فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

أمّا الأوّل : فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها معصية (١٦٠٠) عند العقلاء ، فإنّهم لا يفرّقون بين الخطاب المعلوم تفصيلا أو إجمالا في حرمة مخالفته وفي عدّها معصية.

______________________________________________________

١٦٠٠. بل تدلّ عليه الأدلّة الأربعة. أمّا الكتاب فمثل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وقوله سبحانه : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) لأنّ العصيان كما يصدق مع مخالفة الخطاب التفصيلي ، كذلك مع مخالفة الخطاب المعلوم إجمالا. وهو واضح لمن تتّبع طريقة العرف. ومنه يظهر وجه دلالة ما دلّ على ذلك من السنّة.

وأمّا الإجماع فلعدم المخالف سوى ما حكاه المصنّف رحمه‌الله عن المحقّق الخونساري والقمّي رحمهما‌الله ، وهو حجّة عليهما ، لسبقه عليهما ، فلا تقدح مخالفتهما في المقام ، مضافا إلى عدم قدح خروج معلوم النسب. مع أنّ ما جوّزاه من جواز الرجوع إلى أصالة البراءة ينافي ما منعاه من عدم جواز خرق الإجماع المركّب ، لأنّ المستند فيه أيضا هو عدم جواز طرح قول الإمام عليه‌السلام المعلوم إجمالا ، بل هو من جزئيّات ما نحن فيه ، لأنّ مرجع الكلام فيه إلى جواز مخالفة قول الإمام عليه‌السلام المعلوم إجمالا وعدمه. وما نقله الشيخ في مسألة الإجماع المركّب عن بعضهم من جواز الرجوع إلى مقتضى الأصول لم تظهر مخالفته لما ذكرناه ، لاحتمال إرادة القائل صورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، لا الواجب وغير الحرام كما في ما نحن فيه. مضافا إلى جهالة القائل ، ولعلّه ممّن لا تقدح مخالفته في الإجماع.

فإن قلت : إنّ مستندهم في عدم جواز خرق الإجماع المركّب هو الإجماع ، وهو مفقود في المقام.

قلت : مع تسليم عدم الإجماع هنا إنّ الإجماع ليس دليلا تعبّديّا ، بل لأجل كشفه عن قول الإمام عليه‌السلام ، وهذا المناط موجود في ما نحن فيه ، فالتنافي بين القول بجواز الرجوع إلى أصالة البراءة هنا وعدم جواز خرق الإجماع المركّب واضح جليّ. نعم ، لا يرد هذا على قول صاحب الفصول بجواز الخرق مع فرض ثبوت

٤١

ويظهر من المحقّق الخوانساري دوران حرمة المخالفة مدار الإجماع وأنّ الحرمة في مثل الظهر والجمعة من جهته ، ويظهر من الفاضل القميّ رحمه‌الله الميل إليه ، والأقوى ما عرفت.

وأمّا الثاني (١٦٠١):

______________________________________________________

شطري إجماع المركّب بالأصل ، وعدم جوازه مع ثبوت أحدهما بدليل اجتهادي ، ولكن قد تبيّن فساده في محلّه.

وأمّا العقل فتقريبه واضح بعد صدق المعصية وقبحها عند العقل والعقلاء. فدعوى اشتراط تنجّز التكليف بالعلم التفصيلي واضحة الفساد ، فإذن الأقوى ما قوّاه المصنّف قدس‌سره.

١٦٠١. اعلم أنّ هنا أمرين ، وقبل الأخذ بالمطلوب لا بدّ من بيانهما ، أحدهما : أنّه يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله كون النزاع في المقام ـ في وجوب الاحتياط أو التخيير في الأخذ بأحد المشتبهين ـ صغرويّا ، وأنّ مرجعه إلى أنّ التكليف هل هو ثابت بالواقع من حيث هو حتّى يجب الاحتياط ، أو بعدم جواز ترك مجموع الأمرين ، حتّى يكون العقاب مرتّبا على تركهما معا ، لا على ترك أحدهما إن كان هو الواجب في الواقع ، فيثبت التخيير بينهما لا محالة؟ وعلى تقدير ثبوت أحد الأمرين لا نزاع في الخصم فيه ، وإنّما النزاع في إثباته ، وكلّ على شاكلته.

أقول : يمكن تقريره معنويّا أيضا ، بأن كان النزاع ـ على تقدير ثبوت التكليف بالواقع ـ في اقتناع الشارع في امتثال الواقع بالإطاعة الاحتماليّة ، لأدلّة البراءة بعد الفراغ عن عدم جواز المخالفة القطعيّة ، أو أنّه يجب الاحتياط استصحابا للشغل اليقيني بعد الإتيان بأحدهما ، وهو الظاهر من المحقّق الخونساري في ما يأتي من كلامه في عبارة المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ ظاهره هناك كفاية الإطاعة الظنّية وإن لم يكن الظنّ معتبرا بالخصوص مع ثبوت التكليف بالواقع.

وثانيهما : أنّ مقتضى الأصل على تقدير تقرير النزاع صغرويّا هو القول

٤٢

ففيه قولان ، أقواهما الوجوب ؛ لوجود المقتضي وعدم المانع. أمّا الأوّل ؛ فلأنّ (١٦٠٢).

______________________________________________________

بالتخيير ، لأنّ القدر المتيقّن من التكليف هو عدم العقاب إلّا على ترك مجموع الأمرين ، مع أنّ الأصل عدم اشتغال الذمّة بالواقع من حيث هو. وعلى تقريره معنويّا وجوب الاحتياط ، لقاعدة الاشتغال بعد عدم ثبوت كون أحد المشتبهين بدلا عن الواقع.

نعم ، المتعيّن على ما يظهر من المحقّق الخونساري من كفاية الإطاعة الظنّية هو جواز الاقتناع بالإطاعة الظنّية ، لفرض انقلاب أصالة حرمة العمل بالظنّ عنده ـ بل عند كلّ من عمل بالاصول من باب الظنّ على ما هو ظاهرهم ـ إلى أصالة جواز العمل به.

وبالجملة ، إنّه تلزم على الأوّل إقامة الدليل على وجوب الاحتياط ، وعلى الثاني إقامته على كفاية الإطاعة الاحتماليّة أو الظنّية ، وعلى الثالث إقامته على لزوم الإطاعة القطعيّة ، وهو واضح.

