شبهات وردود حول القرآن الكريم

الشيخ محمّد هادي معرفة

شبهات وردود حول القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-06-1983-3
الصفحات: ٦٠٧

أساسيّين : ثابتة ومتغيّرة. أمّا الثابتة فهي التي شرّعت وفق مصالح عامّة عموما يشمل الأجيال والأزمان مدى الدهر ، وهي الأصل في التشريع حسب ظاهره الأوّلي ، إلّا إذا دلّت القرائن على أنّها من المتغيّرات ، وهي التي شرّعت لمصالح وقتية تنوط ببقاء تلك المصالح وتذهب بزوالها. وهذا في جانب الأحكام السياسية الصادرة من اولي الأمر نجده بكثير. وقد فصّلنا الكلام في ذلك وذكرنا المعايير التي يمكن التمييز بين القسمين ، والأصل المرجع عند الشكّ. (١)

أمّا القول بالتنازل والمداهنة أو المجاملة مع القوم فهي عقيدة باطلة يرفضها أصالة التشريع الإسلامي المستند إلى وحي السماء ، ويأبى الله ورسوله ذلك. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). (٢)

* * *

وسؤال آخر : هل كان الطلاق والرجوع في العدّة ـ بذلك الشكل الفظيع ـ عادة جاهلية ليكون موضع الإسلام منها تعديلها إلى وجه صحيح؟

قال الشيخ محمّد عبده : كان للعرب في الجاهليّة طلاق ومراجعة في العدّة ، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدد ... فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام.

في حين أنّ جواز الرجوع في العدّة ـ في الطلاق الرجعي ـ وكذا تشريع العدّة للطلاق أمر لم يكن للعرب ولا لسائر الأمم عهد بذلك من ذي قبل ، وإنّما هو من مبدعات الإسلام ، وتشريعاته التأسيسية الحكيمة. حتّى أنّ الإمام عبده استشهد بقضية وقعت في عهد متأخّر في المدينة ، حيث جاءت المرأة وشكت عند عائشة لترفع أمرها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزلت آيات من اخريات سورة البقرة ، ولعلّها في العام السادس أو السابع للهجرة! وقد صرّح الطبري بأنّه كان على عهد النبيّ ، وكان رجلا من الأنصار. (٣)

__________________

(١) تجد جانبا من ذلك في رسالتنا «ولاية الفقيه» الفارسيّة ص ١٧٢ ـ ١٧٤.

(٢) البقرة ٢ : ١٢٠. وفي آية اخرى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ). البقرة ٢ : ١٤٥. وفي ثالثة : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ). الأنعام ٦ : ١١٦.

(٣) جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٧٦.

١٤١

هذا ، وقد أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن أسماء بنت يزيد الأنصارية ، قالت : طلّقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن للمطلّقة عدّة ، فأنزل الله ـ حين طلّقت ـ العدة للطلاق (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). (١) فكانت أوّل من انزلت فيها العدّة للطلاق.

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : كان أهل الجاهلية يطلّق أحدهم ليس لذلك عدّة. (٢) وأمّا الرواية الاخرى عن قتادة بأنّ الطّلاق لم يكن له في الجاهليّة عدد وكانوا يراجعون في العدّة. (٣) فلعلّ الذيل زيادة من الراوي أو بيان للمراجعة بعد تشريع العدّة في الإسلام ، إذ لا تقاوم هذه الرواية ما تقدّمها من روايات مستفيضة.

* * *

وسؤال ثالث : هل الطلاق بيد الرجل ورهن إرادته على الإطلاق؟

ذهب المشهور إلى ذلك استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما الطلاق لمن أخذ بالساق». (٤) والحديث كما رواه ابن ماجة في السنن عن ابن عبّاس أنّ رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، إنّ سيّدي زوّجني أمته وهو يريد أن يفرّق بيني وبينها. فصعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر فقال : أيّها الناس ، ما بال أحدكم يزوّج عبده أمته ثمّ يريد أن يفرّق بينهما؟! إنّما الطلاق لمن أخذ بالساق.

والحديث وإن كان بمختلف طرقه ضعيف الإسناد إلّا أنّ الفقهاء تسالموا على الاستناد إليه ، حتّى أنّ صاحب الجواهر عبّر عنه بالنبويّ المقبول وذكر أنّ الحكم إجماعي ، وقد أرسل المحقّق حكمه باختصاص الطلاق بمالك البضع إرسال المسلّمات. (٥)

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ١ ، ص ٦٥٦ ؛ وسنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ٢٨٥ ، رقم ٢٢٨١ ؛ وسنن البيهقي ، ج ٧ ، ص ٤١٤ كتاب العدد.

(٣) جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٧٦.

(٤) سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٦٤١ ، باب ٦٦٧ ، طلاق العبد ، رقم ٢١٠٧ ؛ وفي كنز العمّال ، ج ٩ ، ص ٦٤٠ ، رقم ٢٧٧٧٠ نقله عن الجامع الكبير للطبراني ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ، ج ٤ ، ص ٣٣٤ وعن عصمة ... الخ ، وقال : فيه الفضل بن المختار وهو ضعيف. (هامش الكنز). أمّا عن ابن عباس ـ كما في سنن ابن ماجة والطبراني ـ ففي طريقه ابن لهيعة. قال في الزوائد : وهو ضعيف. (هامش ابن ماجة).

(٥) جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ٥.

١٤٢

وعليه ، فلا شأن للمرأة في أمر الطلاق والفراق ، وإنّما هو رهن إرادة الرجل حسب مشيئته الخاصّة.

* * *

غير أنّ المسألة بحاجة إلى دقة ونظرة فاحصة :

الطلاق ـ وهو الفراق بين المتآلفين ـ لا بدّ أن يكون عن كراهية معقّدة لا يمكن حلّها إلّا بالمفارقة. والكراهية إمّا من الزوج فالطلاق رجعي ، إذا كان عن دخول بها ولم تكن التطليقة الثالثة ، ولم تكن المرأة يائسة ، وشرائط اخر مذكورة في محلّها.

وإمّا من الزوجة ، فالطلاق خلعي ، لأنّها تبذل مهرها لتنخلع أي تتخلّص بنفسها وتنفلت عن قيد الزوجية.

