فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

نعم ، في الصورة الاولى التي يقصد المالك مجرّد الإضرار من غير غرض في التصرّف يعتدّ به ، لا يعدّ فواته ضررا.

والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرّف أشدّ من ضرر الغير أو أقلّ ؛ إمّا لعدم ثبوت الترجيح بقلّة الضرر كما سيجيء (٢٠٠٥) وإمّا لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر ؛ فإنّ تحمّل الغير (٢٠٠٦) على الضرر ولو يسيرا لأجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيرا ، حرج وضيق ، ولذا اتّفقوا على أنّه يجوز للمكره الإضرار (*) بما دون القتل لأجل دفع الضرر عن نفسه ولو كان أقلّ من ضرر الغير.

هذا كلّه في تعارض ضرر المالك وضرر الغير ، وأمّا في غير ذلك فهل يرجع ابتداء إلى القواعد الآخر أو بعد الترجيح بقلّة الضرر (٢٠٠٧)؟

______________________________________________________

استصحاب السببيّة السابقة ، ومن تغيّر عنوان السبب ، وهو الأقوى. ولم أر من تعرّض لهذا الفرع.

٢٠٠٥. من نقل الاتّفاق على جواز إضرار المكره بالغير.

٢٠٠٦. يعني : المالك.

٢٠٠٧. لا يخفى أنّه بقي هنا حكم تساوي الضررين ، فنقول : إنّه إن رضي أحد الشخصين بإدخال الضرر عليه مع ضمان صاحبه لما يدخل عليه من الضرر فهو ، وإلّا فربّما يظهر من الشهيد في محكيّ دروسه تخيّر الحاكم في إدخال الضرر على أيّ منهما أراد ، ولعلّه من باب السياسة الثابتة له ، ومع فقده فالقرعة ، لأنّها لكلّ أمر مشكل. والأولى هو الرجوع إلى القرعة ولو مع وجود الحاكم ، لما عرفته من العلّة.

وقد اضطربت كلمات الأصحاب في المقام. قال في التذكرة : «لو غصب دينارا فوقع في محبرة الغير بفعل الغاصب أو بغير فعله كسرت لردّه ، وعلى الغاصب ضمان المحبرة ، لأنّه السبب في كسرها. وإن كان كسرها أكثر ضررا من

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : على الغير.

٤٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

تبقية الواقع فيها ، ضمنه الغاصب ولم تكسر» انتهى. وظاهره أنّه تكسر المحبرة مع تساوي الضررين.

وقال في الدروس : لو أدخل الدينار في محبرته ، وكانت قيمتها أكثر منه لم تكسر المحبرة ، وضمن صاحبها الدينار مع عدم تفريط مالكه.

ثمّ اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد أشار إلى جملة من الامور المتعلّقة بقاعدة الضرر ، وقد فصّلنا الكلام فيها في الحواشي السابقة ، وبقي الكلام في جملة اخرى أهملها ، فلا بدّ من التعرّض لها تتميما لفروعها وما يتعلّق بها.

الأمر الأوّل : أنّ المدار في نفي الحكم الضرري صدق عنوان الضرر عليه عرفا ، لعدم ثبوت حقيقة شرعيّة بل ولا متشرّعة فيه ، فمثل إدخال النقص بمثل حبّة حنطة أو قشر جوزة لا يصدق عليه الضرر عرفا ، وإن كان ضررا في الواقع.

وبالجملة ، إنّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأموال والبلاد والأزمان ، فربّ شيء يعدّ ضررا بالنسبة إلى شخص دون آخر ، وفي بلد دون آخر ، وفي زمان دون أخر. ومثل منع شخص من المنافع المحضة ـ كالانتفاع بالمباحات ـ لا يعدّ ضررا ، لأنّه ـ كما نقله المصنّف رحمه‌الله عن النهاية ـ إدخال النقص على الغير ، وهو غير صادق عليه ، لأنّه منع من الانتفاع المحض ، لا إدخال نقص على الغير ، ولا إشكال فيه. وإنّما الإشكال في إثبات حرمة هذا المنع إذا لم يدخل في عنوان آخر معلوم الحرمة ، كما إذا منعه من الانتفاع بحبس ونحوه ، لدخوله في عنوان الإيذاء والظلم. وأمّا إذا أرسل الماء إلى الأشجار المباحة ، فمنع الحطّابين من الانتفاع بها ونحو ذلك ممّا لا يدخل تحت عنوان محرّم ، فالأظهر جوازه للأصل.

الأمر الثاني : أنّه ربّما يستشكل في القاعدة بالأحكام الضرريّة الثابتة في الشرع ، كالزكاة والخمس والجهاد ونحوها. وربّما يجاب بأنّ المراد بالضرر المنفي ما لم يحصل بإزائه نفع ، وإلّا فما حصل بإزائه نفع دنيوي أو اخروي لا يسمّى ضررا ، فهو خارج من موضوع عموم نفي الضرر.