١٦٠٢. حاصله : كون ثبوت الخطاب العامّ مع عدم المانع من تنجّز مقتضاه ـ كما ستعرفه ـ علّة تامّة لاستقلال العقل بوجوب الاحتياط. ويؤيّده ـ بل يدلّ عليه ـ بناء العقلاء ، إذ لا ريب في كون طريقتهم في امتثال أوامر الموالي مرجعا في معرفة امتثال الأحكام الشرعيّة ، لكون كيفيّة امتثالها موكولة إلى طريقة العقلاء في إطاعة أوامرهم العرفيّة ، والاحتياط أيضا من جملة كيفيّته كما نبّهنا عليه غير مرّة.

وبالجملة ، إنّ العلم الإجمالي عندهم كالتفصيلي في تنجّز التكليف به. نعم ، بينهما فرق من جهة اخرى ، وهي أنّه يصحّ مع العلم الإجمالي أن يجعل الشارع أحد المشتبهين بدلا عن الواقع ، بأن يقنع في امتثال الواقع بالإطاعة الاحتماليّة التي هي المرتبة الوسطى بين الإطاعة القطعيّة والمخالفة القطعيّة ، فيكون الواقع حينئذ مراعى في الجملة لا مطروحا بالكلّية ولا ملحوظا بالجملة ، بخلاف العلم التفصيلي ، إذ لا مسرح لقضيّة البدليّة فيه أصلا ، لوضوح التناقض بين مطلوبيّة الواقع تعيينا كما

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

هو مقتضى العلم التفصيلي ، وجعل شيء آخر بدلا عنه مخيرا بينهما. نعم ، إثبات البدليّة في صورة العلم الإجمالي يحتاج إلى دليل. ومجرّد احتمالها لا يمنع من حكم العقل بوجوب الاحتياط ، فلا يرد حينئذ أنّه مع احتمال البدليّة كيف تدّعي استقلال العقل وبناء العقلاء على وجوب الاحتياط في المقام؟

وإن شئت زيادة توضيح لذلك نقول : إنّ ما ادّعاه الخصم من جواز التخيير في الأخذ بأحد المشتبهين ، إمّا أن يكون مبنيّا على منع المقتضي لوجوب الاحتياط ، أو على إبداء المانع منه.

أمّا الأوّل فبأن يدّعى كون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة ، أو منصرفة إليها مطلقا ، أو في حيّز الأوامر والنواهي ، مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). وعلى جميع التقادير ينحصر المأمور به والمنهيّ عنه في الأفعال المعلومة ، فلا يكون الجاهل مكلّفا بالواقع حتّى يجب الاحتياط.

وأمّا الثاني فبأن يمنع ـ بعد تسليم وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة من دون مدخليّة للعلم والجهل فيه ، وتسليم عدم الانصراف مطلقا ـ من تنجّز التكليف مع الجهل بالمكلّف به ، إمّا عقلا ، وذلك أيضا إمّا لأجل عدم تمكّن المكلّف من امتثال الواقع مع الجهل به ، وإمّا لقبح توجيه الخطاب إلى الجاهل ، وإمّا لكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الواجب والحرام ، لفرض عدم وجوب أحد المشتبهين في الواقع ، فيكون الإتيان تشريعا محرّما ، وإمّا لفقد شرط من شروط المأمور به ، وهو الجزم بالنّية في العبادة ، ولذا أوجب الحلّي الصلاة عريانا لمن اشتبه ثوبه الطاهر بالنجس ، أو شرعا لأدلّة البراءة.

ويردّ على الأوّل امور :

أحدها : لزوم تقييد جميع إطلاقات الكتاب والسنّة بالعالمين ، وهو خلاف الأصل.

الثاني : لزوم التصويب الباطل ، لاختلاف الأحكام حينئذ باختلاف آراء المجتهدين واعتقاداتهم ، لعدم وجود حكم واقعي حينئذ ولو شأنا في حقّ الجاهل مع تقيّد

٤٤

وجوب الأمر المردّد ثابت في الواقع ، والأمر به على وجه يعمّ العالم والجاهل صادر عن الشارع واصل إلى من علم به تفصيلا ؛ إذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها وإلّا لزم الدور كما ذكره العلّامة رحمه‌الله في التحرير ، لأنّ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فكيف يتوقّف الوجوب عليه؟ وأمّا المانع ؛ فلأنّ المتصوّر منه ليس إلّا الجهل التفصيلي بالواجب ، وهو غير مانع عقلا ولا نقلا.

أمّا العقل ؛ فلأنّ حكمه بالعذر إن كان من جهة عجز الجاهل عن الإتيان

______________________________________________________

موضوعه بالعلم.

الثالث : لزوم الدور ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله عن الفاضل.

الرابع : لزوم جواز المخالفة القطعيّة ، لفرض عدم وجود حكم واقعي في حقّ الجاهل ، والمفروض الفراغ من بطلانه ، فلا وجه للقول بالتخيير حينئذ كما هو محلّ الكلام.

ويرد على الثاني ، أمّا على دعوى عدم التمكّن من الامتثال فإنّها ممّا يكذّبه إمكان الاحتياط ، بل حسنه عقلا وشرعا ، كيف لا ولو صرّح الشارع بأنّي إذا أمرتكم بشيء واشتبه عليكم هذا الشيء وتردّد بين أمرين أوجبت عليكم أن تحصّلوا مرادي ولو بالاحتياط ، لا تلزم عليه غائلة أصلا. مضافا إلى ما نقله المصنّف رحمه‌الله من اعتراف الخصم بجواز تكليف الجاهل في الجملة. وأمّا على دعوى قبح الخطاب ، فإنّها أضعف من سابقها ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله.

وأمّا على دعوى دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، فلعدم تأتّي احتمال التشريع مع إتيان الفعل بعنوان الاحتياط إلّا على الوجه الذي سيشير المصنّف رحمه‌الله إليه وإلى دفعه.

وأمّا على دعوى عدم تحقّق الجزم بالنيّة ، فلمنع وجوبه فيما لا يتمكّن المكلّف من معرفة المكلّف به تعيينا. مضافا إلى إمكانه في المقام بقصد الوجوب الظاهري بكلّ من المشتبهين ، لكن يشير المصنّف رحمه‌الله إلى ضعف هذا الوجه. وسيجيء تحقيق ما يتعلّق بالمقام. وأمّا عدم المنع شرعا فلما أوضحه المصنّف رحمه‌الله كما لا يخفى.

