فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

تشريع الضرر ، بمعنى أنّ الشارع لم يشرّع حكما يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفيّا كان أو وضعيّا ، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر ، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك ، وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلّا بثمن كثير ، وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون استئذان من الأنصاري ، وكذلك حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقّف أخذ الحقّ عليه.

ومنه : براءة ذمّة الضارّ من تدارك ما أدخله من الضرر ، إذ كما أنّ تشريع حكم يحدث معه الضرر منفي بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث ، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث ، إلّا أنّه قد ينافي هذا قوله : «لا ضرار» ، بناء على أنّ معنى الضرار المجازاة على الضرر. وكذا لو كان بمعنى المضارّة التي هي من فعل الاثنين ؛ لأنّ فعل البادئ منهما (١٩٨٢) ضرر قد نفي بالفقرة الاولى ، فالضرار المنفي بالفقرة الثانية إنّما يحصل

______________________________________________________

يكون مقرونا بحكم الشارع بالضمان ، وكذلك تمليك المغبون ماله من غيره بإزاء ما دونه في القيمة من دون جبرانه بالخيار ، وهكذا.

ويردّ عليه أوّلا : أنّه مجاز فلا يصار إليه بلا دليل.

وثانيا : منع صحّة التنزيل بمجرّد حكم الشارع بالتدارك ، إذ التنزيل إنّما يصحّ مع التدارك فعلا لا بمجرّد الحكم به ، فتأمّل.

وثالثا : أنّ الفقهاء ربّما يتمسّكون بقاعدة الضرر في نفي وجوب الوضوء مع الضرر في استعمال الماء ، وفي نفي وجوب الحجّ مع العلم أو الظنّ بالضرر في الطريق ونحوهما ، مع عدم تحقّق الجبران في أمثالهما على تقدير وقوع التكليف. وبالجملة ، إنّ الفقهاء لم يفرّقوا في موارد القاعدة بين الضرر العائد إلى نفس المكلّف وغيره.

ورابعا : أنّ لفظ «في» ظاهر في معنى الظرفيّة. وعلى هذا المعنى لا بدّ أن يجعل بمعنى السببيّة ، إذ الإسلام عبارة عن نفس أحكام الشرع ، ولا معنى لنفي الضرر غير المتدارك في الإسلام إلّا بجعل لفظ «في» بمعنى السببيّة كما لا يخفى.

١٩٨٢. أي : الأوّل منهما. وفي بعض النسخ «الثاني» بدل البادئ ، والصحيح

٤٠١

بفعل الثاني ، وكأنّ من فسّره بالجزاء على الضرر أخذه من هذا المعنى ، لا على أنّه معنى مستقلّ.

ويحتمل أن يراد من النفي : النهي عن إضرار النفس أو الغير ، ابتداء أو مجازاة ، لكن لا بدّ من أن يراد بالنهي (١٩٨٣) زائدا على التحريم الفساد وعدم المضيّ ؛ للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف ، فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء في الشروط والعقود ، فكلّ إضرار بالنفس أو الغير محرّم غير ماض على من أضرّه. وهذا المعنى قريب من الأوّل بل راجع إليه.

والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الأوّل.

______________________________________________________

هو الأوّل. وحاصله : أنّه لو كان المراد بالرواية نفي حكم شرعيّ ينشأ منه ضرر على أحد لا يبقى معنى للفقرة الثانية ، أعني : قوله «ولا ضرار» إذا أخذ بمعنى المجازاة أو فعل الاثنين.

أمّا على الأوّل ، فإنّه إذا أضرّ أحد غيره فبراءة ذمّة الضارّ عن تدارك ما أدخل عليه من الضرر منفيّة بالفقرة الاولى ، فلا بدّ من تداركه بالضمان. وهذا الحكم الوضعي أيضا منفي بالفقرة الثانية ، لأنّ الضمان حكم وضعي يترتّب عليه ضرر على الضارّ أيضا بعنوان المجازاة ، فهو منفي بها.

وأمّا على الثاني ، فإنّ شخصين إذا أضرّ كلّ منهما بالآخر فالبادئ منهما ضرر منفي بالفقرة الاولى ، والضرار حينئذ إنّما يتحقّق بفعل الثاني لا بفعلهما. ولعلّ من فسّره بمعنى الجزاء أخذه من معنى المضارّة بمعنى فعل الاثنين ، لا أنّه معنى مستقلّ بحياله.

١٩٨٣. فيه تعريض على صاحب الجواهر ، لأنّه ـ كما تقدّم سابقا ـ ادّعى كون المراد بالنفي في الرواية معنى النهي وأنّه لا يدلّ على الفساد وعن المحقّق القمّي رحمه‌الله أيضا منع الملازمة بينهما على تقدير كون المراد بالنفي معنى النهي.

٤٠٢

ثمّ إنّ هذه القاعدة حاكمة (١٩٨٤) على جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ، كأدلّة لزوم العقود وسلطنة الناس على أموالهم ووجوب

______________________________________________________

١٩٨٤. اعلم أنّا قد أشرنا سابقا إلى أنّ الكلام في تأسيس كلّ قاعدة يقع تارة من حيث بيان الدليل المثبت لها ، واخرى من حيث دلالتها ومقدارها ، وثالثة من حيث المعارض وعدمه. وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى الأوّلين ، وأراد أن يشير إلى الثالث هنا.

وليعلم أنّه ليس في الكتاب والسنّة ما يعارض هذه القاعدة كلّية ، بأن يدلّ على عدم نفي الضرر في الأحكام عموما. نعم ، قد يدلّ دليل خاصّ على ثبوت حكم خاصّ في مورد الضرر فيكون هذا الدليل مخصّصا لعموم القاعدة. وقد تكون العمومات مثبتة للحكم على وجه العموم ، فتشمل موارد الضرر أيضا فيقع التعارض بينها وبين هذه القاعدة بالعموم من وجه. وقد اختلف كلماتهم في تقديم هذه القاعدة أو ملاحظة المرجّحات ، واختار المصنّف رحمه‌الله الأوّل بدعوى حكومة هذه القاعدة عليها.

