فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

والظاهر حكومة قوله «لا تعاد» على أخبار الزيادة ؛ لأنّها كأدلّة سائر ما يخلّ فعله أو تركه بالصلاة ، كالحدث والتكلّم وترك الفاتحة ، وقوله «لا تعاد» يفيد أنّ الإخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الإخلال به إذا وقع سهوا ، لا يوجب الإعادة وإن كان من حقّه أن يوجبها. والحاصل : أنّ هذه الصحيحة (١٨١٤) مسوقة لبيان عدم قدح الإخلال سهوا بما ثبت قدح الإخلال به في الجملة.

ثمّ لو دلّ دليل (١٨١٥) على قدح الإخلال بشىء سهوا (١٨١٦) ، كان أخصّ من الصحيحة إن اختصّت بالنسيان وعمّمت بالزيادة والنقصان. والظاهر أنّ بعض (١٨١٧) أدلّة الزيادة مختصّة بالسهو مثل قوله : «إذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة استقبل الصلاة».

الأمر الثاني : إذا ثبت جزئيّة شىء أو شرطيّته في الجملة ، فهل يقتضي الأصل جزئيّته وشرطيّته المطلقتين حتّى إذا تعذّرا سقط التكليف بالكلّ أو المشروط ، أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكّن ، فلو تعذّرا لم يسقط التكليف؟ وجهان بل قولان. للأوّل : أصالة البراءة من الفاقد وعدم ما يصلح لإثبات التكليف به ، كما سنبيّن. ولا يعارضها استصحاب وجوب الباقي ؛ لأنّ وجوبه كان مقدّمة لوجوب الكلّ ، فينتفي بانتفائه ، وثبوت الوجوب النفسي له مفروض الانتفاء.

______________________________________________________

فيما علّقناه على المسألة الثانية ما ينبغي تحقيق المقام به.

١٨١٤. يعني : خبر لا تعاد.

١٨١٥. معطوف على قوله : «والظاهر حكومة ..».

١٨١٦. سواء كان السهو من جهة الزيادة أم النقيصة ، لأنّ الدليل على أيّهما دلّ كان أخصّ من الصحيحة.

١٨١٧. فيكون حينئذ بين هذا البعض وبين الصحيحة عموم وخصوص مطلقا ، فتخصّص به الصحيحة. ويقع الإشكال حينئذ من وجهين : أحدهما : أنّ هذا البعض لو كان ظاهر الاختصاص بالزيادة السهويّة ، فكيف استدلّ به على البطلان في الزيادة العمديّة؟ وثانيهما : أنّه يعارض هذا البعض المرسلة المتقدّمة ، فمع

٢٤١

نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة (١٨١٨) مثلا وقلنا بكونها اسما للأعمّ ، كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء الغير المقوّمة فيها من قبيل التقييد ، فإذا لم يكن للمقيّد

______________________________________________________

فرض عدم المرجّح لا بدّ من الرجوع إلى عموم الصحيحة كما هو واضح. والله أعلم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع والمآل.

١٨١٨. توضيح المقام : أنّه إذا ورد الأمر بمركّب ، وثبت كون شيء جزءا أو شرطا له في الجملة ، وشكّ في كونه جزءا أو شرطا مطلقا أو في حال التمكّن منه خاصّة ، فلا يخلو : إمّا أن يثبت كلّ من المركّب والمشكوك فيه بدليل لبيّ أو ما في حكمه كما ستعرفه ، وإمّا بدليل لفظي مبيّن المفهوم ، بأن كان من المطلقات أو العمومات ، وإمّا أحدهما بأحدهما والآخر بالآخر.

أمّا الأوّل ، بأن ثبت كلّ منهما بالإجماع المركّب بمثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بناء على وضع ألفاظ العبادات للصحيح ، أو للأعمّ بناء على عدم استجماعها لبعض شرائط التمسّك بالمطلقات كما اختاره المصنّف رحمه‌الله في بعض المباحث السابقة ، والمشكوك فيه بمثل قوله : اركع واسجد أو تطهّر وتستّر ونحوهما ، لوضوح اختصاص التكاليف الشرعيّة بحال التمكّن ، فالحقّ حينئذ هو التمسّك بأصالة البراءة عن وجوب الباقي عند تعذّر المشكوك فيه.

ودعوى أنّه إذا دخل الوقت ومضى منه مقدار الصلاة مع التمكّن منها بجميع أجزائها وشرائطها ، ثمّ عرض العجز عن بعض أجزائها أو شرائطها ممّا شكّ في كونه جزءا أو شرطا مطلقا أو في حال التمكّن منه خاصّة ، فاستصحاب وجوب الباقي يقتضي اختصاص جزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته بحال التمكّن ، فإذا ثبت ذلك في محلّ الفرض ثبت فيما عرض العجز عنه من أوّل الوقت أو قبله بالإجماع المركّب.

لا يقال : يمكن قلبه ، بتقريب أنّه إذا ثبتت جزئيّته المطلقة أو شرطيّته كذلك بأصالة البراءة فيما عرض العجز من أوّل الوقت على ما عرفت ، ثبتت في غيره بالإجماع المركّب.

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّا نقول : إنّه قد قرّر في محلّه أنّ ضميمة الإجماع المركّب في أحد شطريه إذا كانت أقوى كان مقدّما على الدليل الموجود في الآخر ، ولا ريب أنّ الاستصحاب أقوى من أصالة البراءة ، لحكومته عليها.

مضعّفة (*) بما أشار (**) إليه المصنّف رحمه‌الله ، وسنشير أيضا إلى ما في توجيه الاستصحاب المذكور بما ذكره المصنّف رحمه‌الله دليلا على القول الثاني.

ثمّ إنّه يندرج في عنوان هذا القسم أيضا ما لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكلّ والمشروط ، بأن قال : صلّ قارئا للسورة أو متطهّرا ، وإن قلنا بكون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ، لأنّ هذا القيد مقيّد للمطلوب ، والأمر متعلّق بالمقيّد بالفتح ، فلا إطلاق له حتّى يتمسّك به في حال تعذّر القيد. نعم ، يتمّ هذا فيما ثبت القيد من الخارج كما ستعرفه.

