وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٧) أي يديهما.

وقوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(٨) أي قلباكما.

وقيل في قوله تعالى : (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) : (٩) إنّه من هذا الباب ، لقوله تعالى :

__________________

(١) التحريم ٦٦ : ٤.

(٢) المائدة ٥ : ٣٨.

(٣) ص ٣٨ : ٢١ و ٢٢. في حين أنّهما كانا اثنين (أخوين).

(٤) الشعراء ٢٦ : ١٥. راجع : كتاب سيبويه ، ج ٢ ، ص ٢٣٧.

(٥) ومن المحتمل القريب أنه لمكي بن أبي طالب. راجع : ملحق الكتاب ، ص ١٠٩٦ ـ ١٠٩٩.

(٦) النساء ٤ : ١١.

(٧) المائدة ٥ : ٣٨.

(٨) التحريم ٦٦ : ٤.

(٩) المعارج ٧٠ : ٤٠.

٤٠٣

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ). (١)

وقوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ). (٢) والمتقدّم : داود وسليمان. (٣)

وهكذا قال أبو البقاء العكبري : قيل : إنّما جمع لأنّ الاثنين جمع. (٤)

قال أبو جعفر الطبري : قال جماعة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كلّ زمان : عنى الله جل ثناؤه بقوله (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، انثيين كانتا أو كنّ إناثا ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا ، أو كان أحدهما ذكرا والآخر انثى. واعتلّ كثير ممّن قال ذلك بأنّ ذلك قالته الامّة عن بيان الله جلّ ثناؤه على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنقلته أمّة نبيّه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه ودفع الشكّ فيه عن قلوب الخلق وروده. (٥)

* * *

وقال أبو بكر الجصّاص : إنّ اسم الإخوة قد يقع على الاثنين ، كما قال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(٦) وهما قلبان. وقال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ)(٧) ثمّ قال تعالى : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ)(٨) فأطلق لفظ الجمع على اثنين. وقال تعالى : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(٩) فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما.

وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «اثنان فما فوقهما جماعة». (١٠)

ولأنّ الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أقرب منهما إلى الواحد ، لأن لفظ الجمع موجود فيهما.

__________________

(١) الرحمن ٥٥ : ١٧.

(٢) الأنبياء ٢١ : ٧٨.

(٣) إعراب القرآن ، القسم الثالث ، ص ٧٨٧.

(٤) في كتابه : إملاء ما منّ به الرحمن في إعراب القرآن ، ج ٢ ، ص ١٣٥.

(٥) جامع البيان ، ج ٤ ، ص ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٦) التحريم ٦٦ : ٤.

(٧) ص ٣٨ : ٢١.

(٨) ص ٣٨ : ٢٢.

(٩) النساء ٤ : ١٧٦.

(١٠) سنن ابن ماجة ، باب ٢٤٦ ج ١ ، ص ٣٠٨ ، رقم ٩٨١. وقد عقد البخاري بابا جعل ذلك عنوانه : باب ٣٥ الأذان ، ج ١ ، ص ١٦٧. وراجع : فتح البارى ، ج ٢ ، ص ١١٨.

٤٠٤

وقد روي [وبإسناد صحيح] عن زيد بن ثابت أنّه كان يحجب الامّ بالأخوين ، فقالوا له : يا أبا سعيد ، إنّ الله تعالى يقول (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ)(١) وأنت تحجبها بالأخوين؟ فقال : إنّ العرب تسمّي الأخوين إخوة. (٢)

فإذا كان زيد بن ثابت [وهو عربيّ صميم] قد حكى عن العرب أنّها تسمّي الأخوين إخوة فقد ثبت أنّ ذلك اسم لهما يتناولهما ... (٣)

قال تعالى : ـ بشأن الأولاد ـ : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). (٤) فقد شملت النساء ـ وهي صيغة الجمع ـ للاثنتين فما فوق. ومن ثمّ كان معنى قوله «فوق اثنتين» : اثنتين فما فوق. وذلك بدليل تقابله مع قوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). وإلّا كانت الاثنتان مغفولا عنهما ، الأمر الذي لا يتّفق مع كون سياق الكلام لبيان الاستيعاب.

ويشهد لذلك قوله تعالى بشأن الكلالة : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ. وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ). (٥) والمراد : الاثنتان فما فوق ، بدليل الإجماع في كلا الموضعين.

ذكر الطبرسي في الآية الاولى وجوها ، أحدها ـ وهو أوجهها ـ : أنّ في الآية بيان حكم البنتين فما فوق ، لأنّ معناه : فإن كنّ اثنتين فما فوق فلهنّ ثلثا ما ترك ، إلّا أنّه قدّم ذكر الفوق على الاثنتين ، كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيّام إلّا ومعها زوجها أو ذو محرم لها. (٦) ومعناه : لا تسافر سفرا ثلاثة أيّام فما فوقها. (٧)

__________________

(١) النساء ٤ : ١١.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص ، ج ٢ ، ص ٨١ ـ ٨٢.

