شبهات وردود حول القرآن الكريم

الشيخ محمّد هادي معرفة

شبهات وردود حول القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-06-1983-3
الصفحات: ٦٠٧

وعليه جاء قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ). (١) أي مغبرة ومنقبضة من هول المطّلع في مقابلة وجوه الصالحين المسفرة المنبسطة.

يقول تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ). (٢)

فالوجوه المسفرة هي الوجوه المتفتّحة المشرقة المضيئة ، لأنّها ضاحكة مستبشرة ، حيث سرورها وبهجتها بما تعاينه من ثواب ربّها.

ووجوه عليها غبرة (غبرة الظلام) على أثر كآبة الهمّ وهول المطّلع. ترهقها قترة (انقباض وتقطيب) وهذا تفسير لغبرة الوجه ، أي تعلوه كدرة الغمّ وقطوب الانقباض. والقترة هي بنفسها الغبرة ، أي كدورة الغبار التي تذهب بصفاء بشرة الوجه.

وعن زيد بن أسلم : الغبرة ، الغبار ينحطّ من العلوّ ، والقترة ، الغبار يرتفع من الأرض. (٣)

قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). (٤)

ففي هذه الآية جاء التعبير بغشيان وجوههم قطع من الليل مظلما بدل التعبير بسواد الوجه.

وفي آية اخرى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). (٥) فالوجوه الناضرة هي المبتهجة المسرورة ، تنبسط وتشرق إشراقا لامعا. حيث لمست لذّة الحضور وأحسّت بسعادة البقاء ، تنتظر ثواب ربّها ورحمته. (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً). (٦) (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ). (٧)

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٦٠.

(٢) عبس ٨٠ : ٣٨ ـ ٤٢.

(٣) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤١.

(٤) يونس ١٠ : ٢٦ و ٢٧.

(٥) القيامة ٧٥ : ٢٥ ـ ٢٢.

(٦) الإنسان ٧٦ : ١١.

(٧) المطفّفين ٨٣ : ٢٤.

٢٠١

أمّا الوجوه الباسرة فهي الكالحة العابسة. يعلوها ظلام وكدرة من سوء الوحشة وشدّة الفزع ، حيث «تظنّ ـ أي تخشى ـ أن يفعل بها فاقرة» وهي الداهية ، تفقر الظهر أي تقصمه.

وعليه ، فالتعابير الواردة في القرآن بهذا الشأن أربعة :

(تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).

وجوه ناضرة ووجوه باسرة.

وجوه مسفرة ووجوه مغبرة.

وجوه تغشاها قطع من الليل مظلما.

فالاسوداد والبسور والاغبرار وغشاء الظلام ، كلّها تعابير تنمّ عن معنى واحد وهو كدرة وظلمة تعلو الوجه على أثر الانقباض والتقطيب. وليس المراد ذات اللون كما حسبه المعترض!

كلام عن السحر في القرآن

هل اعترف القرآن بتأثير السحر تأثيرا وراء مجاري الطبيعة ، حسبما يزعمه أهل السحر والنفّاثات في العقد؟

ليس في القرآن ما يشي بذلك سوى بيان وهن مقدرتهم وفضح أساليبهم بأنّها شعوذة وتخييلات مجرّدة لا واقعية لها. يقول بشأن سحرة فرعون : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). (١) فكان الرائي يتخيّل أنّ تلك الحبال والعصيّ تسعى ، أي تنزو وتقفز وتلتوي على أنحاء الحركات التي كان الناظرون يحسبونها حركات حياتية وأنّها حيّات ثعابين متهيّجة. قال الطبرسي : لأنّها لم تكن تسعى حقيقة ، وإنّما تحرّكت لأنّهم جعلوا في أجوافها الزئبق ، فلمّا حميت الشمس تمدّدت الزآبق فحصلت على أثره

__________________

(١) طه ٢٠ : ٦٦.

٢٠٢

تلك التحرّكات ، وظنّ أنّها تسعى. (١)

وذلك أنّهم أخذوا مصارين أو آدم مصنوعة على صور الحيّات والأفاعي ، وجعلوا في أجوافها زآبق وتركوها بصورة العصيّ والحبال في ساحة بعيدة عن متناول الناس ومشاهدتهم القريبة. وكانت الساحة قد حفرت تحتها أسراب وأشعلوا فيها نارا فأثّرت حرارتها من تحت وحرارة الشمس من فوق ، فجعلت الزآبق تتمدّد وتتقلّص ، وتراءى للنّاس أنّها تسعى. ومن ثمّ قال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). (٢) وما هي إلّا شعوذة لا واقع لها سوى تخييل ظاهريّ مجرّد.

قال الطبرسى : احتالوا في تحريك العصيّ والحبال بما جعلوا فيها من الزئبق حتّى تحرّكت بحرارة الشمس وغير ذلك من الحيل وأنواع التمويه والتلبيس ، فخيّل إلى الناس أنّها تتحرّك على ما تتحرّك الحيّة. وإنّما سحروا أعين الناس ، لأنّهم أروهم شيئا لم يعرفوا حقيقته وخفي ذلك عليهم لبعده منهم ، فإنّهم لم يدعوا مجالا للناس كي يدخلوا فيما بينهم [خوف فضح أمرهم].

قال : وفي هذا دلالة على أنّ السحر لا حقيقة له ، لأنّها لو صارت حيّات حقيقة لم يقل الله سبحانه : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) بل كان يقول : فلمّا ألقوا صارت حيّات. وقد قال سبحانه أيضا : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). (٣)

وامّا وصف سحرهم بالعظمة ، فلأجل استعظام الناس ذلك المشهد الرهيب.

يقول الرازي في ذيل هذه الآية : واحتجّ به القائلون بأنّ السحر محض التمويه. قال القاضي : لو كان السحر حقّا لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم ، فثبت أنّ المراد أنّهم تخيّلوا أحوالا عجيبة مع أنّ الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيّلوه. قال الواحدي : بل المراد ، سحروا أعين الناس أي قلبوها عن صحّة إدراكها بسبب تلك التمويهات. وقيل : إنّهم أتوا بالحبال والعصيّ ولطّخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل العصيّ ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ١٨.

(٢) الأعراف ٧ : ١١٦.

(٣) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٦١.