٤٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه نظر ، لأنّ حصول النفع بإزاء الضرر يصحّح التكليف بالضرر ، لا أنّه يخرجه من موضوعه. والأولى أن يقال : إنّ قاعدة نفي الضرر ليست من القواعد العقليّة غير القابلة للتخصيص ، فيجوز تخصيصها بما ثبت بالدليل القاطع.

الأمر الثالث : أنّ انتفاء الحكم الضرري لما كان لأجل الضرر ، فلا بدّ في الحكم بانتفائه من الاقتصار على ما يندفع به الضرر ، فإذا ثبت الخيار للبائع في المبيع المغبون فيه لدفع الضرر الحاصل له من لزوم العقد ، يقتصر في إثباته على الزمان الأوّل الذي يمكن فسخ العقد فيه ، ولا يتعدّى إلى الزمان الثاني.

وتوضيح ذلك : أنّ قاعدة نفي الضرر قد يثبت بها الضمان ، كما إذا أتلف مال الغير ، فإنّ إجراء أصالة براءة ذمّة المتلف يوجب تضرّر المالك ، فيحكم بضمانه بناء على ما ذكره بعض أواخر المتأخّرين كما تقدّم سابقا. ولنا فيه كلام يأتي إليه الإشارة. وقد يثبت بها التضمين ، وقد يدور الأمر بين الضمان والتضمين ، كما إذا باع مال الغير فضولا أو غصبه فباعه مع جهل المشتري به ، لأنّه إذا رجع المالك إلى المشتري بالعين ومنافعها التي استوفاها منها ، ضمن البائع له بما رجع المالك به إليه.

والإشكال إنّما هو في أنّه قبل رجوع المالك هل يحكم بضمان البائع للمشتري فعلا ، أو للمشتري تضمينه بعد رجوع المالك إليه؟ ويثمر ذلك فيما لو كان للبائع من المال بقدر ما يحجّ به. فعلى الأوّل لا تحصل له الاستطاعة الشرعيّة ، لاشتغال ذمّته بدفع ما ضمنه إلى المضمون له ، بخلافه على الثاني. ولكن لا يخفى أنّ ضرر المشتري يندفع بالحكم بجواز تضمين المشتري للبائع بعد رجوع المالك إليه ، كما أنّ في أرش العيب والتصدّق بالمال الملتقط لا يحصل الضمان إلّا بعد مطالبة المشتري في الأوّل وصاحب المال في الثاني ، فلا يحكم بالضمان قبل رجوع المالك ومطالبة المشتري. وقد يثبت بها الخيار ، كما في خيار الغبن والعيب ، ولكنّ الضرر الحاصل للمشتري من لزوم العقد يندفع بثبوت الخيار له في الزمان الأوّل الذي يمكن

٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فسخ العقد فيه ، فلا يصحّ إثباته في الزمان الثاني أيضا بقاعدة نفي الضرر. والاستناد في نفيه في الزمان الثاني إلى عموم وجوب الوفاء بالعقود ، بتقريب أنّه قد خرج منه الزمان الأوّل بقاعدة نفي الضرر ، ويعمل بعمومه في الثاني ، لما عرفت من عدم اقتضاء القاعدة لخروجه أيضا ، فإذا لم يفسخ المشتري في الزمان الأوّل سقط خياره في الزمان الثاني ، ضعيف ، لأنّ عموم قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إنّما هو بحسب أفراد العقود لا بحسب أحوالها وأزمانها.

نعم ، يعمّها أيضا من حيث إطلاق الأحوال لا من حيث إطلاق اللفظ ، ولكن إذا ثبت التقييد لعقد في زمان لا يبقى للعموم المذكور إطلاق بالنسبة إلى زمان آخر بعده ، لأنّ الإطلاق بحسب الأحوال إنّما كان ثابتا من جهة عدم تقييد الحكم بزمان أو حال ، فإذا ثبت تقيّده بزمان مثلا يصير اللفظ مجملا بحسب العرف بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة عنه.

نعم ، نفس قاعدة الضرر كافية في نفي الخيار في الزمان الثاني ، لأنّ عدم الخيار في الزمان الأوّل كما أنّه ضرر على المشتري ، كذلك ثبوت الخيار في الزمان الثاني ضرر على البائع ، فينفى كلّ منهما بالقاعدة. مضافا إلى عموم السلطنة ، وأصالة فساد الفسخ في الزمان الثاني ، لما قرّر في محلّه من كون مقتضى الأصل في المعاملات هو الفساد. وقد يتمسّك في إثبات الخيار في الزمان الثاني بالاستصحاب الذي هو حاكم على أصالة الفساد. وفيه ـ مع عدم مقاومته لقاعدتي نفي الضرر والسلطنة ـ : أنّ من شرائط جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ، وهو هنا متغيّر ، لما عرفت من انتفاء الضرر في الزمان الثاني بثبوت الخيار في الزمان الأوّل.