٤٥

بالواقع ـ حتّى يرجع الجهل إلى فقد شرط (١٦٠٣) من شروط وجود المأمور به ـ فلا استقلال للعقل بذلك ، كما يشهد به جواز التكليف بالمجمل في الجملة (١٦٠٤) ، كما اعترف به غير واحد ممّن قال بالبراءة فيما نحن فيه ، كما سيأتي.

وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجّه (*) التكليف إليه فهو أشدّ منعا ؛ وإلّا لجاز إهمال المعلوم إجمالا رأسا بالمخالفة القطعيّة ؛ فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة. ولقبح (١٦٠٥) عقاب الجاهل المقصّر على ترك الواجبات الواقعيّة (١٦٠٦) وفعل المحرّمات ، كما هو المشهور.

ودعوى أنّ مرادهم (١٦٠٧) تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل والإتيان بالواقع ، نظير تكليف الجنب بالصلاة حال الجنابة ، لا التكليف بإتيانه مع وصف الجهل ؛ فلا تنافي بين كون الجهل مانعا (١٦٠٨) وبين التكليف في حاله (١٦٠٩) ، وإنّما الكلام في تكليف الجاهل مع وصف الجهل ؛ لأنّ المفروض فيما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم. مدفوعة برجوعها حينئذ إلى ما تقدّم من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به نظير الجنابة ، وقد تقدّم بطلانها (١٦١٠).

______________________________________________________

١٦٠٣. بأن كان عدم الجهل من شرائط وجود المأمور به ، كما سيصرّح به.

١٦٠٤. بأن لم يكن الخطاب مجملا من رأس.

١٦٠٥. على صيغة الماضي عطفا على قوله «لجاز».

١٦٠٦. بل في اصول العقائد أيضا.

١٦٠٧. أي : مراد المشهور بتكليف الجاهل وعدم قبح عقابه.

١٦٠٨. كما فيما نحن فيه. وعدم الأمر بإزالة الجهل فيما نحن فيه إنّما هو لعدم إمكانه كما هو الفرض.

١٦٠٩. كما في الجاهل المقصّر.

١٦١٠. من عدم استقلال العقل بالعذر حينئذ.

__________________

(*) في بعض النسخ : لتوجيه.

٤٦

وأمّا النقل ، فليس فيه ما يدلّ على العذر ؛ لأنّ أدلّة البراءة غير جارية في المقام ؛ لاستلزام إجرائها (١٦١١) جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام بعد فرض حرمتها ، بل في بعض الأخبار ما يدلّ على وجوب الاحتياط ، مثل صحيحة عبد الرحمن (١٦١٢) المتقدّمة في جزاء الصيد : «إذا أصبتم مثل هذا ولم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» وغيرها.

______________________________________________________

١٦١١. قد أوضحه في الشبهة المحصورة. وسيشير إليه أيضا في الجواب عمّا أورده على نفسه.

١٦١٢. تقريب الاستدلال بها : أنّ موردها وإن كان مباينا لمحلّ النزاع ، لأنّ ما نحن فيه من قبيل المتباينين ، وموردها من قبيل الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، بناء على ما هو ظاهر الفقهاء من كون الكفّارات من قبيل الديون في كون كلّ مقدار مجزيا عن التكليف المتعلّق به ، إلّا أنّه يمكن إثبات المطلوب بها من وجوه :

أحدها : الإجماع المركّب ، إذ لا مفصّل بين المتباينين والأقلّ والأكثر ، لأنّ كلّ من قال بوجوب الاحتياط في الثاني قال به في الأوّل أيضا.

وثانيها : طريق الأولويّة ، وهو واضح.

وثالثها : أنّ قوله عليه‌السلام : «بمثل هذا» يعطي وجوب الاحتياط في جميع موارد العلم الإجمالي كما هو قضيّة المماثلة.

هذا ويرد على الأوّلين : أنّ الإجماع والأولويّة إنّما يتمّان لو قلنا بوجوب الاحتياط في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، وهو خلاف مختار المصنّف رحمه‌الله ، كما تقدّم في أقسام الشكّ في التكليف. وعلى الثالث : مع تسليم كون المراد بالمماثلة هي المماثلة في مطلق العلم الإجمالي ، وقد تقدّم الكلام فيه عند الكلام على أدلّة الاحتياط في الشبهة البدويّة التحريميّة ، أنّ المفروض في مورد الرواية تمكّن المكلّف من تحصيل العلم التفصيلي بالتكليف ، ولا إشكال في وجوب الاحتياط في مثله ، ولو مع كون الشبهة فيه بدويّة فضلا عن غيرها ، فكيف يتسرّى الحكم إلى موارد

٤٧

فإن قلت : إنّ تجويز (١٦١٣) الشارع لترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر يكشف عن عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الإطاعة (*) ، كما أنّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليل على كون العلم التفصيلي علّة تامّة لوجوب الإطاعة ، وحينئذ فلا ملازمة بين العلم الإجمالي ووجوب الإطاعة ، فيحتاج إثبات الوجوب إلى دليل آخر غير العلم الإجمالي ، وحيث كان مفقودا فأصل البراءة يقتضي عدم وجوب الجمع وقبح العقاب على تركه ؛ لعدم البيان. نعم ، لما

______________________________________________________

عدم التمكّن كما هو الفرض؟

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على المختار أيضا باستصحاب الشغل ، وعدم الخروج من عهدة التكليف بالإتيان بأحد المشتبهين. وسيأتي الكلام فيه عند شرح ما يتعلّق بكلام المصنّف رحمه‌الله. وكذا بالإجماع على الاشتراك في التكليف ، إذ لا ريب في كون المشافهين مكلّفين في مثال الظهر والجمعة مثلا بخصوص إحداها ، ولا يحصل العلم للغائبين بالخروج من عهدة هذا التكليف ـ الذي طرأ عليه الاشتباه في الأزمنة المتأخّرة ـ إلّا بالاحتياط. وفيه : أنّ الاشتراك في التكليف إنّما هو مع العلم باتّحاد الصنف ، ولعلّ العلم التفصيلي بالمكلّف به له مدخل في اتّحاد صنف الحاضر والغائب ، والفرض فقده في محلّ الفرض.