٢٠٣

فلمّا أثّر تسخين الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدّا ، فالناس تخيّلوا أنّها تتحرّك باختيارها وقدرتها. (١)

قال الإمام الجصّاص : ومتى اطلق السحر فهو اسم لكلّ أمر مموّه باطل لا حقيقة له ولا ثبات. قال الله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) يعني موّهوا عليهم حتّى ظنّوا أنّ حبالهم وعصيّهم تسعى. وقال : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) فأخبر أنّ ما ظنّوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنّما كان تخييلا. وقد قيل : إنّها كانت عصيّا مجوّفة قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم (٢) محشوّة زئبقا وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا وجعلوا آزاجا (٣) وملئوها نارا. فلمّا طرحت عليه وحمي الزئبق حرّكها ، لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته [حرارة] النار أنّ يطير. فأخبر الله أنّ ذلك كان مموّها على غير حقيقة. والعرب تقول لضرب من الحليّ مسحور ، أي مموّه على من رآه مسحور به عينه. (٤)

وهكذا ذهب الإمام محمّد عبده في تفسيره قال ـ بعد نقل كلام الجصّاص ـ : فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية ، إذا صحّ الخبر. ويحتمل أن يكون بحيلة اخرى كإطلاق أبخرة أثّرت في الأعين فجعلتها تبصر ذلك. أو بجعل العصيّ والحبال على صورة الحيّات وتحريكها. بمحرّكات خفيّة سريعة لا تدركها أبصار الناظرين. وكانت هذه الأعمال من الصناعات وتسمّى السيمياء (٥) وهي لغة يونانية تعني الشعوذة والنيرنج. (٦) هي عبارة عن مزاولة أعمال خفيّة سريعة تتراءى للناظرين أشكالا على غير واقعها ، وربّما باستعمال موادّ كيمياوية تخفى على الناظرين. (٧) وهو متعارف حتّى اليوم لغاية إلهاء الناس في مجالس اللهو والسرور ومناسبات الأعياد والأفراح.

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١٤ ، ص ٢٠٣.

(٢) جمع أديم وهي الجلدة المدبوغة.

(٣) جمع أزج وهو البيت يبنى طولا يشبه الاتن : مواقد نار الحمّام.

(٤) أحكام القرآن للجصّاص ، ج ١ ، ص ٤٢ ـ ٤٣.

(٥) تفسير المنار ، ج ٩ ، ص ٦٧.

(٦) معرّب نيرنگ. الشعوذة معرّب شعبدة ، كلاهما بمعنى ، وهو نوع من الحيل الخفيّة فيها مهارة وسرعة عمل تخطف من أبصار الناظرين وتؤثّر في تخيّلهم.

(٧) قال العلامة الطباطبائى : وهو (السيميا) العلم الباحث عن تمزيج القوى الإرادية مع القوى الخاصّة المادّية للحصول على غرائب التصرف في الأمور الطبيعية. ومنه التّصرف في الخيال المسمّى بسحر العيون ، وهذا الفنّ من أصدق مصاديق السحر. الميزان ، ج ١ ، ص ٢٤٦.

٢٠٤

قال الزمخشري : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أروها بالحيل والشعوذة وخيّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. (١)

إذن ، فلم يثبت من هذه الآية اعتراف للقرآن بحقيقة السحر سوى الشعوذة والتوسّل بالحيل للتمويه على أعين النّاس ، هذا فحسب. وهناك آيات اخر استندوا إليها لهذا الاعتراف المزعوم ، كالآيات الواردة بشأن سحرة بابل في سورة البقرة. وكذا سورة الفلق (النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ). وسنتكلّم عن ذلك أيضا بعد الكلام عن أقسام السحر ورأي علماء المسلمين فيه. وسيبدو بعون الله تعالى أنّ تلكم الآيات أيضا بعيدة كلّ البعد عمّا رامه الزاعمون وأن ليس في القرآن ما يشي باعترافه بحقيقة السحر بتاتا.

أقسام السحر

السحر بحسب اللغة : ما لطف ودقّ مأخذه في التأثير ، ومن ثمّ فإنّ من البيان لسحرا. وقسّمه الإمام الرازي بحسب المصطلح إلى أنواع ثمانية :

النوع الأوّل : الاستعانة بالكواكب ، زعما أنّها هي المدبّرة لهذا العالم. نسب ذلك إلى الكلدانيّين كانوا يعبدون الكواكب ، فكانوا يستعينون بها على سدّ مآربهم والقضاء على مناوئيهم.

وأهل العدل والتنزيه من متكلّمي المسلمين (الإماميّة والمعتزلة) أنكروا صحّة ذلك ، بل جواز الاعتقاد به قد يؤدّي إلى الشرك بالله العظيم. وقامت الأشاعرة بوجههم فأجازوه باعتبارها أسبابا وعللا طبيعية كانت تحت إرادته تعالى.

النوع الثاني : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، فهناك لأرباب النفوس القوية تأثير كبير في إلقاءاتهم على ذوي النفوس الضعيفة. والنفس إذا تأثّرت بما القي إليها توهّمته قطعيّا وانفعلت به وانجذبت إليه انجذابا. الأمر الذي قام به أكثر أصحاب المقدرات القوية فسخّرت زرافات من ذوي الأنفس الضعيفة السريعة الانخداع.

__________________

(١) الكشّاف ، ج ٢ ، ص ١٤٠.

٢٠٥

النوع الثالث : الاستعانة بالأرواح الأرضية الخبيثة ، ممّا عبّروا عنها بتسخير شياطين الجنّ. الأمر الذي يقوم به أصحاب الرقى والدخن والتعويذ والطلسمات. ولعلّ لهذا النوع سوقا رائجة في أوساط هابطة ولا سيّما العجائز من النساء وذوي العقول الساذجة.

النوع الرابع : التخييلات والأخذ بالعيون. وهذا النوع مبتن على أخطاء البصر والانصرافات الذهنية التي يستخدمها السحرة من هذا النمط. ويسمّى بالشعوذة على ما مرّ تفصيله.

النوع الخامس : استعمال آلات وأدوات صناعية وتركيبها تراكيب غريبة في أشكال وصور هندسيّة تستجلب أنظار الحاضرين وتوجب إعجابهم والضحك والسرور ، وهو لعب على اصول رياضية وهندسية ملهية ، تتداول في مجالس الأفراح.

النوع السادس : الاستعانة بخواصّ الأدوية ، مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلّدة أو المزيلة للعقل والدخن المسكّرة ونحو ذلك.

