شبهات وردود حول القرآن الكريم

الشيخ محمّد هادي معرفة

شبهات وردود حول القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-06-1983-3
الصفحات: ٦٠٧

اقتضاء حالتهم هم ولكنّ الله يفعل ما يشاء حسب حكمته وإرادته وليس شيء حتما عليه ما دامت الحكمة هي الحاكمة على فعاله تعالى وتقدّس ، وإرادته تعالى هى الساطية على تدبير عالم الوجود دنيا وآخرة ، لا رادّ لقضائه.

وبذلك أشار في قوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(١) فأوعدهم بالخلود. لكنّ الوعيد ليس لزاما عليه ما دام الله يفعل ما يشاء وفق حكمته وعلمه القديم.

لكنّه تعالى أكّد وعده بشأن السعداء أن سيدوم لهم النعيم ولو تغيّرت المشيئة بالبقاء في الجنّة فرضا ليطمئنّوا على ثقة من دوام عنايته تعالى بهم أبدا.

فهؤلاء واولئك خالدون حيث هم ، ما دامت السماوات والأرض ـ وهو تعبير يلقى في الذهن صفة الدوام والاستمرار حسب الاستعمال الدارج ـ (٢) وقد علّق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين. وكلّ قرار وكلّ سنّة معلّقة بمشيئة الله في النهاية. فمشيئة الله هي التي اقتضت السنّة وليست مقيّدة بها ولا محصورة فيها. إنّما هي طليقة تبدّل هذه السنّة حين يشاء الله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

وزاد السياق في حالة الذين سعدوا ما يطمئنّهم إلى أنّ مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع ، حتّى على فرض تبديل إقامتهم في الجنّة. وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرّيّة المشيئة بعد ما يوهم التقييد. (٣)

* * *

وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى). (٤) «إلّا» هو بمعنى «سوى» مثلها في قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ). (٥) يريد سوى ما سلف في الجاهلية قبل النهي. فالمعنى في الآية الاولى : أنّهم لا يذوقون الموت بعد موتهم

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٢٨.

(٢) وللتعبيرات ظلال ، وظلّ هذا التعبير هنا هو المقصود.

(٣) راجع : في ظلال القرآن ، المجلّد ٤ ، ص ٦٢٧ ، ج ١٢ ، ص ١٤١.

(٤) الدخان ٤٤ : ٥٦.

(٥) النساء ٤ : ٢٢.

٣٠١

الأوّل. (١)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا). (٢) قالوا : ليس الودّ ممّا يجعل ، وإنّما هو شيء يحصل في القلب. فلا يقال : يجعل لك حبّا ، بل يقال : يحبّك.

والجواب : أنّ المراد جعل الودّ أي خلقه في قلوب المؤمنين. قال ابن قتيبة : فإنّه ليس على تأوّلهم ، وإنّما أراد أنّه يجعل لهم في قلوب العباد محبّة. فأنت ترى المخلص المجتهد محبّبا إلى البرّ والفاجر ، مهيبا مذكورا بالجميل. ونحوه قوله تعالى في قصّة موسى عليه‌السلام : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي). (٣) لم يرد في هذا الموضع أنّي أحببتك وإن كان يحبّه. وإنّما أراد أنّه حبّبه إلى القلوب وقرّبه من النفوس. فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون ، حتّى استحياه في الوقت الذي كان يقتل فيه ولدان بني إسرائيل. (٤)

* * *

وقالوا في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً). (٥) السبات هو النوم ، فكيف يجعل نومنا نوما؟

لكن السبات هاهنا ليس بمعنى النوم ، بل هو بمعنى الراحة ، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم. ومنه قيل : يوم السبت ، لأنّ الخلق اجتمع في يوم الجمعة ، وكان الفراغ منه يوم السبت. فقيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا شيئا ، فسمّى يوم السبت أي يوم الراحة.

وأصل السبت التمدّد ، ومن تمدّد فقد استراح. ومنه قيل : رجل مسبوت. ويقال : سببت المرأة شعرها : إذا نقضته من العقص وأرسلته. قال أبو وجزة السعدي :

وإن سبّتته مال جثلا كأنّه

سدى وأثلاث من نواسج خثعما (٦)

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن ، ص ٧٨.

(٢) مريم ١٩ : ٩٦.

(٣) طه ٢٠ : ٣٩.

(٤) تأويل مشكل القرآن ، ص ٧٩.

(٥) النبأ ٧٨ : ٩.

(٦) الجثل هنا بمعنى : المنثور المتفتّت ، من جثلته الريح : إذا استخفته فنثرته. والسدى : خيوط تنسجها النساء بالمغزل. والواثلات : الناسجات. تأويل مشكل القرآن ، ص ٨٠.

٣٠٢

مطاعن ردّ عليها قطب الدين الراوندي(١)

عقد في كتابه القيّم «الخرائج والجرائح» بابا ردّ فيه على مطاعن المخالفين في القرآن ، (٢) وهو بحث موجز لطيف وتحقيق واف دقيق ذو فوائد جمّة نورده هنا بالمناسبة : قالوا : إنّ في القرآن تفاوتا ، كقوله : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ). (٣) ففي هذا تكرير بغير فائدة فيه ، لأنّ قوله «قوم من قوم» يغني عن قوله : «نساء من نساء». فالنساء يدخلن في قوم. يقال : هؤلاء قوم فلان ، للرجال والنساء من عشيرته!