ومن هنا يظهر أنّ الأولى أن يمثّل المصنّف رحمه‌الله لذلك بما ذكرناه لا بمثل قوله : «كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح» لأنّه إن أراد به ما لو وقع التصريح بالقيد المشكوك فيه في الكلام المشتمل على الأمر بالكلّ والمشروط كما عرفته ممّا مثّلناه ، ففيه : أنّك قد عرفت أنّه لا حاجة معه إلى اعتبار وضع ألفاظ العبادات للصحيح. وإن أراد به ما تجرّد عن القيد المذكور ، مثل قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ففيه : أنّه إن أراد ثبوت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكلّ والمشروط ثبوته به بواسطة القول بقاعدة الاشتغال عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، لأنّه إذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته ـ وإن كان الشكّ ناشئا من فتوى فقيه ـ فمقتضى القول بقاعدة الاشتغال حينئذ هو وجوب الإتيان به في حال التمكّن منه تحصيلا لليقين بالبراءة ، ولكن لا يلزم منه القول بجزئيّته في حال تعذّره أيضا ، لأنّ الشكّ في وجوب الباقي بعد تعذّره بالوجوب النفسي شكّ في أصل التكليف ينفى بأصالة

__________________

(*) «مضعّفة» خبر لقوله : «ودعوى» أوّل السطر قبل الحادى عشر أسطر.

(**) في هامش الطبعة الحجريّة : «حكي ذلك عن المحقّق الخونساري أيضا. منه».

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

البراءة ، ففيه ـ مع أنّ مختار المصنّف رحمه‌الله على القول بالصحيح هو القول بالبراءة ـ أنّ ثبوت الجزء والشرط حينئذ لم يكن بنفس الأمر بالكلّ والمشروط ، بل به بضميمة فتوى الفقيه وقاعدة الاشتغال ، فتدبّر. وإن أراد ثبوتهما به على القول بالبراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، فلا محصّل له من رأس.

ويندرج في هذا القسم أيضا ما لو ثبتت أجزاء المركّب بأوامر متعدّدة ، كما إذا قال : كبّر واقرأ الفاتحة واركع واسجد وهكذا ، مع العلم بكون المجموع تكليفا واحدا ، لما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «فإنّ كلّا منها أمر غيري» إلى آخره. والوجه فيه واضح ، لأنّ شيئا منها إن كان نفسيّا لم يعقل كونه جزءا من المركّب ، لوضوح عدم مطلوبيّة الجزء من حيث جزئيّته لنفسه ، فإذا كان غيريّا ينتفي الغير بانتفائه. وأمّا احتمال وجوب الباقي بعد انتفائه فهو منفي بأصالة البراءة.

ومن هنا يظهر ضعف ما حكي عن عوائد الأيّام ، قال : «لو كان هناك خطابات متعدّدة بتعدّد الأجزاء ، يمكن التمسّك في الأجزاء الباقية بما يدلّ عليه خطاباتها ، كما إذا قال : («يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، وقال في خطاب آخر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) أيديكم ، وهكذا إلى آخر أجزاء الوضوء ، والوجه واضح» انتهى.

وأمّا الثاني ، بأن ورد قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بناء على القول بالأعمّ وجواز التمسّك بمطلقات العبادات ، بأن كانت جامعة لشرائط العمل بالإطلاق ، وورد أيضا قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» وقوله : «لا صلاة إلّا بطهور» ونحوهما ، فإنّ مقتضى إطلاق الأمر بالصلاة وإن كان وجوب الإتيان بها ولو مع تعذّر الفاتحة والطهور ، إلّا أنّ مقتضى إطلاق جزئيّة الفاتحة وشرطيّة الطهور سقوط الأمر بها حينئذ ، وهو حاكم على الإطلاق الأوّل ، فيكون قوله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مقيّدا بالقدرة على الفاتحة والطهور ، فلا يشمل العاجز عنهما.

٢٤٤

إطلاق ـ بأن قام الإجماع على جزئيّته في الجملة أو على وجوب المركّب من هذا الجزء في حقّ القادر عليه ـ كان القدر المتيقّن منه ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر ، أمّا العاجز فيبقى إطلاق الصلاة بالنسبة إليه سليما عن المقيّد ، ومثل ذلك الكلام في الشروط.

نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكلّ والمشروط ـ كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ـ لزم من انتفائهما (١٨١٩) انتفاء الأمر ، ولا أمر

______________________________________________________

وأمّا الثالث ، فإن كان الجزء أو الشرط ثابتا بدليل لفظي مطلق ، بخلاف الكلّ والمشروط كما يظهر ممّا قدّمناه ، فهو في حكم القسم الثاني. وإن كان بالعكس يجب الإتيان بالباقي عملا بإطلاق دليل الكلّ والمشروط ، فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في هذا الفرض ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ـ بقوله : «فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في الفرض الأوّل» يعني : فيما كان المقيّد بالفتح مطلقا دون المقيّد بالكسر. ولا غرو في استلزام ذلك لكون المطلق مطلقا بالنسبة إلى بعض ومقيّدا بالنسبة إلى بعض آخر ، وذلك لأنّ هذا الإشكال الوارد في جميع المطلقات ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله إنّما هو على مذهب المشهور من ظهورها بحسب الوضع في الإطلاق ، وكون تقييدها موجبا للتجوّز ، كما نسبه إليهم المحقّق القمّي. وأمّا على مختار المصنّف رحمه‌الله وفاقا لسلطان العلماء ـ من كونها موضوعة للماهيّة المهملة فلا ، لصدقها حينئذ على المجرّد عن القيد وعلى المقيد ، لأنّ دلالة القيد حينئذ في قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) على الطبيعة والقيد من قبيل تعدّد الدالّ والمدلول ، فلفظ الرقبة يدلّ على مطلوبيّة الطبيعة ، ولفظ مؤمنة على مطلوبيّة الإيمان ، بحيث يكون انفهام كلّ منهما مستندا إلى لفظه الدالّ عليه ، وإن كان المراد الواقعي من هذا الكلام هي الطبيعة المقيّدة. وليطلب تحقيق المقام في ذلك من محلّ آخر.

١٨١٩. أي : الكلّ والمشروط.