فإن قلت : كيف تحكم بثبوت الضمان أو التضمين أو الخيار بعموم نفي الضرر ، ولا دلالة له على شيء منها بإحدى الدلالات على كلّ من المعاني الأربعة المحتملة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» التي تقدّمت عند شرح ما يتعلّق ببيان معنى الرواية. أمّا على المعنى الثاني والثالث الراجعين إلى بيان تحريم الفعل

٤٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الضرري فواضح ، إذ حرمة إتلاف مال الغير أو إيقاع العقد على مال الغير مع جهل المشتري أو إيقاعه على المبيع المعيب في الأمثلة المتقدّمة ، لا تدلّ على شيء من الضمان والتضمين والخيار بإحدى الدلالات ، مع منع الحرمة في الأخيرين.

وأمّا على المعنى الأوّل الراجع إلى نفي الحكم الضرري ، وكذا على الرابع الراجع إلى نفي الفعل الضرري بلا انجبار وتدارك ، فلأنّ نفي الحكم الضرري لا يقتضي إلّا دفع الضرر ، وهو لا يثبت الضمان في مسألة الإتلاف ، وتضمين المشتري للبائع في مسألة التغريم ، والخيار في بيع المعيب ، لإمكان دفعه بتدارك الضرر من بيت المال أو من جانب الله تعالى في الدنيا أو الآخرة. مضافا إلى عدم اقتضاء نفي الحكم الضرري ثبوت الخيار في الثالث ، لإمكان دفع الضرر بثبوت أرش العيب أو بطلان العقد من رأسه. وكذا نفي الفعل الضرري من دون جبران لا يثبت كون التدارك والجبران من مال الضارّ ، لإمكان جبره من بيت المال ، لكونه معدّا لمصالح المسلمين ، أو في الآخرة أو في الدنيا من جانب الله تعالى. نعم ، لو دلّ دليل على عدم التدارك من غير مال الضارّ ، كان قاعدة نفي الضرر مع هذا الدليل مثبتا للضمان ، لكنّ القاعدة لا تنهض لإثباته بنفسها كما هو المدّعى.

قلت : إنّا قد أسلفنا سابقا أنّ المتعيّن في معنى الرواية هو المعنى الأوّل ، فنقول حينئذ : إنّه إذا أتلف مال الغير ، فتدارك ضرر صاحب المال إمّا من مال المتلف ، أو المسلمين ، أو بيت المال ، أو من جانب الله تعالى في الدنيا أو الآخرة. وما عدا الأوّل باطل. أمّا الثاني فلاستلزامه لتضرّر المسلمين ، ولا تزر وازرة وزر اخرى.

وأمّا الثالث فإنّ بيت المال معدّ للمصالح العامّة للمسلمين لا لكلّ مصلحة لهم ، والضرر هنا غالبا حاصل لخصوص بعض المسلمين. نعم ، لو فرض أنّ شخصا أوصى بثلث ماله أو بشيء منه لمثل ذلك أو لمطلق مصالح المسلمين جاز جبره منه.

وأمّا الرابع ، فإنّ التدارك في الدنيا خلاف الوجدان. وأمّا في الآخرة ففيه ـ مضافا إلى أصالة عدمه ـ أنّ الظاهر بل المقطوع به أنّ المراد تداركه في الدنيا ، كيف

٤٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لا ولو اريد تداركه في الآخرة انقلب التكليف في موارد الضرر إلى استحباب الإضرار بالمسلمين ، لكونه سببا للأجر الاخروي بإزاء ما دخله من الضرر ، وهو خير من الدنيا وما فيها. مع أنّ ملاحظة الأخبار المتقدّمة سابقا الواردة في بيان هذه القاعدة تعطي خلاف ذلك ، ولذا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصّة سمرة بقلع عذقه ، وقال : إنّك رجل مضارّ ، وكذا الصادق عليه‌السلام حكم بالشفعة لنفي الضرر العائد إلى الشفيع ، وكذلك في رواية هارون بن حمزة قد حكم لمعطي الدرهمين بخمس ما بلغ من القيمة لنفي الضرر ، فلم يحكم في شيء من هذه الأخبار برفع الضرر الحاصل بالثواب الاخروي والمجازاة الأبديّة.

فإن قلت : إنّ إثبات الضمان حينئذ لا يكون بمجرّد قاعدة نفي الضرر ، بل بها بضميمة ما عرفت من حصر التدارك في مال المتلف مثلا.

قلت : نعم ، وليس المقصود أيضا إثبات الضمان بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» بدلالته اللفظية من دون مدخليّة شيء آخر أصلا ، فتدبّر.

هذا كلّه مضافا إلى أن تتّبع موارد الضمانات والغرامات الثابتة شرعا واستقرائها يعطي ثبوت الضمان على الضارّ والغارّ دون غيرهما ، وقد حكموا فيمن وطئ بهيمة الغير بضمان الواطي قيمتها ، وكذا فيمن باع أمة بدعوى الوكالة في بيعها ثمّ استولدها المشتري ثمّ تبيّن كذبه في دعوى الوكالة ، فحكموا بضمان مدّعي الوكالة للمشتري إذا رجع المالك إليه بأرش البكارة وقيمة الولد ، وهكذا في غير ذلك من موارد الضمانات والغرامات. وناهيك شاهدا بصحيحة البزنطي : «من ضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو ضامن». ومثلها ما رواه المشايخ الثلاثة. وصحيحة الكناني المتقدّمة. وهي دالّة على الضمان مع التسبيب ، ومع المباشرة بطريق أولى. هذا إن جعلت كلمة «من» فيها بمعنى «في» وإلّا فإن بقيت على ظاهرها يفيد المباشرة. نعم ، رواية الثلاثة صريحة في صورة التسبيب.