(٣) السنن الكبرى للبيهقي ، ج ٦ ، ص ٢٢٧ ، باب فرض الامّ. وقد عقد البيهقي بابا لترجيح قول زيد على قول غيره من الصحابة وأنّه أعلم الصحابة بعلم الفرائض. راجع : ج ٦ ، ص ٢١٠. وهكذا روى الحاكم في المستدرك ، ج ٤ ، ص ٣٣٥ : كان زيد يقول : الإخوة في كلام العرب إخوان فصاعدا. قال : هذا حديث صحيح لم يخرجه الشيخان. وروى بإسناد صحّحه أيضا أنّ زيدا أفرض الامّ. وراجع : الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٤٤٧.

(٤) النساء ٤ : ١١.

(٥) النساء ٤ : ١٧٦.

(٦) راجع : السنن الكبرى ، ج ١٠ ، ص ٨٢ ؛ وسنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ، رقم ١٧٢٦ ؛ وسنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ٢١١ ، رقم ٢٩٤٧ ؛ وصحيح البخاري ، ج ٢ ، ص ٥٤ ، باب التقصير في السفر ، رقم ٤.

(٧) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٤.

٤٠٥

هذا الحديث ورد بألفاظ يختلف بعضها عن بعض ، فكان مقتضى الجمع بينها هو الحكم بأنّ الزائد على اليومين حرام عليها إلّا مع ذي رحم.

ففي سنن البيهقي : «لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيّام إلّا مع ذي محرم». (١)

وفي لفظ أبي داود : «لا يحل لامرأة ... أن تسافر سفرا فوق ثلاثة أيّام فصاعدا إلّا ومعها أبوها ، أو أخوها ، أو زوجها ، أو ابنها ، أو ذو محرم منها». (٢)

وأيضا روي : «لا تسافر المرأة ثلاثا إلّا ومعها ذو محرم». (٣)

وفي لفظ ابن ماجة : لا تسافر المرأة سفر ثلاثة أيّام فصاعدا إلّا مع ...». (٤)

وفي البخاري : «لا تسافر المرأة ثلاثة أيّام إلّا مع ذي محرم». وجاء في الهامش : وفي نسخة «فوق ثلاثة أيّام». (٥)

وأيضا روي : «لا تسافر المرأة يومين إلّا ومعها زوجها أو ذو محرّم». (٦) «لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلّا ومعها زوجها أو ذو محرم». (٧)

ومقتضى الجمع بين مختلف التعابير أنّ النهي إنّما يتوجّه إليها فيما بعد اليومين. ومن ثمّ فهم الفقهاء من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فوق ثلاثة أيّام» الثلاثة فما فوق.

يجوز في جماعة غير ذوي العقول اعتبار جمع التأنيث

قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ). (٨) جاء وصف الأيّام ـ وهو جمع مكسّر ل «يوم» الذي هو مذكّر حيث قوله تعالى : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ)(٩) بجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء).

__________________

(١) السنن الكبرى ، ج ١٠ ، ص ٨٢ ، باب من نذر المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس ، رقم ٢.

(٢) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ، رقم ١٧٢٦ ، باب المرأة تحجّ بغير محرم ، رقم ٤.

(٣) المصدر : ص ١٤١ ، رقم ١٧٢٧ / ٥.

(٤) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ٢١١ ، باب ١٠١٤ المرأة تحجّ بغير ولي ، رقم ٢٩٤٧.

(٥) صحيح البخاري ، ج ٢ ، ص ٥٤ ، باب التقصير في السفر ، رقم ٤.

(٦) المصدر : ص ٧٧ ، باب مسجد بيت المقدس.

(٧) المصدر : ج ٣ ، ص ٥٦ باب الصوم يوم النحر.

(٨) فصّلت ٤١ : ١٦.

(٩) القمر ٥٤ : ١٩.

٤٠٦

قال أبو حيّان الأندلسي : و «نحسات» صفة لأيّام ، جمع بألف وتاء ، لأنّه جمع صفة لما يعقل. (١)

قال الزمخشري ـ في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... الَّذِي خَلَقَهُنَ) ـ : (٢) الضمير في «خلقهنّ» للّيل والنهار والشمس والقمر ، لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الانثى أو الإناث. يقال : الأقلام بريتها وبريتهنّ. (٣)