وإن شئت زيادة توضيح لذلك نقول : إنّك قد عرفت ممّا ذكرناه وذكره المصنّف رحمه‌الله أنّ هذه القاعدة ممّا استفاضت بها الأخبار ، بل ادّعى الفخر تواترها ، وهي المناسبة للملّة السمحة السهلة إلّا أنّ الإشكال في أنّها من قبيل الاصول فتعتبر حيث لا دليل على خلافها عموما وخصوصا ، حتّى يقال : إنّ الأصل عدم هذا الحكم الضرري إلّا أن يثبت خلافه بدليل خاصّ أو عامّ ، ليكون جميع العمومات مقدّما عليها ، أو هي من قبيل الأدلّة. وعليه فهل هي من قبيل الأدلّة اللفظيّة أو العقليّة؟ وعلى الأوّل فهل هي فائقة على سائر العمومات أو في عرضها؟ حتّى يلتمس الترجيح عند معارضتها معها ، وجوه.

أمّا الأوّل فهو لازم كلّ من قال بتدارك الضرر المرتّب على العمل بالحكم الشرعيّ بالمثوبة الاخرويّة أو غيرها ، بمعنى عدم تحقق موضوع الضرر حينئذ ، كما

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

يظهر من صاحبي العوائد والعناوين ، لأنّ أدلّة الأحكام إمّا مثبتة لنفس الحكم الضرري ، كأوامر الزكاة والخمس والجهاد ، أو ما يشمل ذلك ، كالأمر بالوضوء الشامل لصورة استلزام استعمال الماء للضرر. وعلى أيّ تقدير ، فالأمر يكشف عن وجود مصلحة في موارده فائقة على الضرر الحاصل منه ، إذ الأوامر كالنواهي لا بدّ من أن تنشأ من وجود مصلحة في متعلّقها ، سوى المثوبة الحاصلة من إطاعتها وامتثالها. فكلّ مورد ضرري يشمله الدليل خصوصا أو عموما أو إطلاقا لا تشمله أدلّة نفي الضرر. فيختصّ مورد هذه القاعدة ـ كموارد الاصول العمليّة ـ بموارد عدم وجود الدليل عليها.

ومن هنا يظهر فساد فرض التعارض بين هذه القاعدة على هذا التقدير ـ أعني : تقدير تسليم تدارك الضرر بالمثوبة الاخرويّة ـ وبين عمومات التكليف ، على ما عرفته من صاحبي العوائد والعناوين.

وحاصل ما ذكره بعد التصريح بعدم تحقّق موضوع الضرر فيما كان في مقابله نفع آجل أو عاجل : «أنّ كلّ ما ورد في الشرع من الأحكام بعد وجود النفع الاخروي في الجميع ، بل النفع الدنيوي من دفع بليّة وحفظ مال وزيادة نعمة ، كما هو مقتضى الآيات والأخبار في الزكاة والصدقة ونظائرها ، لا يعدّ ضررا حقيقة ، وذلك واضح. بل ذلك في الحقيقة نفع ، لأنّ ما يصل إلى المكلّف بذلك من الخير أضعاف ما أصابه من النقص ظاهرا. وما ورد من مثل القصاص ونحوه فإنّما هو جبر لما وقع من الضرر. وكذلك الدية ونحوها على ما قرره الشارع الحكيم. وكلّ ما فيه تحمّل المنقصة مقابل بمثوبة لا يخفى على من اعتقد بوعد الحقّ ، فلا ينتقض بورود ما هو ضرر في الشريعة. ولا يلزم من ذلك عدم إمكان معارضة دليل بقاعدة الضرر ، نظرا إلى كشفه عن نفع دنيوي أو اخروي ، إذ الأصل عدم تحقّق ذلك ، والفرض أنّ كونه ضررا في الظاهر مقطوع به ، ومقابلته بالنفع محتملة فيما لم يقم دليل قويّ محكم دالّ على ثبوته. فإذا تعارض مثلا دليل دالّ على ثبوت

٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ضرر مع دليل نفيه بالعموم من وجه ، لا يعلم من ذلك تخصيص أحد الدليلين بالآخر حتّى يعلم أنّه ليس من الضرر ، فلا بدّ من دليل راجح مخصّص لذلك حتّى نعرف أنّه خارج من هذا الموضوع ، فتدبّر جدّا.

وتوضيحه : أنّ الدليل المثبت على قسمين : قسم دالّ على نفس الضرر كالزكاة والحجّ ونحوهما ، ولا ريب أنّه بعد دلالة الدليل على ذلك نعرف أنّه ليس بضرر. وقسم ليس كذلك ، فإنّ دليل وجوب الحجّ والتوضّؤ يشمل ما لو كان فيه ضرر بدني مثلا ، ولا يمكن أن يقال : إنّه ليس بضرر ، إذ ما ثبت من الدليل العوض على الوضوء والحجّ ، لا على المضارّ الأخر الموجودة في ضمنهما ، ووجود المقابل للطبيعة لا يرفع الضرر في اللواحق. وقس على ذلك ما يرد عليك من نظائر ما دفعناه بقاعدة الضرر» انتهى محصّل ما ذكراه.

ووجه الفساد يظهر ممّا أسلفناه ، لأنّ تسليم شمول أدلّة وجوب التوضّؤ والحجّ بعمومها لما فيه الضرر البدني مثلا ، لا يجامع دفع ما يتدارك به الضرر الحاصل منهما بالأصل بإزاء الضرر الحاصل منهما. ولا وجه لدعوى كون النفع العائد منهما محتملا ، إذ مع تسليم شمول عموم الأدلّة لصورة الضرر ، فهو يكشف عن وجود مصلحة في الفعل يتدارك بها الضرر الحاصل به ، سوى المثوبة الحاصلة بالإطاعة ، كيف لا ولو فرض أمر الشارع بخصوص من يتضرّر باستعمال الماء بالتوضّؤ فلا ريب في عدم قبحه ، لكشف الأمر عن وجود مصلحة فائقة على الضرر الحاصل منه. ولا شكّ في عدم الفرق بين الأمر بعموم ما يشمل مورد الضرر ، وبخصوص الفعل المتضمّن له فيما ذكرناه.