وإمّا من الطرفين ، ويعبّر عن ذلك في مصطلحهم بالمباراة ، من المبارأة وهي التخلّص والفصل بين الشريكين أو المتزاوجين. يقال : بارأ شريكه : فاصله وفارقه. وتبارأ الزوجان : تفارقا.

فالطلاق في الصورة الاولى عن رغبة الزوج ، وفي الصورة الثانية عن رغبة الزوجة ، وفي الصورة الثالثة عن رغبتهما معا.

فهل الطلاق في جميع هذه الصور بيد الرجل محضا ورهن إرادته ، إن شاء فارقها وخلّى سبيلها ، وإن شاء أمسكها إضرارا بها؟ ولا شأن للمرأة في ذلك ولا لوليّ الأمر إطلاقا!؟

وإليك بعض الكلام حول هذه المسألة الخطيرة الشأن :

جاء في الحديث النبويّ المستفيض : أنّ امرأة ـ ولعلّها جميلة بنت ابيّ بن سلول ـ تزوّجها رجل دميم (كريه المنظر) وأصدقها حديقة ، فلمّا رآها كرهته كراهة شديدة ، فجاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبدت كراهتها له وقالت : إنّي لأكرهه لدمامته وقبح منظره حينما رأيته. وزادت : إنّي لو لا مخافة الله لبصقت في وجهه. قالت : إنّي رفعت الخباء فرأيته مقبلا في عدّة ، فإذا هو أشدّهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. قالت : والله ، لا يجمع

١٤٣

رأسي ورأسه شيء. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتردّين عليه حديقته؟ قالت : نعم ، وأزيده. قال لها النبي : لا ، حديقته فقط. فردّت عليه حديقته ، ففرّق بينهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويبدو أنّ ذلك كان بمغيب عن الرجل ، وذلك لأنّ الرواية ذكرت أنّه لمّا بلغه قضاء رسول الله وحكمه بالفراق بينهما قال : قد قبلت قضاء رسول الله. قال ابن عبّاس : وكان أوّل خلع وقع في الإسلام. (١)

وظاهر الحديث : أنّه في صورة كراهة الزوجة ترفع أمرها إلى وليّ الأمر (الحاكم الشرعي) وهو الذي يتولّى شأنها ويقضي بفراقها. وليس للزوج الامتناع. (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). (٢)

والمراد بقضاء الله والرسول أن يكون قضاء النبيّ وفق شريعة السماء ، ولا يكون إلّا كذلك. وعليه فقبول الرجل كان فرضا عليه ولم يكن له الردّ.

وهكذا جاء في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام :

روى الشيخ بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لا يكون الخلع حتّى تقول : لا أطيع لك أمرا ولا أبرّ لك قسما ولا اقيم لك حدّا فخذ منّي وطلّقني ، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يخلعها بما تراضيا عليه من قليل أو كثير ، ولا يكون ذلك إلّا عند سلطان. فإذا فعلت ذلك فهي أملك بنفسها من غير أن يسمّى طلاقا. (٣)

وروى بإسناده عن ابن بزيع قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن المرأة تباري زوجها أو تختلع منه بشهادة شاهدين على غير طهر من غير جماع ، هل تبين منه بذلك؟ أو هي امرأته ما لم يتبعها بطلاق؟ فقال : تبين منه. قال : إنّه روي لنا أنّها لا تبين منه حتّى يتبعها بطلاق! قال عليه‌السلام : ليس ذلك إذن خلع ، فقال : تبين منه؟ قال عليه‌السلام : نعم. (٤)

وقد أفتى بذلك الشيخ وجماعة من كبار الفقهاء وأوجبوا على الزوج الإجابة على طلبها من غير أن يكون له الامتناع.

__________________

(١) راجع : سنن البيهقي ، ج ٧ ، ص ٣١٤ ؛ وسنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٦٣٣ ، باب ٦٥٨ ؛ والدرّ المنثور ، ج ١ ، ص ٦٧٠ ـ ٦٧٢ وقد نقلنا النصّ بصورة ملفقة والأكثر للدرّ.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٣٦.

(٣) تهذيب الأحكام ، ج ٨ ، ص ٩٨ ـ ٩٩ ، رقم ٣٣١.

(٤) المصدر : رقم ٣٣٢.

١٤٤

قال الشيخ في النهاية : وإنّما يجب الخلع إذا قالت المرأة لزوجها : إنّي لا اطيع لك أمرا ولا اقيم لك حدّا. فمتى سمع منها هذا القول أو علم من حالها عصيانه في شيء من ذلك وإن لم تنطق به وجب عليه خلعها. (١)

قال العلّامة في المختلف : وتبعه أبو الصلاح الحلبي والقاضي ابن البرّاج في الكامل وعليّ بن زهرة الحلّي. (٢)

قال أبو الصلاح (ت ٤٤٨) : فإذا قالت ذلك فلا يحلّ له إذ ذاك إمساكها. (٣)

وقال ابن زهرة (ت ٥٨٥) : وأمّا الخلع فيكون مع كراهة الزوجة خاصّة الرجل ، وهو مخيّر في فراقها إذا دعته إليه حتى تقول له : لئن لم تفعل لأعصينّ الله بترك طاعتك ، أو يعلم منها العصيان في شيء من ذلك ، فيجب عليه والحال هذه طلاقها. (٤)

فإذا كان ذلك واجبا عليه ولم يكن له الامتناع عند ذلك لزمه طلاقها ، أو يلزمه السلطان (وليّ الأمر ـ الحاكم الشرعي) أو يتولّى الحاكم ذلك بنفسه حسبما تقدّم في ظاهر الحديث النبوي.

على أنّ ذلك هو لازم اشتراط أن يكون بمحضر السلطان ، كما اشترطه أبو علي ابن جنيد الإسكافي ، استنادا إلى حديث زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام الآنف. ولقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). (٥) وهذا خطاب للحاكم. (٦)

فإنّ مقتضى هذا الاشتراط أن يقوم الحاكم بتنفيذ الأمر حسبما يراه من مصلحتهما ، إن إلزاما للزوج أو التولّي بنفسه.

وقد ناقش صاحب الجواهر القول بوجوب خلعها على الرجل بعدم الدليل على الوجوب ، إذ ليس في شيء من الروايات أمر بذلك وبعدم تمامية كونه ردعا عن المنكر. مضافا إلى كونه منافيا لاصول المذهب! (٧)

__________________

(١) النهاية في مجرد الفقه والفتاوي للطوسي ، ص ٥٢٩.