١٦١٣. هذا أحد الوجوه التي يمكن أن يستدلّ بها على القول بالتخيير. وثانيها : أصالة البراءة ، كما سيشير إليه ، وسيأتي الكلام في تقريبها وتزييفها. وثالثها : استلزام القول بوجوب الاحتياط للتشريع المحرّم ، وسيشير إليه أيضا.

والمراد بتجويز الشارع تجويزه في بعض الموارد الخاصّة التي ثبت فيها التخيير عقلا ، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، أو شرعا كما في موارد تعارض النصّين ، إذ لا ريب في شمول الأخبار الواردة في تعارضهما لصورة العلم الإجمالي أيضا.

وحاصل هذا السؤال أنّ العلم الإجمالي لو كان علّة تامّة لتنجّز التكليف

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : حينئذ.

٤٨

كان ترك الكلّ معصية عند العقلاء حكم بحرمتها (١٦١٤) ، ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة.

قلت : العلم الإجمالي كالتفصيلي علّة تامّة لتنجّز التكليف بالمعلوم ، إلّا أنّ المعلوم إجمالا يصلح لأن يجعل أحد محتمليه بدلا عنه في الظاهر ، فكلّ مورد حكم الشارع بكفاية أحد المحتملين للواقع ـ إمّا تعيينا كحكمه بالأخذ بالاحتمال المطابق للحالة السابقة ، وإمّا تخييرا كما في موارد التخيير بين الاحتمالين ـ فهو من باب الاكتفاء (١٦١٥) عن الواقع بذلك المحتمل ، لا الترخيص لترك الواقع بلا بدل في الجملة ؛ فإنّ الواقع إذا علم به وعلم إرادة المولى بشيء وصدور الخطاب عنه إلى العبيد وإن لم يصل إليهم ، لم يكن بدّ عن موافقته إمّا حقيقة بالاحتياط وإمّا حكما بفعل ما جعله الشارع بدلا عنه ، وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في الشبهة المحصورة.

وممّا ذكرنا يظهر (١٦١٦) عدم جواز التمسّك في المقام بأدلّة البراءة ، مثل رواية

______________________________________________________

بالواقع ، كما هو مقتضى فرض وجود المقتضي لوجوب الاحتياط وعدم المانع منه عقلا وشرعا ، لم يقع خلافه في الشرع ، إذ الوقوع دليل إمّا على عدم المقتضي أو على وجود المانع.

١٦١٤. أي : تحريم ترك الكلّ. وتأنيث الضمير باعتبار التأويل بالمخالفة القطعيّة.

١٦١٥. الفرق بين جعل أحد المشتبهين بدلا عن الواقع ، واقتناع الشارع في مقام الامتثال بالإتيان بنفس الواقع أو بدله ، وبين الرخصة في مخالفة الواقع في الجملة لأجل مصلحة في المقامين ، واضح. وصريح المصنّف رحمه‌الله تعيّن حمل ما دلّ على التخيير في بعض موارد العلم الإجمالي على الأوّل. وهو مبنيّ على قبح الرخصة المذكورة مع العلم إجمالا بمطلوبيّة الواقع تعيينا ، بخلاف جعل البدل للواقع ، لأنّه ليس رخصة في المخالفة ، بل مرجعه إلى مطلوبيّة الواقع أو ما يقوم مقامه.

١٦١٦. هذا بناء على الاستناد في أصالة البراءة إلى الأخبار. وأمّا بناء على الاستناد فيها إلى العقل فقد يقال في تقريبها : إنّه إذا حصل العلم بالوجوب وشكّ

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

في الواجب كما في محلّ الفرض ، فالعقاب المرتّب على مخالفة التكليف الثابت هنا في الجملة لا يخلو : إمّا أن يكون مرتّبا على مخالفة كلّ من المشتبهين صادف الواقع أم لا ، أو على الأمر الدائر بينهما ، أو على مخالفة الواقع المتعيّن عند الشارع المجهول عندنا.

والأوّل لا يقول به القائل بوجوب الاحتياط أيضا ، لأنّه إنّما يقول ـ على تقدير ترك الاحتياط ـ بترتّب العقاب عليه على تقدير مصادفة المتروك للواقع ، لوضوح عدم مطلوبيّة الاحتياط إلّا لأجل التوصّل به إلى الواقع ، فالعقاب عند القائل بوجوب الاحتياط إنّما هو على ترك الواقع دونه. وقد حقّق المصنّف رحمه‌الله ذلك في مسائل الشكّ في التكليف.

والثاني ليس عنوانا يتعلّق به التكليف ويعاقب على مخالفته. والثالث قبيح عقلا ، إذ لا أثر للعلم الإجمالي هنا ، لأنّه إنّما يؤثّر مع العلم بعنوان التكليف ووقوع الشبهة في بعض مصاديقه المردّد بين الأمرين كما في الشبهة المحصورة ، وإلّا فالعقاب على مخالفة الواقع فيما نحن فيه مستلزم للعقاب على التكليف المجهول ، وهو قبيح عقلا. فالقدر المسلّم من التكليف المرتّب على مخالفته العقاب هنا هو عدم جواز ترك مجموع الأمرين ، لا كلّ واحد منهما.

وتوهّم عدم وجود القائل بالبراءة هنا سوى ما حكاه المصنّف رحمه‌الله عن المحقّق الخوانساري والقمّي رحمه‌الله ضعيف جدّا ، لأنّا لم نجد مصرّحا بوجوب الاحتياط هنا فضلا عن أن يكون مشهورا بين الأصحاب ، بل ظاهر إطلاقهم القول بالبراءة في غير موضع هو القول بالبراءة هنا أيضا. فلاحظ كلام السيّد في مبحث حجيّة أخبار الآحاد حيث أورد على نفسه قائلا ـ على ما حكاه عنه في المعالم ـ : إذا سددتم طريق العمل بالأخبار فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟ وأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة من مذاهب أئمّتنا فيه بالأخبار المتواترة ، وما لم يتحقّق ذلك فيه ـ ولعلّه الأقلّ ـ يعوّل فيه على إجماع الإماميّة. ثمّ ذكر كلاما

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

طويلا في حكم ما وقع فيه الخلاف بينهم ، وحاصله : أنّه إن أمكن تحصيل العلم بأحد الأقوال من طرق ما ذكرناه تعيّن العمل به ، وإلّا كنّا مخيّرين بين الأقوال المختلفة ، لفقد دليل التعيين.