النوع السابع : تعليق القلب ، حيث يجد الساحر ضعيف العقل قليل التمييز ، فيلقي عليه أنّه يعرف الاسم الأعظم أو أنّ الجنّ يطيعونه ، فيصدّقه الضعيف ويتعلّق قلبه بما قال. وربّما استخفّ الساحر من عقله فيتمكّن من تنفيذ ما أراده في نفسه. ولمثل هذه الانفعالات النفسية مجال متّسع لتجوال أهل الشعوذة والتزوير والنفوذ في الشعور.

النوع الثامن : السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة ، بما يؤثر حبّا أو بغضا أو تأليفا أو تفريقا بين الزوجين أو المتحابّين وهو شائع كثير. (١)

وإذ قد عرفت أنواع السحر المعروفة عند العرب وعند الناس في مختلف الأجيال تجد أن ليس له واقع في جميع أنواعه ، بمعنى : التأثير في تغيير اتجاه المسير الذي جرت عليه الطبيعة تأثيرا خارقا للعادة. ومن ثمّ فقد أنكرته أصحاب المذاهب العقلية من علماء الإسلام ، ولم يعتبروه شيئا وراء التمويه والشعوذة والتخييل ، لأجل التلاعب بعقول السذّج الضعفاء.

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ٢٠٦ ـ ٢١٣.

٢٠٦

قال الرازي : أما المعتزلة فقد أنكروا السحر فيما عدا التمويه والشعوذة ، ولعلّهم كفّروا معتقد تأثير الكواكب وتسخيرها أو تسخير الجنّ وما شاكل ممّا ينافي التوحيد في الربوبية أو يخالف حكمته تعالى في الخلق والتدبير.

قال : وأمّا أهل السنّة فقد جوّزوا ذلك ، بأن يطير إنسان في الهواء بلا سبب طبيعي أو يحوّل إنسانا إلى حمار أو حمارا إلى إنسان ، الأمر الذي لا يتنافى وربوبيّته تعالى حيث جرت سنّته على إقدار الساحر في تأثير سحره عند ما يقرأ رقى أو يزمزم وردا. (١) واستندوا في ذلك إلى روايات واهية تزعم أنّ اليهود سحرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان يتخيّل أنّه فعل شيئا ولم يفعله ، وما إلى ذلك من أكاذيب فاضحة ، زيّفناها مسبقا.

وأفظع من الكلّ تعاليق ابن المنير الإسكندري على الكشّاف بهذا الشأن ، منها قوله ـ عند كلام الزمخشري (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أي أروها بالحيل والشعوذة وخيّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه ـ : هذا الإنكار معتقد المعتزلة ، ومعتقد أهل السنّة الإقرار بوجود السحر ، ولا يمنع عند أهل السنّة أن يرقى الساحر في الهواء ويستدقّ فيتولّج في الكوّة الضيّقة. ولا يمنع أن يفعل الله عند إرشاد الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه. وذلك واقع بقدرة الله عند إرشاد الساحر. هذا هو الحقّ والمعتقد الصدق. قال : وإنّما أجريت هذا الفصل لأنّ كلام الزمخشري لا يخلو من رمز إلى إنكاره ، إلّا أنّ هذا النصّ القاطع بوقوعه يلجمه عن التصريح بالدفاع وكشف القناع ، ولا يدعه التصميم على اعتقاد المعتزلة من التنفيس عمّا في نفسه ، فيسمّيه شعوذة وحيلة. وبالقطع يعلم أنّ الشعوذة لا تعمل في يد ابن عمر حتّى بكوعها ولا تؤثّر في سيّد البشر حتّى يخيّل إليه أنّه يأتي نساءه وهو لا يأتيهنّ. وقد ورد ذلك وأمثاله مستفيضا واقعا. والعمدة أنّ كلّ واقع فبقدرة الله تعالى. (٢)

وهذا الذي ذكره ابن المنير ونسبه إلى أهل السنّة إنّما هو مذهب الأشعري البائد ، أمّا علماء أهل السنّة اليوم فقد واكبوا إخوانهم من أهل التحقيق في النظر ، ولم يعيروا لما يذكره أهل السفاسف اهتماما ولم يعتبروا من مزاعمهم في السحر وزنا سوى تمويه مجرّد

__________________

(١) المصدر : ص ٢١٣.

(٢) هامش الكشّاف ، ج ٢ ، ص ١٤٠.

٢٠٧

وتخييل كاذب أو مشيئ في النميمة وبثّ روح الفرقة أو ألاعيب تقام بها في الأفراح.

قال الشيخ محمّد عبده : السحر عند العرب كلّ ما لطف مأخذه ودقّ وخفي ... وقد وصف الله السحر في القرآن بأنّه تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائنا ـ ثمّ يذكر الآيات ويقول : ـ ومجموع هذه النصوص يدلّ على أنّ السحر إمّا حيلة وشعوذة ، وإمّا صناعة علمية خفيّة يعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون فيسمّون العمل بها سحرا لخفاء سببه ولطف مأخذه. ويمكن أن يعدّ منه تأثير النفس الإنسانية في نفس اخرى لمثل هذه العلّة. وقد قال المؤرّخون : إنّ سحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصيّ بصور الحيّات والثعابين وتخييل أنّها تسعى. وقد اعتاد الّذين اتخذوا التأثيرات النفسية صناعة ووسيلة للمعاش أن يستعينوا بكلام مبهم وأسماء غريبة اشتهر عند الناس أنّها من أسماء الشياطين وملوك الجانّ وأنّهم يحضرون إذا دعوا بها ويكونون مسخّرين للداعي. ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم ، عرف بالتجربة. وسببه اعتقاد الواهم أنّ الشياطين يستجيبون لقارئه ويطيعون أمره. ومنهم من يعتقد أنّ فيه خاصّية التأثير وليس فيه خاصّية. وإنّما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما يغني منتحل السحر عن توجيه همّته وتأثير إرادته ، وهذا هو السبب في اعتقاد الدّهماء (١) أنّ السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب. (٢)

وقد اقتفى أثره الشيخ المراغي في عبارة اختصرها من كلام استاذه الشيخ محمّد عبده. (٣)

وقال سيّد قطب ـ عند تفسير سورة الفلق ـ : والسحر لا يغيّر من طبيعة الأشياء ، ولا ينشئ حقيقة جديدة لها ، ولكنّه يخيّل للحواسّ والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو السحر كما صوّره القرآن الكريم في قصّة موسى عليه‌السلام من سورة طه (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيّهم حيّات فعلا ، ولكن

__________________

(١) جمع الدهيم وهو الأحمق السفيه.