قال المحقّق رضي الدين الأسترآبادي ـ بشأن الجمع غير العاقلين ـ : هو ثلاثة أقسام ، مذكّر لا يعقل كالأيّام والجبيلات. ومؤنث يعقل كالنسوة والزينبات. ومؤنّث لا يعقل كالدور والظلمات. فيجوز أن يكون ضمير جميعها الواحد المؤنّث الغائب ، بتأويل الجماعة. وأن يكون النون (نون جمع المؤنّث) لكونها جمع غير العاقلين ، وقد تقدّم [عند الكلام عن الضمائر] أنّ النون موضوع له. فنقول : الأيّام والجبيلات ، والنساء والزينبات ، والدور والغرفات ، فعلت وفعلن ... (٤)

* * *

وأمّا وصف الملائكة بصيغة الجمع المؤنّث السالم (بالألف والتاء) ـ في المرسلات ، والنازعات ، والصافّات ، والذاريات ـ فباعتبار كون الموصوف هم جماعات الملائكة.

فقوله : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً)(٥) أي الجماعات الملقيات ، جمع جماعة الملائكة. وكذا قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). (٦) (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً). (٧) وهكذا قوله : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً). (٨)

وقوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ). (٩) صافّات : حال من الطير ، باعتباره اسم جنس جمع ، فهو كالجمع المكسّر لغير ذوي العقول.

__________________

(١) البحر المحيط ، ج ٧ ، ص ٤٩١.

(٢) فصّلت ٤١ : ٣٧.

(٣) الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٢٠٠.

(٤) شرح الكافية للأسترآبادي ، ج ٢ ، ص ١٧١.

(٥) المرسلات ٧٧ : ٥.

(٦) النازعات ٧٩ : ٥.

(٧) الصافّات ٣٧ : ١ ـ ٣.

(٨) الذاريات ٥١ : ٤.

(٩) النور ٢٤ : ٤١.

٤٠٧

ومثله قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ). (١) أي الخيل الصافنات ، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم ، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض.

التعبير عن العقلاء ب «ما» الموصولة

فقد جاء في القرآن الكريم مواضع استعمل فيها «ما» الموصولة فيمن يعقل :

منها قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ). (٢)

وقوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ). (٣)

وقوله : (وَالسَّماءِ وَما بَناها). (٤)

وقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ). (٥)

وقوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ). (٦)

وقوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ). (٧)

وقوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). (٨)

وقد تخلّص أهل الأدب من ذلك من وجوه :

الأول : جواز استعمال «ما» الموصولة فيمن يعقل جوازا مطّردا وإن كان غير غالب.

قال أبو البقاء العكبري : «ما» هنا بمعنى من. ولها نظائر في القرآن. (٩)

وجاء في الكافية لابن حاجب : و «ما» في الغالب لما لا يعلم ، وقد جاء في العالم قليلا. حكى أبو زيد : سبحان من سخّركنّ لنا وسبحان ما سبّح الرعد بحمده. وقال تعالى : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). (١٠)

__________________

(١) ص ٣٨ : ٣١.

(٢) النساء ٤ : ٣.

(٣) النساء ٤ : ٢٤.

(٤) الشمس ٩١ : ٥.

(٥) الكافرون ١٠٩ : ٢ و ٣.

(٦) النساء ٤ : ٢٥.

(٧) النساء ٤ : ٢٢.

(٨) الليل ٩٢ : ٣.

(٩) راجع : إملاء ما منّ به الرحمن ، ج ١ ، ص ١٦٦ ؛ وشرح الكافية ، ج ٢ ، ص ٥٥.

(١٠) النساء ٤ : ٣٦. جاء في نفس الصفحة من شرح الكافية : «سبحان ما سخّركنّ لنا وما سبّح الرعد بحمده».

٤٠٨

الثاني : أنّ الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء. (١) وهذا أبعد الوجوه.

الثالث ـ وهو الأوجه ـ : أنّه إجراء على الصفة لا على الذات.

قالوا : و «ما» تختصّ أو تغلب في غير العقلاء فيما إذا اريد الذات ، وأمّا إذا اريد الوصف فلا. كما تقول : ما زيد ـ في الاستفهام ـ أي أفاضل أم كريم. وأكرم ما شئت من الرجال ، تعني الكريم أو اللئيم. (٢)

قال الفرّاء : قال تعالى (ما طابَ لَكُمْ)(٣) ولم يقل «من طاب». وذلك أنّه ذهب إلى الفعل (أي الوصف) [أي فانكحوا الطيّبات من النساء]. كما قال : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)(٤) يريد : أو ملك أيمانكم.

ولو قيل في هذين «من» كان صوابا ، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب. وأنت تقول في الكلام : خذ من عبيدي ما شئت ، إذا أراد مشيئتك ، فإن قلت : «من شئت» فمعناه : خذ الذي تشاء. (٥)

وهكذا قال أبو البقاء : وقيل : «ما» تكون لصفات من يعقل ، وهي هنا كذلك ، لأنّ «ما طاب» يدلّ على الطيب منهنّ.