وهنا وجه آخر لكون هذه القاعدة من قبيل الاصول دون الأدلّة ، ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله ، قال فيما حكي عنه : «أنّه تعالى لا يرضى بإضرار بعض عباده بعضا ، ولا يفعل ما يضرّ بعباده ، ويجوز لمن تضرّر دفع الضرر عن نفسه. فالمراد بنفي الضرر نفي ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التكاليف الثابتة بالنسبة إلى

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

طاقة أوساط الناس البريئين عن المرض والعذر الذي هو معيار مطلق التكاليف ، بل هي منتفية من الأصل إلّا فيما ثبت وبقدر ما ثبت ، ولا يريد الله الضرر إلّا من جهة التكاليف الثابتة بحسب أحوال متعارف الأوساط» انتهى.

وإذا كان المراد بالضرر هو الزائد على الضرر الحاصل في طبائع التكاليف بالنسبة إلى أوساط الناس ، فنفي الضرر حينئذ لا يعارض التكاليف الضرريّة غير الزائد ضررها على الضرر الحاصل في طبائعها بالنسبة إلى الأوساط. نعم ، هو يعارض الدليل المثبت للتكليف الضرري الزائد على ما في طبائعها بالنسبة إلى الأوساط ، فللقاعدة حينئذ جهة أصليّة وجهة دليليّة. ولكن كلمات علمائنا الأخيار ـ بل إجماعهم وأخبار أئمّتنا الأطهار عليهم‌السلام ـ تدفع كونها من قبيل الأصل مطلقا أو في الجملة ، بحيث يتوقّف جريانها في مورد على عدم الدليل. أمّا الأوّل فواضح.

وأمّا الثاني فلما تقدّم من الأخبار مستندا للقاعدة ، لتضمّن جملة منها لتمسّك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض خلفائه المعصومين عليهم‌السلام بالقاعدة في مقابل الأدلّة المنافية لها ، كما في قصّة سمرة حيث أمر بقلع العذق تمسّكا بالقاعدة ، مع مخالفتها لسلطنة المالك على التصرّف في أمواله. وكذا قد أثبت الشفعة بها ، مع مخالفتها لعموم وجوب الوفاء بالعقود. وحكم فيمن اشترى بعيرا مريضا وأشرك فيه رجلا بدرهمين في الرأس والجلد ، واتّفق أنّ البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير ، بأنّ له خمس ما بلغ ، وأنّه إن قال : لا اريد إلّا الرأس والجلد فليس له ذلك ، تمسّكا بالقاعدة ، مع مخالفتها لقاعدة الشركة.

وإذا ثبت عدم كونها من قبيل الاصول ، ففي كونها من قبيل الأدلّة العقليّة أو اللفظيّة وجهان ، بل قولان. واستدلّ على الأوّل في العناوين بما حاصله : أنّ العقل كما يقبّح إضرار الناس بعضهم ببعض فيحرم لذلك ، كذلك يقبّح الإضرار من الله تعالى عن ذلك ، فيحرم عليه أيضا ، بمعنى عدم جواز صدوره عنه سبحانه عقلا ، فإنّ

٤٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الضرر والضرار مناف للطف والعدل على ما يفهم من معناهما ، ومثل ذلك غير مجوّز عقلا أيضا ، كما أسلفناه في مسألة العسر والحرج.

وأقول : إنّ قبح الإضرار من المكلّفين إنّما هو مع قصده ، وأمّا لا معه فلا نسلّم قبحه ، ولعلّ المستدلّ أيضا لا ينكر ذلك. وموضوع البحث هنا أعمّ ممّا صدر عن عزم والتفات وغيره ، فالدليل لا يعمّ موارد المدّعى. وأمّا قبحه من الله تعالى فإنّما يتّجه على تقدير إدراك العقل عدم تداركه بما هو أصلح للعبد. ولعلّ الأمر بالفعل الضرري لدفع ضرر أشدّ منه بدني أو مالي أو غيرهما ، أو منفعة كذلك ، أو لمجرّد الابتلاء.

وبالجملة ، إنّ أمر الشارع بفعل ضرري يكشف عن وجود مصلحة فيه فائقة على الضرر الحاصل منه ، لقبح الإضرار من الحكيم على الإطلاق. وهذا ليس بمجرّد احتمال حتّى يدفع بالأصل كما توهّم ، فتعيّن أن تكون القاعدة من الأدلّة النقليّة الثابتة بالأخبار المتقدّمة. وهل هي في عرض سائر القواعد حتّى يلتمس الترجيح في موارد التعارض ، أو هي حاكمة عليها؟ والأوّل يظهر من غير واحد من المتأخّرين ، قال المحقّق القمّي رحمه‌الله : «قاعدة لزوم البيع تعارض قاعدة الضرر ، وبينهما عموم من وجه ، ويحكم بالخيار ترجيحا للثاني من جهة العقل والعمل وغيرهما ، ولو كانت من باب الأصل لما عارضت الدليل» انتهى. ونقل المصنّف رحمه‌الله عن الفاضل النراقي. والثاني هو المختار وفاقا للمصنّف رحمه‌الله.

ويدلّ عليه وجوه :

أحدها : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من قياس هذه القاعدة على نظائرها من سائر القواعد من قاعدة العسر وغيرها ، فكما أنّ قاعدة العسر تقدّم على سائر أدلّة التكاليف من دون ملاحظة الترجيح بينهما ، كذلك هذه القاعدة.

وثانيها : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من ورود أخبار هذه القاعدة في مقام الامتنان على العباد ، وهو إنّما يتحقّق فيما كانت العمومات والمطلقات مثبتة

٤٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للتكاليف مطلقا حتّى في مورد الضرر ، ليكون رفعها بهذه الأخبار عن موارد الضرر منّة على العباد ، ولا نعني بالحكومة سوى هذا المعنى. ولو لم تكن العمومات والمطلقات مقتضية لثبوت مقتضياتها مطلقا حتّى في موارد الضرر ، لم يكن للامتنان معنى في المقام.

وثالثها : أنّ معنى الحكومة ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ـ أن يكون أحد الدليلين متعرّضا بمدلوله اللفظي للآخر ومبيّنا للمراد منه ، إمّا بالتعميم في موضوعه ، أو التخصيص فيه.