ويقرب منه كلام الشيخ في مبحث اختلاف الأمّة على القولين فصاعدا ، حيث نقل فيه قولا بطرح القولين والرجوع إلى مقتضى الأصل ، واختار هو القول بالتخيير ، لأنّه أيضا يشمل ما نحن فيه. ولعلّ المتتبّع يجد غير ما ذكرناه أيضا ، بل ما ورد من الأخبار الدالّة على التخيير فيما تعارض فيه نصّان يشمل المقام أيضا.

وهذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام. وهو بعد ما يخلو من نظر بل منع ، لأنّا نقول بترتّب العقاب على مخالفة الواقع المعيّن عند الله المجهول عندنا ، ولا قبح فيه أصلا بعد استقلال العقل بعدم الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في صحّة تنجّز التكليف بكلّ منهما ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله في المقصد الأوّل من مقاصد الكتاب. ودعوى الفرق بين الشبهة المحصورة وما نحن فيه ممّا لا يصغى إليه ، إذ مجرّد العلم بعنوان الحكم في الاولى لا يوجب الفرق بعد العلم بوجوب أحد الأمرين فيما نحن فيه أيضا ، بحيث يقطع بعدم رضا الشارع بمخالفته أصلا ، كيف لا والمناط في حكم العقل بوجوب الاحتياط في الاولى ليس إلّا تحصيل العلم بامتثال المراد الواقعي للشارع مع العلم بنوع التكليف ، وهو حاصل فيما نحن فيه أيضا. ومجرّد العلم بعنوان الحكم في الاولى لا يصلح فارقا عند العقل.

وأمّا ما تقدّم من استفادة القول بالتخيير من إطلاق كلام السيّد والشيخ ، ففيه : أنّ هذه العناوين المستحدثة في كتب أواخر أصحابنا مطويّة في كتب المتقدّمين عليهم ، ولعلّهم غير ملتفتين إلى هذه العناوين وإلّا تعرضوا لها في كتبهم أيضا. ولعل السيّد والشيخ بعد عرض عنوان هذه المسألة ومضاهيها عليهما لا ينكران القول بوجوب الاحتياط فيهما ، لما ركز في العقول من اعتبار العلم الإجمالي كالتفصيلي. وبالجملة ، إنّ التمسّك بذيل مثل هذا الإطلاق غير مجد في

٥١

الحجب والتوسعة ونحوهما ؛ لأنّ العمل بها (١٦١٧) في كلّ من الموردين بخصوصه يوجب

______________________________________________________

المقام ، لعدم الاطمئنان به كما لا يخفى. وأمّا إطلاق أخبار التخيير فيما تعارض فيه نصّان ، ففيه : أنّا لا نمنع من القول بالتخيير فيما ثبت بالدليل ، وإنّما الكلام فيما خلا منه ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في الجواب عمّا أورده على نفسه. هذا كلّه مع أنّ مقتضى منع ترتّب العقاب على ترك كلّ واحد من المشتبهين ، ولا على العنوان المردّد ، ولا على نفس الواقع هو جواز المخالفة القطعيّة ، والفرض في المقام الفراغ من بطلانه ، ولا معنى حينئذ لترتّب العقاب على ترك مجموع الأمرين ، لعدم خلوّه من أحد الامور المذكورة عند التأمّل.

١٦١٧. حاصله : أنّ هنا ثلاثة أفراد تشمل الأخبار المذكورة واحدا منها بمفهومها وفردين بمنطوقهما. الأوّل هو الفرد المعلوم إجمالا ، والآخران الأمران اللذان اشتبه الواجب بينهما. ففي مثل الظهر والجمعة قد علمنا بوجوب واحدة منهما في نفس الأمر ، ومقتضى قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» و «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» هو عدم وضع هذا الفرد عنّا ، وكوننا مأخوذين به وملزمين عليه ، وعدم التوسعة علينا فيه. ومقتضى منطوقهما كون وجوب خصوص الظهر والجمعة موضوعا عنّا ، ونحن في سعة منه ، وهما غير واجبتين علينا. لكن دلالة المفهوم على عدم كون الفرد المعلوم وجوبه إجمالا موضوعا عنّا دليل علمي ، بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة على وجوب الإتيان بكلّ من الخصوصيّتين. فالعلم بوجوب كلّ واحدة منهما لنفسه وإن كان محجوبا عنّا ، إلّا أنّ العلم بوجوب كلّ واحدة من باب المقدّمة ليس محجوبا عنّا ، ولا منافاة بينهما ، كما لا منافاة بين عدم الوجوب النفسي واقعا والوجوب الغيري كذلك في سائر المقامات. وممّا ذكرناه قد تبيّن أنّ أخبار البراءة في المقام حجّة لنا لا علينا.

هذا غاية توضيح كلامه. وهو بعد لا يخلو من نظر ، لأنّ استفادة فرد ثالث

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من هذه الأخبار لا يخلو من منع ، لأنّ غاية ما يستفاد من قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» كون العلم بالحكم الواقعي غاية للحكم بالإباحة الظاهريّة لمجهول الحكم ، فما يفيده الخبر بمفهومه هو بيان غاية الحكم المذكور فيه ، بمعنى نفيه عن الموضوع المذكور في منطوقه عند زوال وصف الجهالة عنه ، كما هو ضابط أخذ المفهوم المخالف. فالفرد المنفي عنه الحكم في طرف المفهوم هو عين الفرد الذي ترتّب عليه الحكم في طرف المنطوق ، غاية الأمر أن يكون ترتّب حكم المنطوق عليه عند وصف الجهالة ، وحكم المفهوم عند زوالها ، فالموضوع واحد وإن اختلف حكمه بحسب اختلاف حالاته.