وقال الزمخشري : وقيل : «ما» ذهابا إلى الصفة.

قل رضيّ الدين الأسترآبادي : وتستعمل أيضا في الغالب في صفات العالم نحو : زيد ما هو وما هذا الرجل ، فهو سؤال عن صفته. والجواب : عالم أو غير ذلك. قال : وقول فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ). (٦) يجوز أن يكون سؤالا عن الوصف ، ولهذا قال موسى عليه‌السلام (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (٧)

قال الزمخشري ـ ردّا على من زعم أنّ «ما» في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها. وَالْأَرْضِ وَما طَحاها. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها). (٨) مصدريّة ـ : وليس بالوجه ، لقوله (فَأَلْهَمَها) ، وما

__________________

(١) الكشّاف ، ج ١ ، ص ٤٦٧.

(٢) روح المعاني ، ج ٤ ، ص ١٦٩.

(٣) النساء ٤ : ٣.

(٤) النساء ٤ : ٣.

(٥) معاني القرآن ، ج ١ ، ص ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٦) الشعراء ٢٦ : ٢٣.

(٧) الشعراء ٢٦ : ٢٤. راجع : شرح الكافية ، ج ٢ ، ص ٥٥.

(٨) الشمس ٩١ : ٥ ـ ٧.

٤٠٩

يؤدّي إليه من فساد النظم. قال : والوجه أن تكون «ما» موصولة ، وإنّما اوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفية ، كأنّه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي بناها. ونفس ، والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها. وفي كلامهم : سبحان ما سخّركنّ لنا. (١)

وقال ـ في تفسير سورة الكافرون ـ : فإن قلت : فلم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت : لأنّ المراد الصفة ، كأنّه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحقّ. (٢)

وقال الطبرسي ـ في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ)(٣) ـ : إنّه يجوز أن يكون ذهب به مذهب الجنس ، كما يقول القائل : لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء. فيذهب مذهب الجنس ثم يفسّره ب «من». (٤)

وأقول ـ توضيحا لذلك ـ : إنّ «ما» قد يراد به الذات ، فذلك الغالب أن يقع على غير ذوي العقول. ولكن قد يقع على ذوي العقول مرادا به الوصف لا الذات ، فذلك هو الشائع واستعمله القرآن. ومنه السؤال عن الماهية أيضا ، يؤتى بما دون «من» وإن كان سؤالا عن ماهية عاقل فيقال : زيد ما هو ، وما هذا الرجل. فإنّ السؤال عن شخصيّته وعن تكوينه الذاتي في أوصافه الخاصّة ، وليس المراد السؤال عن معرفة شخصه ، فلا يصحّ أن يقال في الجواب : إنّه ابن فلان أو من آل فلان. بل ينبغي أن يجاب بما يعرّف شخصيّته الذاتية وأن يؤتى بأوصاف تخصّه.

نعم ، لو اريد السؤال عن شخصه كان يجب أن يقال : من هو ، فيجاب بأنّه ابن فلان أو من آل فلان.

وفي الحديث عن أبى الحسن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد ، فإذا جماعة قد أطافوا برجل. فقال : ما هذا؟ فقيل : علّامة. قال : وما العلّامة؟ قالوا : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهلية وبالأشعار والعربية. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك علم لا يضرّ من جهله ، ولا ينفع من علمه. (٥)

__________________

(١) الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٧٥٩.

(٢) المصدر : ص ٨٠٩.

(٣) النساء ٤ : ٢٢.

(٤) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٢٧.

(٥) بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٢١١ عن أمالي الصدوق.

٤١٠

ومنه قوله تعالى ـ حكاية عن فرعون ـ : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ). (١) وذلك لمّا دعاه موسى عليه‌السلام إلى شريعته وقال : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ). (٢) عاد عليه فرعون وسأله عن سمات هذا الربّ والتي جعلته ربّا للعالمين ، ولم يسأله عن ذاته المقدّسة وعن اسمه الخاصّ. وإلّا لكان حقّ الجواب أن يقول موسى عليه‌السلام : الله ، بل أجابه بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ... رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما)(٣) وفيه تعريض بفرعون ، حيث ادّعى الربوبيّة ، لأنّ له ملك مصر ، وأنّ أنهارها تجري من تحته. (٤) فهو يملك ـ فيما زعم ـ رقعة من الأرض وليست كلّها وفي مقطع من الزمان لا في كلّ الأزمان ، ولاناس معدودين وليس كلّ الخلائق من الأوّلين والآخرين.