أمّا الأوّل فمثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين ، لحكومته على ما دلّ على أنّه لا صلاة إلّا بطهور ، بالتعميم في موضوع الطهارة في الدليل المحكوم عليه ، لدلالته على كون المراد بها فيه أعمّ من الطهارة الواقعيّة والثابتة بالاستصحاب أو البيّنة ، وذلك لأنّ دليل الاستصحاب ـ أعني : قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» متعرّض بمدلوله اللفظي لبيان حال ما دلّ على أنّه لا صلاة إلّا بطهور مثلا ، وكذا دليل حجّية البيّنة إذا قامت على طهارة ثوب المصلّي ، فإنّهما يبيّنان ويفسّران المراد بالطهارة في قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» وأنّها أعمّ من الطهارة المعلومة والطهارة المستصحبة وما قامت عليه البيّنة.

وأمّا الثاني فكقاعدة الضرر أو العسر أو غيرهما ، لدلالتهما على كون المراد بمتعلّق التكليف في سائر العمومات والمطلقات ما عدا موارد الضرر والعسر. فتعرّض الدليل الحاكم لبيان المراد بالدليل المحكوم عليه تارة يكون بالتعميم في موضوع الدليل المحكوم عليه ، واخرى بالتخصيص فيه.

وممّا ذكرناه قد ظهر أنّ الأخبار الواردة في مقام بيان هذه القاعدة بالنسبة إلى أدلّة التكاليف من قبيل ذلك ، لأنّ مقتضاها نفي الحكم الضرري من بين الأحكام ، فهي تنادي بأعلى صوتها عدم تشريع حكم ضرري في جملة الأحكام التي تثبت بمقتضى أدلّتها ، فكلّ حكم في مورد الضرر غير مجعول للشارع. فهذه الأخبار

٤٠٨

الوضوء على واجد الماء ، وحرمة الترافع إلى حكّام الجور وغير ذلك.

وما يظهر من غير واحد (٥) من أخذ التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة ، ثمّ ترجيح هذه إمّا بعمل الأصحاب وإمّا بالاصول ـ كالبراءة في مقام التكليف وغيرها في غيره ـ ، فهو خلاف ما يقتضيه التدبّر في نظائرها من أدلّة «رفع الحرج» و «رفع الخطأ والنسيان» و «نفي السهو على كثير السهو» و «نفي السبيل على المحسنين» و «نفي قدرة العبد على شىء» ونحوها ، مع أنّ وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات.

والمراد بالحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال دليل

______________________________________________________

مفسّرة ومبيّنة بمداليلها اللفظيّة لحال سائر العمومات والمطلقات ، ومصرّحة بعدم شمولها لموارد الضرر. فلا تعارض بينهما حتّى يلتجئ إلى ملاحظة الترجيح في موارد الاجتماع ، إذ لا معنى للتعارض مع كون أحد الدليلين مفسّرا للمراد بالآخر ، إمّا بالتعميم أو التخصيص فيه كما أشرنا إليه. نعم ، لو ورد دليل خاصّ على ثبوت حكم ضرري في مورد خاصّ كان مخصّصا لهذه القاعدة ، لعدم كونها من القواعد التي لا تقبل التخصيص.

ورابعها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض خلفائه المعصومين عليهم‌السلام قد استدلّا بهذه القاعدة في مقابل سائر العمومات والمطلقات المثبتة للتكليف من دون ملاحظة الترجيح بينهما ، كما في قصّة سمرة ومسألة الشفعة وغيرهما ممّا تقدّم ، ولو لا قضيّة الحكومة بينهما لا يبقى وجه لتقديمها عليه من دون ملاحظة ترجيح بينهما.

وخامسها : سيرة العلماء ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في بعض رسائله. قال في تقريبه : «عليه جرت سيرة الفقهاء في مقام الاستدلال في مقامات لا يخفى ، منها استدلالهم على ثبوت خيار الغبن وبعض خيارات أخر بقاعدة نفي الضرر ، مع وجود عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الدالّ على لزوم العقد ، وعدم سلطنة المغبون على إخراج ملك الغابن بالخيار عن ملكه» انتهى.

٤٠٩

آخر من حيث إثبات حكم لشىء أو نفيه عنه. فالأوّل مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو شهادة العدلين ، فإنّه حاكم على ما دلّ على أنّه «لا صلاة إلّا بطهور» ؛ فإنّه يفيد بمدلوله اللفظي أنّ ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل «لا صلاة إلّا بطهور» وغيرها ، ثابت للمتطهّر بالاستصحاب أو بالبيّنة. والثاني مثل الأمثلة المذكورة.

وأمّا المتعارضان ، فليس في أحدهما دلالة لفظيّة على حال الآخر من حيث العموم والخصوص ، وإنّما يفيد حكما منافيا لحكم الآخر ، وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحقّقهما واقعا يحكم بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما المعيّن إن كان الآخر أقوى منه ، فهذا الآخر الأقوى قرينة عقليّة على المراد من الآخر ، وليس في مدلوله اللفظيّ تعرّض لبيان المراد منه.

ومن هنا وجب ملاحظة الترجيح في القرينة ؛ لأنّ قرينيّته بحكم العقل بضميمة المرجّح. أمّا إذا كان الدليل بمدلوله اللفظي كاشفا عن حال الآخر ، فلا يحتاج إلى ملاحظة مرجّح له ، بل هو متعيّن للقرينيّة بمدلوله له. وسيأتي لذلك توضيح في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا (١٩٨٥) من حكومة الرواية وورودها في مقام الامتنان نظير أدلّة نفي الحرج والإكراه : أنّ مصلحة الحكم الضرري المجعول بالأدلّة العامّة لا تصلح أن تكون تداركا للضرر ، حتّى يقال : إنّ الضرر يتدارك بالمصلحة العائدة إلى المتضرّر وإنّ الضرر المقابل بمنفعة راجحة عليه ليس بمنفي ، بل ليس ضررا.