ويدلّ عليه أيضا آيات من الكتاب العزيز ، قال الله تعالى في سورة النحل :

٤٤٦

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ). وقال جلّ وعلا في سورة البقرة : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). وفي سورة الشورى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها). ومن ذلك يظهر أيضا عدم جواز دفع الضرر في مسألة التغريم وبيع المعيب والمغبون فيه من مال المسلمين ، أو بيت المال ، أو من جانب الله تعالى في الدنيا أو الآخرة.

نعم ، بقي احتمال دفعه في مسألة البيع بإثبات الأرش ، أو فساد العقد من رأس. ويرد على الأوّل : أنّ إثبات الأرش ضرر على البائع ، لأنّه بعد انتقال الثمن إلى البائع والمثمن إلى المشتري بالعقد اللازم كما هو الفرض ، فالرجوع إلى البائع بالأرش إدخال نقص عليه. مع أنّ إثبات الأرش تدارك للضرر لا رفع له ، وقد تقدّم في بعض الامور السابقة أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ضرر ولا ضرار» وارد في مقام بيان دفع الضرر ، لا إثباته والأمر بتداركه. وعلى الثاني : أنّك قد عرفت سابقا أنّه لا بدّ في نفي الحكم الضرري من الاقتصار على ما يندفع به الضرر الحاصل من ثبوت الحكم ، ولا شكّ أنّ الضرر هنا حاصل من لزوم العقد ، فلا بدّ أن يكون المنفي لزومه مع بقاء جوازه ، لا فساده من رأس.

الأمر الرابع : أنّ ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» هو نفي الضرر الواقعي ، بمعنى نفي الحكم المستلزم له في الواقع ، سواء كان المكلّف عالما به أو شاكّا فيه أو معتقدا للخلاف ، فيكون عدم الضرر حينئذ من الشرائط الواقعيّة للعبادات ، نظير الطهارة بالنسبة إلى الصلاة. فإذا توضّأ مع اعتقاد عدم التضرّر باستعمال الماء ثمّ انكشف خلافه ، فلا بدّ من الحكم بالبطلان ، ولكن بناء الفقهاء في العبادات على خلافه ، حيث يعتبرون العلم بالضرر أو الظنّ به وعدمهما في الصحّة والبطلان. وعليه يكون عدم الضرر من الشرائط العلميّة دون الواقعيّة.

نعم ، قد جروا في المعاملات على مقتضى ظاهر لفظ الرواية ، ولذا حكموا بخيار الغبن والعيب بقاعدة نفي الضرر ، ولو مع اعتقاد المشتري عدمهما حين البيع

٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ انكشف خلافه ، فحكموا بثبوت الخيار من حين البيع لا من حين ظهور الغبن والعيب ، ولذا ذكروا الغبن والعيب من أسباب الخيار لا ظهورهما.

ويمكن دفع الإشكال عن العبادات أيضا بما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في رسالته المفردة. وحاصله مع توضيح منّي : أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وارد في مقام بيان المنّة على هذه الأمّة ، ولا منّة في رفع الأحكام الواقعيّة الشأنيّة ، لأنّ المنّة إنّما تحصل برفع حكم ضرري بحيث لو لا رفعه توجّه التكليف به ، إذ لا ضرر على العباد مع عدم توجّهه إليهم ، والأحكام الواقعيّة الشأنيّة ليست كذلك ، لأنّ المتوجّه إليهم هو الأحكام الفعليّة دونها. بل رفع الأحكام الواقعيّة الشأنيّة ربّما يوجب الضرر على العباد ، لأنّه إذا فرض ارتفاع وجوب الوضوء في الواقع مع تضرّر استعمال الماء في الواقع ، واتّفق أنّ مكلّفا صلّى عشرين سنة ثمّ انكشف تضرّره بجميع الوضوءات التي صلّى بها ، فلا ريب أنّ الحكم ببطلان الصلاة في هذه المدّة ووجوب قضائها ثانيا ضرر فاحش عليه ، ومناف للمنّة. فالأوفق لها رفع الأحكام الفعليّة دون الواقعيّة ، فيكون عدم العلم بالضرر أو الظنّ به شرطا في فعليّة الأحكام وتوجّهها إلى المكلّفين ، لا الضرر الواقعي خاصّة في تحقّق الحكم الواقعي كذلك ، وحينئذ يكون اعتبارهم للضرر الواقعي في المعاملات ثابتا على خلاف القاعدة ، فتدبّر.