٢٤٥

آخر بالعارى عن المفقود. وكذلك لو ثبت أجزاء المركّب من أوامر متعدّدة ؛ فإنّ كلّا منها أمر غيري إذا ارتفع بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدّمة ، أعني الكلّ ، فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في الفرض الأوّل كما ذكرنا.

ولا يلزم من ذلك استعمال لفظ «المطلق» في المعنيين ، أعني : المجرّد عن ذلك الجزء بالنسبة إلى العاجز والمشتمل على ذلك الجزء بالنسبة إلى القادر ؛ لأنّ المطلق كما بيّن في موضعه موضوع للماهيّة المهملة الصادقة على المجرّد عن القيد والمقيّد ؛ كيف؟ ولو كان كذلك كان كثير من المطلقات مستعملا كذلك ؛ فإنّ الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلّفين الموجودين أو مطلقا ، مع كونهم مختلفين في التمكّن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر ، والصحّة والمرض ، وغير ذلك. وكذا غير الصلاة من الواجبات.

وللقول الثاني : استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلّف مسبوقا بالقدرة بناء على أنّ المستصحب (١٨٢٠) هو مطلق الوجوب ، بمعنى لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره ، أو الوجوب النفسي المتعلّق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، بدعوى صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللاحق ولو مسامحة ؛ فإنّ أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : أنّ الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة ، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها.

______________________________________________________

١٨٢٠. هذا تصحيح للتمسّك بالاستصحاب بوجهين ، مرجعهما إلى المسامحة في أمر الاستصحاب ، إمّا في الحكم المستصحب أو موضوعه.

أحدهما : أنّ المستصحب هو القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري ، وهو مطلق المطلوبيّة ، وهو وإن لم يثبت وجود الفرد المحتمل المطلوب ـ أعني : الوجوب النفسي ـ إلّا على القول بالاصول المثبتة ، إلّا أنّ أهل العرف لا يفرّقون بين مطلق المطلوبيّة والمطلوبيّة النفسيّة ، ويزعمون ثبوت الثانية بثبوت الأوّل ، بزعم اتّحادهما وعدم التغاير بينهما.

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيهما : أن يدّعى أنّ المستصحب هو الوجوب النفسي لكن مع المسامحة في موضوعه ، بدعوى كون موضوعه هو المعنى الأعمّ من الواجد للجزء المتعذّر والفاقد له ، فيقال بعد تعذّر بعض الأجزاء : إنّ هذه الأجزاء الباقية كانت واجبة بالوجوب النفسي ، فالأصل بقائها على ما كانت عليه ، لفرض كون الموضوع هو المعنى الأعمّ الذي لا يقدح في صدق بقائه تعذّر بعض الأجزاء.

وهنا وجه الآخر لاستصحاب الوجوب النفسي قد أشار إليه المصنّف رحمه‌الله مع الوجهين السابقين في الأمر الحادي عشر من تنبيهات مبحث الاستصحاب ، وليطلب تحقيق المقام هناك.

وقد تمنع (*) صحّة التسامح في أمر الاستصحاب من رأس ، لأنّ هذا مبنيّ على القول باعتبار الاستصحاب لأجل دلالة الأخبار عليه ، ولا ريب أنّ المسامحة في مباحث الألفاظ إنّما هو فيما رجعت المسامحة إلى دلالة اللفظ بحسب المادّة أو الهيئة ، بأن كان لفظ الماء مثلا موضوعا بحسب اللغة للصافي منه ، وتسامح العرف في إطلاقه على الكدر منه في الجملة ، وهكذا. ومرجعه إلى كون اللفظ بحسب العرف موضوعا للأعمّ من الواجد لما يعتبر في تحقّق مدلوله اللغوي.

وأمّا لو تشخّص مدلول اللفظ بحسب اللغة والعرف ، وتسامح العرف في بعض مصاديقه العرفيّة ، بأن ثبت كون لفظ الصعيد مثلا موضوعا بحسب العرف واللغة للتراب الخالص مثلا ، فسامح العرف في إطلاقه على الرماد مثلا ، فلا دليل على اعتبار هذه المسامحة. ومن راجع أبواب الفقه وجد مداقّة العلماء في الأحكام أكثر من مداقّة الناس في الذهب والفضّة ، لكونها عندهم أعزّ منهما. فراجع مسألة المسافة في القصر والإتمام والكيل والوزن في الزكاة والخمس ، لإفتائهم بعدم جواز القصر فيما دون ثمانية فراسخ ولو بمقدار شبر ، وإن كان أهل العرف يطلقون الفرسخ على ما كان أقلّ من مقداره المعيّن بخمسين ذراعا ، وكذلك

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «المانع بعض مشايخنا. منه».

٢٤٧

ولو لم يكف هذا المقدار في الاستصحاب لاختلّ جريانه في كثير من الاستصحابات ، مثل استصحاب كثرة الماء وقلّته ؛ فإنّ الماء المعيّن الذي اخذ بعضه أو زيد عليه يقال : إنّه كان كثيرا أو قليلا ، والأصل بقاء ما كان مع أنّ هذا الماء الموجود لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة ؛ وإلّا لم يعقل الشكّ فيه ، فليس الموضوع فيه إلّا (*) هذا الماء مسامحة في مدخليّة الجزء الناقص أو الزائد في المشار إليه ؛ ولذا يقال في العرف : هذا الماء كان كذا ، وشكّ في صيرورته كذا من غير ملاحظة زيادته ونقيصته.

ويدلّ على المطلب ايضا : النبويّ (١٨٢١) والعلويّان المرويّان في عوالي اللآلي ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (١٦). وعن عليّ عليه‌السلام :

______________________________________________________

لا يتسامحون في مسألتي الزكاة والخمس بحبّة حنطة أو شعير ، وإن تسامح أهل العرف في الوزن والكيل بأزيد من ذلك. ونقول فيما نحن فيه أيضا : إذا دلّت الأخبار على عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، وتبيّنت قيود هذا الكلام مفهوما عند العرف ، فما الدليل على التسامح في مصاديقها الخارجة بما تقدّم؟

فإن قلت : استصحاب الكرّية عند الشكّ فيها إجماعي كما ادّعاه صاحب الرياض ، مع أنّه لا يتمّ ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله إلّا بالمسامحة العرفيّة.