الجواب : إنّ «قوم» لا يقع في حقيقة اللغة إلّا على الرجال. ولا يقال للنساء التي ليس فيهنّ رجل : هؤلاء قوم فلان. وإنّما سمّي الرجال قوما ، لأنّهم القائمون بالامور عند الشدائد. ويدلّ عليه قول زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وقالوا في قوله تعالى : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي)(٤) تفاوت (أي تهافت) كيف تكون العيون في غطاء عن الذكر؟ وإنّما المناسب أن تكون الأسماع في غطاء عن الذكر!

الجواب : إنّ الله أراد بذلك عميان القلوب ، وعمى القلب كناية عن عدم وعي الذكر ، يقال : عمى قلب فلان ، وفلان أعمى القلب ، إذا لم يفهم ولم يع ما يلقى إليه من الذكر الحكيم. ومن ثمّ جاء تعقيب الآية بقوله : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً).

قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها

__________________

(١) هو أبو الحسن سعيد بن هبة الله المشتهر بالقطب الراوندي ، نسبتا إلى راوند من قرى كاشان قائمة إلى اليوم. عالم متبحّر ومحدّث فقيه من أعاظم علماء الإمامية في القرن السادس (توفي سنة ٥٧٣) هو من مشايخ ابن شهرآشوب وغيره من أكابر أعيان العلماء في وقته. له مصنّفات جليلة ، منها : الخرائج والجرائح. وقصص الأنبياء ، ولبّ اللباب ، وشرح نهج البلاغة ، وبحقّ أسماه «منهاج البراعة».

(٢) أورده بكامله المجلسي في البحار ، ج ٨٩ ، ص ١٤١ ـ ١٤٦.

(٣) الحجرات ٤٩ : ١١.

(٤) الكهف ١٨ : ١٠١.

٣٠٣

فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). (١)

فأعين القلب إذا كانت في غطاء فإنّ الآذان حينذاك لا تسمع والأبصار لا تبصر ، لأنّ القلب لا يعي.

بصر القلوب وعماها هو المؤثّر في باب الدين ، إمّا وعيا أو غلقا. قال تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها). (٢) والأكنّة : الأغطية.

فكان غطاء التعامي في القلوب هو العامل المؤثّر في عدم سماع الآذان وعدم إبصار العيون.

وقالوا في قوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) : (٣) ما نسبة الكتاب من علم الغيب؟. ثم إنّ قريش كانوا أمّيّين فكيف فرضهم يكتبون؟

الجواب : إنّ معنى الكتابة هنا الحكم. يريد : أعندهم علم الغيب فهم يحكمون. ومثله قول الجعدي :

ومال الولاء فملتم

وما ذاك حكم الله إذ هو يكتب

(أي يحكم). ومثله قوله الآخر ـ على ما استشهد به الجوهري في الصحاح :

يا ابنة عمّي كتاب الله أخرجني

عنكم وهل أمنعنّ الله ما فعلا

وقال ابن الأعرابي : الكاتب عندهم ، العالم. قال تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي يعلمون. (٤)

وقالوا في قوله تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ. كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) : (٥) كيف هذا التنظير ولا تناسب بين الكلامين ، ولا وجه شبه لهذا التشبيه؟! وهكذا في قوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ). (٦) ما وجه هذا التشبيه؟

__________________

(١) الحجّ ٢٢ : ٤٦.

(٢) الأنعام ٦ : ٢٥.

(٣) الطور ٥٢ : ٤١ ، القلم ٦٨ : ٤٧.

(٤) راجع : الصحاح للجوهري ، مادّة «كتب» ، ج ١ ، ص ٢٠٨.

(٥) الحجر ١٥ : ٨٩ ـ ٩١.

(٦) الأنفال ٨ : ٤ و ٥.

٣٠٤

وكذا قالوا في قوله تعالى : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ). (١)

الجواب : إنّ القرآن نزل على لسان العرب ، وفيه حذف وإيماء ، ووحي وإشارة. فقوله : (أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) فيه حذف ، كأنّه قال : أنا النذير المبين عذابا ، مثل ما أنزل على المقتسمين. فحذف العذاب ، إذ كان الإنذار يدلّ عليه. كقوله في موضع : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ). (٢)

وأمّا قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) فإنّ المسلمين يوم بدر اختلفوا في الأنفال ، وجادل كثير منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما فعله في الأنفال. فأنزل الله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (يجعلها لمن يشاء) (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) (أي فرقوها بينكم على السواء) (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (فيما بعد) (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (٣)

ثم يصف المؤمنين ، وبعده يقول : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ). يعني : إنّ كراهتهم الآن في الغنائم ككراهتهم يوم ذاك في الخروج معك.

وأمّا قوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. كَما أَرْسَلْنا ...) ، فإنّه أراد : ولأتمّ نعمتي عليكم كإرسالي فيكم رسولا أنعمت به عليكم يبيّن لكم ... (٤)

* * *

سألوا عن قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ). (٥) وهم لم يقولوا بذلك؟!