وإن شئت تطبيقه على مثال الظهر والجمعة نقول : إنّهما غير واجبتين مع ملاحظة كون كلّ واحدة منهما مجهولة الحكم بالخصوص إلى أن يحصل العلم بوجوب إحداهما المعيّنة في الواقع ، وبعد العلم به يرتفع عنهما الحكم الظاهري الثابت لهما بوصف الجهل. فليست هنا أفراد ثلاثة حتّى يكون أحدهما موردا لحكم المفهوم ، والآخران لحكم المنطوق ، كيف لا والمعلوم الإجمالي لا يخرج من المشتبهين ، لأنّه أحدهما في الواقع. هكذا قرّر المقام بعض مشايخنا.

وفيه نظر ، لمنع كون مقصود المصنّف رحمه‌الله إثبات وجود فرد ثالث مغاير للمشتبهين بالذات يكون موردا لحكم المفهوم ، لوضوح أنّ مقصوده دعوى كون العلم المأخوذ غاية للحكم المذكور في هذه الأخبار أعمّ من التفصيلي والإجمالي ، ومقتضاه وقوع التعارض بين المنطوق والمفهوم ، لأنّ مقتضى الأوّل إباحة كلّ من المشتبهين إذا لوحظ بنفسه ، ومقتضى الثاني وجوب كلّ منهما من باب المقدّمة العلميّة لامتثال الواجب المعلوم إجمالا ، بل لا منافاة بينهما في الحقيقة ، لعدم تنافي إباحة الشيء من حيث كونه مجهول الحكم ووجوبه من باب المقدّمة العلميّة ، فليس في كلامه من حكاية تثليث الأفراد عين ولا أثر. ومع التسليم فلا بدّ أن يكون مراده فرض المشتبهين بوصف اشتباههما فردين ، والواحد المعيّن في الواقع

٥٣

طرحها بالنسبة إلى أحدهما المعيّن عند الله المعلوم وجوبه ؛ فإنّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو من القصر والإتمام ممّا لم يحجب الله علمه عنّا فليس موضوعا عنّا ولسنا في سعة منه ، فلا بدّ إمّا من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في مثل المقام ممّا علم وجوب شىء إجمالا ، وإمّا من الحكم بأنّ شمولها للواحد المعيّن المعلوم وجوبه ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد وكونه محمولا عليهم ومأخوذين به وملزمين عليه ، دليل علمي ـ بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة ـ على وجوب الإتيان بكلّ من الخصوصيّتين ، فالعلم بوجوب كلّ منهما لنفسه وإن كان محجوبا عنّا ، إلّا أنّ العلم بوجوبه من باب المقدّمة ليس محجوبا عنّا ، ولا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة ، كما لا تنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك.

واعلم : أنّ المحقّق القميّ رحمه‌الله بعد ما حكى عن المحقّق الخوانساري الميل إلى وجوب الاحتياط في مثل الظهر والجمعة والقصر والإتمام ، قال : إنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ؛ فإنّ التكليف بالمجمل المحتمل لأفراد متعدّدة ـ بإرادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ـ مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتّفق أهل العدل على استحالته ، وكلّ ما يدّعى كونه من هذا القبيل فيمكن منعه ؛ إذ غاية ما يسلّم في القصر والإتمام والظهر والجمعة وأمثالها أنّ الإجماع وقع على أنّ من ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحقّ العقاب ، لا أنّ من ترك أحدهما المعيّن عند الشارع المبهم عندنا بأن ترك فعلهما مجتمعين ، يستحقّ العقاب.

______________________________________________________

باعتبار كونه معلوما بالإجمال فردا ثالثا ، فيكون اختلافها بالاعتبار لا بالذات ، وهذا الاختلاف الاعتباري لا يضرّ في اشتراط اتّحاد موضوع حكم المنطوق والمفهوم كما لا يخفى.

نعم ، ربّما أورد على المصنّف رحمه‌الله أنّ ظاهر قوله : «ولا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ، ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة» إلى آخر ما ذكره كون الشيء المجهول الحكم مباحا بالذات وواجبا من باب المقدّمة العلميّة في محلّ الفرض ،

٥٤

ونظير ذلك مطلق (١٦١٨) التكليف بالأحكام الشرعيّة ، سيّما في أمثال زماننا على مذهب أهل الحقّ من التخطئة ، فإنّ التحقيق أنّ الذي ثبت علينا بالدليل هو تحصيل ما يمكننا تحصيله من الأدلّة الظنّية ، لا تحصيل الحكم النفس الأمري في كلّ واقعة ؛ ولذا لم نقل بوجوب الاحتياط وترك العمل بالظنّ الاجتهادي من أوّل الأمر.

نعم ، لو فرض حصول الإجماع أو ورود النصّ على وجوب شىء معيّن عند الله تعالى

______________________________________________________

ومقتضاه فرض وجود شأني للحكم الظاهري كالواقعي ، وليس كذلك ، لكون وجودات الأحكام الظاهريّة في الواقع تابعة لوجوداتها الفعليّة ، بمعنى عدم وجود لها في الواقع إلّا في مقام في فعليّتها وتنجّزها.

وأنت خبير بأنّه يمكن أن يريد بعدم منافاة وجود الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه مقدّمة عدم وجوبه لو لم يكن مقدّمة لواجب ، لا اجتماع الإباحة الظاهريّة والوجوب الظاهري في مورد ، فتدبّر. ويمكن القول بجواز اجتماعهما في المقام ، بناء على القول بكون الأحكام الظاهريّة مجعولة ، لتغاير موضوع الإباحة والوجوب في مورد اجتماعهما كما لا يخفى.

١٦١٨. حاصله : أنّ قبح التكليف المجهول من دون بيان كما ألجأنا إلى عدم تسليم ثبوت التكليف بنفس الأمر فيما نحن فيه ، كذلك السبب والباعث لاكتفائنا بالظنّ في امتثال مطلق الأحكام ، وعدم تسليمنا لثبوت التكليف بنفس الواقع على ما هو عليه ، المقتضي لوجوب تحصيل القطع بالواقع في مقام الامتثال ، هو ذلك ، سيّما في أمثال زماننا الذي كثر فيه الاشتباه في الأحكام الواقعيّة ومتعلّقاتها. وهذا على المذهب الحقّ لأهل الحقّ من التخطئة ، إمّا لعدم تأتّي القول بقبح الخطاب بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة في الأحكام الواقعيّة على القول بالتصويب كما هو واضح ، وإمّا لأنّ أهل التصويب كلّهم أو جلّهم من الأشاعرة النافين لإدراك العقل حسن الأشياء وقبحها ، ولا وجه للاستناد إلى قبح الخطاب بالمجمل على مذهبهم في نفي تعلّق التكليف بالواقع على ما هو عليه ، فلا يرد حينئذ

٥٥

مردّد عندنا بين امور من دون اشتراطه بالعلم به ـ المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد التعيين في الطاعة ـ لتمّ ذلك ، ولكن لا يحسن حينئذ قوله ـ يعني المحقّق الخوانساري ـ : فلا يبعد حينئذ القول بوجوب الاحتياط ، بل لا بدّ من القول باليقين والجزم بالوجوب. ولكن ، من أين هذا الفرض؟ وأنّى يمكن إثباته؟ (١) انتهى كلامه ، رفع مقامه.