قلت : نعم ، إلّا أنّ العلماء لعلّهم اعتمدوا فيه على بناء العقلاء ، وهو مبنيّ على الظنّ ولو نوعا. ويؤيّده عدم تمسّك من تقدّم على والد شيخنا البهائي بالأخبار الواردة في هذا الباب. وسيجيء تحقيق الكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب.

هذا ، مع أنّه قد يورد على الوجه الثاني ـ بعد تسليم المسامحة على الوجه الأوّل ـ بعدم اطّراده إذ قد لا يصدق بقاء الكلّ بعد تعذّر بعض أجزائه ، كالأجزاء الركنيّة على ما زعمه المحقّق القمّي رحمه‌الله. اللهمّ إلّا أن يكون الوجهان من قبيل مانعة الخلوّ ، لا كون كلّ واحد منهما وجها مستقلّا مطّردا في جميع الموارد.

١٨٢١. المرويّ في دعائم الإسلام ، وهو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب فقال : «إنّ الله

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : أعمّ من.

٢٤٨

«الميسور لا يسقط بالمعسور» ، و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه». وضعف أسنادها (١٨٢٢) مجبور باشتهار التمسّك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما لا يخفى على المتتبّع.

______________________________________________________

كتب عليكم الحجّ. فقام عكاشة ـ ويروى سراقة بن مالك ـ فقال : في كلّ عامّ يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا. فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم أكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم. وإنّما هلك من هلك قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».

١٨٢٢. لعدم وجودها في الكتب المعتبرة ، وإن اشتهر التمسّك بها في كتب الاستدلال. ولا إشكال في كون ذلك جابرا لضعفها ، وإنّما الإشكال في تعيين كون هذا الجبر بحسب السند أو المضمون ، بأن ثبتت بذلك مطابقة مضمونها للواقع ، وإن لم تكن هذه الأخبار بهذه الألفاظ المخصوصة صادرة عن المعصوم عليه‌السلام.

فنقول : قد اشتهر التمسّك بهذه الأخبار بين المتأخّرين في موارد الفقه ، وأمّا القدماء فلم يظهر منهم التمسّك بها. نعم ، ربّما يتمسّكون بقاعدة الميسور ، ولكن لم يظهر منهم كون هذه القاعدة عندهم مأخوذة من الأخبار المذكورة ، ولعلّه كانت عندهم أخبار أخر صحيحة الأسناد كانت عندهم مستندا لهذه القاعدة ولم تصل إلينا ، نظير تمسّكهم بقاعدة الضرر. ومجرّد اشتهار التمسّك بها بين المتأخّرين لا يصلح لجبر سندها. نعم ، اشتهار التمسّك بالقاعدة المذكورة بين القدماء ـ سيّما مع ملاحظة اشتهار التمسّك بالأخبار المذكورة بين المتأخّرين ، سيّما ممّن لا يجوّز العمل بالأخبار المزكّى رواة سندها بعدل واحد ، ولا بالأخبار المنجبر سندها بالشهرة ، كالمقدّس الأردبيلي وصاحب المدارك والشهيد الثاني قدس‌سره ـ يصلح جابرا لها بحسب مضمونها ، بمعنى ثبوتها بحسب مضمونها وإن لم تثبت بحسب سندها. و

٢٤٩

نعم ، قد يناقش في دلالتها (١٨٢٣):

______________________________________________________

تظهر الثمرة بينهما في عدم جواز التعدّي إلى غير الموارد التي تمسّكوا بها فيها على الأوّل ، بخلافه على الثاني ، لصيرورتها حينئذ كسائر الأخبار المعتبرة.

ثمّ إنّه على تقدير انجبارها بحسب السند أو المضمون لا يجوز التعدّي عن الموارد التي تمسّكوا بهذه الأخبار أو القاعدة فيها ، لأنّها ككثير من القواعد العامّة ـ مثل قاعدة الضرر ولزوم الوفاء بالعقود والشروط ـ قد كثر تناول يد التخصيص إليها بحيث أوجب وهنا في دلالتها ، فلا تصلح للتمسّك بها في موارد خلت من عمل العلماء من دون انجبار وهن دلالتها به ، كما قرّر في محلّه ، وأشار إليه المصنّف رحمه‌الله أيضا في بعض كلماته.

١٨٢٣. تحقيق الكلام في الاستدلال بالأخبار المذكورة يتوقّف على بيان أقسام الأمر ، وهي أربعة :

أحدها : أن يكون هنا أوامر متعدّدة قد أفاد كلّ واحد منها وجوب شيء بنفسه من دون أن يكون هنا جامع بين هذه الامور ملحوظ في تعلّق الأمر بها ، مثل قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

الثاني : أن يتعلّق الأمر بامور تجمعها جهة واحدة ملحوظة في تعلّق الأمر بها ، وكان تعلّقه بها بحيث كان كلّ واحد منها مناطا للحكم ومحلّا للنفي والإثبات ، كما في العموم الاصولي. ومثاله من الشرعيّات الأمر بصوم شهر رمضان بناء على كون صوم كلّ يوم محلّا للحكم.

الثالث : أن يتعلّق الأمر بالمركّب الخارجي ، مثل الصلاة والصوم.

الرابع : أن يتعلّق الأمر بالطبيعة المقيّدة بمثل الزمان والمكان أو الحال أو الإضافة أو نحوها ، مثل الأمر بغسل الميّت بماء السدر. وهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون القيد بحيث لو انتفى وتحقّقت الطبيعة مع قيد آخر كان بين القيدين تغاير كلّي ، كما إذا ورد الأمر بتضحية شاة ، فعجز المأمور عن تحصيل

٢٥٠

أمّا الأولى ، فلاحتمال كون (١٨٢٤) «من» بمعنى الباء أو بيانيّا ، و «ما» مصدريّة زمانيّة.

______________________________________________________

الشاة وتمكّن من تحصيل البقر أو الإبل مثلا ، فإنّ هذه الأفراد وإن اشتركت في صلاحيّة كونها أضحية إلّا أنّ بينها اختلافا وتغايرا فاحشا ، بحيث لا تصلح لاستنابة أحدها مقام الآخر في نظر أهل العرف.