(٢) المختلف ، ج ٧ ، ص ٣٨٣.

(٣) الكافي في الفقه للحلبي ، ص ٣٠٧.

(٤) غنية النزوع لابن زهرة ، ج ١ ، ص ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

(٥) البقرة ٢ : ٢٢٩.

(٦) المختلف ، ج ٧ ، ص ٣٨٨.

(٧) جواهر الكلام ، ج ٣٣ ، ص ٣ ـ ٤.

١٤٥

لكن جانب الإضرار بالمرأة ـ إذا لم تطق الصبر معه ـ يرفع سلطة الرجل على الطلاق حتّى في هذه الصورة ، إذ «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». (١) بمعنى : أنّه لم يشرّع في الإسلام أيّ تشريع ـ سواء أكان تكليفا أم وضعا ـ إذا كان مورده ضرريّا. وهذه القاعدة حاكمة على جميع الأحكام الأوّلية في الشريعة المقدّسة (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). (٢) ولا شكّ في أنّ الحكم باختيار الرجل بشأن الطلاق ـ حتّى في صورة كون الزوجية أو تداومها حرجا على المرأة وضارّا بها ـ حكم ضرري ، فهو مرفوع ، فعموم سلطة الرجل على أمر الطلاق مخصّص بغير هذه الصورة.

وهكذا ورد صحيحا عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام فيمن كانت عنده امرأة ولا يقوم بنفقتها ... قال : كان حقّا على الإمام أن يفرّق بينهما. (٣)

على أنّ دليل عموم سلطة الرجل على الطلاق ضعيف ، بعد كون مستنده الحديث النبوي المعروف «إنّما الطلاق لمن أخذ بالساق». وهذا الحديث بمختلف طرقه ضعيف الإسناد على ما تقدّم عن الهيثمي في مجمع الزوائد. (٤)

وعمدة ما استدلّ به صاحب الجواهر على ذلك هو الإجماع ، (٥) ولم يكن دليلا لفظيا ليكون له إطلاق أو عموم. إذن ، فمستند العموم ضعيف الشمول.

وبعد ، فإذا لم يكن لعموم سلطة الرجل على الطلاق دليل قاطع وشامل وكان أمر الخلع منوطا بالترافع لدى السلطان كان مقتضى ذلك هو إمكان إلزام الزوج بالطلاق إذا كانت المصلحة قاضية بذلك ، ومدعما بحديث «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

وهناك بعض الشواهد عليه في بعض النصوص ، كما في حديث حمران عن الصادق عليه‌السلام وفي آخره : «والطلاق والتخيير من قبل الرجل ، والخلع والمباراة يكون من قبل المرأة». (٦)

__________________

(١) وسائل الشيعة ، باب ١ من أبواب موانع الإرث ، حديث ١٠ ، ج ١٧ ، ص ١١٨.

(٢) الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٣) وسائل الشيعة : باب ١ من أبواب النفقات ، ج ٢١ ، ص ٥٠٩ ، رقم ٢ و ٦ و ١٢.

(٤) راجع : هامش كنز العمّال ، ج ٩ ، ص ٦٤٠ ؛ وهامش ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٦٤١ ؛ ومجمع الزوائد ، ج ٤ ، ص ٣٣٤.

(٥) جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ٥.

(٦) وسائل الشيعة ، ج ٢٢ ، ص ٢٩٢ ، رقم ٤ ، باب ٦ من كتاب الخلع.

١٤٦

وهذا يعني : أنّ أمر الخلع منوط بمصلحة المرأة واختيارها ، ولا خيار للزوج فيه. مضافا إلى ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن المختلعة.

إذن فطريق الخلاص للمرأة ـ إذا لم تطق الصبر مع زوجها ـ منفتح ، وليست أسيرة رهن إرادة الرجل محضا.

بقي هنا شيء وهو كلام صاحب الجواهر بالمنافاة مع أصول المذهب! ولم نتحقّقه ، كيف وقاعدة لا ضرر ولا حرج هما اللذان يشكّلان قواعد المذهب ، والعلم عند الله.

والسؤال الأخير : ما هو سبب الفرق بين الرجل والمرأة ، حيث كان الرجل مطلق السراح بشأن طلاق زوجته ، وأمّا المرأة فبعد مراجعة الحاكم الشرعي ورهن تصميمه في الأمر؟!

وهذا يعود إلى ما بين الرجل والمرأة من فرق في طبيعتهما ، حيث هي مرهفة الطبع ، رقيقة النفس ، ذات عواطف جيّاشة ، تثار لأيّ مؤشّر وتنبري لأيّ وخزة ، وكلّ أمر إذا انيط بجانب العاطفة السريعة التأثّر ربّما أوجد مشاكل ومضاعفات لا يحمد عقباها. أمّا الرجل فبطبيعته الهادئة المتريّثة ، وهو الذي تحمّل تكاليف هذا الازدواج ، ولا يمكن أن يتغافل عن عواقب سوء سوف تترتّب على الفراق أحيانا ، ويكون عباء ثقلها على عاتقه في الأغلب ، فإنّه بذلك ولغيره من الجهات لا يتسرّع في الأمر مهما بلغ به الغضب أو ثارت ثائرته في حينه ، ما دام لم ينظر في عاقبته الأمر وما يترتّب عليه من أثر!

ومع ذلك ، فإنّ القوانين المدنية الحاكمة اليوم في البلاد الإسلامية تفرض على الرجل تريّثه المضاعف ومراجعة المحاكم الصالحة ، من غير أن يكون مطلق السراح.

ونحن الآن ـ في ظلّ ولاية الفقيه ـ نرى مشروعية هذه القوانين المحدّدة من تصرّفات الرجل العابثة. وهذا من الآثار الإيجابية لسيطرة ولاية الفقيه على القوانين الحاكمة في البلاد.

* * *

ونجد هناك بعض المحاولات لسدّ هذه الثغرة عن طريق الاشتراط على الزوج ـ في عقد النكاح أو ضمن عقد آخر لازم ـ بأن يوكّل الزوج زوجته في طلاق نفسها متى

١٤٧

شاءت أو مشروطا بعدم إمكان المؤالفة ونحو ذلك فتقوم المرأة بتطليق نفسها وكالة عن زوجها.