الأمر الخامس : أنّه لا إشكال في نفي الأحكام الوجوديّة بقاعدة نفي الضرر ، تكليفيّة كانت أم وضعيّة. وأمّا إذا ترتّب ضرر على عدم الحكم في مورد ، كما إذا حبس الدابّة فمات ولدها ، أو قبض الرجل فشردت دابّته ، أو فتح قفس طائر فطار ، لأنّ الحكم بعدم الضمان يوجب تضرّر صاحب المال ، ففي ثبوت الضمان في أمثال هذه الموارد إشكال. نعم ، يظهر التمسّك بالقاعدة في إثباته من صاحب الرياض.

هذا مع قطع النظر عن اندراج هذه الموارد تحت عنوان موجب للضمان ، كالإتلاف ونحوه ، أو بناء على عدم العلم بكون السببيّة في هذه الموارد سببا للضمان ،

٤٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إذ كلّ سبب للإتلاف ـ بعيدا كان أو قريبا ـ ليس موجبا له ، بل المدار على صدق الإتلاف عرفا ، وعلى التسبيبات في الجملة كما أشرنا إليه سابقا ، ولذا لم يحكم بعضهم بالضمان في هذه الموارد ، وكذا فيما حفر بئرا في ملكه أو في الأراضي المباحة فوقع فيه غيره.

ووجه الإشكال عدم دلالة نفي الضرر على معانيه الأربعة المتقدّمة على ثبوت الضمان هنا ، بل وعلى معنى خامس أيضا قد أهملنا ذكره هناك ، وهو أن يكون المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» نفي الضرر في الأحكام الأوّلية ، بمعنى كونها بأسرها منافع بالنسبة إلى المكلّفين ، وليس فيها ضرر على العباد أصلا ، لأنّ الكلّ غير مسمن ولا مغن عن شيء في المقام.

أمّا أوّلا : فإنّا قد أشرنا سابقا إلى أنّ هذه القاعدة موهونة بورود كثرة التخصيص عليها ، وأنّه لا بدّ في العمل بها في مورد من جبر وهنها بعمل الأصحاب بها في هذا المورد ، ولم يعمل أحد بها في المقام سوى ما عرفته من صاحب الرياض.

وأمّا ثانيا : فإنّ نفي الحكم الواقعي في المقام بناء على المعنى الخامس الذي عرفته لا يستلزم الضمان ، لأنّه إذا فتح باب قفس طائر فطار ، فهذا الفعل في الواقع وإن لم يخل من أحد الأحكام الخمسة ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون حكمه في الواقع هي الحرمة ، ولم يرض به الشارع في الواقع حتّى يترتّب عليه ضرر. وأمّا الحكم بالجواز في الظاهر لأصالة البراءة فهو مسامحة في العبارة ، وإلّا فأصالة البراءة لا تقتضي إلّا مجرّد نفي العقاب لا الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة. ومع التسليم فالضرر حينئذ يكون مرتّبا على وجود الحكم ، لا على عدمه كما هو المفروض في المقام.

وكيف كان ، فالقاعدة على هذا المعنى ساكتة عن نفي الضرر المرتّب على العدميّات. وستقف على زيادة توضيح لذلك.

وأمّا بناء على سائر المعاني المتقدّمة ، فأمّا على المعنى الثاني والثالث الراجعين

٤٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى بيان حرمة الفعل الضرري ، فإنّ القاعدة وإن نفت جواز الفعل المذكور حينئذ ، كحبس الرجل أو الدابّة وفتح القفس في الأمثلة المتقدّمة ، إلّا أنّ مجرّد الحرمة لا يدلّ على الضمان ، لعدم الملازمة بينهما. مع أنّ الضمان على تقدير تسليمه إنّما هو مرتّب على نفي الحكم الوجودي الضرري ، وهي إباحة الفعل ، لا على نفي عدم الحكم المثبت لوجوده كما هو الفرض في المقام ، لأنّ المقصود إثبات الضمان بنفي عدمه من جهة استلزام عدمه للضرر على الغير ، ولا ربط بين تحريم الفعل ونفي عدم الضمان المثبت لوجوده.

وأمّا على المعنى الرابع ، أعني : كون المراد نفي الضرر من دون تداركه وجبره في الإسلام ، فإنّ مرجعه إلى نفي الضرر في الإسلام ، تنزيلا للضرر المتدارك منزلة عدمه ، كما تقدّم عند بيان هذا المعنى. وتقدّم هناك أيضا أنّ الأمر بالتدارك ودفع العوض بعد حصول الضرر إنّما يصحّح التكليف بالفعل الضرري ، لا أنّه ليس بضرر ولو بالتنزيل. وبالجملة ، إنّه فرق بين الأمر بالتدارك وفعليّته ، والتنزيل إنّما يصحّ على الثاني دون الأوّل ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته. مع أنّ الحكم بالضمان لأجل تدارك الضرر الحاصل بحبس الرجل والبراءة أو فتح القفس ، خروج من عنوان البحث كما تقدّم.