وثانيهما : أن يكون القيد الآخر بحيث يندرج تحت المتعذّر في نظرهم ، كما إذا أمر بالصلاة قائما فتعذّر القيام وتمكّن منها مع انحناء يسير ، وكذلك الاستلقاء بالنسبة إلى الاضطجاع ، لعدّ الانحناء اليسير قسما من القيام ، وكذا الاستلقاء من الاضطجاع. ولا إشكال في عدم شمول الأخبار المذكورة للقسم الأوّل من هذه الأخبار ، لغاية بعده.

فإن قلت : إنّ المصنّف رحمه‌الله قد اعترف بشمول هذه الأخبار للقسم الثاني ، أعني : الأفراد التي تجمعها جهة واحدة ، ولا ريب أنّ جميع الأوامر الشرعيّة تجمعها أيضا جهة واحدة ، وهي كونها مأمورا بها أو إطاعة ، وقد تعلّق الأمر بها بهذه الجهة ، مثل قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) و (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ونحوهما.

قلت : إنّ مرادنا بالجهة الواحدة في القسم الثاني ما كان عنوانا ملحوظا في تعلّق الأوامر بالأفراد الخاصّة ، وجهة كون الصلاة والصوم مثلا مأمورا بهما أو ممّا تحصل به الإطاعة ليست عنوانا في تعلّق الأمر بخصوص كلّ منهما ، كيف وهذا العنوان متأخّر عن تعلّق الأمر بهما فكيف يؤخذ في موضوعه؟ بل المناط في تعلّق الأمر بهما هو عنوانهما الخاصّ ، وعنوان الأمر والإطاعة في قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) و (أَطِيعُوا اللهَ) إشارة إجماليّة إلى العناوين الخاصّة الملحوظة في تعلّق الأوامر الخاصّة بموضوعاتها الخاصّة. وأمّا شمول الأخبار المذكورة لباقي الأقسام كلّا أو بعضا ، فتحقيق الكلام فيه يحتاج إلى إفراد الكلام في كلّ واحد من الأخبار المذكورة كما صنعه المصنّف رحمه‌الله ، وستقف على تحقيق ذلك عند شرح ما يتعلّق بكلام المصنّف رحمه‌الله.

١٨٢٤. غير خفي أنّ الأمر في النبويّ ظاهر في الوجوب ، وبذلك تخرج منه

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

المستحبّات. وأمّا كلمة «من» فالاستدلال بها مبنيّ على أخذها بمعنى التبعيض. وأمّا ما تحتمله بحسب المقام فوجوه :

أحدها : ما عرفت من معنى التبعيض. وعليه فكلمة «ما» إمّا موصولة أو موصوفة. والمجرور ب «من» إمّا حال من كلمة «ما» مقدّم عليها ، وهي مفعول لقوله «فأتوا». وإمّا هي بدل من المجرور ، والمفعول محذوف ، أي : فأتوا ما تيسّر في حال كونه بعضا من المأمور به ، وهو ما استطعتم.

الثاني : أن تكون زائدة. وعليه فكلمة «ما» ظرفيّة زمانيّة مصدريّة ، أي : فأتوا ما دام استطاعتكم وأما احتمال كونها بمعني الباء فلم يثبت ، لأنّ «أتى» بمعني فعل متعدّ بنفسه ، قال في القاموس : أتى الأمر فعله. اللهمّ إلّا أن يؤخذ الإيتان بمعني المجيء ، قال سبحانه : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) فيكون كناية عن فعل الأمر المستطاع.

الثالث : أن تكون بيانيّة ، بأن كانت بيانا للفظ «ما». وهو إمّا موصولة أو موصوفة ، أي : ما استطعتم هو الشيء المأمور به.

وأمّا دعوى كونها ظرفيّة زمانيّة كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله فلا محصّل لها. اللهمّ إلّا أن تكون كلمة «من» بيانا للمأتي به المقدّر ، ونجعل كلمة «ما» ظرفيّة ، زمانية نظير ما حكي عن ابن هشام في قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) من دعوى كون «من» بيانا للمحلّى به. والرواية على ما عدا المعنى الأوّل لا تدلّ على المطلوب كما هو واضح ومع تعارض الاحتمالات تسقط عن درجة الاستدلال بها على المدّعى.

ثمّ إنّ محتملات الرواية كثيرة ، لأنّ الشرط فيها يحتمل الإهمال والعموم. وعلى التقديرين : فلفظ الأمر يحتمل الوجوب ، وما هو أعمّ منه ومن الاستحباب. وعلى التقادير : فلفظ «شيء» يحتمل الأقسام الأربعة المتقدّمة في الحاشية السابقة. وعلى التقادير : فكلمة «من» تحتمل المعاني الثلاثة المتقدّمة. وعلى التقادير : فكلمة

٢٥٢

وفيه : أنّ كون «من» بمعنى الباء مطلقا (١٨٢٥) وبيانيّة في خصوص المقام (١٨٢٦) مخالف للظاهر بعيد (١٨٢٧) ، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.

والعجب معارضة هذا الظاهر (١٨٢٨) بلزوم تقييد الشيء ـ بناء على المعنى المشهور (١٨٢٩) ـ بما كان له أجزاء حتّى يصحّ الأمر بإتيان ما استطيع منه ، ثمّ تقييده بصورة تعذّر إتيان جميعه ، ثمّ ارتكاب التخصيص فيه بإخراج ما لا يجري فيه هذه القاعدة اتّفاقا ، كما في كثير من المواضع ؛ إذ لا يخفى أنّ التقييدين الأوّلين يستفادان من قوله (١٨٣٠) : «فأتوا منه ..» ، وظهوره حاكم عليهما. نعم ، إخراج

______________________________________________________

«ما» تحتمل الموصولة والموصوفة والظرفيّة الزمانيّة. وعلى التقادير : يحتمل أن يراد بالاستطاعة معنى القدرة ، ومعنى المشيّة ، كما ذكروه عند الاستدلال بهذه الرواية على دلالة الأمر على الوجوب. وترتقي الأقسام بعد ضرب بعضها في بعض على مائتين وثمان وثمانين قسما.