______________________________________________________

١٩٨٥. توضيحه : أنّ مقتضى حكومة قاعدة الضرر على عمومات التكاليف أن لا تكون المصالح التي تنشأ منها الأحكام صالحة لتدارك ما يترتّب عليها من الضرر في بعض مواردها ، وإلّا لم يكن لحكومة هذه القاعدة عليها وجه ، لأنّ الشارع إذا أمر بالتوضّؤ على وجه الإطلاق الشامل لصورة التضرّر باستعمال الماء كان ذلك كاشفا عن وجود مصلحة فيه حتّى في مورد الضرر ، وإلّا كان إطلاق

٤١٠

توضيح الفساد : أنّ هذه القاعدة تدلّ على عدم جعل الأحكام الضرريّة واختصاص أدلّة الأحكام بغير موارد الضرر. نعم ، لو لا الحكومة ومقام الامتنان كان للتوهّم المذكور مجال. وقد يدفع : بأنّ العمومات (١٩٨٦) الجاعلة للأحكام إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر ، وهذه المصلحة لا يتدارك بها الضرر الموجود في مورده ؛ فإنّ الأمر بالحجّ والصلاة مثلا يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر ، ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر.

______________________________________________________

الأمر خاليا من المصلحة ، إلّا أنّ حكومة هذه القاعدة على إطلاق الأمر بالتوضّؤ يكشف عن عدم وجود المصلحة في مورد الضرر ، بمعنى عدم كون أصل مصلحة الحكم متداركة للضرر الحاصل من استعمال الماء ، وإلّا لم يكن لوضع الحكم عن مورد الضرر معنى ، لارتفاع موضوع الضرر حينئذ بتداركه بمصلحة مساوية له أو أقوى منه.

١٩٨٦. الدافع هو صاحبا العوائد والعناوين ، وقد تقدّم كلامهما عند شرح ما يتعلّق ببيان حكومة هذه القاعدة على سائر العمومات. ونقول هنا أيضا توضيحا لبيان مرادهما : إنّ غاية ما يلزم من الأمر على وجه العموم أو الإطلاق هو حسن الطبيعة التي تعلّق بها أو بأفرادها الأمر ووجود مصلحة فيها ، فإذا فرض ترتّب ضرر على العمل به في واقعة خاصّة ، فإطلاق الأمر أو عمومه إنّما يكشف عن وجود مصلحة في نفس الطبيعة مع قطع النظر عن أفرادها وخصوصيّاتها ، وهذه المصلحة لم تلاحظ في مقابل الضرر الحاصل من خصوصيّات الأفراد ، فلا تصلح لتداركه. فشمول الأمر بإطلاقه أو عمومه لمثل هذا الفرد موقوف على وجود مصلحة فيه زائدة على مصلحة الطبيعة حتّى يتدارك بها الضرر الحاصل به.

وهذه المصلحة إن كانت ملحوظة في نظر الشارع في نفس الأمر في مقابل الضرر الحاصل منه صحّ تعلّق الأمر به ، وحينئذ يخرج هذا الفرد من موضوع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» كسائر الأفراد التي لا يترتّب عليها ضرر أصلا ، لارتفاع الضرر فيه أيضا بالتدارك. وإن لم تكن ملحوظة كذلك ، بأن لم تكن فيه

٤١١

وهذا الدفع أشنع من أصل التوهّم ؛ لأنّه إذا سلّم عموم الأمر بصورة الضرر كشف عن وجود مصلحة يتدارك بها الضرر في هذا المورد ، مع أنّه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الأجر المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أفضل الأعمال أحمزها» ، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول من : «أنّ الأجر على قدر المشقّة» ، فالتحقيق في دفع التوهّم المذكور : ما ذكرناه من الحكومة والورود في مقام الامتنان.

______________________________________________________

مصلحة زائدة على مصلحة الطبيعة ، فقاعدة نفي الضرر تمنع شمول عموم الحكم له ، وتخصّصه بغير موارد الضرر ، ولا علم لنا بوجود هذه المصلحة الزائدة في موارد الضرر حتّى يقال بتداركه بها. ومع تكافؤ احتمالي وجودها وعدمها تتعارض هذه القاعدة مع عموم الأمر ، بل أصالة عدم هذه المصلحة الزائدة تقضي بكون المورد من موارد القاعدة ، لا كونه مشمولا لعموم الأمر.

فأمّا أشنعيّة هذا الدفع من أصل التوهّم فاعلم : أنّ المصنّف رحمه‌الله قد أشار بقوله : «إن سلّم أوّلا» إلى منع شمول إطلاق الأمر أو عمومه لموارد الضرر. وثانيا على تقدير التسليم إلى منع عدم انجبار الضرر الموجود بمصلحة الحكم.

أمّا الأوّل فإنّ مقتضى إطلاق نفي الضرر في الأحكام عدم وجود مصلحة متداركة في موارد الضرر ، وعدم شمول إطلاق الأمر أو عمومه لها ، كما أسلفناه في الحاشية السابقة ، كيف لا ولو فرض احتمال وجودها في مورد الضرر لم يبق مورد لهذه القاعدة ، لأنّها إنّما وردت في مقابل سائر العمومات والمطلقات. فلو تعارض احتمال وجود المصلحة الزائدة واحتمال عدمها في موارد الضرر ، لا تكون هذه القاعدة مستقلّة بنفي حكم في مورد إلّا بضميمة الأصل ، إلّا في موارد أصالة البراءة التي أغنتنا عن التمسّك بالقاعدة فيها. ومن لاحظ الأخبار الواردة في المقام على جهة الامتنان قطع بفساده.

وأمّا الثاني فإنّ تسليم عموم الأمر أو إطلاقه لموارد الضرر يكشف عن وجود المصلحة الزائدة فيها لا محالة ، وإلّا بقي شموله لها بلا مصلحة ، وهو قبيح.

٤١٢

ثمّ إنّك قد عرفت بما ذكرنا : أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا ودلالة ، إلّا أنّ الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ، كما لا يخفى على المتتبّع ، خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدّم ، بل لو بني على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد. ومع ذلك ، فقد استقرّت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام وعدم رفع اليد عنها إلّا بمخصّص قويّ في غاية الاعتبار ، بحيث يعلم منهم انحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة. ولعلّ هذا كاف (١٩٨٧)

______________________________________________________

ومحصّل ما ذكرناه هنا وفي الحاشية السابقة : أنّ القاعدة إن لم تكن حاكمة على عموم الأمر ، فعمومه لموارد الضرر يكشف عن وجود المصلحة الزائدة فيها لا محالة ، فيقع التعارض بينه وبين قاعدة نفي الضرر. وإن كانت حاكمة عليه ، فهو لا يتمّ إلّا بتسليم عدم جبر المصلحة للضرر الموجود.