الجواب : إنّها نسبة تشريفيّة تفخيما لمقامهما وتعظيما لشأنهما لديه تعالى. فإذ كان العبد منعما بتربية صالحة ومورد عناية بالغة منه تعالى شاع في الأوائل نسبة بنوّته له سبحانه ، كما هي العادة عند العرب في المتربّي تربية صالحة نسبته إلى المربّي نسبة الولد إلى والده الكريم.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٥٠ و ١٥١.

(٢) فصّلت ٤١ : ١٣.

(٣) الأنفال ٨ : ١.

(٤) الخرائج والجرائح ، ج ٣ ، ص ١٠١٠ ـ ١٠١٣ بتصرّف وتوضيح.

(٥) التوبة ٩ : ٣٠.

٣٠٥

قالوا : الآباء ثلاثة : أب ولّدك ، (١) وأب زوّجك ، وأب علّمك.

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بشأن محمّد بن أبي بكر : محمّد ابني من صلب أبي بكر. أي تربيتى وخاصّتي.

ويقال : لكلّ منتسب إلى شيء : ابنه. كما في أبناء الدنيا ، وأبناء بلد كذا ، وهكذا أبناء الإسلام وأبناء الحمية ونحو ذلك ممّا هو متعارف.

وقال سحيم بن وثيل الرياحي :

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

ينتسب إلى جلاء الامور والكشف عن خباياها ، والتطلّع على الجبال والتلال ..

وفي خطبة الإمام السجّاد عليه‌السلام بجامع دمشق : «أيها النّاس ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ...». (٢)

وكذا فيما حكاه الله تعالى عن اليهود والنصارى في قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). (٣) أي أخصّاؤه والمتقرّبون لديه.

قال الراوندي : وإنّما خصّوا عزيرا بكونه ابن الله لأنّه هو الذي أعاد عليهم الحياة الدينية بعد خلاصهم من أسر بابل ، وكتب لهم التوراة بعد ضياعها في كارثة بخت نصّر ، فكان موضعه لدى اليهود موضع نبيّ الله موسى عليه‌السلام ، ولولاه لضاعت شريعة اليهود وذهبت معالم إسرائيل أدراج الرياح.

وعزير هذا هو : عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيّا. (٤) وقد صغّرته العرب وعرّبته على عادتهم في تعريب الأسماء وتغييرها ، كما غيّروا «يسوع» بعيسى.

كان «عزرا» معاصرا للملك الهخامنشي «أرت خشتر اردشير أوّل» الملقّب ب «دراز دست» والذي تزعّم الملك بعد أبيه «خشيارشا» سنة ٤٦٥ ق. م. (٥) وفي السنة السابعة لملكه (٤٥٨ ق. م) بعث الكاتب المضطلع «عزرا» مع جماعة من اليهود ، الذي اطلقوا من ذي قبل من أسر بابل ، إلى «أورشليم» وجهّزهم بالمال والعتاد ، وأمره أن يعمر

__________________

(١) ولّده ـ بتشديد اللام ـ ربّاه. وبالتخفيف : كان سبب ولادته.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٤٥ ، ص ١٣٨.

(٣) المائدة ٥ : ١٨.

(٤) راجع : سفر عزرا ، إصحاح ٧.

(٥) تاريخ إيران لحسن پيرنيا ، ص ٩٩.

٣٠٦

البيت ويحيي شريعة الله من جديد. وأرسل معه كتابا فيه الدستور الكامل لإعادة شريعة بني إسرائيل وإحياء مراسيم شعائرهم ، وأن يعيّن حكّاما وقضاة ، ويعمر البلاد حسب شريعة السماء. (١)

جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنجليزية (طبعة ١٩٠٣ م) أنّ عصر عزرا هو ربيع التاريخ للامّة اليهودية الذي تفتّحت فيه أزهاره وعبق شذا أوراده ، وأنّه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة لو لم يكن جاء بها موسى. فقد كانت نسيت ولكن عزرا أعادها وأحياها. (٢)

ولذلك يقول «عزرا» شاكرا لله تعالى : «مبارك الربّ إله آبائنا الذي جعل مثل هذا في قلب الملك لأجل تزيين بيت الربّ الذي في اورشليم ، وقد بسط عليّ رحمة أمام الملك ومشيريه وأمام جميع رؤساء الملك المقتدرين ...». (٣) الأمر الذي جعل من «عزرا» مكانته الشامخة في بني إسرائيل ، ولقّبوه بابن الله ، تكريما لمقامه الرفيع.

وجملة القول : أنّ اليهود وما زالوا يقدّسون «عزيرا» هذا ، وأدّى هذا التقديس إلى أن يطلقوا عليه لقب «ابن الله» تكريما. ولعلّه وفي الأدوار اللاحقة زعم بعضهم أنّه لقب حقيقي ، كما نقل عن فيلسوفهم «فيلو» ـ وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى ـ كان يهوديّا من الإسكندرية ومعاصرا للمسيح عليه‌السلام. كان يقول : إنّ لله ابنا هو كلمته التي خلق منها الأشياء. ومنه اتّخذ النصارى هذا اللقب للمسيح عليه‌السلام.

قال الشيخ محمّد عبده : فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدّمين على عصر البعثة المحمّديّة قد قالوا : إنّ عزيرا ابن الله بهذا المعنى. (٤)

قال الطبرسي : قيل : وإنّما قال ذلك جماعة من قبل وقد انقرضوا. (٥) وهكذا قال الراوندى : قالت طائفة من اليهود : عزير ابن الله. ولم يقل ذلك كلّ اليهود. وهذا خصوص خرج مخرج العموم. (٦)

__________________

(١) راجع : سفر عزرا ، إصحاح ٧ / ٨ ـ ٢٦.