١٨٢٥. مضافا إلى ما عرفت من أنّ مادّة الإتيان بمعنى الفعل تتعدّى بنفسها لا بالباء ، إلّا بالتوجيه المتقدّم آنفا.

١٨٢٦. لأنّ أخذ كلمة «من» بيانيّة وكلمة «ما» ظرفيّة زمانيّة لا محصّل له إلّا بالتوجيه المتقدّم في الحاشية السابقة.

١٨٢٧. لأنّ الظاهر بحسب المقام كونها للتبعيض.

١٨٢٨. هذا مضافا إلى كون التبعيض معنى مجازيّا لكلمة «من».

١٨٢٩. من كون كلمة «من» للتبعيض.

١٨٣٠. حاصله : أنّ ارتكاب خلاف الظاهر من حيث حمل كلمة «من» على التبعيض ليس مخالفة مغايرة للمخالفة من حيث لزوم التقييدين ، بل هما تابعان لحملها على معنى التبعيض. وإذا فرضنا ظهورها فيه بحسب العرف ـ ولو بمعونة خصوص المقام ـ لا تلزم هنا مخالفة الظاهر أصلا.

وإن شئت قلت : إنّ تعارض الأحوال في كلام وملاحظة المرجّحات النوعيّة

٢٥٣

كثير من الموارد لازم (١٨٣١) ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد.

والحاصل : أنّ المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة.

وأمّا الثانية ، فلما قيل (١٧) (١٨٣٢) من أنّ معناه أنّ الحكم الثابت للميسور

______________________________________________________

فيه إنّما هو بعد عدم ظهور شخص الكلام في معنى خاصّ بحسب العرف وإن كان معنى مجازيّا ، وإلّا فلا بدّ من حمل الكلام عليه وإن اشتمل المعنى الآخر على أنواع من المرجّحات النوعيّة كما قرّر في محلّه. فإذا فرض ظهور الرواية في معنى التبعيض بحسب العرف ، فلا بدّ من الأخذ به وإن لزم منه ما لزم. مع أنّا إن حملناها على معنى التبعيض أفادت معنى جديدا لا يستفاد من العقل ، وهو وجوب الإتيان بما تيسّر من أجزاء المركّب عند تعذّر الكلّ. وعلى تقدير حملها على سائر المعاني لا يفيد سوى ما يستفاد من العقل ، وهو وجوب امتثال أوامر الشارع ما دامت الاستطاعة باقية ، ومن المقرّر عندهم في باب تعارض الأحوال كون أولويّة التأسيس من التأكيد من جملة المرجّحات.

١٨٣١. لأنّ المباحات والمستحبّات والواجبات التي لم تكن ذات أجزاء وإن كانت خارجة من موضوع الرواية ، لاختصاصه بالواجب ذي الأجزاء ، إلّا أنّ الخارج من حكمها أيضا كثير. وربّما يعدّ منه ما لو قدر على بعض الفاتحة أو السورة ، أو بعض ذكر الركوع أو السجود ، أو التشهّد أو السلام الواجب ، أو على غسل بعض من الوجه أو اليدين ، أو بعض المسح في باب الوضوء ، أو قدر على ركعة من ركعتي الفجر أو ثلاث ركعات من الظهرين والعشاء وركعتين من المغرب ، وهكذا ، لعدم التزام الفقهاء بوجوب الإتيان بالمتيسّر في أمثال هذه الموارد.

١٨٣٢. التقريب في هذه المناقشة أن يقال : إنّ مقتضى الرواية بعد مراعاة القواعد العربيّة في ألفاظها هو نفي الملازمة بين سقوط حكم موضوع بسبب تعسّره وسقوط حكم موضوع آخر ميسور ، إذ لا معنى لسقوط نفس الفعل

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الميسور ، وعدم سقوطه إلّا باعتبار سقوط حكمه وعدمه بدلالة الاقتضاء. وهذا المعنى لا ينطبق على ما نحن فيه من المركّبات التي تعذّر بعض أجزائها ، لأنّ سقوط الشيء يستلزم ثبوته أوّلا ، والمقصود من إثبات وجوب باقي الأجزاء هو إثبات الوجوب النفسي له. فإذا اريد تطبيق الرواية على ما نحن فيه فلا بدّ أن يقال : إنّ الأجزاء الباقية كانت واجبة عند التمكّن من الكلّ ، فإذا سقط وجوب الكلّ لأجل تعذّره ، لا يسقط وجوب الأجزاء الباقية الميسورة بسبب تعذّره.

وأنت خبير بأنّ الأجزاء الباقية حين التمكّن من الكلّ كانت واجبة بالوجوب الغيري ، وقد ارتفع هذا الوجوب بتعذّر الكلّ ، والمقصود بعد تعذّر الكلّ إثبات الوجوب النفسي لها ، وهو لم يكن ثابتا أوّلا. هذا بخلاف ما لو حملناها على بيان حكم الواجبات النفسيّة المستقلّة كما عرفت.

نعم ، حملها على بيان حكم ما لا يجمعها رابطة ـ كالصلاة والصوم والحجّ مثلا ـ في غاية البعد ، إذ لا يتوهّم أحد سقوط وجوب أحد هذه الواجبات بتعذّر الآخر حتّى يحتاج إلى البيان ، فلا بدّ أن تحمل على بيان حكم الأفراد التي كان كلّ واحد منها واجبا بالوجوب النفسي ، وكانت بينها رابطة توهم سقوط حكم الباقي عند تعذّر بعضها ، مثل قولنا : أكرم العلماء ونحوه ممّا ثبت حكمه بالعموم الاصولي.

فإن قلت : إنّ حملها على هذا المعنى يستلزم خلوّها أيضا من الفائدة ، لاستقلال العقل بعدم سقوط حكم فرد بتعذّر فرد آخر فيما ثبت حكمها بالعموم الاصولي ، فلا بدّ من حملها على المركّبات العقليّة أو الخارجيّة ، لأنّها هي التي ربّما يتوهّم سقوط حكم الباقي بعد تعذّر الكلّ.