وما ذكره قدّس الله سرّه قد وافق فيه بعض كلمات ذلك المحقّق التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالأحجار ، حيث قال بعد كلام له : والحاصل : إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شىء معيّن معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة معلومة عندنا ، فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشيء المعلوم حتّى يتحقّق الامتثال.

إلى أن قال : وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شىء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين أمور ، ويعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشىء من العلم بذلك الشيء مثلا ، أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ويعلم ايضا عدم اشتراطه بالعلم ، وجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّد فيها في نظرنا وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الأشياء. ولا يكفي الإتيان بواحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شىء واحد من الأشياء في ارتفاع الحكم المعيّن. إلى أن قال : وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل ورد نصّ مثلا على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونصّ آخر على أنّ هذا الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض الامّة إلى وجوب شىء ، وبعض آخر إلى وجوب شىء آخر دونه ، وظهر بالنصّ والإجماع في الصورتين أنّ ترك ذينك الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما حتّى يتحقّق الامتثال ، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر أو تباينا بالكلّية. وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة (٢) ، انتهى كلامه ، رفع مقامه.

______________________________________________________

استدراك قوله : «على مذهب أهل الحقّ ...» ، بتقريب أن يقال : إنّه لا دخل للقول بالتخطئة والتصويب في نفي تعلّق التكليف بالواقع على ما هو عليه وعدمه ، ولا يترتّب على ذلك أثر بالنسبة إلى قبح تأخير البيان ، بل المناسب لنفي التكليف

٥٦

وأنت خبير بما في هذه الكلمات من النظر. أمّا ما ذكره الفاضل القميّ رحمه‌الله من حديث التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا دخل له في المقام ؛ إذ لا إجمال في الخطاب (١٦١٩) أصلا ، وإنّما طرأ الاشتباه في المكلّف به من جهة تردّد ذلك الخطاب المبيّن بين أمرين ، وإزالة هذا التردّد العارض من جهة أسباب اختفاء الأحكام غير واجبة على الحكيم تعالى حتّى يقبح تأخيره عن وقت الحاجة ، بل يجب عند هذا الاختفاء الرجوع إلى ما قرّره الشارع كلّية في الوقائع المختفية ، وإلّا فما يقتضيه العقل من البراءة والاحتياط.

ونحن ندّعي أنّ العقل حاكم ـ بعد العلم بالوجوب والشكّ في الواجب ، وعدم الدليل من الشارع على الأخذ بأحد الاحتمالين المعيّن أو المخيّر والاكتفاء به

______________________________________________________

بالواقع وكفاية الظنّ في مقام الامتثال هو القول بالتخطئة ، لابتنائه على نفي الأحكام الواقعيّة ، وكون ما ظنّه المجتهد هو حكم الله الواقعي.

هذا غاية توضيح المقام. وهو بعد لا يخلو من نظر ، لأنّ اختلاف القائلين بالتخطئة والتصويب إنّما هو في الموارد الخالية من النصّ ، لاتّفاق الفريقين على القول بالتخطئة في موارده ، فإطلاق القول بها أو بالتصويب أجنبيّ عن قضيّة تعلّق التكليف بالواقع ، وقاعدة قبح تأخير البيان ، بل على مذهبنا قد ورد النصّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام في جميع الوقائع حتّى أرش الخدش ، كما ورد في أخبارنا التي ادّعي تواترها.

١٦١٩. يعني : بالنسبة إلى المشافهين بهذا الخطاب ، إذ الإجمال إنّما طرأ بالنسبة إلينا لأجل بعض الامور الخارجة ، ولا يجب على الإمام عليه‌السلام إزالة هذا الإجمال ، إذ اللازم حينئذ هو الرجوع إلى القواعد المقرّرة من جهتهم في موارد الشبهة ، ومع فقدها إلى الأصول. والحاصل : أنّ القبيح هو الخطاب بما كان مجملا بالذات ، لا بما طرأ عليه الإجمال بعد الخطاب وفهم المراد منه بالنسبة إلى من شارك من خوطب به في مؤدّاه.

٥٧

من الواقع ـ بوجوب الاحتياط حذرا من ترك الواجب الواقعي ، وأين ذلك من مسألة التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة؟ مع أنّ التكليف بالمجمل (١٦٢٠) وتأخير البيان عن وقت العمل لا دليل على قبحه إذا تمكّن المكلّف من الإطاعة ولو بالاحتياط.

وأمّا ما ذكره تبعا للمحقّق المذكور : من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليل على وجوب شىء معيّن في الواقع غير مشروط بالعلم به. ففيه : أنّه إذا كان (١٦٢١) التكليف بالشيء قابلا لأن يقع مشروطا بالعلم ولأن يقع منجّزا غير

______________________________________________________

١٦٢٠. حاصله : منع قبح الخطاب بالمجمل مطلقا وإن كان إجماله ذاتيّا أيضا. وتوضيحه : أنّ التكليف بالمجمل يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يتعلّق التكليف بالواقع من دون علم المكلّف به ولا تمكّنه من الوصول إليه ولو بالاحتياط ، مثل أن يقول : ائتني بشيء ، وأراد به شيئا معيّنا في الواقع.

وثانيها : أن يتعلّق التكليف بالواقع ، وكان المكلّف متمكّنا من تحصيل العلم به بالاحتياط لا على وجه التفصيل ، بأن قال : أكرم بعض هذه الجماعة من العلماء ، وأراد واحدا معيّنا من العشرة ، ولكن كان الغرض من الخطاب هو الإطاعة التفصيليّة دون الإجماليّة.