وبهذا النحو من العلاج أفتى سيّدنا الأستاذ الإمام الخميني ـ طاب ثراه ـ إجابة على استفتاء قدّمته إليه جماعة النسوة المناضلة في إيران عام ١٣٥٨ ه‍. ش. (١)

وقد كان هذا الاشتراط على الزوج في صالح الزوجة رائجا في أوساطنا منذ القديم ، لكن على النحو المشروط ، أمّا بصورة الإطلاق ومتى شاءت فقد اختصّ الإمام الراحل قدس‌سره بالإفتاء به.

وإليك نصّ العبارة ـ مترجمة ـ بعد البسملة.

قد سهّل الشارع المقدّس طريقة معيّنة للنساء ، كي يستطعن تولّي الطلاق بأنفسهنّ ، وذلك بأن تشترط المرأة في ضمن عقد النكاح أن تكون وكيلة عن الزوج في الطلاق بصورة مطلقة ، أي متى شاءت أن تطلّق نفسها فعلت حسب مشيئتها ، أو بصورة مشروطة ما إذا تخلّف الزوج عن بعض وظائفه الزوجية أو أراد أن يتزوّج امرأة اخرى ، ونحو ذلك ، فهي مختارة ـ حسب وكالتها عن الزوج ـ في تطليق نفسها. قال : وبهذا النحو من العلاج تنحّل مشكلة أمر الطلاق. (روح الله الموسويّ الخميني)

لكن الظاهر أنّ هذا ليس بالعلاج الحاسم ، والمشاهد أنّ الأزواج لا يوافقون على هذا النحو من الاشتراط ولا سيّما صورة إطلاقه. وليس الرجل ـ مهما كانت المرأة بالمفتن بها ـ بهذا النحو من الرضوخ لإرادتها الخاصّة ـ طول حياتهما الزوجية ـ لا سيّما وتضخّم عدد النساء الطالبات للزواج بلا شرط ولا قيد!

إنّ للرجل ـ في طبيعته الرجولية ـ أنفة وشموخا لا يستسلم لقيادة المرأة مهما كانت فائقة ، إلّا إذا بلغ به الذلّ والهوان ما يجعله خاضعا لهذا الرضوخ.

على أنّ هنا حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام في رجل جعل أمر امرأته بيدها! قال :

__________________

(١) راجع : صحيفة النور ، ج ١٠ ، ص ٧٨ ؛ ومجلّة «نامه مفيد» ، العدد ٢١ ، ص ١٦٨.

١٤٨

«ولى الأمر من ليس أهله ، وخالف السنّة ، ولم يجز النكاح». (١)

وفي رواية أخرى في رجل قال لامرأته : أمرك بيدك! قال : «أنّى يكون هذا ، والله يقول (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)؟ (٢) ليس هذا بشيء. (٣)

وأيضا هنا كلام عن هذه الوكالة ـ وهي عقد جائز ، متى شاء الموكّل عزل الوكيل ـ هل تصبح لازمة باشتراطه في ضمن عقد النكاح أو أيّ عقد لازم؟ وهل الشرط ضمن عقد لازم يغيّر من ماهيّة المشروط؟

وأخيرا ، فإنّ الشيخ ذكر في كتابه «المبسوط» قال : وإن أراد [الرجل] أن يجعل الأمر إليها فعندنا لا يجوز على الصحيح من المذهب. وفي أصحابنا من أجازه. (٤)

ومن ثمّ فإنّ المسألة ليست بهيّنة ، لا سيّما وخطورة أمر البضع المقتضية للاحتياط فيه. كما وقد رجّح صاحب الجواهر جانب الاحتياط. قال : وعلى كلّ حال فالاحتياط لا ينبغي تركه. (٥)

واضربوهنّ!

قال تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً). (٦)

قالوا : في هذه الآية أيضا مهانة بشأن المرأة ، ممّا يتناسب وذلك العهد الجاهلي الذي كان موضع المرأة فيه موضع الضعة والصغار!

لكن بأدنى مراجعة لكتب التفسير والسير وكلمات الفقهاء في ذلك يتّضح أنّ الأمر ليس بتلك الحدّة التي كانت تتصوّر عن العصر الجاهلي المظلم وإمكان تأثيره على التشريعات الإسلامية الناصعة البيضاء والسهلة السمحاء.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ، ج ٨ ، ص ٨٨ ؛ والاستبصار ، ج ٣ ، ص ٣١٣ ؛ والكافي ، ج ٦ ، ص ١٣٧ ، رقم ٤.

(٢) النساء ٤ : ٣٤.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٢٢ ، ص ٩٣ ـ ٩٤ ، رقم ٥ و ٦ ، باب ٤١ من أبواب مقدّمات الطلاق.

(٤) المبسوط للطوسي ، ج ٥ ، ص ٢٩.

(٥) جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ٢٥.

(٦) النساء ٤ : ٣٤.

١٤٩

كانت المرأة في العصر الجاهلي في مستوى هابط جدّا ، وجاء الإسلام ليأخذ بيدها ويرفعها إلى حيث مستواها الإنساني الرفيع ، ولكن هذا التحوّل الجذري بشأنها هل أمكن حصوله بصورة فجائية وبلا تمهيد مقدّمات؟ أم كان بحاجة إلى مهل وبصورة تدريجية لقلب تلك الغلظة المتوهّجة إلى رقّة ورأفة هادئة؟ الأمر الذي يستدعي المسايرة مع القوم بعض الشيء في هذا الطريق الوعر ليمكن إيقافهم أو تمهيد أسباب هذا الإيقاف فيمكن إرجاعهم إلى حيث فطرتهم الإنسانية الأصيلة!

وهكذا جارى الإسلام العرب في بادئ الأمر في قسم من عاداتهم ـ كانت متحكّمة عليهم تحكّما وثيقا ـ وفي أثناء هذه المجاراة والمسايرة ، أخذ ينفث في روعهم روح الملاءمة وإبعاد الخشونة لتلين قلوبهم ويهتدوا إلى وجه الصواب ، فيرتدعوا بأنفسهم شيئا فشيئا عن الأخطاء التي كانت تجذبهم بقوّة ذلك العهد.

وهذا النحو من سياسة التدبير نرى الإسلام قد اتّخذها بشأن لفيف من عادات جاهلية لم تكن متحكّمة على العرب وحدهم ، بل على سائر الأمم على وجه العموم. ومن ثمّ كان قلع جذورها بحاجة إلى مهلة وفرصة زمنية ، قصيرة أو طويلة ، وتمهيد مقدّمات أصولية تمهّد هذا السبيل.