وأمّا على المعنى الأوّل الراجع إلى نفي حكم ضرري في الإسلام كما هو ظاهر الرواية ، فإنّ الفرض في المقام إثبات الحكم ـ أعني : الضمان ـ من جهة ترتّب الضرر على عدمه ، بأن ينفى عدمه الملازم لوجوده ، لا نفي الحكم الوجودي المرتّب عليه ضرر ، كما هو مقتضى هذا المعنى. ولا شكّ أنّ عدم الحكم ليس من الأحكام المجعولة حتّى يكون موردا للقاعدة ، بأن يقال : إنّ عدم الضمان من جملة الأحكام التي يترتّب عليها ضرر ، فتنفيه قاعدة نفي الضرر لوضوح كفاية العدم في عدميّة العدم من دون حاجة إلى إنشاء الشارع.

نعم ، يمكن إثبات الضمان هنا لوجوه أخر :

٤٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : أن يرتكب نوع مسامحة في الرواية ، بأن يقال : إنّ المراد بالإسلام فيها كلّ ما يعدّ منه عرفا أو ينسب إلى الشارع ويجب أخذه منه من الوجوديّات والعدميّات ، ولا ريب أنّ عدم الضمان كنفس الضمان من جملة ذلك ، وكذا مؤدّيات أصالة البراءة ، فإنّها وإن لم تكن حكما شرعيّا ، لأنّ مؤدّى البراءة ليس إلّا مجرّد نفي العقاب دون الإباحة كما أشرنا إليه ، إلّا أنّه ينسب مؤدّاها عرفا إلى الشارع.

ووجه المسامحة واضح ، لأنّ الإسلام في الحقيقة هو ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعدميّات ليست منه ، لما عرفت من عدم احتياجها إلى إنشاء الشارع ، وكفاية إبقائها على عدمها السابق في تحقّق عدميّتها.

وثانيها : أنّ العدميّات وإن لم تكن من الأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّه يمكن إدخالها فيها باعتبار لوازمها الشرعيّة ، لأنّه إذا حبس الرجل فشردت دابّته ، فعدم ضمان الحابس يوجب حرمة مطالبة المحبوس بما فات منه بحبسه ، وكذا يحرم عليه التقاصّ من ماله عوض الفائت ، وكذلك يحرم عليه التعرّض له ودفعه عن نفسه حين الإضرار ، فينفى ذلك كلّه بعموم نفي الضرر ، فيثبت به الضمان.

وثالثها : أنّ استدلال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصّة سمرة بعموم نفي الضرر على تسلّط الأنصاري على قلع عذقه ، لأجل كون عدم تسلّطه عليه ضررا عليه ، وكذا استدلال الصادق له على إثبات الشفعة ، لأجل كون عدم ثبوت الشفعة للشفيع ضررا عليه ، قرينة على دخول العدميّات أيضا في عموم الرواية ، وحيث فرضنا استلزام عدم الضمان فيما نحن فيه أيضا للضرر فينفى بعموم نفي الضرر.

ورابعها : قوله : «من أضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن» بتقريب أنّ هذا الخبر من جملة الأخبار الواردة في بيان قاعدة نفي الضرر كما تقدّم سابقا ، ولا ريب أنّ المناط في الضمان هو تضرّر المسلمين من دون مدخليّة الطريق فيه ، فيثبت الضمان في كلّ ما استلزم تضرّرهم ، سواء كان من الامور الوجوديّة أو العدميّة.

٤٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

وخامسها : عمومات الكتاب الواردة في جواز المقاصّة ، مثل قوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وقوله سبحانه : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) لدلالتها على جواز أخذ ما يساوي الضرر الداخل عليه مطلقا.

هذا ، ولكن في الجميع نظر :

أمّا الأوّل ، فلعدم الدليل على جواز الاعتداد بمثل المسامحة المذكورة ، وإلّا انهدم به أساس الفقه.

وأمّا الثاني ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وارد في مقام بيان نفي الأحكام الضرريّة التي لو لا نفيها كانت ثابتة في الشرع. وبعبارة اخرى : إنّه وارد في مقام بيان اختصاص عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتها بغير موارد الضرر ، فهو ناظر إلى رفع أحكام هذه العمومات والمطلقات عن موارد الضرر ، وإن ترتّب على ارتفاعها حكم آخر ، لا إلى إثبات حكم ابتداء بواسطة ترتّب الضرر على عدمه ، وإن استلزم عدمه بعض اللوازم الشرعيّة ، فتأمّل.

وأمّا الثالث ، فإنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الأنصاري بقلع عذق سمرة لعلّه لأجل كون بقاء سلطنة سمرة على عذقه ضررا على الأنصاري ، لأجل كون عدم سلطنة الأنصاري على قلعه ضررا عليه. وكذا حكم الصادق بالشفعة لعلّه لأجل كون لزوم العقد الثابت بقاعدة وجوب الوفاء بالعقود ضررا على الشريك ، لا لأجل تضرّره بعدم سلطنته على أخذ المال المشترك فيه.