وثالثها : كسابقه إلّا في عدم تعلّق الغرض بالإتيان بالواقع بالإطاعة التفصيليّة ، بأن كان المقصود من الخطاب الإتيان بالواقع ولو بالاحتياط.

والمسلّم من قبح الخطاب بالمجمل من دون بيان عند الحاجة هو القسمان الأوّلان ، وإلّا فلا ريب في صحّة الخطاب على الوجه الأخير ، كما حكي التصريح به عن جماعة من أواخر المتأخّرين منهم الوحيد البهبهاني قدس‌سره.

١٦٢١. ظنّي أنّ ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله من فرض وقوع التكليف منجّزا غير مشروط بالعلم إنّما هو على سبيل الفرض ومع قطع النظر عن قبح الخطاب

٥٨

مشروط بالعلم بالشيء ، كان ذلك اعترافا (١٦٢٢) بعدم قبح التكليف بالشيء المعيّن المجهول ، فلا يكون العلم شرطا عقليّا ، وأمّا اشتراط التكليف به شرعا فهو غير معقول (١٦٢٣) بالنسبة إلى الخطاب الواقعي ، فإنّ الخطاب الواقعي في يوم الجمعة ـ سواء فرض قوله : «صلّ الظهر» أم فرض قوله : «صلّ الجمعة» ـ لا يعقل أن يشترط بالعلم بهذا الحكم التفصيلي.

نعم بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق يصحّ أن يرد خطاب مطلق ، كقوله : «اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولا ، وائت بما فيه ولو كان غير معلوم» ، كما يصحّ أن يرد خطاب مشروط وأنّه لا يجب عليك ما اختفى عليك من التكليف في يوم الجمعة وأنّ وجوب امتثاله عليك مشروط بعلمك به تفصيلا.

ومرجع الأوّل إلى الأمر بالاحتياط ، ومرجع الثاني إلى البراءة عن الكلّ إن أفاد نفي وجوب الواقع رأسا المستلزم لجواز المخالفة القطعيّة ، وإلى نفي ما علم إجمالا بوجوبه. وإن أفاد نفي وجوب القطع بإتيانه وكفاية إتيان بعض ما يحتمله ، فمرجعه إلى جعل البدل للواقع والبراءة عن إتيان الواقع على ما هو عليه. لكنّ دليل البراءة

______________________________________________________

بالمجمل ، كما يومي إليه قوله : «نعم لو فرض» وقوله : «من أين هذا الفرض وأنّى يمكن إثباته». ومقصوده أنّه لو فرض وجود هذا الأمر المحال كان الاحتياط واجبا ، وأنّى يمكن إثباته؟ ثمّ إنّ المفروض ثبوت وجوب الشيء لا حصول الإجماع أو ورود النصّ عليه ، فكأنّه قال : إذا فرض ثبوت هذا الوجوب بدليل من إجماع أو نصّ كان الاحتياط واجبا ، وإن كان هذا الوجوب لأجل استلزامه المحال محالا. فلا يرد حينئذ أنّه إذا كان الوجوب المذكور محالا ، لأجل استلزامه تأخير البيان عن الحاجة ، لا يمكن قيام دليل شرعيّ عليه ، إذ القبيح لا يصير حسنا بقيام دليل شرعيّ عليه ، بل قيام الإجماع ـ الذي هو من الأدلّة القطعيّة ـ عليه محال. والفرق بينه وبين ما أورده المصنّف رحمه‌الله واضح ، إلّا أنّ شيئا منهما غير وارد بعد ما عرفت.

١٦٢٢. يعني : اعترافا بعد إنكاره أوّلا.

١٦٢٣. لاستلزامه الدور.

٥٩

على الوجه الأوّل ينافي العلم الإجمالي المعتبر بنفس أدلّة البراءة المغيّاة بالعلم ، وعلى الوجه الثاني غير موجود ، فيلزم من هذين الأمرين ـ أعني وجوب مراعاة العلم الإجمالي وعدم وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالا ـ حكم العقل بوجوب الاحتياط ؛ إذ لا ثالث لذينك الأمرين ، فلا حاجة إلى أمر الشارع بالاحتياط ، ووجوب الإتيان بالواقع غير مشروط بالعلم التفصيلي به ، مضافا إلى ورود الأمر بالاحتياط في كثير من الموارد.

وأمّا ما ذكره من استلزام ذلك (١٦٢٤) الفرض ـ أعني تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراط بالعلم به ـ لإسقاط قصد التعيين (١٦٢٥) في الطاعة ، ففيه أنّ سقوط قصد التعيين إنّما حصل بمجرّد التردّد والإجمال في الواجب ، سواء قلنا فيه بالبراءة أو الاحتياط ، وليس لازما لتنجّز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم.

فإن قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن ، فبأيّهما ينوي الوجوب والقربة؟ قلت : له في ذلك طريقان (١٦٢٦):

______________________________________________________

١٦٢٤. ظاهر المحقّق القمّي رحمه‌الله كون سقوط قصد التعيين محذورا مانعا من تعلّق التكليف بالواقع ، نظرا إلى اشتراط صحّة العبادة به ، فمع تعلّق التكليف بالواقع ينتفي شرط صحّتها.

ويرد عليه أوّلا : عدم اختصاص محلّ الكلام بالتعبّديّات ، ولا ريب في عدم اشتراط قصد التعيين في التوصّليّات.

وثانيا : منع اشتراطه ، ولذا قلنا بصحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.

وثالثا : منع اشتراطه فيما لا يمكن فيه تعيين الواقع ، إذ لم يقل به أحد فيما أعلم.

ورابعا : أنّ سقوط قصد التعيين إنّما حصل بمجرّد التردّد والإجمال في الواجب ، سواء قلنا فيه بالاحتياط أو البراءة ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله.

١٦٢٥. يعني : تعيين المأمور به الواقعي ، وإلّا فالتعيين في الظاهر ممكن على القول بالبراءة ، بل على القول بالاحتياط أيضا على أحد وجهي قصد التقرّب.

١٦٢٦. الأوّل مبنيّ على كون الأمر بالاحتياط في نظائر المقام شرعيّا ، إذ

٦٠