(٢) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٣٢٢.

(٣) سفر عزرا ، إصحاح ٧ / ٧ ـ ٨.

(٤) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٣٢٦ و ٣٢٨.

(٥) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٣.

(٦) الخرائج والجرائح ، ج ٣ ، ص ١٠١٤.

٣٠٧

وقد روي عن ابن عبّاس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف ـ من وجوه يهود المدينة ـ فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا ولا ترى عزيرا ابنا لله وقد أعاد علينا التوراة بعد الاندراس وأحيا شريعتنا بعد الانطماس؟! (١)

ومع ذلك : فإنّ القرآن ينسب إليهم هذا القول تعنّتا وجدلا منهم ، وليس على حقيقته : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ). (٢) حيث نسبوا إلى الله البنات وزعموا أنّ الملائكة إناثا ، قولا بلا هوادة ، وعقيدة من غير مستند.

قال محمّد عبده : وقد جرى اسلوب القرآن على أن ينسب إلى أمّة أو جماعة أقوالا وأفعالا مستندة إليهم في جملتهم ، وهي ممّا صدر عن بعضهم. والمراد من هذا الأسلوب تقرير أنّ الامّة تعدّ متكافلة في شئونها العامّة ، وأنّ ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو الزعماء يكون له تأثير في جملتها ، وأنّ المنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكر عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلّهم. قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). (٣) وهذا من سنن الاجتماع البشري أنّ المصائب والرزايا التي تحلّ بالامم بفشوّ المفاسد والرذائل فيها لا تختصّ الذين تلبّسوا بتلك المفاسد وحدهم ، كما وأنّ الأوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامّة أيضا. (٤)

* * *

قال الراوندي : وسألوا عن قوله تعالى : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ). (٥) قالوا : كيف جمع الله بينه وبين قوله : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ)؟ (٦) وهذا خلاف الأوّل ، لأنّه قال أوّلا : «نبذناه» مطلقا ، ثمّ قال : «لو لا أن تداركه لنبذ بالعراء» فجعله شرطا!

__________________

(١) جاء ذلك في حديثين عن ابن عبّاس ، نقلهما الطبري في التفسير ، ج ١٠ ، ص ٧٨.

(٢) التوبة ٩ : ٣٠.

(٣) الأنفال ٨ : ٢٥.

(٤) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ص ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

(٥) الصافّات ٣٧ : ١٤٥.

(٦) القلم ٦٨ : ٤٩.

٣٠٨

الجواب : معنى ذلك : لو لا أنّا رحمناه بإجابة دعائه لنبذناه حين نبذناه بالعراء مذموما ... فالآية الثانية لا تنفي النبذ بل تنفي النبذ في حالة كونه مذموما. فلا تنافي بين الآيتين.

قال : وسألوا عن قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ). (١) في حين أنّ اسم أبيه في التوراة تارح. قال : والصحيح أنّ آزر ما كان أبا لإبراهيم.

وقد ذكرنا في موضعه أنّ آزر كان عمّا له ، ويقال : إنّه تزوّج بامّ إبراهيم بعد موت أبيه تارح ، فكان إبراهيم ربيبه وابن أخيه. واستعمال الأب في مثل هذا متعارف.

قال : وسألوا عن قوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً). ثمّ قال : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا). (٢) وهذا يدلّ على أنّ غيره لا يعلم بمدّة لبثهم ، في حين أنّه أعلمنا بذلك في الآية الاولى!

الجواب : أنّ هذا ردّ على اختلافهم في مدّة اللبث حيث لا علم لهم بذلك. ولذلك بيّنها وأعلمهم بها. وهذا يدلّ على حصر العلم بذلك على الله لا غيره. (وسوف نذكر أنّ الآية نقل لقولهم ، فهو مقول لهم وليس منه تعالى).

قال : وسألوا عن قوله تعالى : (يا أُخْتَ هارُونَ). (٣) ولم يكن لها أخ بهذا الاسم!

وقد استوفينا الكلام في ذلك ، وأنّه لم يرد الاخوّة في النسب ، بل الانتساب إلى قبيل هارون ، حيث كانت من أحفاده ، كما يقال : يا أخا كليب. وهو متعارف.

قال : وسألوا عن التكرار في سورتي الرحمن والمرسلات ، وكذا التكرار في بعض القصص التي جاءت في القرآن. قالوا : أليس التكرار يخلّ بفصاحة الكلام؟

لكن التكرير ، سواء أكان في المعنى ، نحو : أطعني ولا تعصني. أم في اللفظ والمعنى معا نحو : عجّل عجّل ، فإنّما هو للتأكيد والمبالغة. وقد يزيد تزيينا في الكلام وروعة بالغة. وإنّما ذمّ أهل البلاغة التكرار الواقع فضلا في الكلام ممّا لا فائدة فيه ، فهو من اللغو الذي يتحاشاه الكلام البليغ.

__________________

(١) الأنعام ٦ : ٧٤.

(٢) الكهف ١٨ : ٢٥ و ٢٦.

(٣) مريم ١٩ : ٢٨.