ويمكننا التمثيل لذلك بمسألة الرقّية التي جاراها الإسلام ، حيث تحكّمها على العالم كلّه يوم ذاك ، وكانت سلعة تجارية ضخمة ، لا يمكن مجابهتها بلا تمهيد مقدّمات ، فقد قام الإسلام في وجهها ، لكن لا بشكل علنيّ صريح ، ولكن أعلن مخالفته لمنشإ الاسترقاق الذي كان عليه جمهور الامم ذلك العصر ، وسدّ طريقه ـ شرعيّا ـ ما عدا حالة الاستيلاء على المحاربين في ميدان القتال. الأمر الذي كان يخصّ الرجال المحاربين ضدّ الإسلام دون غيرهم ، ولا النساء ولا الأطفال والشيوخ ، ورفض رفضا باتّا إمكان الاسترقاق بأيّ وجه كان.

ثمّ إنّه مع ذلك جعل الطريق لتحرّرهم فسيحا وفي أنحاء وأشكال ، حسبما نذكره.

واتخاذ مثل هذه الاجراءات لقطع جذور عادة جاهلية ساطية ، قد اصطلحنا عليه

١٥٠

بالنسخ التدريجى المسيّر مع الزمان ، ممّا قد مهّدت أسبابه منذ البدء وعلى عهد صاحب الشريعة.

* * *

ومن هذا القبيل مسألة قوامة الرجل على المرأة بشكلها العامّ ، بحيث تشمل ضربها ضربا مبرّحا موجعا! فلو كان قد نزل به الوحي ، ولكن جاء تفسيره على لسان صاحب الشريعة بما يجعله هيّنا في وقته ، وتمهيدا لقلع جذوره على مدى الأيّام :

أوّلا : جاء تفسير الضرب بكونه غير مبرّح ، أي غير شديد ولا مؤلم ، فيكون ضربا خفيفا لا يؤلم. والضرب إذا لم يكن مؤلما لا يكون ضربا في الحقيقة ، وإنّما هو مسح باليد مسحا في ظرافة! ومن ثمّ جاء تقييده بأن لا يكون بسوط ولا خشب أو آلة غيرهما ، ما عدا عودة السواك التي يستاك بها الرجل!

الأمر الذي يجعل من ظاهر دلالة الآية عقيمة ، ويرفض سلطة الرجل على إيلام زوجته بالضرب والأذى على كلّ حال.

أخرج ابن جرير عن عكرمة ـ في الآية ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اضربوهنّ إذا عصينكم في المعروف ، ضربا غير مبرّح». ورواه أيضا بإسناده عن حجّاج مضيفا إليه تفسيره «غير مبرّح» بغير مؤثّر. يعنى : لا يؤثّر في تغيير لون البشرة ، حتّى الحمرة.

وعن عطاء قال : قلت لابن عبّاس : ما الضرب غير المبرّح؟ قال : بالسواك ونحوه.

وعن قتادة : ضربا غير مبرّح أي غير شائن. (١)

والشين : العيب ، أي لا يوجب عيبا.

ومن ثمّ قال الشيخ أبو جعفر الطوسي قدس‌سره : وأمّا الضرب فإنّه غير مبرّح ، بلا خلاف. (٢) قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : هو بالسواك. (٣)

قال القاضي ابن البرّاج الطرابلسي قدس‌سره : وأمّا الضرب فهو ضرب تأديب ، كما يضرب

__________________

(١) جامع البيان ، ج ٥ ، ص ٤٤ ؛ والدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٥٢٢ ـ ٥٢٣.

(٢) وهذا يعني أنّ هذا التفسير «ضربا غير مبرّح» مجمع عليه عند الفقهاء.

(٣) تفسير التبيان ، ج ٣ ، ص ١٩١.

١٥١

الصبيان على الذنب ، ولا يضربها ضربا مبرّحا ولا مزمنا ولا مدميا ويفرّقه على بدنها ويتقي وجهها. وإذا ضربها كذلك فليكن بالمسواك. وذكر بعض الناس (من فقهاء العامّة) أنّه يكون بمنديل ملفوف أو درّة ، ولا يكون بخشب ولا سوط. (١)

المبرّح : الشديد الموجع. والمزمن : من الزمانة ، وهي العاهة ، أي العيب والنقص. والمدمي : المؤثّر في ظهور الدم على البشرة ولو بالخراش.

والدرّة : نوع من السياط ، لا توجع ولا تؤلم. وتصنع من الخرق. وهي تشبه المنديل الملفوف.

وقال في موضع آخر : وإذا نشزت المرأة على زوجها ، جاز له أن يهجرها في المضاجع وفي الكلام ، ويضربها ولا يبلغ بضربها حدّا ولا يكون ضربا مبرّحا ، ويتوفّى وجهها. ولا يهجرها بترك الكلام أكثر من ثلاثة أيّام. (٢)

جاء في فقه الرضا : والضرب بالسواك وشبهه ضربا رفيقا (٣) أي برفق.

وفي جامع الأخبار للصدوق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي أتعجّب ممّن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى. لا تضربوا نساءكم بالخشب فإنّ فيه القصاص ، ولكن اضربوهنّ بالجوع والعرى ، حتّى تريحوا في الدنيا والآخرة». وجاء في آخر الحديث : «احفظوا وصيّتي في أمر نسائكم حتّى تنجوا من شدّة الحساب ، ومن لم يحفظ وصيّتي فما أسوأ أحاله بين يدي الله. (٤)

وفي هذا الحديث صراحة بأنّ المراد من الضرب في الآية هو التأديب ، ولكن لا بالعصا والسوط ـ كما يفعل مع البهائم ـ ولكن بالتضييق في المطعم والملبس ونحوهما. وهذا أوفق بتعديل المعيشة معها.

وثانيا : النهي عن ضربهنّ ، والتشديد على المنع ، منعا يجعل المتخلّف من شرار الامّة وليس من خيارهم!

__________________

(١) المهذّب ، ج ٢ ، ص ٢٦٤.

(٢) المصدر : ص ٢٣١.

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٠١ ، ص ٥٨ ، رقم ٧ ، باب النشوز والشقاق.