وممّا ذكرناه قد ظهر أنّ خروج مثل الزكاة والخمس والجهاد من عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» إنّما هو من باب التخصّص دون التخصيص ، إذ لا بدّ فيها من وجود مصلحة متداركة لا محالة ، بناء على عدم صدق الضرر مع تداركه بمصلحة موازية أو أقوى منه. ولكنّه لا يخلو من نظر ، لأنّ تدارك الضرر إنّما يصحّح التكليف بالتضرّر ، ولا يوجب خروجه من موضوع الضرر ، فلا بدّ أن يكون خروج ما ذكرناه من باب التخصيص دون التخصّص.

١٩٨٧. يعني : عمل العلماء في جبر وهن دلالة العامّ على مورد الشك. وربّما يقال بكفاية عدم إعراض الأصحاب عن العامّ في مورد التمسّك في جبر وهنه. والأقرب هو الأوّل. والسرّ في كفايته أنّ وهن العموم بكثرة ورود التخصيص ، إمّا من جهة أنّه مع ورود مخصّصات كثيرة على عامّ وعدم معرفة جميعها بأعيانها ، يحصل العلم إجمالا بورود بعض المخصّصات عليه ، ومع الشك في مورد في بقائه تحت العامّ أو خروجه ببعض المخصّصات التي لا نعرفها تفصيلا ، يعود العامّ مجملا لا يجوز التمسّك به في مورد الشك.

٤١٣

في جبر الوهن المذكور وإن كان في كفايته نظر (١٩٨٨) ؛ بناء على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك ، غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى ، واستدلال العلماء لا يصلح معيّنا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة.

______________________________________________________

وإمّا من جهة ضعف ظهور العامّ في العموم والشمول بتوارد المخصّصات الكثيرة عليه ، وإن لم يكن هنا علم إجمالي ، بل الظنّ قبل الفحص في مثل ما نحن فيه حاصل بخروج مورد الشكّ من تحت العامّ ، إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

ويدفع الأوّل أنّه إنّما يتمّ في موارد العمل بالعامّ من دون ضميمة عمل العلماء لا معها ، لا بمعنى ارتفاع العلم الإجمالي بعملهم حتّى يمنع ، بل بمعنى كشف عملهم عن خروج مورد عملهم من أطراف العلم الإجمالي. وبعبارة أخرى : أنّ مورد الشكّ لمّا كان محتمل الدخول في أطراف العلم الإجمالي ، فعملهم يكشف عن خروجه منها من أوّل الأمر.

ويدفع الثاني أنّ غاية ما يقتضيه ورود المخصّصات الكثيرة على العامّ هو وجوب الفحص عن مخصّصاته في مظانّها ، ومظانّها فيما نحن فيه هي الأخبار بضميمة عمل العلماء ، فبعد الفحص عنها كذلك يرتفع محذور وهن العموم ، وذلك لأنّ العمل بالعمومات ـ سيّما الموهون منها بكثرة التخصيص ـ وإن كان مشروطا بالفحص عن مخصّصاتها عن مظانّها إلى أن يحصل اليأس من وجدانها ، إلّا أنّ مظانّ مخصّصات هذه القاعدة ليست مضبوطة معلومة حتّى يرجع في الفحص عنها إليها ، لأنّ أكثر التخصيصات الواردة عليها معلوم بالإجماع دون النصّ ، فلا بدّ في العمل بها من الرجوع إلى عمل الأصحاب الناقدين للآثار المرويّة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، إذ بعد الرجوع إليه يرتفع وهن العموم ، ويزول الظنّ المذكور ، ويحصل للعامّ ظهور في الشمول ، وعدم خروج مورد الشكّ من العموم.

١٩٨٨. تقرير وجه النظر : أنّ كثرة التخصيص إن بلغت إلى مرتبة الاستهجان ،

٤١٤

إلّا أن يقال ـ مضافا إلى منع أكثريّة الخارج (١٩٨٩) وإن سلّمت كثرته ـ إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العامّ إنّما خرجت بعنوان واحد جامع (١٩٩٠) لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل ، وقد تقرّر أنّ تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : «أكرم الناس» ودلّ دليل على اعتبار العدالة ، خصوصا إذا كان المخصّص ممّا يعلم به المخاطب حال الخطاب.

______________________________________________________

فلا بدّ من حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» على معنى آخر لا يلزم منه ذلك ، كما إذا حمل النفي على معنى النهي أو غير ذلك. وإن لم تبلغ إليها فلا يبقى فرق بين هذا العامّ وسائر العمومات المخصّصة ، فلا وجه لتخصيص الوهن بالدلالة به.

مع أنّ ما ذكرناه من الوجهين في الحاشية السابقة على تقدير تسليمهما إنّما يتمّ وجها في جبر وهن الدلالة في موارد ثبوت عمل العلماء دون غيره. وظاهر المصنّف رحمه‌الله كفاية عملهم في الموارد الكثيرة في جبر وهنها مطلقا ، حتّى في مورد لم يثبت عملهم بالعامّ فيه. وهو لا يخلو من نظر ، لأنّ صلاحيّة عملهم للجبر إنّما هو من جهة كشفه عن عدم خروج محلّ الشكّ من عموم العامّ ، وعملهم إنّما يكشف عن ذلك في مورد عملهم لا مطلقا.

١٩٨٩. يمكن أن يقال على تقدير تسليم أكثريّة الخارج : إنّ المستهجن منها ما كان الباقي بعد تخصيص الأكثر قليلا لا يعتدّ به في جنب الخارج ، كالواحد والاثنين بالنسبة إلى عشرين أو ثلاثين ، بخلاف ما لو كان الباقي كثيرا في نفسه ومعتدّا به بحياله ، وإن كان الخارج أكثر منه ، كالعشرة بالنسبة إلى اثني عشر ، لمنع الاستهجان في الثاني ، فتأمّل.