٣٠٩

انتهى ما أردنا نقله من كتاب الخرائج والجرائح للراوندي ، وربّما عمدنا إلى النقل بالمعنى أو مع يسير من إضافات أو تغييرات للاستزادة من الإيضاح. (١)

أمّا التكرار في القصص فقد ذكرنا : (٢) أنّها في كلّ مرّة تهدف نكتة غير التي جاءت في غيرها. ومن ثمّ فإنّها ليست بتكرار في حقيقتها.

__________________

(١) الخرائج والجرائح ، ج ٣ ، ص ١٠١٤ ـ ١٠١٧. وراجع : البحار ، ج ٨٩ ، ص ١٤١ ـ ١٤٦.

(٢) راجع : التمهيد ، ج ٥.

٣١٠

الباب الرابع

هل هناك في القرآن مخالفات

مع العلم أو التاريخ أو الأدب؟

حاشاه :

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) الزمر : ٢٨

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) الكهف : ٥

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) البقرة : ١٧٦

٣١١

مخالفات علمية؟!

هل هناك في القرآن ما يخالف العلم؟

كلّا (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). (١)

زعموا أنّ في القرآن ما يخالف العلم واتّخذوه شاهدا على أنّه ليس من كلام الله العالم بحقائق الامور (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ). (٢)

ولنضع اليد على موارد زعموا فيها الخلاف :

ومن كلّ شيء خلقنا زوجين

قالوا : ومن الأحياء ما ليس له زوج كالخلايا والحيوانات الابتدائية والديدان تتكاثر من غير ما حصول لقاح جنسي ، وهكذا بعض الثمار تنعقد من غير لقاح ومن غير أن يكون فيها ذكر وأنثى!

لكنّها شبهة فارغة وحسبان عقيم :

__________________

(١) الجاثية ٤٥ : ٢٤.

(٢) النساء ٤ : ١٦٦.

٣١٢

أوّلا : ليست في الآية صراحة بمسألة الزوجية من ذكر وانثى (اللقاح الجنسي) حسب المتبادر إلى الأذهان. فلعلّ المراد : التزاوج الصنفي أي المتعدّد من كلّ صنف ، كما في قوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ)(١) أي صنفان كناية عن التعدّد من أصناف متماثلة ، ذلك لأنّ الفاكهة ليس فيها ذكر وانثى وليس فيها لقاح. إنّما اللقاح في البذرة لا الثمرة.

ومثله قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). (٢) أي صنفين متماثلين. والثمرة نفسها ليس فيها تزاوج جنسي.

وكذلك الآية : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ)(٣) لعلّها كاختيها أريد بها الصنفان من كلّ نوع ، كناية عن التماثل في تعدّد الأشكال والألوان. كما في قوله سبحانه : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ)(٤) أي متماثلا وغير متماثل.

وإطلاق لفظ التزاوج وإرادة التماثل والتشاكل في الصنف أو النوع غير عزيز. قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(٥) أي من كلّ نوع متشاكل. وقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى). (٦) قال الراغب : أي أنواعا متشابهة. وقوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ)(٧) أي أصناف.

وقد يراد بالزوج القرين أي المصاحب المرافق في أمر له شأن. قال الراغب : يقال لكلّ قرينين في الحيوانات المتزاوجة وغيرها : زوج. ولكلّ ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادّا : زوج. قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ)(٨) أي قرناءهم ممّن تبعوهم. (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ)(٩) أي أشباها وقرناء. (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً)(١٠) أي قرناء ثلاثة. وقوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)(١١) فقد قيل في معناه : قرن كلّ شيعة بمن شايعهم. (١٢)

__________________

(١) الرحمن ٥٥ : ٥٢.

(٢) الرعد ١٣ : ٣.

(٣) الذاريات ٥١ : ٤٩.

(٤) الأنعام ٦ : ١٤١.

(٥) الشعراء ٢٦ : ٧.

(٦) طه ٢٠ : ٥٣.

(٧) الزمر ٣٩ : ٦.

(٨) الصافّات ٣٧ : ٢٢.

(٩) الحجر ١٥ : ٨٨.

(١٠) الواقعة ٥٦ : ٧.

(١١) التكوير ٨١ : ٧.

(١٢) المفردات ، ص ٢١٥ و ٢١٦.

٣١٣

وهكذا ذكر المفسّرون القدامى وهم أعرف وأقرب عهدا بنزول القرآن وبمواقع الكلام الذي خاطب به العرب آنذاك.

قال الحسن ـ في قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ـ : السماء زوج والأرض زوج ، والشتاء زوج والصيف زوج ، والليل زوج والنهار زوج ، حتّى يصير إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء. (١)

وعن قتادة ـ في قوله تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ـ (٢) قال : من كلّ صنف اثنين.

قال الطبري : وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيّين : الزوجان ـ في كلام العرب ـ الاثنان. قال : ويقال : عليه زوجا نعال إذا كانت عليه نعلان. ولا يقال : عليه زوج نعال. وكذلك : عنده زوجا حمام ، وعليه زوجا قيود. قال : ألا تسمع إلى قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)(٣) فإنّما هما اثنان.