(٤) المصدر : ج ١٠٠ ، ص ٢٤٩ ، رقم ٣٨ عن جامع الأخبار ، ص ١٥٧ ـ ١٥٨ ، طبع النجف.

١٥٢

جاء في الحديث : إنّ نساء كثيرا من أزواج أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أطافن ببيوت آل الرسول يشكين أزواجهنّ ـ حيث رأوا إباحة ضربهنّ ـ فقال رسول الله : «ليس أولئك خياركم». (١)

وأخرج ابن سعد والبيهقي بالإسناد إلى أمّ كلثوم بنت أبي بكر قالت : كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ، ثمّ شكوهنّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأجاز لهم ضربهنّ ، ولكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أضاف قائلا : «ولن يضرب خياركم». (٢)

وفي رواية ابن ماجة : ... فلمّا أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لقد طاف بآل محمّد سبعون امرأة ، كلّ امرأة تشتكي زوجها! فلا تجدون أولئك خياركم». (٣)

وأخرج عبد الرزاق عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد ، يضربها أوّل النهار ثم يضاجعها آخره». (٤)

قالت عائشة : ما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خادما له ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئا. (٥)

ولم يؤثر عن أحد من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام الأطهار ولا من الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار أن واجهوا نساءهم بغضاضة فضلا عن الضرب واللطم. بل كانت شيمتهم العفو والغفران ، كما مرّ في حديث الإمام الصادق عن أبيه الإمام الباقر عليه‌السلام. (٦)

وثالثا : التوصيات الأكيدة بشأن المرأة والتحفّظ على كرامتها والأخذ بجانبها في عطف وحنان ورأفة ورحمة ، بعيدا عن الغلظة والشدّة ، بل حتّى مؤاخذتها على ما فرط منها ما سوى العفو والغفران.

جاء في رسالة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى ابنه الحسن عليه‌السلام : «.. فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ، ولا تعد بكرامتها نفسها ...». (٧) أي خذ بكرامتها ، ولا تجعلها بحيث تضطرّ إلى أن تستشفع بآخر ، فلتكن كرامة نفسها لديك هي الشفيعة لها دون غيرها. وجاء في

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٥٢٣.

(٢) المصدر.

(٣) سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٦١٢ ، باب ٦٢٥ ، رقم ٢٠١٠.

(٤) الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٥٢٣.

(٥) أخرجه ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٦١٢ ، رقم ٢٠٠٩.

(٦) الكافي ، ج ٥ ، ص ٥١٠ ، رقم ١.

(٧) نهج البلاغة ، باب الكتب ، رقم ٣١ ، ص ٤٠٥.

١٥٣

رواية الكليني : «واغضض بصرها بسترك ، واكففها بحجابك ، ولا تطمعها أن تشفع بغيرها ...». (١)

وروى الكليني بإسناده إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام فيما ذكر من حقوق المرأة على زوجها قال : «وإن جهلت غفر لها» وزاد : «كانت امرأة عند أبي (الإمام الباقر عليه‌السلام) تؤذيه فيغفر لها». (٢)

وفي وصيّة الإمام لابنه محمد ابن الحنفيّة ما يشبه وصيته لابنه الحسن ، وزاد : «فدارها على كلّ حال وأحسن الصحبة لها ليصفوا عيشك». (٣)

وأوصى الإمام الصادق عليه‌السلام يونس بن عمّار بالإحسان إلى زوجته ، فسأله : وما الإحسان؟ قال : «... واغفر ذنبها ...». (٤) وفي حديث : «داووا عيّهن بالسكوت». (٥) وفي لفظ آخر : «استروا العيّ بالسكوت». (٦)

وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما زال جبرائيل يوصيني بالمرأة ، حتّى ظننت أنّه لا ينبغي طلاقها إلّا من فاحشة مبيّنة». (٧)

وروى الصدوق بإسناده إلى الصادق عليه‌السلام قال : «رحم الله عبدا أحسن فيما بينه وبين زوجته ، فإنّ الله عزوجل قد ملّكه ناصيتها وجعله القيّم عليها». (٨) وجاء في الحديث السابق تفسير الإحسان بالغضّ عنها والستر عليها.

وقد فسّر القاضي ابن البرّاج القيمومة هنا بالقيام بحقوقها التي فرض الله لها على الزوج. قال : وقال تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ). (٩) يعني : أنّهم قوّامون بحقوق النساء التي لهنّ على الأزواج. (١٠)

__________________

(١) الكافى ، ج ٥ ، ص ٥١٠ ، رقم ٣ وصحّحناه على النهج.

(٢) المصدر : رقم ١.

(٣) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ٣٦٢ ، رقم ١٣ / ١٧٢٤ ، باب ١٧٨ (النوادر).

(٤) الكافي ، ج ٥ ، ص ٥١١ ، رقم ٤.

(٥) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ٢٥١ ، رقم ٤٨ عن أمالي الشيخ الطوسي ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

(٦) المصدر : ص ٢٥٢ ، رقم ٥٠ عن الأمالي للطوسي ، ج ٢ ، ص ٢٧٦.

(٧) المصدر : ص ٢٥٣ ، رقم ٥٨.

(٨) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ٢٨١ ، رقم ١٣٣٨.

(٩) النساء ٤ : ٣٤.

(١٠) المهذّب ، ج ٢ ، ص ٢٢٥.

١٥٤

وهذا هو معنى قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). (١) ويتأكّد بقوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). (٢) قال ابن البرّاج : يعني أنّ لكلّ واحد منهما ما عليه لصاحبه ، يجمع بينهما من حيث الوجوب. (٣)

وقد لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ضيّع حقوق امرأته ولم يراع جانبها. قال : «ملعون ملعون من يضيّع من يعول». (٤) وفي حديث آخر : «كفى بالمرء هلاكا أن يضيّع من يعول». (٥) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي». (٦)

وقال : «خيركم خيركم لنسائه ، وأنا خيركم لنسائي». (٧)

وأخرج الترمذي وصحّحه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص ، أنّه شهد حجّة الوداع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام وخطب ، وفيما قال في خطبته : «ألا واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنّما هنّ عوان عندكم ، ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة ، فإن فعلن فاهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ ضربا غير مبرّح». (٨)

قوله : «عوان عندكم» يعني : إنهنّ قد قضين عندكم عمرا وفقدن ريعان شبابهنّ عندكم.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خياركم خياركم لنسائهم». (٩) وقال : «ومن اتّخذ زوجة فليكرمها». (١٠)

وفي رواية أبي القاسم بن قولويه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من اشتدّ لنا حبّا اشتدّ للنساء حبّا». (١١)

__________________

(١) النساء ٤ : ١٩.