وأمّا الرابع ، فإنّ الخبر المذكور لا دخل له في إثبات قاعدة نفي الضرر وإن ذكرناه في أخبارها ، لوروده في مقام بيان حكم الضمان فيما أحدث أحد عملا في طريق المسلمين فتضرّر به آخر ، لا في مقام بيان نفي الأحكام الضرريّة كما هو مقتضى القاعدة.

وأمّا الخامس ، فإنّ غاية ما تثبته الآيتان هو جواز تقاصّ المستضرّ من مال المضرّ بمساوي ما دخل عليه من الضرر ، وأمّا دلالتهما على ضمان المضرّ أيضا فلا.

٤٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وتظهر الثمرة في آثارهما المختصّة بهما ، إذ على تقدير ضمانه يكون ذلك دينا في ذمّته ، فيقدّم بعد الموت على تقسيم تركته بين الورثة ، ويؤخذ من صلب المال ، بخلافه على تقدير المقاصّة من دون ضمان ، لعدم الدليل على بقاء هذا الحكم إلى ما بعد الموت وانتقال المال إلى الورثة.

الأمر السادس : أنّه إذا توجّه ضرر إلى مكلّف ، وتوقّف دفعه على الإضرار بالغير ، أو توجّه ضرر إلى الغير ، وتوقّف دفعه على تحمّل الضرر عنه ، لا يجوز إدخال الضرر على الغير في الأوّل ، ولا يجب تحمّله في الثاني ، لأنّ الجواز في الأوّل والوجوب في الثاني حكمان ضرريّان ينفيهما عموم نفي الضرر.

ويتفرّع على الأوّل ما ذهب إليه المشهور ، من عدم جواز إسناد الحائط المخوف وقوعه إلى جذع الجار ، خلافا للشيخ مدّعيا لعدم الخلاف فيه. ولكنّه لأجل مخالفته للقاعدة ، أوّل تارة بالحمل على صورة خوف إهلاك نفس محترمة ، فيكون الحكم بالجواز حينئذ مبنيّا على تعارض الضررين وتقديم الأهمّ منهما ، وهو النفس. واخرى بالحمل على صورة عدم تضرّر الجار بالإسناد إلى جذعه أصلا ، كالاستضاءة بنار الغير والاستظلال بحائطه.

ويتفرّع على الثاني جواز إضرار الغير إكراها أو تقيّة ، بمعنى أنّه إذا أمره الظالم بالإضرار بالغير ، وعلم بوصول ضرر منه إليه على تقدير المخالفة ، يجوز الإضرار بالغير حينئذ ، لعدم وجوب تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الغير. وليس هذا من قبيل دفع الضرر عن نفسه بإدخال الضرر على غيره حتّى يدخل في الصورة الاولى ، لأنّ الضرر هنا متوجّه ابتداء إلى الغير بالإرادة الحتميّة من الظالم ، وإليه على تقدير المخالفة وترك الامتثال ، فتوجّه الضرر إليه إنّما هو في المرتبة الثانية.

الأمر السابع : أنّه لا فرق في الضرر المنفي بين الحاصل منه من قبل الله تعالى ، كما إذا تضرّر باستعمال الماء في الوضوء لشدّة برودة الهواء مثلا ، وما كان من قبل المكلّف وباختياره. وعليه لا فرق أيضا بين الجائز شرعا ، كما إذا قصّر في

٤٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الفحص عن قيمة ما باعه فصار مغبونا في البيع ، وبين الحرام كذلك ، كما إذا أجنب نفسه مع علمه بتضرّره بالغسل. فعموم نفي الضرر بنفى وجوب كلّ من الوضوء والغسل ولزوم البيع.

نعم ، لو أقدم المكلّف على إدخال الضرر على نفسه ، كما إذا باع بدون ثمن المثل عالما به ، فالقاعدة لا تنفيه ، لأنّ الحكم حينئذ لم يحصل بحكم الشارع ، بل بفعله وإقدامه. بل لا يبعد أن يكون نفي الضرر حينئذ مناقضا للقاعدة ، لأنّ إلزام المكلّف على خلاف مراده ومقصوده إضرار به.

فما ذكر صاحب الجواهر في وجه وجوب ردّ المغصوب إلى مالكه ، وإن استلزم تضرّر الغاصب بأضعاف قيمة المغصوب ، من أنّه هو الذي أدخل الضرر على نفسه بسبب الغصب ، لا يخلو من إشكال ، لأنّه إن أراد بإدخال الضرر على نفسه إيجاد مقدّماته ، فقد عرفت أنّه لا يمنع جريان القاعدة. وإن أراد الإقدام عليه بإرادته وقصده فهو ممنوع ، لأنّ الغاصب إنّما يريد الانتفاع بالمغصوب لا إدخال الضرر على نفسه. ولكن أصل الحكم مشهور ، بل يكاد لا يوجد فيه خلاف.