قال : وقال بعض البصريّين من أهل العربية ـ في قوله : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ـ : جعل الزوجين الضربين الذكور والإناث. قال : وزعم يونس أنّ قول الشاعر :

وأنت امرؤ تعدو على كلّ غرّة

فتخطي فيها مرّة وتصيب (٤)

يعني به (بالمرء) الذئب. وهذا أشدّ من ذلك (أي إطلاق المرء على الذئب أشدّ من إطلاق الزوج على كلّ ذي صنف).

وقال آخر : الزوج اللون ، وكلّ ضرب يدعى لونا ، واستشهد ببيت الأعشى :

وكلّ زوج من الديباج يلبسه

أبو قدامة محبوّ بذاك معا (٥)

وقال لبيد :

وذي بهجة كنّ المقانب صوته

وزيّنه أزواج نور مشرّب (٦)

__________________

(١) جامع البيان ، ج ١٢ ، ص ٢٦ ذيل الآية (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) هود ١١ : ٤٠.

(٢) هود ١١ : ٤٠.

(٣) النجم ٥٣ : ٤٥.

(٤) خطاب إلى الذئب ـ في استعارة تخييلية ـ بأنّه يحمل على ما تغافل من صيد فقد يصيبه وقد لا يصيبه.

(٥) أي وكلّ صنف من الديباج ـ الثوب المنسوج من الحرير ـ يلبسه ويحتبي به.

(٦) جامع البيان ، ج ١٢ ، ص ٢٥ ـ ٢٦. ومعنى البيت : أنّ أصوات المقانب وهي جماعة الخيل تجتمع للغارة ، كنّ المقانب :

٣١٤

قال ابن منظور : والزوج ، الصنف من كلّ شيء. وفي التنزيل (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). (١) قيل : من كلّ لون أو ضرب حسن من النبات. وفي التهذيب : والزوج اللون. وقوله تعالى : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ)(٢) معناه : ألوان وأنواع من العذاب ، ووصفه بالأزواج لأنّه عنى به الأنواع من العذاب والأصناف منه. (٣)

وأمّا لفظة «اثنين» فلا يراد بها العدد وإنّما هو التكثّر محضا ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(٤) أي كرّة بعد اخرى ، وهكذا. وجاءت لفظة «اثنين» تأكيدا على هذا المعنى. كما في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)(٥) ـ خطابا مع المشركين ـ أي لا تتّخذوا مع الله آلهة اخرى ، ومن ثمّ عقّبه بقوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). فهو كقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)(٦) أي آلهة اخرى كما في قوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً)(٧) فهو نهي عن التعدّد في الآلهة ، صيغت في قالب التثنية.

قال أبو علي : الزوجان ـ في قوله تعالى : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ ...) ـ يراد به الشياع من جنسه ولا يراد عدد الاثنين. كما قال الشاعر :

فاعمد لما يعلو فما لك بالذي

لا تستطيع من الأمور يدان

يريد : الأيدى والقوى الكثيرة كي يستطيع التغلّب على الامور.

قال : ويبيّن هذا المعنى أيضا قول الفرزدق :

وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما

تعاطى القنا قوما هما أخوان (٨)

إذ رفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحل ، وإنّما يريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين. (٩)

__________________

ـ سترت أي فاقت صوته. وكان ممّا يزيّنه الأزواج من النور جمع نوار وهي البقرة تنفر من الفحل. والمشرّب : ما ارتوى من الحيوان.

(١) الحجّ ٢٢ : ٥.

(٢) ص ٣٨ : ٥٨.

(٣) لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٢٩٣.

(٤) الملك ٦٧ : ٤.

(٥) النحل ١٦ : ٥١.

(٦) الإسراء ١٧ : ٣٩.

(٧) مريم ١٩ : ٨١.

(٨) تعاطى ، مخفّف تعاطيا ، حذف اللام للضرورة. جامع الشواهد ، ص ٣٢٤.

(٩) راجع : مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ١٦١.

٣١٥

وعليه ، فالزوجان في الآية لعلّه اريد بهما الصنفان المتماثلان أو المتقابلان ـ كما فهمه المفسّرون القدامى ـ فلا موضع فيها للاعتراض كما زعمه الزاعم.

وهكذا على التفسير الآخر ، قال به بعض القدامى ، قالوا بالتركيب المزدوج في ذوات الأشياء حسبما قرّرته الفلسفة : إنّ كلّ شيء متركّب في ماهيّته من جوهر وعرض وفي وجوده من مادّة وصورة ، وهكذا.

قال الراغب ـ في قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ). (١) وقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ)(٢) ـ : تنبيه أنّ الأشياء كلّها مركّبة من جوهر وعرض ومادّة وصورة ، وأن لا شيء يتعرّى من تركيب يقتضي كونه مصنوعا وأنّه لا بدّ له من صانع ، تنبيها أنّه تعالى هو الفرد.

وقوله : (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ، بيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج من حيث أنّ له ضدّا أو مثلا أو تركيبا ما ، بل لا ينفكّ بوجه من تركيب. قال : وإنّما ذكر هاهنا زوجين تنبيها أنّ الشيء وإن لم يكن له ضدّ ولا مثل فإنّه لا ينفكّ من تركيب جوهر وعرض ، وذلك زوجان. (٣)

ثانيا : فلنفرض إرادة اللقاح الجنسي بين ذكر وانثى في عامّة الأشياء ، كما فهمه المتأخّرون ، وليكون ذلك دليلا على الإعجاز العلمي في القرآن ، فلا دليل على عدم الاطّراد حسبما زعمه المعترض. فإنّ اللقاح التناسلي ظاهرة طبيعية مطّردة في عامّة الأحياء نباتها وحيوانها وحتّى الديدان والحيوانات الأوّلية بصورة عامّة على ما أثبته علم الأحياء.