(٢) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٣) المهذّب ، ج ٢ ، ص ٢٢٥.

(٤) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ١٠٣ ، رقم ٤١٧.

(٥) دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري ، ج ٢ ، ص ١٩٣ ، رقم ٦٩٩.

(٦) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ٣٦٢ ، رقم ١٧٢١.

(٧) المصدر : ص ٢٨١ ، رقم ١٣٣٩ ؛ ووسائل الشيعة ، ج ٢٠ ، ص ١٦٧ ـ ١٧١ ، باب ٨٦ و ٨٧ و ٨٨ من أبواب مقدّمات النكاح.

(٨) الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٥٢٣.

(٩) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ٢٢٦ ، رقم ١٥ عن كتاب الأمالي للطوسي ، ج ٢ ، ص ٦.

(١٠) مستدرك الوسائل ، ج ١٤ ، ص ٢٥٠ ، رقم ٢ ، باب ٦٦ من أبواب مقدمات النكاح.

(١١) السرائر لابن إدريس ، ج ٣ ، ص ٦٣٦. وراجع : البحار ، ج ١٠٠ ، ص ٢٢٧ ، رقم ٢٠.

١٥٥

وفي كتاب النوادر للراوندي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اعطينا أهل البيت سبعة لم يعطهنّ أحد كان قبلنا ـ وعدّ منها ـ : والمحبّة للنساء».

وفيه أيضا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّما ازداد العبد إيمانا ازداد حبّا للنساء. (١)

والمراد بالحبّ في مثل هذه الأحاديث : الإشفاق والإرفاق والموادّة والتحفّظ على كرامة المرأة على مستواها الإنساني الرفيع ، وليس النظر إلى جانب الشهوة ، كلّا وحاشا.

وفي حديث الحولاء جاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تسأله عن حقّ الرجل على المرأة ، وعن حقّ المرأة على الرجل ـ إلى أن قالت : ـ فما للنساء على الرجال؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أخبرني أخي جبرائيل ، ولم يزل يوصيني بالنساء حتّى ظننت أن لا يحلّ لزوجها أن يقول لها : أفّ! يا محمّد ، اتّقوا الله عزوجل في النساء ، فإنّهنّ عوان بين أيديكم ، أخذتموهنّ على أمانات الله ـ إلى أن قال ـ فاشفقوا عليهنّ وطيّبوا قلوبهنّ حتّى يقفن معكم ، ولا تكرهوا النساء ولا تسخطوا بهنّ». (٢)

وروى الصدوق في كتابه «علل الشرائع» و «الأمالي» بالإسناد إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «فداروهنّ على كلّ حال ، وأحسنوا لهن المقال ، لعلّهنّ يحسنّ الفعال». (٣)

وعن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام : «من اتّخذ امرأة فليكرمها ، فإنّما امرأة أحدكم لعبة ، فمن اتّخذها فلا يضيّعها». (٤)

* * *

وبعد ، فإنّ المتحصّل من تلكم الأحاديث المتوفّرة أنّ للمرأة كرامتها الإنسانية الرفيعة ، وعلى المرء أن يحافظ على كرامتها ولا يشينها ولا يهينها ، ويحسن المعاشرة معها ، ويجعل نفسه ونفسها شريكين متوازيين في إدارة شئون الحياة العائلية ، بتوزيع

__________________

(١) نوادر الراوندي ، ص ١١٤.

(٢) مستدرك الوسائل ، ج ١٤ ، ص ٢٥٢ ، رقم ٢ ، باب ٦٨ من أبواب مقدّمات النكاح.

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ٢٢٣ ، رقم ١. عن علل الشرائع ، ص ٥١٣ ؛ والأمالي للصدوق ، ص ٢٠٦.

(٤) المصدر : ص ٢٢٤ ، رقم ٥.

١٥٦

المسئوليات توزيعا عادلا ، ولا يكرهها على شيء ، بل يستميل خاطرها ويستميح جانبها ، ويعاشرها برفق ومداراة ، فإنّها ريحانة وليست بقهرمانة. وإذا رأى منها زلّة غضّ بصره عنها ، وإذا أحسّ الشقاق واللجاج أحسن المداراة معها ليستميح خاطرها المرهف الرقيق. فلا يغلظ ولا يحتدّ معها ، فإنّهنّ عوان (خاضعات) لكم ، فاشفقوا عليهنّ وطيّبوا قلوبهنّ ، حتّى يقفن معكم ، ولا تكرهوهنّ ولا تسخطوا بهنّ ـ كما مرّ في الحديث النبوي ـ فداروهنّ على كلّ حال ، وأحسنوا لهنّ المقال ، لعلّهنّ يحسنّ الفعال ـ كما مرّ في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام. فمن اتّخذ زوجة فليكرمها ، فإنّما هي لعبة ، فمن اتّخذها فلا يضيّعها كما قال الإمام الصادق عليه‌السلام.

وأمّا الضرب ، فقد منع منه منعا باتّا ، إلّا إذا كان غير مبرّح ولا شائن ، والأولى أن يكون تأديبا عن طريق التضييق عليها في الإنفاق ، لا الضرب باليد ولا بالعصا.

والأولى من ذلك ترك الضرب البتة اقتداء بالنبيّ الأكرم والأئمة المعصومين عليهم صلوات المصلّين. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (١)

ومن ترك هذه الاسوة الحسنة لم يكن متّبعا لنبيّ الإسلام. (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ). (٢)

وخياركم خياركم لنسائهم ، والنبيّ خير الناس لنسائه. ألا ومن ضرب امرأته أو لطمها فهو أحقّ بالضرب واللطم ، ولم يكن من خيار الامّة ، ولعلّه من شرارهم ، والعياذ بالله.

ذلك أنّها إذا فعلت أمرا فلعلّها من جانب غلبة العاطفة عليها ، وهي جيّاشة. أمّا الرجل فلما ذا يسترسل قيادته لأحاسيس عابرة ، ولا يستسلم للعقل الرشيد ، فهو أولى بالضرب والتأديب. وعلى أي حال فهو ليس من خيار الامّة ، ممّن تربّوا على منهج التربية الإسلامية الرفيعة.