قلت : إنّ مجرّد موافقة ظاهر كلام الشارع لحكم العقل وكونه مؤكّدا له لا يوجب صرفه عن ظاهره ، وإلّا لوجب إخراج قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وأمثاله ممّا خرج مخرج حكم العقل من ظاهره ، وهو كما ترى. و

٢٥٥

لا يسقط بسبب سقوط المعسور ، ولا كلام في ذلك ؛ لأنّ سقوط حكم شىء لا يوجب بنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر ، فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلّة التي يجمعها دليل واحد ، كما في «أكرم العلماء».

وفيه أوّلا : أنّ عدم السقوط (*) (١٨٣٣) محمول على نفس الميسور لا على حكمه ،

______________________________________________________

ما تقدّم من عدم حملها على بيان حكم الواجبات التي لا يجمعها رابطة أصلا ، إنّما هو لأجل كونها حينئذ من قبيل بيان البديهيّات الأوّلية ، وهو بعيد في الغاية ، بخلاف حملها على بيان حكم ما تجمع بين أفراده رابطة كما لا يخفى. فمقتضى القاعدة حمل كلام الشارع على حقيقته الخاصّة أو العامّة إن لم تكن هنا قرينة على خلافها ، وإن كانت حقيقته موافقة لحكم العقل ، وإلّا فيعمل بمقتضى القرائن اللفظيّة أو الحاليّة.

نعم ، ربّما يحمل كلام الشارع على خلاف ظاهره إذا كان ظاهره بيان ما لم يكن بيانه من وظيفة الشارع ، كما إذا دار الأمر في كلامه بين حمله على أمر عرفي ليس بيانه من شأنه ، وحمله على بيان حكم شرعيّ ، وكان الأوّل موافقا لظاهر كلامه ، وكان اختصاص شأنه ببيان الوظائف الشرعيّة دون الامور العرفيّة بنفسه قرينة لصرف كلامه عن ظاهره. وما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ حمل كلامه مع ما يوافق حكم العقل لا ينافي شأن الشارع ، كيف وفي أكثر موارد حكم العقل قد ورد فيه خطاب شرعيّ أيضا. مع أنّ منافاة بيان الامور العرفيّة لوظيفة الشارع في حيّز المنع ، إذ المقام ربّما يقتضي بيانها أيضا ، كما هو واضح.

١٨٣٣. حاصله : أنّ اللازم في كلام الشارع بل كلام كلّ متكلّم أن يؤخذ بظاهر كلامه على ما تساعده حقائق ألفاظه مجرّدة عن القرائن ، وعلى ما تقتضيه القرائن إن كانت مكتنفة بها. ومبنى المناقشة المتقدّمة حمل الرواية على بيان عدم سقوط حكم موضوع ميسور بسبب سقوط حكم موضوع معسور ، وهو من

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : في الرواية.

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث احتياجه إلى التقدير خلاف الظاهر ، لأنّ السقوط وعدمه في ظاهر الرواية محمولان على نفس المعسور والميسور لا على حكمهما ، ولا حاجة إلى التقدير المذكور ، إذ بدونه يتمّ الاستدلال بها على المقام ، وذلك لأنّه إذا ثبت وجوب فعل على المكلّف يمكن حينئذ دعوى ثبوت هذا الفعل في ذمّته مع تمكّنه منه ولو بنوع من المسامحة العرفيّة ، والمقصود من الرواية أنّ سقوط فعل ثابت في الذمّة بسبب تعذّره لا يصير سببا لسقوط الفعل الميسور ، يعني : أنّ فعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء فلا يسقط أيضا بسبب تعسّره.

ولا شكّ أنّ هذا الكلام إنّما يقال فيما كان ارتباط وجوب فعل الميسور بالتمكّن من فعل المعسور متحقّقا ثابتا كما فيما نحن فيه ، أو متوهّما كما فيما ذكره المورد من مثال العموم الاصولي ، لارتباط وجوب الأجزاء الباقية فيما نحن فيه بوجوب الكلّ ، لانتفاء وجوب المقدّمة بانتفاء وجوب ذيها. وحيث كان لمتوهّم أن يتوهّم سقوط فعل الباقي بتعسّر الكلّ ، ومثله الكلام في المثال المذكور ، أراد الإمام عليه‌السلام دفع هذا التوهّم ، بأنّ فعل الباقي الميسور إذا لم يسقط عند التمكّن من الكلّ فلا يسقط عند تعذّر بعض أجزائه ، لا أنّ حكم الباقي عند التمكّن من الكلّ إذا لم يسقط فلا يسقط عند تعسّر بعض أجزائه ، حتّى يقال : إنّ حكم الباقي عند التمكّن من الكلّ كان هو الوجوب الغيري من باب المقدّمة ، وقد ارتفع هذا الحكم بتعسّر الكلّ يقينا. والوجوب النفسي لم يكن ثابتا له عند التمكّن من الكلّ حتّى لا يسقط بتعذّره ، كما كان هو مبنى المناقشة على ما تقدّم توضيحه.

وممّا ذكرناه يندفع توهّم كون سقوط الفعل عبارة عن سقوط حكمه. نعم ، هما متلازمان ، فتأمّل في المقام ، فإنّه لا يخلو من دقّة بل إشكال. نعم ، يمكن أن يقال في تقريب المقام : إنّ المتّبع في مباحث الألفاظ هو الظهور العرفي ، واعتبار الحقيقة أو قرائن المجاز إنّما هو لأجل مراعاة ذلك ، لعدم كون حمل الألفاظ على معانيها الحقيقيّة عند التجرّد عن القرائن وعلى معانيها المجازيّة عند اكتنافها بها أمرا

٢٥٧

فالمراد به عدم سقوط الفعل الميسور بسبب سقوط المعسور يعني : أنّ الفعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شىء فلا يسقط بسبب (*) تعسّره. وبعبارة اخرى : ما وجب عند التمكّن من شىء آخر فلا يسقط عند تعذّره. وهذا الكلام إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء بالتمكّن من ذلك الشيء الآخر محقّقا ثابتا من دليله كما في الأمر بالكلّ ، أو متوهّما كما في الأمر بما له عموم أفرادي.