ويمكن توجيهه بأنّ إحداث الغصب كما أنّه ضرر على المالك ، كذلك إبقاء المغصوب وعدم ردّه إليه ، فيتعارض ضرر الإبقاء العائد إلى المالك مع ضرر الردّ الحاصل للغاصب ، وحينئذ إمّا يحكم بتعارضهما وتساقطهما والرجوع إلى أصل آخر ، وهو عموم حرمة الإضرار بالغير ، لأنّ حرمته ـ كحرمة الإضرار بالنفس ـ ثابتة بأدلّة أخر سوى أدلّة نفي الأحكام الضرريّة ، وإن كانت هي من جملتها ، وقد عرفت أنّ إبقاء المغصوب ضرر على المالك ، وبعد تعارض فردي عموم نفي الحكم الضرري يرجع إلى عموم حرمة الإضرار. وإمّا يرجّح ضرر المالك ، لأنّ أخبار نفي الضرر ـ كما تقدّم سابقا ـ إنّما وردت في مقام الامتنان ، والمالك أولى من الغاصب في شمول المنّة والرأفة من الله تعالى له عند دوران الأمر بينهما ، لأنّ الغاصب لأجل غصبه قد صار سببا لعدم تعلّق التفضّل والمنّة من الله تعالى به.

٤٥٤

وجهان ، بل قولان. يظهر الترجيح من بعض الكلمات المحكيّة عن التذكرة وبعض مواضع الدروس ، ورجّحه غير واحد من المعاصرين (١٣). ويمكن أن ينزّل عليه ما عن المشهور : من أنّه لو أدخلت الدابّة رأسها في القدر بغير تفريط من أحد المالكين ، كسر القدر وضمن قيمته صاحب الدابّة معلّلا بأنّ الكسر لمصلحته.

فيحمل إطلاق كلامهم على الغالب من أنّ ما يدخل من الضرر على مالك الدابّة إذا حكم عليه بتلف الدابّة وأخذ قيمتها ، أكثر ممّا يدخل على صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته. وبعبارة اخرى : تلف إحدى العينين وتبدّلها بالقيمة أهون من تلف الاخرى. وحينئذ ، فلا يبقى مجال للاعتراض على تعليل الحكم بكونه لمصلحة صاحب الدابّة بما في المسالك : من أنّه قد يكون المصلحة لصاحب القدر فقط ، وقد يكون المصلحة مشتركة بينهما. وكذلك حكمهم بضمان صاحب الدابّة إذا دخلت في دار لا تخرج إلّا بهدمها معلّلا بأنّه لمصلحة صاحب الدابّة ؛ فإنّ الغالب أنّ تدارك المهدوم أهون من تدارك الدابّة. وبه نستعين ومنه نستمدّ.

______________________________________________________

فضّل الله ثوابنا في ميزان الأعمال بفضله ومنّه.

وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في المجلّد الثاني من مجلّدات هذه التعليقة. وقد وقع الفراغ منه بيد مصنّفه الجاني الفاني غريق بحار المعاصي موسى بن جعفر عفا الله عنهما ، في اليوم العشرين من الشهر الأوّل من سنة ١٢٩٢ اثنتين وتسعين بعد ألف ومأتين قد مضين من الهجرة المصطفويّة ، على هاجرها آلاف صلاة وتحيّة ، أثبت الله تعالى أقدامنا يوم تزلّ فيه الأقدام.

٤٥٥

المصادر

(١) بحار الأنوار ج ٢٢ : ص ١٣٥ ، الحديث ١١٨.

(٢) الوسائل ج ١٧ : ص ٣٤١ ، الباب ١٢ من أبواب أحياء الموات ، الحديث ٣.

(٣) الصحاح ج ٢ : ص ١٧٩ ـ ٧٢٠ ، مادّة «ضرر».

(٤) النهاية لابن الأثير ج ٣ : ص ٨١ ـ ٨٢ ، مادّة «ضرر».

(٥) القوانين ج ٢ : ص ٥٠ ؛ عوائد الأيّام : ص ٥٣ و ٥٧.

(٦) جامع المقاصد ج ٧ : ص ٢٦.

(٧) الدروس الشرعيّة ج ٣ : ص ٦٠.

(٨) المبسوط ج ٣ : ص ٢٧٢.

(٩) كفاية الأحكام : ص ٢٤١.

(١٠) مفتاح الكرامة ج ٧ : ص ٢٢.

(١١) التحرير ج ٢ : ص ١٣٨.

(١٢) مفتاح الكرامة ج ٧ : ص ٢٢ ـ ٢٣.

(١٣) الجواهر ج ٣٧ : ص ٢٠٨.

٤٥٦

فهرس الموضوعات

في الشبهة الغير المحصورة.......................................................... ٧

في دوران الأمر بين المتباينين..................................................... ٣٩

في دوران الأمر بين المتباينين / التنبيهات.......................................... ٧٩

المصادر..................................................................... ١٠١

في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.............................................. ١٠٥

في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر / التنبيهات.................................... ١٨٩

خاتمة : فيما يعتبر في العمل بالأصل الاحتياط................................... ٢٩٧

خاتمة : فيما يعتبر في العمل بالأصل البراءة...................................... ٣٠٥

في قاعدة لا ضرر ولا ضرار.................................................... ٣٩٣

٤٥٧