ونتيجة على ذلك : كانت الآية بظاهرها المطلق منسوخة نسخا تمهيديّا ، كان

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٢١.

(٢) آل عمران ٣ : ٣١.

١٥٧

الناسخ لها تلك التوصيات الأكيدة بشأن المرأة ، والأخذ بجانبها والحفاظ على كرامتها. وكذا المنع عن ضربها على أيّ نحو كان إلّا ما لا يعدّ ضربا ، وهو بالعطف والحنان أشبه منه إلى الإسلام. وهكذا عمل الرسول وكبراء الامّة ، ممّن امرنا باتّباعهم على كلّ حال.

إذن ، فالأخذ بظاهر إطلاق الآية أخذ بظاهر منسوخ ، ومخالفة صريحة لمنع الرسول وتوصياته البالغة ، وكذا الأئمة الطاهرين من بعده.

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ)(١)

لحجاب المرأة ـ في الإسلام ـ مكانة رفيعة ، تصونها عن الابتذال وتحفظ على كرامتها دون الانحطاط. إنّها محترمة احترام إنسان كريم لها عزّها وشرفها التليد وليس بطارف ، ولم يكن فرض الحجاب عليها إلّا صيانة لهذا الشرف وحفاظا على ذاك العزّ ، (٢) فلا تسترسل حيث ساقها أهل الاستهواء.

هذا فضلا عن أنّ الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف ، لا تهاج فيه الشهوات في كلّ لحظة ولا تستثار فيه دفعات البدن في كلّ حين. فعمليّات الاستثارة المستمرّة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة ، والحركة المثيرة ، والزينة المتبرّجة ، والجسم العاري ... كلّها لا تصنع شيئا إلّا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون ، وإلّا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. فإمّا الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيّد بقيد ، وإمّا الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب.

وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة ، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليما وبقوّته الطبيعية ، دون استثارة مصطنعة ، وإنّما تصريفه في موضعه المأمون النظيف.

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣١.

(٢) كما يبدو من أحاديث جواز النظر إلى شعور نساء أهل الذمّة لعدم حرمتهنّ. وسائل الشيعة ، ج ٢٠ ، ص ٢٠٥ ، باب ١١٢ من أبواب مقدّمات النكاح.

١٥٨

ففي الحديث عن الإمام الرضا عليه‌السلام فيما كتبه جوابا عن مسائل محمّد بن سنان : «وحرّم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وإلى غيرهنّ من النساء لما فيه من تهييج الرجال وما يدعو إليه التهييج من الفساد والدخول فيما لا يحلّ ولا يجمل ...». (١)

قال سيّد قطب : ولقد شاع : أنّ النظرة المباحة ، والحديث الطليق ، والاختلاط الميسور ، والدعابة المرحة بين الجنسين والاطّلاع على مواضع الفتنة المخبوءة ... شاع أنّ كلّ هذا تنفيس وترويح ، وإطلاق للرغبات الحبيسة ، ووقاية من الكبت ، ومن العقد النفسية ، وتخفيف من حدّة الضغط الجنسي ، وما وراءه من اندفاع غير مأمون ... إلخ.

شاع هذا على أثر انتشار بعض النظريّات الماديّة القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرّقه من الحيوان ، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين ... ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية ، رأيت بعيني في أشدّ البلاد إباحية وتفلّتا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية ، ما يكذبها وينقضها من الأساس.

نعم ، شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي بكلّ صوره وأشكاله أنّ هذا كلّه لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنّما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلّا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع. وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهومها أنّها لا تنشأ إلّا من الحرمان وإلّا من التلهّف على الجنس الآخر المحجوب. شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكلّ أنواعه ، ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيّده قيد ولا يقف عند حدّ ، وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كلّ شيء ، وللأجسام العارية في الطريق ، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة ، واللفتات الموقظة ... (٢) كلّ ذلك لما يدلّ بوضوح

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٢٠ ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤ ، رقم ١٢ ، باب ١٠٤ من أبواب مقدّمات النكاح.

(٢) راجع كتابه «أمريكا التي رأيت» وفيه التفصيل وعرض الحوادث والشواهد. وراجع أيضا كتاب (الإنسان بين الماديّة والإسلام» لمحمّد قطب ، فصل «المشكلة ـ الجنسية» فقد توسّع في هذا المجال.

١٥٩

على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريّات التي كذّبها الواقع المشهود. (١)

إنّ الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي ، لأنّ الله قد ناط به امتداد الحياة في هذه الأرض ، وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها. فهو ميل دائم يسكن فترة ثمّ يعود. وإثارته في كلّ حين تزيد من عرامته ، وتدفع به إلى الإفضاء المادّي للحصول على الراحة. فإذا لم يتمّ هذا انهارت الأعصاب المستثارة ، وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرّة! ... والنظرة تثير! والحركة تثير! والضحكة تثير! والدعابة تثير! والنبرة المعبّرة عن هذا الميل تثير! ... والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات ، بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية ، ثم يلبي تلبية طبيعية. وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام ، مع تهذيب الطبع ، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة ، غير تلبية دافع اللحم والدم ، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد.

وفي القرآن إشارة إلى نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين الرجل والمرأة : قال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ). (٢)

قال سيّد قطب : وغضّ البصر من جانب الرجال أدب نفسي ، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطّلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام. كما أنّ فيه إغلاقا للنافذة الاولى من نوافذ الفتنة والغواية ، ومحاولة عمليّة للحيلولة دون وصول السهم المسموم!

قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم ، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة». قال : «من تركها لله عزوجل لا لغيره أعقبه الله أمنا وإيمانا يجد طعمه». وقال : «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة ، وكفى بها لصاحبها فتنة». (٣)

وأمّا حفظ الفرج فهو الثمرة الطبيعية لغضّ البصر ، أو هو الخطوة التالية لتحكيم

__________________

(١) راجع : في ظلال القرآن ، تفسير سورة النور ، ج ١٨ ، ص ٩٣ ، المجلّد السادس.

(٢) النور ٢٤ : ٣٠.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٢٠ ، ص ١٩١ ـ ١٩٢ ، رقم ١ و ٥ و ٦ ، باب ١٠٤ من أبواب مقدّمات النكاح.

١٦٠