والخلاصة : إنّ التعبير ب «ما» عن الشيء قد يكون تعريفا بعين ذاته ، فهذا ما يغلب استعماله في غير ذوي العقول. وقد يكون تعريفا بصفاته وعناوينه التي كوّنت شخصيّته الخاصّة ، فهذا يعمّ ويغلب استعماله في العقلاء أيضا. وقد جاءت تعابير القرآن على هذا النمط ، وجاريا على أساليب كلام العرب الفصيح.

وعليه ، فكان قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٥) تعبيرا عن الطيّبات من النساء ، أي فانكحوا الطيّب من النساء. قال مكّيّ بن أبي طالب : أي فانكحوا الطيّب أي الحلال. و «ما» تقع لما لا يعقل ، ولنعوت ما يعقل ، ولذلك وقعت هنا لنعت ما يعقل. (٦)

وكذا قال ـ في قوله تعالى : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)(٧) ـ : وقعت «ما» لمن يعقل ، لأنّ المراد بها صفة من يعقل. قال : و «ما» يسأل بها عمّا لا يعقل وعن صفات من يعقل. (٨)

قال الفرّاء : (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد : أو ملك أيمانكم. (٩)

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ٢٣.

(٢) الشعراء ٢٦ : ١٦.

(٣) الشعراء ٢٦ : ٢٤ ـ ٢٨.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ). الزخرف ٤٣ : ٥١.

(٥) النساء ٤ : ٣.

(٦) مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب ، ج ١ ، ص ١٨٩.

(٧) النساء ٤ : ٣٦.

(٨) المصدر : ص ١٩٥.

(٩) معاني القرآن ، ج ١ ، ص ٢٥٤.

٤١١

فإنّه عنى الطيّبات ، ثم بيّنه بقوله : «من النساء». كما أنّه عنى المملوك ثم بيّنه بالفتيات وكذلك قوله (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ ...)(١) فإنّه عنى جانب الاستمتاع ، ثمّ جاء البيان بالنساء. ومثله قوله (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ)(٢) أي ما وقع في نكاحهم ، ثم بيّنه بقوله : «من النساء».

وقال الزمخشري ـ في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها ...)(٣) ـ : جعلت «ما» مصدريّة ، وليس بالوجه ، لقوله «فألهمها» ، وما يؤدّي إليه من فساد النظم. والوجه : أن تكون موصولة ، وإنّما اوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفية ، كأنّه قال : والسماء والقادر العظيم الذي بناها. ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها. وفي كلامهم : «سبحان ما سخّركنّ لنا». (٤) وقال ـ في قوله (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)(٥) ـ : فإن قلت : لم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت : لأنّ المراد الصفة ، كأنّه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحقّ. (٦)

وقال ـ في قوله (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)(٧) ـ : والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والانثى من ماء واحد. وقرأ ابن مسعود : والذي خلق الذكر والانثى. (٨) تبيينا لموضع «ما» وأنّها موصولة.

قال الفرّاء : كلّ هذا ـ أي التعبير ب «ما» عن العقلاء فيما ذكر من الآيات ـ جائز في العربية. (٩)

ضمائر تخالف مراجعها

قال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ). (١٠)

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٤.

(٢) النساء ٤ : ٢٢.

(٣) الشمس ٩١ : ٥.

(٤) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٧٥٩.

(٥) الكافرون ١٠٩ : ٢ و ٣.

(٦) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٨٠٩.

(٧) الليل ٩٢ : ٣.

(٨) الكشّاف ، ج ٤ ص ٧٦١.

(٩) معاني القرآن ، ج ٣ ، ص ٢٦٣.

(١٠) البقرة ٢ : ١٧.

٤١٢

فقد شبّه المنافقون ـ في حالتهم المزرية ـ بالذي استوقد نارا لإنارة الطريق ، لكنّه افتقدها فور الوقود. ومن ثمّ كان يجب ـ حسب الظاهر ـ إفراد الضمائر كلّها ، حيث عودها على المشبه وهو مفرد!

لكن هذا من باب تناسي التشبيه ـ كما في الاستعارة المرشّحة ـ (١) كما في قول أبي تمام من قصيدة يرثي بها خالد بن يزيد الشيباني ويذكر أباه. وهذا البيت في مدح أبيه وذكر علوّ قدره ورتبته :

ويصعد حتّى يظنّ الجهول

بأنّ له حاجة في السماء

استعار الصعود لعلوّ القدر والارتقاء في مدارج الكمال ، ثمّ بنى عليه ما يبني علوّ المكان والارتقاء في السماء. فلولا أنّ قصده أن يتناسى التشبيه ويصرّ على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية ، لما كان لهذا الكلام وجه.

ونحوه قول أبي الفضل ابن العميد في غلام جميل قام على رأسه ليستره عن الشمس :

قامت تظلّلني من الشمس

نفس أعزّ عليّ من نفسي

قامت تظلّلني ومن عجب

شمس تظلّلني من الشمس

فلولا أنّه تناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا التعجّب.