(٢) تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٤٠٠.

(٣) تفسير المراغي ، ج ١ ، ص ١٨٠ ـ ١٨١.

٢٠٨

خيّل إلى الناس أنّها تسعى. وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلّم بها ، وهو بهذه الطبيعية يؤثّر في الناس وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه ، مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجّههم الوجهة التي يريدها الساحر ، وهو شرّ يستعاذ منه بالله ويلجأ منه إلى حماه. (١) وقد أعرب شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي قدس‌سره عن معتقد أهل الحقّ في السحر وأن لا حقيقة له ، قال : ذكروا للسحر معاني أربعة :

أحدها : أنّه خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها ، يخيّل إلى المسحور أنّ لها حقيقة.

الثاني : أنّه أخذ بالعين على وجه الحيلة.

الثالث : أنّه قلب الحيوان من صورة إلى اخرى ، وإنشاء الأجسام على وجه الاختراع ، فيمكن الساحر أن يقلب الإنسان حمارا وينشئ أجساما.

الرابع : أنّه ضرب من خدمة الجنّ.

قال : وأقرب الأقوال هو الأوّل ، لأنّ كلّ شيء خرج عن مجرى العادة فإنّه سحر [في مزعومهم] لا يجوز أن يتأتّى من الساحر ، ومن جوّز شيئا من هذا فقد كفر. لأنّه لا يمكن مع ذلك ، العلم بصحّة المعجزات الدالّة على النبوّات ، لأنّه أجاز مثله على جهة الحيلة والسحر. (٢)

وهكذا ذهب إلى إنكاره في كتاب الخلاف. (٣)

وقال الطبرسي : السحر والكهانة والحيلة نظائر. ومن السحر ، الأخذة التي تأخذ العين حتّى يظنّ أنّ الأمر كما ترى وليس الأمر كما ترى. والجمع ، الاخذ. فالسحر عمل خفيّ لخفاء سببه ، يصوّر الشيء بخلاف صورته ويقلبه عن جنسه في الظاهر ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة ، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى)؟ (٤)

__________________

(١) في ظلال القرآن ، المجلّد ٨ ، ص ٧٠٩ ، ج ٣٠ ، ص ٢٩١.

(٢) تفسير التبيان ، ج ١ ، ص ٣٧٤.

(٣) نقل عن أبي جعفر الأسترآبادي أنّه لا حقيقة له وإنّما هو تخييل وشعبذة ، وبه قال المغربي من أهل الظاهر. ثم قال : وهو الذي يقوى في نفسي. راجع : الخلاف ، ج ٢ ، ص ٤٢٢ ، مسألة ١٤ ، من كتاب كفّارة القتل.

(٤) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٧٠.

٢٠٩

وقال المجلسي العظيم ـ في كلام له عن السحر ناظر إلى ما ننقله عن ابن خلدون ـ : وأمّا ما يذكر من بلاد الترك أنّهم يعملون ما يحدث به السحب والأمطار فتأثير أعمال هؤلاء الكفرة في الآثار العلوية وما به نظام العالم ممّا تأبى عنه العقول السليمة والأفهام القويمة. ولم يثبت عندنا بخبر من يوثق بقوله. (١)

والعجب من بعض الكتّاب العصريّين جنح إلى ترجيح الرأي القائل بحقيقة السحر وأنّ له واقعا يؤثّر في قلب الواقعية حقيقة ، واقتفى في ذلك بعض أقوال القدماء فيما نقلوه من حكايات هي أشبه بالخرافات منها بالواقعيات.

هذا الاستاذ محمّد فريد وجدي ينقل أوّلا عن مقدّمة ابن خلدون اعترافه بحقيقة السحر ، ثم يعقّبه باستنكار الغربيّين ويحمل عليهم بأنّهم قاصرو النظر في إطار من المادّيات ويجعلون العالم كلّه في دائرة أضيق من سمّ الخياط. وأخيرا يرجّح أنّ له حقيقة ويذكر له شاهدا في قصّة خيالية. وإليك بعض كلامه ونقوله عن ابن خلدون وغيره :

قال ابن خلدون في مقدّمته : السحر ، علم بكيفية الاستعدادات تقتدر النفوس البشرية به على التأثيرات في عالم العناصر إمّا بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية. والأوّل هو السّحر ، والثاني هو الطّلسمات. قال : ولنقدّم هنا مقدّمة يتبيّن بها حقيقة السحر ، وذلك أنّ النفوس البشرية وإن كانت واحدة بالنوع فهي مختلفة بالخواصّ. فنفوس الأنبياء لها خاصّية تستعدّ بها للمعرفة الربّانية ومخاطبة الملائكة. وما يتّسع في ذلك من التأثير في الأكوان واستجلاب روحانية الكواكب للتصرّف فيها والتأثير بقوّة نفسانية أو شيطانية. فأمّا تأثير الأنبياء فمدد إلهى وخاصّية ربّانية ، ونفوس الكهنة لها خاصّية الاطّلاع على المغيّبات بقوى شيطانية ، وهكذا كلّ صنف مختصّ بخاصّية لا توجد في الآخر. والنفوس الساحرة على مراتب ثلاث ، فأوّلها المؤثّرة بالهمّة فقط من غير آلة ولا معين ، وهذا هو الذي يسمّيه الفلاسفة السحر. والثاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواصّ الأعداد ، ويسمّونه الطّلسمات ، وهو أضعف رتبة من الأوّل. والثالث تأثير في القوى

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٠ ، ص ٤١ ـ ٤٢.

٢١٠

المتخيّلة ، يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيّلة فيتصرّف فيها بنوع من التصرّف ويلقي فيها أنواعا من الخيالات والمحاكاة وصورا ممّا يقصده من ذلك ، ثمّ ينزلها إلى الحسّ من الرائين بقوّة نفسه المؤثّرة فيه ، فينظر الراءون كأنّها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك كما يحكى عن بعضهم أنّه يري البساتين والأنهار والقصور ، وليس هناك شيء من ذلك. ويسمّى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة.