١٩٩٠. فإن قلت : إنّ التخصيص النوعي خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّا بدليل ، لظهور العامّ في العموم الأفرادي ، والمخصّصات في كون خروج الخارج بعنوانه الخاصّ لا بعنوان عامّ ، مع أنّه مع عدم معرفة عنوان المخصّص يحتمل دخول

٤١٥

ومن هنا ظهر وجه صحّة التمسّك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها كما في قوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم» (١٩٩١) وقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١٩٩٢) بناء على إرادة العهود كما في الصحيح.

______________________________________________________

محلّ الشكّ في عنوان المخصّص ، فيعود العامّ من قبيل المخصّص بالمجمل.

قلت : ليس مرادنا بالتخصيص النوعي تخصيص نوع من الأفراد ، بل المراد تخصيص أفراد نوع واحد ، لكن لا بلحاظ كلّي جامع بين الأفراد ، بل بلحاظ أشخاص الأفراد ، لكن من نوع واحد. ودعوى عود محذور لزوم تخصيص الأكثر المستهجن ، مدفوعة بمنع استهجان هذا القسم من التخصيص ، لأنّا وإن قلنا باستهجان تخصيص الأكثر ، ولكنّه ليس على إطلاقه ، إذ لا بدّ من استثناء بعض الموارد منه ، مثل الوقوع في مقام المزاح والهزل ، وما نحن فيه أيضا من جملة موارد الاستثناء. ويشهد به تمسّك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعموم «لا ضرر» في قصّة سمرة ، والصادق عليه‌السلام في الشفعة ، فإن تمسّكهما بالعموم يكشف إمّا عن عدم ورود تخصيص الأكثر عليه ، بأن كان التخصيص بحسب النوع ، وإمّا عن عدم استهجان تخصيص الأكثر ، ولكن يبقى الإشكال حينئذ في كون العامّ من قبيل المخصّص بالمجمل.

١٩٩١. لأنّ الشرط لغة إمّا بمعنى الإلزام والالتزام بشيء مطلقا كما في الصحاح ، وهو غير واجب إلّا بمثل النذر والعهد أو في ضمن العقد مع شرائطه الخاصّة ، أو إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه كما في القاموس ، وقد خرج منه ما خالف مقتضى العقد ، وما حلّل حراما أو حرّم حلالا ، وغير ذلك.

١٩٩٢. عن مجمع البيان : «أنّ العقد أوكد العهود ، فاختلف في هذه العهود على أقوال : أحدها : أنّه عهود أهل الجاهليّة بينهم على النصرة والمؤازرة والمظاهرة. وثانيها : أنّه عهود الله في حلاله وحرامه. وثالثها : العقود التي يعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه ، كعقد الأيمان. ورابعها : أمر أهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم بالعمل بالتوراة والإنجيل في تصديق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء

٤١٦

ثمّ إنّه يشكل الأمر (١٩٩٣) من حيث إنّ ظاهرهم في (*) الضرر المنفي الضرر النوعي لا الشخصي ، فحكموا بشرعيّة الخيار للمغبون نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وإن فرض عدم تضرّره في خصوص مقام ، كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقائه ضررا على البائع ؛ لكونه في معرض الإباق أو التلف أو الغصب ، وكما إذا لم يترتّب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع ، بل كان له فيه نفع.

وبالجملة : فالضرر عندهم في بعض الأحكام حكمة لا يعتبر اطّرادها ، وفي بعض المقامات يعتبرون اطّرادها ، مع أنّ ظاهر الرواية اعتبار الضرر الشخصي ، إلّا أن

______________________________________________________

به من عند الله. وأقواها القول الثاني ، كما رواه ابن عبّاس. وتدخل فيه جميع الأقوال الأخر» انتهى. وفي الصحيح ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ، وهو المرويّ عن القمّي عن الصادق عليه‌السلام ـ تفسيرها بالعهود.

١٩٩٣. وجه الإشكال : أنّ ظاهر الروايات اعتبار الضرر الشخصي ، وظاهر العلماء حيث تمسّكوا بهذه القاعدة في إثبات خيار الغبن والعيب والشفعة هو اعتبار الضرر النوعي ، بالتقريب الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله. ويدلّ عليه أيضا استدلال الإمام عليه بهذه القاعدة لإثبات الشفعة مطلقا في بعض أخبار الباب ، كما تقدّم في بعض الحواشي المتقدّمة.

وربّما يقال : إنّ الظاهر من الروايات اعتبار الضرر الشخصي ، فهو الأصل في كلّ مقام ، إلّا أن يدلّ دليل خاصّ من خبر أو سيرة من العلماء في مورد خاصّ ـ كما عرفت ـ على اعتبار الضرر النوعي ، لكون ذلك قرينة لإرادته في الموارد الخاصّة ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» من باب الدعوى وتنزيل الضرر النوعي منزلة الشخصي ، كما ارتكب مثله في قوله عليه‌السلام : «لا عسر ولا حرج في الدين». وحاصله : اعتبار عموم المجاز في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» لعدم صحّة إرادة المعنى الحقيقي والمجازي من لفظ واحد ، كما هو واضح.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «فى» ، من.

٤١٧

يستظهر (١٩٩٤) منها انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وإن لم يوجبه دائما ، كما قد يدّعى نظير ذلك في أدلّة نفي الحرج.

ولو قلنا بأنّ التسلّط على ملك الغير بإخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا ، صار الأمر أشكل (١٩٩٥).

إلّا أن يقال : إنّ الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار ، فتأمّل.

ثمّ إنّه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد (١٩٩٦) أو شخصين ،

______________________________________________________

١٩٩٤. كما ترشد إليه رواية الشفعة ، كما عرفته في الحاشية السابقة.

١٩٩٥. لكون نفي الضرر حينئذ مستعقبا لضرر آخر ، فتتعارض فيهما القاعدة. وحاصل ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله : أنّ الضرر الثاني ليس بضرر ، لترتّبه على تزلزل العقد كما في سائر العقود الجائزة. ويحتمل أن يريد أنّ الضرر الثاني مرتّب على جريان القاعدة في الضرر الأوّل ، فلا تشمله القاعدة ، لاستناد ثبوته إليها.