وكذا قول أبي الطباطبا العلوي في وصف غلام صبيح :

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر

فلولا أنّه تناسى التشبيه لم يكن وجه لهذا النهي عن التعجّب.

ونظيره ما جاء في نفس التشبيه ـ من غير استعارة ـ كما في قول عباس بن الأحنف في قصيدة يصف فيها محبوبته ، يخاطب نفسه :

__________________

(١) وهي : ما قرن المستعار له بما يلائم المستعار منه. كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) البقرة ٢ : ١٦. فإنّه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار ثمّ فرّع عليها ما يلائم الاشتراء من الربح والتجارة. قالوا : والترشيح أبلغ ، لاشتماله على تحقيق المبالغة في التشبيه ، ومبناه على تناسي التشبيه وادّعاء أنّ المستعار له عين المستعار منه (راجع المطوّل ، قسم البيان ، ص ٣٧٨ ـ ٣٧٩ طبع مصر ، منشورات مكتبة الداوري ـ قم).

٤١٣

هي الشمس مسكنها في السماء

فعزّ الفؤاد عزاء جميلا

فلن تستطيع إليها الصعودا

ولن تستطيع إليك النزولا

فقد شبّهها بالشمس تشبيها صريحا من غير أن يطوي ذكر المشبّه به ، ومع ذلك فقد تناسى التشبيه ، وبنى على المشبّه ما هو من شأن المشبّه به. (١)

وقوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا)(٢) أي خضتم في الكفر والعناد كالذي خاضوه. فالعائد محذوف. وهذا من تشبيه الخوض بالخوض ، لا الخائضين بالخائضين. وهو من حسن التشبيه حيث وقع بين الفعلين لا الفاعلين.

وقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). (٣) المراد به الجنس وهو عامّ في مفهومه يشمل الواحد والكثير ، وبما أنّ الآية ذات مصاديق كثيرة لوحظ المعنى ليعمّ الحكم من غبر ومن حضر ومن يأتي من بعد.

وقوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ... أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ...). (٤) المراد به الجنس أيضا. وهو نوع من الالتفات اللطيف ، حيث يبدأ الكلام بمفرد ، لكنّ المتكلّم ـ حيث أراد الجنس لا الفرد الخاصّ ـ ينحو بكلامه إلى جانب العموم وإرادة الشمول.

وهنا بشأن هذه الآية حكاية ظريفة : زعمت بنو اميّة وبنو مروان أنّها نزلت بشأن عبد الرحمن بن أبي بكر. وحينما كتب معاوية إلى عامله بالمدينة مروان بن الحكم بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن : لقد جئتم بها هرقليّة ، تبايعون لأبنائكم! فقال مروان : أيّها الناس ، إنّ هذا هو الذي قال الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ...) فسمعت عائشة ، فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن اسمّيه لسمّيته. ولكنّ الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله. (٥)

__________________

(١) المطوّل ، ص ٣٧٩.

(٢) التوبة ٩ : ٦٩.

(٣) الزمر ٣٩ : ٣٣.

(٤) الأحقاف ٤٦ : ١٧ و ١٨.

(٥) فضض : ما انفضّ من الشيء. قال الجوهري : وفي الحديث : أنت فضض من لعنة الله ، يعني : ما انفضّ من نطفة الرجل ـ

٤١٤

ما يستوي فيه المفرد والجمع

من ذلك لفظ «الطاغوت» يقع على الواحد والجمع :

* قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ). (١) وقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ). (٢) جاء في التفسير أنّه أراد : كعب بن الأشرف رأس اليهود.

وقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها). (٣) أراد به الأصنام.

قالوا : هو في الأصل مصدر «طغى» ، وأصله : طغيوت ، على وزان : فعلوت ، مثل : الرهبوت ، والرحموت. فقدّم الياء وأبدل منها ألفا فصار طاغوت. (٤)

* ومن ذلك قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). (٥)

ومثله قوله : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...). (٦)

والمراد بالإنسان هنا الجنس الذي يطلق على الواحد والجمع سواء ، بدليل الاستثناء هنا.

* قال تعالى : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ). (٧) قال الزمخشري : والسامر ، نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون. وكانت عامّة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا ، وسبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. و «تهجرون» من أهجر في منطقه إذا أفحش. والهجر ـ بالضمّ ـ : الفحش. وبالفتح : الهذيان. (٨)

* ومنه «الفلك» يطلق على المفرد والجمع ، قال تعالى في المفرد : (وَمَنْ مَعَهُ فِي

__________________

ـ وتردّد في صلبه. والحديث أخرجه النسائي وابن أبي خيثمة والحاكم وصحّحه ابن مردويه. وأخرج أصله البخاري في صحيحه. راجع : الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٣٠٤ وهامش ، ص ٣٠٣. وراجع أيضا : الدرّ المنثور ، ج ٧ ، ص ٤٤٤.