قال : ثمّ هذه الخاصّية تكون في الساحر بالقوّة شأن القوى البشرية كلّها ، وإنّما تخرج من القوّة إلى الفعل بالرياضة ، ورياضة السحر كلّها إنّما تكون بالتوجّه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلويّة والشياطين ، بأنواع التعظيم والعبادة والخضوع والتذلّل ، فهي لذلك وجهة إلى غير الله وسجود لغير الله ، والوجهة إلى غير الله كفر ، فلهذا كان السحر كفرا والكفر من موادّه وأسبابه.

قال : واعلم أنّ وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه ، وقد نطق به القرآن ، قال الله تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). (١) وسحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء ولا يفعله. وجعل سحره في مشط ومشاقة وجفّ طلعة ، ودفن في بئر ذروان. فأنزل الله عليه (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ). (٢) قالت عائشة : كان لا يقرأ على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلّا انحلّت.

قال : ورأينا بالعيان من يصوّر صورة الشخص المسحور بخواصّ أشياء مقابلة لما نواه وحاوله ، موجودة بالمسحور ، وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التأليف والتفريق ، ثمّ يتكلّم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عينا أو معنى ، ثمّ ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء ويعقد ذلك المعنى في سبب أعدّه لذلك تفاؤلا بالعقد واللزام واخذ العهد على من أشرك به

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٠٢.

(٢) الفلق ١١٣ : ٤.

٢١١

من الجنّ في نفثه في فعله ذلك استشعارا للعزيمة بالعزم. ولتلك البنية والأسماء السيّئة روح خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلّقة بريقه الخارج من فيه بالنفث ، فتنزل عنها أرواح خبيثة ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر!

قال : وشاهدنا أيضا من المنتحلين للسحر وعمله من يشير إلى كساء أو جلد ويتكلّم عليه في سرّه ، فإذا هو مقطوع متخرّق. ويشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج (أي شقّ البطن) فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض.

وسمعنا أنّ بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتّت (أي يتفتت ويتساقط) قلبه ويقع ميّتا ، وينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه. ويشير إلى الرمّانة وتفتح فلا يوجد من حبوبها شيء.

قال : وكذلك سمعنا أنّ بأرض السودان وأرض الترك من يسحر السحاب فيمطر الأرض المخصوصة. وكذلك رأينا من عمل الطّلسمات عجائب من الأعداد المتحابّة ... ونقل أصحاب الطّلسمات أنّ لتلك الأعداد أثرا في الالفة بين المتحابّين واجتماعهما إذا وضع لهما مثالان أحدهما بطالع الزهرة وهي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودّة وقبول. (١)

ثمّ يذكر الاستاذ وجدي ما شاهده الغربيّون في تجوالهم القارّات من غرائب صدرت على أيدي كهنة القبائل ، ولكنّهم جرّبوها بأنفسهم فوجدوها (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً). (٢) فرأوها لا تؤثّر أدنى تأثير ، فزالت جميع الأوهام التي كان الأقدمون يحيطون بها من الكيمياء والنجامة ، وتولّد من الاولى الكيمياء الحقيقية ، ومن الثانية علم الفلك الصحيح.

قال الاستاذ وجدي : وقد ذكر القرآن الكريم السحر في مواضع كثيرة. وقد مضى متقدّموا الأمّة معتقدين وجوده وأنّه من العلوم السرّية التي يتحصّل عليها بالرياضة

__________________

(١) راجع : المقدمة لابن خلدون ، الفصل ٢٢ ، ص ٤٩٦ ـ ٤٩٩.

(٢) النور ٢٤ : ٣٩.

٢١٢

وغيرها. ومال بعضهم وكثير من المتأخّرين إلى زعم أنّ السحر سرعة اليد وصناعة في التمويه ، وليس له دليل يسنده. قال : ولكن دليلنا نصّ القرآن وما نقرأه في كتب الخوارق التي ظهرت في اوربا منذ تسعين سنة باسم «الاسبرتزم» وغيره ممّا يرينا جليّا أنّ هنالك عالما روحانيّا وفيه من الكائنات ما لا نتصوّره وأنّنا نستطيع أن نناجي تلك الكائنات وتناجينا. ومتى كان هذا ممكنا وتقرّر أنّ الوجود عامر بالآيات المغيّبة فلا يبعد أن يكون السحر تابعا لقوى روحانية وأنّه ليس بمجرّد صناعة أو سرعة يد الساحر.

ل : حكى لي والدي عن محمّد وجيهي بيك العمري محافظ دمياط سابقا ، وكان رجلا صدوقا تقيّا ، قال : إنّه كان له قريب في بغداد اسمه عزّت باشا وكان شجاعا مقداما لا يهاب المخاوف ، وكان به غرام لرؤية الأسرار والعجائب ، فكان لذلك يتحرّى ملاقاة الدراويش ويتصيّدهم لأنّ منهم من يتّفق أن يكون على شيء ممّا يتحرّى رؤيته ، فعثر يوما بدرويشين غريبين كان من شأنهما أنّ أحدهما يعزم ثمّ يقول بفمه : هف ، فتنفتح جميع نوافذ البيت على سعته مهما كانت مغلقة محكمة الإغلاق ، ثمّ يقول : هف ، فتقفل جميعها دفعة واحدة. وأراه عجائب اخرى. فسأله عزّت باشا عن السرّ الذي يحدث به ذلك ، فقال : إنّه مستخدم إبليس نفسه. فطلب منه أن يراه ، فقال له : لا تقوى على رؤيته. فقال : تقويان أنتما على رؤيته وأضعف أنا عن ذلك؟! مع أنّي كم جبت المخاوف وولجت المعاطب! فقالا : ذلك شيء وهذا شيء آخر. فألحّ عليهما ، فانقادا له فجلسا في الظلمة وأخذ أحدهما يعزم مدّة ، فانشقّ السقف وظهرت النجوم ثمّ تدلّت منه صورة لا يتصوّر الوهم أفظع منها ، فما أن وقع عليها بصره حتّى قام مذعورا وتلمّس الباب حتّى وجده وصعد إلى أهله فجمعهم حوله ، وما زال مضطربا من الذعر حتّى أصبح وبقي بعدها أربعين يوما لا يمشي خطوة حتّى يستصحب معه بعض أهله من شدّة ما لحقه من الخوف. (١)

ولعلّ صاحبنا الاستاذ وجدي فريد وسط زملائه المتنوّري الفكر في قبوله ما يرفضه العقل الرشيد فضلا عن العلم والحكمة القويمة. إنّنا لا ننكر أنّ هناك نفوسا قوية

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين ، ج ٥ ، ص ٥٥ ـ ٦٧.