قال المراغي ـ في قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)(٤) ـ : أي وجعل فيها من كلّ أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكرا وانثى حين تكوّنها. فقد أثبت العلم حديثا أنّ الشجر والزرع لا يولّدان الثمر والحبّ إلّا من اثنين ذكر وانثى. وعضو التذكير قد يكون في شجرة وعضو التأنيث في شجرة اخرى كالنخل ، وما كان العضوان فيه في شجرة واحدة ، إمّا أن يكونا معا في زهرة واحدة كالقطن ، وإمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة

__________________

(١) يس ٣٦ : ٣٦.

(٢) الذاريات ٥١ : ٤٩.

(٣) المفردات ، ص ٢١٦.

(٤) الرعد ١٣ : ٣.

٣١٦

وحدها كالقرع مثلا. (١) وهكذا ذكر الطنطاوي في تفسيره (٢) وغيره.

قال العلّامة الطباطبائي : ما ذكروه وإن كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها إلّا أنّه لا يساعد عليه ظاهر الآية من سورة الرعد. نعم يتناسب مع ما في سورة يس من قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ...) والآية ١٠ من سورة لقمان. والآية ٤٩ من سورة الذاريات. (٣)

قال سيّد قطب : وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض ـ وربما في هذا الكون. إذ أنّ التعبير لا يخصّص الأرض ـ قاعدة الزوجية في الخلق. وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة «شيء» تشمل غير الأحياء أيضا. والتعبير يقرّر أنّ الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية.

وحين نتذكّر أنّ هذا النصّ عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا وأنّ فكرة عموم الزوجية ـ حتّى في الأحياء ـ لم تكن معروفة حينذاك فضلا على عموم الزوجية في كلّ شيء ، حين نتذكّر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم ، وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكّرة كلّ التكبير!

كما أنّ هذا النصّ يجعلنا نرجّح أنّ البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة ، وهي تكاد تقرّر أنّ بناء الكون كلّه يرجع إلى الذرّة ، وأنّ الذرّة مؤلّفة من زوج من الكهرباء : موجب وسالب. فقد تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النصّ العجيب. (٤)

وجاء في مجلّة عالم الفكر الكويتية العدد الثالث (ج ١ ، ص ١١٤) : ممّا يستوقف الذهن إشارة القرآن أنّ أصل الكائنات جميعا تتكوّن من زوجين اثنين ... وقد اكتشف العلم الحديث وحدة التركيب الذرّي للكائنات على اختلافها وأنّ الذرّة الواحدة تتكوّن من إلكترون وبروتون ، أي من زوجين ... (٥)

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ١٣ ، ص ٦٦.

(٢) تفسير الجواهر للطنطاوي ، ج ٧ ، ص ٨٠.

(٣) تفسير الميزان ، ج ١١ ، ص ٣٢١.

(٤) في ظلال القرآن ، ج ٢٧ ، ص ٢٤ ، مجلّد ٧ ، ص ٥٨٧ ـ ٥٨٨.

(٥) بنقل مغنية في تفسيره المبين ، ص ٦٩٥ ذيل الآية ٤٩ من سورة الذاريات.

٣١٧

وقد أثبت علم الأحياء الحديث أنّ الأحياء برمّتها إنّما تتوالد وتتكاثر بالازدواج التناسلي ، وحتّى في الحيوانات الابتدائية ذوات الخليّة الواحدة (أميبا) والديدان أيضا.

ففي مستعمرة الفلفكس (مجموعة خلايا كثيرة تتألّف من نحو ١٢٠٠٠ خليّة مرتبطة ببعضها بواسطة خيوط بروتوبلازمية فيتمّ بذلك الاتصال الفسلجي بين الوحدات) تظهر خلايا التناسل الذكرية والانثوية بشكل حجيرتين : إحداهما حجيرة تناسل ذكريّة ، والاخرى حجيرة تناسل انثية. (١) وهكذا تحتوي كلّ دودة على أعضاء تناسل ذكرية وأنثية نامية ويتمّ الإخصاب داخل جسم الدودة فتخرج البيوض مخصّبة لتعيد دورة حياة جديدة. (٢) وفي مثل الديدان التي تتكاثر بالانقسام فإنّ جهاز التناسل توجد في نفس الحيوان بشكل أعضاء تناسلية ذكرية وأنثية. على ما شرحه علم الأحياء. (٣)

(وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)! (٤)

كانت العرب ولعلّ البشرية جمعاء ترى من القلب ـ ومحلّه الصدر ـ مركزا للتعقّل والإدراك وكذا سائر الصفات النفسية ، وذلك باعتبار كونه منشأ الحيوية في الإنسان. فمن القلب تنبثّ الحياة وتزدهر الحيوية في الإنسان ، ومنها النشاط الفكري وتجوال الخواطر وسائر أحوال النفس من حبّ وبغض وابتهاج وامتعاض!