(١) البقرة ٢ : ٢٥٧.

(٢) النساء ٤ : ٦٠.

(٣) الزمر ٣٩ : ١٧.

(٤) إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج ، ص ٧٦٣ ، باب ٤٢.

(٥) التين ٩٥ : ٤ ـ ٦.

(٦) العصر ١٠٣ : ١ ـ ٣.

(٧) المؤمنون ٢٣ : ٦٧.

(٨) الكشّاف ، ج ٣ ، ص ١٩٤.

٤١٥

الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)(١) وقال في الجمع : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)(٢) فهو في المفرد كقفل ، وفي الجمع كاسد.

وقوله (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) ، (٣) يحتمل المفرد والجمع ، وذلك لأنّ «الفلك» يذكّر ويؤنّث. فيحتمل في ضمير التأنيث أن يكون لذلك ، أو لإرادة الجمع.

* ومنه ما جاء مفردا بلفظة التمييز أو الحال أو المفعول به ، ويراد به الجمع ، لا باعتبار المجموع ، بل باعتبار كلّ واحد منهم : قال تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً). (٤) أي أنفسا ، والمراد : كلّ واحدة نفسا. وقال : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). (٥) أي رفقاء ، والمراد : كلّ واحد رفيقا.

قال الزمخشري : والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه. ويجوز أن يكون مفردا بيّن به الجنس في باب التمييز. (٦)

وقال : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً). (٧) أي أطفالا ، والمراد : كلّ واحد طفلا.

وقال : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً). (٨) أي وكلاء.

وقال : (خَلَصُوا نَجِيًّا). (٩) أي أنجياء أو أنجية.

قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : هم نجي كما قيل : هم صديق ، لأنّه بزنة المصادر. (١٠)

* ومنه لفظ «العدوّ». فإنّه يطلق على الواحد والجمع على سواء. قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي). (١١)

قال الراغب : يقال : رجل عدوّ ، وقوم عدوّ. (١٢) قال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ١١٩.

(٢) يونس ١٠ : ٢٢.

(٣) البقرة ٢ : ١٦٤.

(٤) النساء ٤ : ٤.

(٥) النساء ٤ : ٦٩.

(٦) الكشّاف ، ج ١ ، ص ٥٣١.

(٧) غافر ٤٠ : ٦٧.

(٨) الإسراء ١٧ : ٢.

(٩) يوسف ١٢ : ٨٠.

(١٠) الكشّاف ، ج ٢ ، ص ٤٩٤.

(١١) الشعراء ٢٦ : ٧٧.

(١٢) المفردات ، ص ٣٢٦.

٤١٦

اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). (١) (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ). (٢)

* وقال تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ). (٣) أي أصدقاء أحمّاء.

__________________

(١) المنافقون ٦٣ : ٤.

(٢) الكهف ١٨ : ٥٠.

(٣) الشعراء ٢٦ : ١٠٠ و ١٠١.

٤١٧

الباب الخامس

القصص القرآني

على منصّة التحقيق

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ)(١)

القصّة : الحديث. الخبر. الأمر الحادث. الاحدوثة. الشأن. الحال. جمعها : قصص ، والمصدر قصص.

يقال : قصّ عليه الخبر قصصا ، إذا حدّثه به. والقصّ والقصص : تتّبع الأثر. يقال : قصصت أثره أي تتبّعته. قال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) ، (٢) أي رجعا إلى الوراء ليستعلما الحال. وقال ـ على لسان أمّ موسى ـ : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ). (٣) أمرتها بالفحص وتتبّع أثره ، ولتنظر من يأخذه من الماء.

وقصص القرآن : أخباره عن أحوال الماضين ، من امم وأنبياء سالفين. وعن

__________________

(١) يوسف ١٢ : ٣.

(٢) الكهف ١٨ : ٦٤.

(٣) القصص ٢٨ : ١١.

٤١٨

حوادث واقعة في سوالف الأيّام ، ممّا فيه العبر والاعتبار للباقين.

وللقصّة أثرها المباشر في النفوس وآكد في التربية والتعليم ممّا لو كان الكلام عاريا عن شواهد وأمثال. ذلك أنّ النفوس تهفو إلى معرفة ما بين الأحداث وعللها وأسبابها من ربط. وكذا بينها وبين النتائج المترتّبة عليها من علاقة وثيقة. فلو أنّ المتكلّم أبان وجه العلل والأسباب ، وكشف عن النتائج الحاصلة بشكل مستدلّ متين ، ووضع يده على مواضع العبر منها وذوات الاعتبار ، لكان قد اقترب من غايته في تأثير النصح والإرشاد ، في أقرب طريق وأفضل اسلوب مؤثّر.