٢١٣

من أصحاب التمائم والزمازم يؤثّرون بقوّة إرادتهم في وهم ضعفاء النفوس فيخيّلون إليهم صورا وأشكالا حسبما يشاءون ، والغالب أنّ أمثال هؤلاء المدّعين للسحر وتقليب الحقائق هم اناس مفاليس يستدرّون أموال ذوي العقول السذّج لأجل تأمين معيشتهم الحقيرة ، وهو أحد طرق الاستجداء ، فلو كانوا أصحاب قدر خارقة لعالجوا لأنفسهم ما يسدّ حاجتهم عن الاستجداء لا العيش على فضلة الآخرين وعلى طريقة التدليس والتزوير ، الأمر الذي يكون من أردأ أنحاء المعيشة في الحياة! إنّهم لا يملكون سدّ رمقهم فكيف بالتسخير للأرواح المدبّرات!

يقول ابن خلدون ـ الذي حفل بهذه المزعومة في حفاوة وتفصيل ـ : إنّ التأثير الذي لهم إنّما هو فيما سوى الإنسان الحرّ من المتاع والحيوان والرقيق. ويعبّرون عن ذلك بقولهم : إنّما نفعل فيما تمشي فيه الدراهم ، أي ما يملك ويباع ويشترى ... قال : ومن هؤلاء من يسمّى بالبعّاجين ، يشيرون إلى بطن الغنم فتنبعج. لأنّ أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام يرهبون بذلك أهلها ليعطوهم من فضلها وهم مستترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكّام. (١)

مساكين! لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم فكيف القدرة على قهر الطبيعة وقلبها؟!

والعجب من الاستاذ وجدي أصاخ بكلّ مسامعه واستسلم لما سطّره ابن خلدون من قدرة الساحر على تسخير الكائنات وسلطته على الأفلاك ـ وحسبها ذوات أنفس وأجرام ـ (٢) والكواكب ـ حسبوها ذوات عقول ومدبّرات لما يجري على الأرض ـ والجنّ والقوى الروحانية ، فسخّروها جمع للتأثير على قلب عناصر المادّة والتصرّف في العالم العلوي والعالم السفلي جميعا. يا لها من مخرقة وإن شئت فسمّها مهزلة!! وهناك حكايات وروايات أكثرها تنمّ عن قوّة التخييل أو هي أكاذيب وأباطيل. وأمّا أصحاب التمائم

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ، ص ٥٠٠ ـ ٥٠١.

(٢) وهي دوائر وهمية يرسمها العقل لكلّ نقطة دائرة ترسيما في فرض لا في واقع الأمر. نعم ذهب جمع من الأقدمين إلى فرض الأفلاك أجراما شاعرة ذوات عقول ونفوس. ولها شأن في تدبير العوالم السفلى تدبيرا عن علم وإرادة ، ومن ثمّ جاز تسخيرها في جهة مقاصد السوء!!

٢١٤

والنفث في العقد فإنّما هم أصحاب النمائم وإيحاء الوساوس للتفرقة بين الزوجين أو المتحابّين ، ولا يتأتّى منه غير الإفساد في الأرض ، فيتعمّلون ما يضرّهم من غير أن ينفعهم شيئا حسبما وصفهم القرآن الكريم.

نعم هنا شيء لا ننكره نبّهنا عليه ، وهو : أنّ للنفوس البشرية قدرة خارقة يمكن تنميتها بالارتياض إمّا في وجهة رحمانية رفيعة أو في وجهة أرضية هابطة. والاولى رياضة النفس يقوم بها الأنبياء والأولياء والصلحاء فيفوزون بمقامات عالية ، وربّما تتسخّر لهم الكائنات. وأمّا الوجهة الاخرى الهابطة فيقوم بها أصحاب الارتياض بترك المشتهيات ولذائذ الحياة في أشقّ الأحوال وأصعب الأعمال التي لم يأت بها الله من سلطان ، ولكنّهم قهروا أنفسهم على نبذ الشهوات واللذائذ وانخلعوا عن زخارف الحياة. وهو عمل له قيمته ووزنه في ترك الدنيا الدنية ، وحيث لم يكن لهم نصيب في الحياة الاخرى الخالدة فقد يمنحه تعالى منحة تقتنع أنفسهم بها تجاه ما تحمّلوا من مشاقّ الحياة. الأمر الذي قد نشاهده من خوارق على يد مرتاض الهند وغيرها من بلاد ، ولكن في إطار محدود وعلى شريطة أن لا يزاولوها عن جهة الفساد في الأرض ، وإلّا فيؤخذ منهم فور إرادة السوء. نظير ما قيل بشأن «بلعام بن باعورا». قيل : كان رجلا صالحا من قوم موسى ، وقد منحه الله استجابة دعائه ، فحاول تقرّبا إلى بعض الأمراء أن يدعو على قوم مؤمنين ، فسلبه الله المنحة وظلّ خاسرا دينه ودنياه. قيل : والآية التالية ناظرة إلى هذا الحادث : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ). (١)

أمّا العامل بالشرط ولم يتجاوز حدوده المضروبة فستدوم له منحته ما دام باقيا على عهده ، أو يسلم فتدّخر له مثوبته في الدار العقبى مثوبة باقية.

روي أنّ شيخا من الأكابر رأى في طريقه لمّة مجتمعة حول رجل فسأل عنه ، قيل له : إنّه يعلم الغيب. فأتاه وسأله عن شيء أخفاه في كفّه فأخبره به. فسأله الشيخ عن أيّ

__________________

(١) راجع : جامع البيان ، ج ٩ ، ص ٨٢ ـ ٨٤ والآية ١٧٥ و ١٧٦ من سورة الأعراف.