هذا مع العلم بأنّ البشرية عرفت ـ منذ ألوف السنين ـ أنّ مركز الإدراك هو المخّ ومحلّه الدماغ من الرأس ، ومنه اشتقاق الرئاسة لمركزية التدبير. إذن لم تكن مركزية الدماغ للإدراك ممّا تجهله العرب وسائر الناس ، فما وجه التوفيق؟

وقد رجّح ابن سينا أن يكون المدرك هو القلب وأنّ الدماغ وسيلة للإدراك. فكما أن الإبصار والسمع يحصلان في مراكزهما من المخّ وتكون العين والاذن وسطا لهذا الحصول

__________________

(١) راجع : كتاب الحيوان للدراسات العليا في جامعة بغداد ، ص ٣٩ ، الشكل ١٤.

(٢) المصدر : ص ٨٦.

(٣) المصدر : ص ١٠٥.

(٤) الحجّ ٢٢ : ٤٦.

٣١٨

كذلك الدماغ وسط للإدراك والتفكير. (١) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). (٢)

وبذلك يتلخّص الإنسان ـ في نشاطه الفكري والعلمي ـ في قلبه ، ويتّحد القلب مع النفس والروح في التعبير عن حقيقة الإنسان ذاته. (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(٣) أي نفسي.

قال العلّامة الطباطبائي : لمّا شاهد الإنسان أنّ الشعور والحسّ قد يبطل في الحيوان أو يغيب عنه بإغماء أو صرع ونحوهما ولا تبطل الحياة ما دام القلب نابضا ، قطع بأنّ منشأ الحياة هو القلب وسرت منه إلى سائر الأعضاء. وأنّ الآثار الروحية وكذا الأحاسيس المتواجدة في الإنسان ـ من مثل الشعور والإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف ـ كلّها للقلب ، بعناية أنّه أوّل متعلّق للروح. وهذا لا ينافي كون كلّ عضو من الأعضاء مبدءا لعمل يخصّه ، كالدماغ للفكر والعين للإبصار والاذن للسمع والرئتين للتنفّس ونحو ذلك ، فإنّها جميعا بمنزلة الآلات والوسط إلى ذلك.

قال : ويتأيّد ذلك بما وجدته التجارب العلمية في الطيور ، لا تموت بفقد الدماغ ، سوى أنّها تفقد الشعور والإحساس ، وتبقى على هذه الحال حتّى تموت بفقد الموادّ الغذائية وإيقاف نبضات القلب.

والبحوث العلمية لم توفّق لحدّ الآن للعثور على مصدر الأحكام الجسدية أعني عرش التدبير في البدن. إذ أنّها في عين التشتّت والتفرّق في بنيتها ونوعية عملها ، هي مجتمعة تحت لواء واحد ومؤتمرة بأوامر أمير واحد ، وحدة حقيقية من غير انفصام.

وليس ينبغي زعم التغافل عن شأن الدماغ وما يخصّه من أمر الإدراك. وقد تنبّه الإنسان لما عليه الرأس من الأهميّة في استواء الجسد منذ أقدم الزمان ، وقد جرى على ألسنتهم التشبيه بالرأس والاشتقاق منه حيثما يريدون التعبير بالمبدئية في أيّ شيء.

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ٢٣٦.

(٢) ق ٥٠ : ٣٧.

(٣) البقرة ٢ : ٢٦٠.

٣١٩

ولكن مع ذلك نراهم ينسبون الإدراك والشعور وكذا صفات النفس ـ ممّا للشعور فيه حظّ ـ إلى القلب المراد به الروح الساطية على البدن والمدبّرة له ، كما ينسبونها إلى النفس بمعنى الذات. فلا فرق بين أن يقال : هواك قلبي أو هوتك نفسي. فاطلق القلب واريد به النفس ، باعتبار كونه مبدأ جميع الإدراكات (العقلية) والصفات (النفسيّة). وفي القرآن الشيء الكثير من ذلك : قال تعالى : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (١) (يَضِيقُ صَدْرُكَ). (٢) (بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ). (٣) (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). (٤) إلى غيرها من آيات. (٥)

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها)

قال تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها). (٦)

أفهل تتكلّم النمل؟ وكيف يستمع سليمان إلى كلامها؟!

والنملة وكذا سائر الحشرات ليس لها صوت وإنّما تتبادل أخبارها وتتفاهم بعضها مع بعض عن طريقة إشعاع أمواج لاسلكية ، وهكذا تتلقّى الأخبار وكذا عن طريقة الشمّ ، ممّا لا صلة له بالكلام الصوتي.

لكن العمدة أنّ للحيوانات برمّتها منطقا أي طريقة خاصّة للتفاهم مع بعضها ، سواء أكان ذلك عن طريقة إيجاد أصوات خاصة كما في الدوابّ والطيور أم بطريقة اخرى (إشعاع أمواج لا لاسلكية) كما في الحشرات ، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه بطريقة ما ، وبالفعل قد عرف شيء من منطق البهائم وحتّى بعض الحيتان في البحار. ولا يستحيل في قدرة الله تعالى أن يعلّم نبيّه منطق الطير وسائر الحيوان. يقول تعالى ـ حكاية عن سليمان ـ : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). (٧)

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٢٥.

(٢) الحجر ١٥ : ٩٧.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ١٠.

(٤) المائدة ٥ : ٧.

(٥) تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٦) النمل ٢٧ : ١٨ و ١٩.

(٧) النمل ٢٧ : ١٦.

٣٢٠