قال نظام الدين النيشابوري القمي ، صاحب التفسير : الإنسان قد يذكر معنى فلا يلوح له مبلغ تأثيره ولا مدى تفهيمه كما ينبغي ، حتّى إذا شفّعه بشاهد مثال ولا سيّما قصص الماضين ـ فيما إذا كان بصدد الوعظ والإرشاد ـ فتراه كلاما ذا وقع وتأثير حسبما يراد. ذلك أنّ في الطباع محاولة المحاكاة مع المشهود من جمال أو كمال. فإذا ذكر المعنى وحده كان قد أدركه العقل ، ولكن مع منازعة الخيال ومحاولة رفضه في بادئ الأمر ، أمّا إذا شفّع بذكر شاهد من أحوال الماضين وذكرت الأسباب المؤاتية والنتائج الحاصلة منها ، رغبت النفس في لمسه في ذات ضميره ، فيكون أوقع في النفس وأقرب إلى القبول وإمكان التأثير. ومن ثمّ كان من الضروري الإكثار في القرآن من ذكر القصص والأمثال ، فإنّه الكتاب الّذي انزل تبيانا لكلّ شيء وهدى ورحمة للعالمين. (١)

وقال الإمام الرازي ـ بصدد بيان فائدة ذكر قصص الأنبياء في القرآن ـ :

إنّه سبحانه لمّا بالغ في تقرير الدلائل والبيّنات وفي الردّ على شبهات المعاندين ، شفّعها بذكر أحوال الامم السالفة ومواضعهم من الأنبياء ، لغرض أنّ الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع المعارف ، فربّما حصل نوع من الملال ، وليس إذا حصل انتقال من نوع إلى نوع ، ليزيد طراوة وينشط من رغبة السامعين.

وأيضا ليكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون في تسلية عمّا يواجهوه من أذى الأعداء ،

__________________

(١) عن تفسير غرائب القرآن للنيشابوري (بهامش الطبري ، ج ١ ، ص ١٩٩ ـ ٢٠٠) بتصرّف وتبيين.

٤١٩

وليتأسّوا بمن سلف من الأنبياء والصالحين.

وكذلك ليكون تنبّها للجهّال المعاندين ، فلينظروا في أحوال الماضين من آبائهم وليعتبروا بما اصيبوا من الفشل والخسران ، وأنّ الله تعالى لينصر أولياءه ويكون جنده هم الغالبين.

وأخيرا فإنّها معجزة قرآنيّة يذكر قصص الماضين نقيّة وسليمة من أكدار التحريف والتشويه ، على يد نبيّ أمّي لم يكتب ولم يقرأ الكتب. (١)

اسلوب القصّة في القرآن

إنّ اسلوب القصّة في القرآن جاء متميّزا عن الاسلوب المعروف للقصّة في التراث الأدبي والإنساني ، حيث يكتفي القرآن الكريم بذكر الأحداث بشكل مقتطفات وبصورة إجماليّة أحيانا تاركا التفاصيل ، وأحيانا بشكل متقطّع غير موصول ، واضعا يده على نقاط هي بيت القصيد من القصّة ، وفي الأغلب بشكل الاستطراد في التعرّض لمفاهيم وحقائق وموضوعات عقائديّة أو أخلاقيّة أو كونيّة (سنن الطبيعة) أو شرعيّة ، وغير ذلك من الخصوصيّات التي قد تثير ملاحظة كبيرة حول اسلوب القصّة في القرآن الكريم. وبذلك تخرج عن كونها عملا فنيّا مستقلّا له مميّزاته الخاصّة.

وهذا يعود إلى أنّ القرآن كتاب هداية ، وإنّما استخدم الفنّ لغايته في أمر الهداية ، ومن ثمّ فإنّه يقتصر على موضع الحاجة منه في سبيل تحقيق هدفه الخاصّ ، ولا يعيره اهتماما فيما لا يعود إلى هذا الجانب بالذات.

وشيء آخر ، كان اسلوب القرآن اسلوب خطاب لا اسلوب كتاب ـ كما نبّهنا ـ (٢) فلا ملزم له بسرد القضايا بانتظام وانسجام والإتيان بالتفاصيل والجزئيّات ، كما هو شأن الكتاب ، فلا يراعي فيما يقصّ من قصص ترتيبها الزمني ولا التواصل في ذكر حادثة ، بل

__________________

(١) عن التفسير الكبير ، ج ١٧ ، ص ١٣٥ ، عند تفسير الآية ٧١ من سورة يونس. فيما قصّ الله من حديث نوح عليه‌السلام نقلا بتصرّف.

(٢) في الجزء الأوّل من التمهيد.

٤٢٠