٢١٥

ارتياض بلغت هذا المقام؟ قال : بمخالفة النفس ، لقد دأبت أن اخالف كلّ ما تشتهيه نفسي وتهواه. قال له الشيخ : هذا عمل جسيم ، ولكن هل عرضت على نفسك الإسلام؟ ـ وكان الرجل من براهمة الهند ـ قال : لا. قال له الشيخ : أعرضه على نفسك ثم انظر هل توافقك عليه أم تخالفك؟ فعرض الرجل الإسلام على نفسه وأبدى أنّ نفسه ترفضه! فقال له الشيخ : إذن خالف هوى نفسك ، على دأبك القديم! فقبل الرجل واعتنق الإسلام. وعندئذ سأله الشيخ عن شيء أخفاه في كفّه ، فلم يستطع الرجل أن يخبر عنه وزال عنه علمه بالغيب وتعجّب الرجل من ذلك! قال له الشيخ : لا تعجب ، إنّك كنت على أمر عظيم ، وحيث لم يكن لك نصيب في العقبى جازاك الله بطرف من عنايته عليك في هذه الحياة. فلمّا أسلمت ادّخر الله لك ذلك مثوبة عظمى في الآخرة.

ولبراهمة الهند المرتاضين قضايا عجيبة وتصرّفات خارقة تعود إلى مقدرتهم النفسية الفائقة ، الحاصلة على أثر ترك الملاذّ وتحمّل المشاقّ ، فمنحوا شيئا من إمكان التصرّفات الخارقة مقتنعين بذلك تمام الاقتناع ، حيث لا خلاق لهم في الآخرة.

جاء في مذكّرات مرافق الملك جورج السادس عاهل الحكومة البريطانية في سفرته إلى الهند أيّام الاحتلال مشاهد عجيبة بهذا الشأن. يقول : وقف القطار في إحدى المحطّات لخزن الماء ، فنزل الملك وجعل يتمشّى وإذا بمرتاض قابع في ناحية وجده في غاية الوساخة فنصحه أن يهتمّ بنظافة جسمه وثيابه وحاول مساعدته ، وإذا بالمرتاض اغتاظ لذلك ولم يجبه بشيء. فانصرف الملك وركب القطار ، وإذا بالقطار لا يتحرّك. فقام المهندسون بالفحص من غير أن يجدوا فيه نقصا. وكان مع الملك ضبّاط هنود. ورأوا المرتاض القابع في زاوية ، فسألوا الملك : هل قال للمرتاض شيئا يغيظه؟ فأفصح الملك بما دار بينه وبين المرتاض من غير أن يسيء إليه بكلام أو غيره. قال الضباط : لعلّه سخط عليك وحسبه تجاسرا عليه وهو الذي أوقف القطار. فجاء الملك واستماح من المرتاض واعتذر منه لو غاظه كلامه. فرفع المرتاض رأسه ـ يبدو في وجهه الرضا ـ وأشار إلى القطار فتحرّك لساعته.

٢١٦

وجاء فيها أيضا أنّهم قصدوا زيارة كبير المرتاضين وكان مقرّه في غابة ملؤها حشرات وبعوض ضارية ، ولمّا أن اقتربوا من مقرّ المرتاض بكليومترات وإذا الفضاء صحو لا حشرة فيه ولا بعوضة. فتعجّبوا من ذلك وسألوا المرتاض عن السرّ ، قال : إنّا لا نمنح لها بالاقتراب من حريمنا!

كلّ ذلك إن دلّ فإنّما يدلّ على قدرة نفسية كبيرة حظي بها هؤلاء المرتاضون على أثر رياضتهم ونبذ المشتهيات ، وليس من السحر في شيء.

أضف إلى ذلك أنّ النفس بذاتها ذات قدرة جبّارة بها يتمكّن الإنسان من التغلّب على الطبيعة ، من غير أن يستعين بقدرة خارجة عن إطار نفسه. لكن إذا عرف من نفسه هذه القدرة واستعملها بقوّة وعزيمة راسخة.

قرأت في تاريخ ثورة فرنسا الكبرى عن شخصية «ميرابو» الرجل السياسي الكبير من أركان الثورة (١٧٤٩ ـ ١٧٩١ م) على عهد الملك لويس الخامس عشر. كان نائبا في مجلس النيابة وكان ذا منطق قويّ جبّار بحيث كان يرضخ له المؤالف والمخالف لقوّة خطاباته. يحكى عن مقدرته النفسية الخارقة قضايا ، منها ما ذكره أحد زملائه وكان يرافقه في قصده لزيارة قبر والدته ، وإذا بكلب هارش هجم عليهما وكان ضاريا شديد البأس. فأخذ صاحبه يتوحّش ويلتمس الفرار ، لكن ميرابو في هدوء وطمأنينة وأخذ يهدّئ من روعة صاحبه قائلا : لا تستوحش أنا أكفيكه. فجعل يتحدّق النظر في عيني الكلب وإذا به يهدأ حتى افترش بذراعيه على الأرض كالخاشع أمام ميرابو! ينقل بشأنه من أمثال هذه القضايا كثير.

شهدت إحدى الاحتفالات في مراسم العزاء على سيّد الشهداء ليلة الحادي عشر من محرّم الحرام بكربلاء المقدّسة عام (١٣٧٠ ه‍. ق) وكان الاحتفال بشأن دخول النار المتوهّجة كما هو مرسوم عند الهنود. وقد توقّدت النار في حطب ضخم حوالي ساعات حتّى صارت جمرات متوهّجة في حفرة مستطيلة الشكل مترين في ثلاث أو أربع مترات في عمق ثلاثين سانتيمترا ملؤها الجمرات المتوقّدة. فجاء هنود أربعة مسلمون وجعلوا

٢١٧

يلطمون على صدورهم لطما خفيفا هادئ ويترنّمون ب «يا حسين يا حسين» وكشفوا عن ساقهم وهم حفاة ، ومن ورائهم صبيّ على هيأتهم ربما كان عمره عشر سنوات ونحو ذلك ، فدخلوا الحفرة مستقبلين القبلة بهدوء وطمأنينة بلا تهيّج ولا اضطراب واجتازوا الحفرة وخرجوا من الجانب الآخر بسلام لم يمسّهم أثر من الحريق. هذا ما شاهدته بعيني وكثير من وجوه السادة الأجلّاء بكربلاء حضور يرون المشهد الرهيب بكلّ إعجاب وإكبار!

واستمعت إلى الإذاعات هذه الأيّام أنّ هذه عادة جارية بين الهنود ، من مسلمين وغير مسلمين ، وأنّها تمسّ عزيمة النفس القوية بأنّها قاهرة تغلب على تأثير النار في أجسامهم ، الأمر الذي يشكّل ركيزة السرّ في تغلّبهم على توهّج النار الملتهبة ، ويحضر المراسم كثير من الخلائق المجتمعة من حول العالم ليروا المشهد عن كثب بما لا يدع مجالا للاستنكار.