ولعلّ الأمر بالتأمّل على الأوّل إشارة إلى أنّ الثاني إنّما لا يكون ضررا على تقدير عدم لزوم العقد ابتداء ، مع قطع النظر عن الضرر الأوّل ، والفرض أنّ تزلزل العقد إنّما نشأ من تقديم ضرر البائع والشفيع على ضرر صاحبه. وعلى الثاني إشارة إلى أنّ عدم شمول القاعدة للضرر الثاني إنّما هو بالدلالة اللفظيّة ، وإلّا فلا ريب في شمولها له بتنقيح المناط. نظير ما أجيب عمّا اعترض على ما أورد على المرتضى فيما ادّعاه من الإجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، فإنّه أورد عليه باستلزامه عدم حجّية ما نقله من الإجماع ، لكونه من جملة أخبار الآحاد ، واعترض عليه بأنّه لا يشمل نفسه ، وأجيب عنه بأنّه وإن لم يشمل نفسه بالدلالة اللفظيّة إلّا أنّه يشمله بتنقيح المناط.

١٩٩٦. قال المصنّف رحمه‌الله في رسالته المفردة في هذه القاعدة : «لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين ، بحيث يكون الحكم بعدم أحدهما مستلزما للحكم بثبوت الآخر ،

٤١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد فلا إشكال في تقديم الحكم الذي يستلزم ضررا أقلّ ممّا يستلزمه الحكم الآخر ، لأنّ هذا هو مقتضى نفي الحكم الضرري عن العباد ، فإنّ من لا يرضى بتضرّر عبده لا يختار له إلّا أقلّ الضررين عند عدم المناص عنهما» انتهى.

وأقول : إنّ الضررين المتوجّه أحدهما إلى العبد على وجه الدوران لا يخلوان : إمّا أن يتساويا بحسب المرتبة والاعتقاد ، بأن كانا ماليّين أو عرضيّين أو نفسيّين ، ويكونا مظنونين أو مقطوعين. وإمّا أن يكون أحدهما راجحا بحسب المرتبة والاعتقاد ، والآخر مرجوحا كذلك. وإمّا أن يكون أحدهما راجحا بحسب المرتبة ومساويا للآخر بحسب الاعتقاد ، وإمّا بالعكس. وإمّا أن يكون لكلّ منهما جهة رجحان ، بأن كان أحدهما راجحا بحسب المرتبة ، والآخر بحسب الاعتقاد. وهذه أقسام خمسة.

أمّا الأوّل منها فلا إشكال في تخيّر المكلّف في أخذ أحدهما ودفع الآخر مع تساويهما في الكميّة. وأمّا مع اختلافهما فيها فيدخلان في صورة رجحان أحدهما.

وأمّا الثاني والثالث والرابع فيدفع الضرر الراجح فيها ، ويؤخذ بالمرجوح مع تساويهما في الكميّة. وأمّا مع اختلافهما فيها ، بمعنى كون المرجوح أكثر مقدارا من الراجح ، فهو يدخل في القسم الخامس ، أعني : صورة رجحان كلّ منهما من جهة. وليعلم أنّ هذا القسم يختلف بحسب الأشخاص ، إذ ربّ شخص يتحمّل الضرر المالي وإن كان كثيرا دون العرضي وإن كان قليلا ، والضرر العرضي المقطوع به أولى من المالي المظنون في الجملة ، فلا بدّ من ملاحظة الأشخاص ودفع الراجح بحسب حالهم.

هذا كلّه فيما كان الضرران دنيويّين. وإن كان أحدهما دنيويّا والآخر اخرويّا ، كما في الزكاة والخمس والجهاد ، فلا يخلو : إمّا أن يقوم على الاخروي دليل قطعي أو ظنّي معتبر ، فيقدّم على الدنيوي ، لأنّ الضرر الاخروي قليله أشدّ

٤١٩

فمع فقد المرجّح (١٩٩٧) يرجع إلى الاصول والقواعد الأخر ، كما أنّه إذا اكره على الولاية من قبل الجائر المستلزمة للإضرار على الناس ، فإنّه يرجع إلى قاعدة «نفي

______________________________________________________

بمراتب من المهالك الدنيويّة فضلا عن سائر مضرّاته. وإمّا أن لا يقوم عليه دليل كذلك ، فيقدّم الضرر الدنيوي حينئذ ، لكون أصالة البراءة حينئذ مؤمّنة عن الضرر الاخروي المشكوك أو المظنون بظنّ غير معتبر.

١٩٩٧. قال المصنّف رحمه‌الله بعد ذكر ما قدّمناه في الحاشية السابقة : «وإن كان بالنسبة إلى شخصين فيمكن أن يقال أيضا بترجيح الأقلّ ضررا ، إذا مقتضى نفي الضرر عن العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره أكثر من ضرر الحكم الآخر ، لأنّ العباد كلّهم متساوون في نظر الشارع ، بل بمنزلة عبد واحد ، فإلغاء الشارع أحد الشخصين في الضرر بتشريع الحكم الضرري فيما نحن فيه ، نظير لزوم الإضرار بأحد الشخصين لمصلحته ، فكما يؤخذ فيه بالأقلّ كذلك فيما نحن فيه ، ومع التساوي فالرجوع إلى العمومات الآخر ، ومع عدمها فالقرعة. لكن مقتضى هذا ملاحظة ضرر الشخصين المختلفين باختلاف الخصوصيّات الموجودة في كلّ منهما من حيث المقدار ومن حيث الشخص ، فقد يدور الأمر بين ضرر درهم وضرر دينار ، مع كون ضرر الدرهم أعظم بالنسبة إلى صاحبه من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه ، وقد يعكس حال الشخصين في وقت آخر» انتهى.

وأقول : إنّ تحقيق الكلام في المقام إنّ تعارض الضررين تارة مع وجود المرجّح لأحدهما ، واخرى مع فقده.

أمّا الأوّل فلا إشكال في تقديم الراجح منهما ، والمرجّح امور :

أحدها : الملكيّة. وسيجيء أنّ تصرّف المالك إذا استلزم تضرّر جاره يقدّم ضرر المالك. نعم ، قد يقدّم ضرر الجار ، كما إذا غرس شجرا في ملكه فوقعت أجذاعه على ملك الجار ، فتقطع حينئذ أجذاع الشجر الواقع في ملك الغير ، لاستلزام إبقائها تصرّفا في ملك الغير ، فيدخل الضرر حينئذ على المالك. وستقف على تحقيق الكلام في ذلك.

٤٢٠