وهناك نفوس قدسية أكبر قدرة على التغلّب على نواميس الطبيعة بفضل اعتلاء قدرتهم النفسية الإلهية.

تلك السيّدة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه وعلى آله أفضل صلوات المصلّين) عند ما حاولت أن تخطب خطبتها المعروفة في سوق الكوفة وهي رهن إسارتها إلى يزيد الطاغية. فأشارت إلى الجمع أن اسكتوا ، قال الراوي : فعند ذلك سكنت الأنفاس وهدأت الأجراس ، وجعلت تخطب في جوّ ملؤه الهدوء حتّى من صفير الأجراس! إنّ هذه قوّتها النفسية الخارقة أثّرت حتى في الجمادات!

وكان لنا صديق يعمل في تجهيز الأدوات الكهربائية ، فرأيته وهو يمسك على سلك كهربائي مجرّد عن الغلاف ويعمل في مزاولته لتجهيز حفلة كبيرة بمناسبة ميلاد الإمام المنتظر الحجّة بن الحسن (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ليلة النصف من شعبان. فتعجّبت منه وهو ماسك على السلك المجرّد يعمل به ، واقتربت منه ، فقال : لا تمسّني وكلّ جسدي ملؤه الكهرباء. فقلت له : وكيف أنت وقد مسكت السلك؟! قال : أنا أتغلّب على الكهرباء وأضغط عليه بكلّ قوّة فلا يغلبني ، وهذا عملي المستمرّ يوميّا ، أغلب على القوّة

٢١٨

الكهربائية ولا تغلبني ، بفضل قدرتي على التغلّب عليها في صلابة قوية! فتعجّبت من صنيعه ، ولكن لا عجب بعد أن كانت النفس البشرية ذات قوّة قاهرة جبّارة ...

وعلى أي حال ، فهذا من قدرة النفس الجبّارة ، وأين هذا من السحر ، على ما حسبه صاحبنا وجدي ومن قبله ابن خلدون؟!

تلك مشاهد بل حقائق لا يمكن إنكارها ، إذا ما لاحظنا قدرة الإنسان النفسية الخارقة ، الذي تسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا ، بفضل منه تعالى. «والنفس في وحدتها كلّ القوى».

أتزعم أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

هذا من جانب ، ومن جانب آخر لا ننكر أنّ وراء هذا العالم المحسوس عالم أرقى ملئ بالكائنات العاقلة (ذوات الشعور) من ملك أو جنّ أو أرواح طيّبة أو خبيثة. ولكن أنّى لهؤلاء الصعاليك (سحرة الأرض) الهيمنة على تلك الكائنات المتعالية ذوات القدر الجبّارة. إنّهم أعلى كعبا من أن تنالها أيد شلّاء قاصرة. وقد قامت الشواهد المستوعبة على وجود عالم الغيب وراء عالم الشهود. لكن هل بإمكان العائشين على الأرض التغلّب والسيطرة (تسخير) تلك الكائنات المنبثّة وراء ستار الغيب؟ وقد دلّت الشواهد على أنّهم أعجز من ذلك ، اللهمّ إلّا بعض الإيحاءات الخبيثة تلقيها الشياطين على شاكلتهم في الأرض (إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ). (١) فهم الذين وقعوا في فخّ الشياطين وحسبوا أنّها مسخّرة لهم ، يا لها من مهزلة تنبؤك عن سفاهة في ذوي العقول الضعيفة. وقد استوفينا الكلام عن ذلك في رسالة كتبناها عن الأرواح.

وبعد ، فإذ لم تثبت حقيقة للسحر بمعنى التأثير في قلب الطبيعة وتسخير الكائنات ، نعم سوى تمائم هي نمائم ووساوس ينفثونها لفكّ العقد وفصم الروابط والأواصر بين المتحابّين ، (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). (٢) ومن ثمّ لا تأثير لدسائسهم في

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٢١.

(٢) البقرة ٢ : ١٠٢.

٢١٩

نفوس متّكلة على الله قويمة بعنايته تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ). (١) فكان ما تعلّموه ضرر عليهم ولا ينفعهم شيئا. الأمر الذي جعلهم عجزة ومساكين وعائشين على فضلة الأثرياء أو الضعفاء الأغنياء. قال تعالى بشأنهم : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى). (٢)

وهذا طابع وسمهم به القرآن الكريم. حيث يقول ـ موجّها خطابه إلى المشركين في زعمهم أنّ النبي جاء بسحر ـ : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ). (٣) دليلا على أنّ الذي جاء به نبيّ الإسلام لا صلة له بالسحر ، حيث قد توفّق في تبليغ دعوته والتأثير بشريعته تأثيرا في واقع الحياة. الأمر الذي لا يتلاءم وسحر السحرة غير المفلحين ولا موفّقين في مسيرتهم المنحرفة بل مكدودين عاجزين أذلّاء ومساكين حقراء.

هذا هو منطق القرآن ونظرته القاطعة بشأن السحر والسحرة ، لا واقع له ولا تأثير خارج إطار الدسائس الخبيثة. وأن لا قدرة لساحر ولا هيمنة على سكّان الأرض السفلى فكيف بالسلطة على سكّان السماوات العلى. فلا نجاح لهم في عمل ولا حظّ لهم في سعادة الحياة.

* * *

ثمّ فلنفرض أنّ جاهلية العرب كانت تعتقد بحقيقة السحر عقيدة جاهلية بائدة ، لكن هل هناك شاهد على أنّ القرآن وافقهم أو جاراهم على تلك العقيدة الباطلة؟ فلننظر في الموارد التي أخذوها شواهد على زعم الموافقة أو المجاراة ، وهي ثلاثة موارد : سحرة فرعون ، سحرة بابل ، النفّاثات في العقد. نبحث عنها على الترتيب :

سحرة فرعون

ممّا أخذوه شاهدا على ذلك سحرة فرعون ، حيث يقول عنهم القرآن : (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). (٤)

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٤٢ ؛ الإسراء ١٧ : ٦٥.

(٢) طه ٢٠ : ٦٩.

(٣) يونس ١٠ : ٧٧.

(٤) الأعراف ٧ : ١١٦.

٢٢٠