وثانيا : أنّ ما ذكر (١٨٣٤) من عدم سقوط الحكم الثابت للميسور بسبب سقوط الحكم الثابت للمعسور ، كاف في إثبات المطلوب ، بناء على ما ذكرنا في

______________________________________________________

تعبّديّا ورد به الشرع ، بل قد أنكر بعضهم وجود المجاز من رأس. فالمتّبع ظهور الكلام في المعنى المقصود بحسب العرف ، وإن استلزم ذلك ارتكاب نوع مجاز أو مسامحة ، كما في نسبة السقوط إلى المعسور فيما نحن فيه. ولا ريب أنّا لو عرضنا قوله عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط إلّا بالمعسور» على أهل العرف لا يفهمون منه إلّا عدم سقوط الباقي من أجزاء المركّب بعد تعسّر الكلّ ، فلا ينظر بعد ذلك إلى استلزام هذا المعنى للمجازيّة في بعض مفردات هذا الكلام أو المسامحة في النسبة ، فتدبّر.

١٨٣٤. حاصله ـ بعد تسليم كون المراد من الرواية نفي الملازمة بين سقوط حكم موضوع معسور ، وسقوط حكم موضوع ميسور ـ أنّ هذا المعنى كاف في إثبات المطلوب ، لأنّ أهل العرف لا يفرّقون بين الوجوب النفسي والغيري ، كما تقدّم في توجيه الاستصحاب.

فنقول : إنّ الأجزاء الباقية حين التمكّن من الكلّ وإن كانت واجبة بالوجوب الغيري مقدّمة لوجوب الكلّ ، إلّا أنّ أهل العرف بعد تعسّر بعض أجزائه يقولون : إنّ هذه الأجزاء الباقية كانت واجبة حين التمكّن من الكلّ ، ويزعمون بقاء هذا الوجوب بعد تعسّر بعض أجزائه من دون التفات منهم إلى أنّ الموجود حين التمكّن من الكلّ هو الوجوب الغيري ، والمقصود بالإثبات بعد تعذّر بعض أجزائه

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بسبب» ، عند.

٢٥٨

توجيه الاستصحاب من أنّ أهل العرف يتسامحون فيعبّرون عن وجوب باقي الأجزاء بعد تعذّر غيرها من الأجزاء ببقاء وجوبها ، وعن عدم وجوبها بارتفاع وجوبها وسقوطه ؛ لعدم مداقّتهم في كون الوجوب الثابت سابقا غيريّا وهذا الوجوب الذي يتكلّم في ثبوته وعدمه نفسي فلا يصدق على ثبوته البقاء ، ولا على عدمه السقوط والارتفاع. فكما يصدق هذه الرواية لو شكّ ـ بعد ورود الأمر بإكرام العلماء بالاستغراق الأفرادي ـ في ثبوت حكم إكرام البعض الممكن الإكرام وسقوطه بسقوط حكم إكرام من يتعذّر إكرامه ، كذلك يصدق لو شكّ بعد الأمر بالمركّب في وجوب باقي الأجزاء بعد تعذّر بعضه ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

هو الوجوب النفسي ، ولذا يعبّرون عن وجوب الباقي بعد تعسّر بعض أجزائه بالبقاء ، وعن عدمه بالسقوط والارتفاع ، مع أنّ الأوّل عند الدقّة موقوف على كون الثابت في الزمان الثاني عين الموجود في الزمان الأوّل ، والثاني على كون المرتفع في الزمان الثاني هو الموجود في الزمان الأوّل ، وليس كذلك ، لأنّ الموجود في الزمان الأوّل هو الوجوب الغيري ، وفي الزمان الثاني هو الوجوب النفسي ، وكذلك المرتفع في الزمان الثاني هو الوجوب النفسي ، والموجود في الزمان الأوّل هو الوجوب الغيري.

وبعد هذه المسامحة يندفع ما تقدّم في توضيح المناقشة المتقدّمة من أنّ صدق السقوط وعدمه فرع كون الساقط هو الوجود أوّلا ، وهو غير صادق فيما نحن فيه ، لأنّ ما حكم بثبوته للأجزاء الباقية بعد تعسّر الكلّ هو الوجوب النفسي ، وما كان ثابتا له حين التمكّن من الكلّ هو الوجوب الغيري. ووجه الاندفاع واضح ممّا ذكرناه.

هذا كلّه فيما كان المتسامح فيه هو الوجوب. وأمّا إذا كان موضوعه بأخذه أعمّ من الواجد لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، حتّى يكون الباقي بعد تعسّر الكلّ هو الوجوب النفسي للأجزاء الباقية ، فالأمر أظهر ، كما يظهر ممّا ذكرناه هنا وما تقدّم في توجيه الاستصحاب.

٢٥٩

وبمثل ذلك يقال في دفع دعوى : جريان (١٨٣٥) الإيراد المذكور على تقدير تعلّق عدم السقوط بنفس الميسور لا بحكمه ، بأن يقال : إنّ سقوط المقدّمة لما كان لازما (*) لسقوط ذيها ، فالحكم بعدم الملازمة في الخبر لا بدّ أن يحمل على الأفعال المستقلّة في الوجوب ؛ لدفع توهّم السقوط الناشئ عن إيجابها بخطاب واحد.

______________________________________________________

١٨٣٥. تقريب هذه الدعوى : أنّه كما لو حملت الرواية على ما ذكره المورد من بيان نفي الملازمة بين سقوط حكم موضوع معسور وسقوط حكم موضوع ميسور ، كان معناها لغوا وتوضيحا للواضحات ، حيث لا يتوهّم أحد الملازمة بينهما ، فلا بدّ من حملها على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلّة التي يجمعها دليل واحد ، كما هو مبنى الإيراد المذكور ، كذلك تلزم اللغويّة لو حملت على بيان عدم الملازمة بين سقوط نفس الفعل المعسور وسقوط الفعل الميسور ، كما هو مبنى الجواب الأوّل ، إذ كما أنّه لا يتوهّم أحد السقوط على ذلك المعنى ، كذلك لا يتوهّم أحد عدم السقوط على هذا المعنى ، حيث كان سقوط فعل المقدّمة لازما لسقوط فعل ذيها بالضرورة ، فلا بدّ أن تحمل الرواية على ما ذكر من دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلّة التي يجمعها دليل واحد ، فلا يدلّ على المدّعى على هذا المعنى أيضا.

ووجه الدفع : أنّ فعل المقدّمة وإن كان ساقطا عند سقوط ذيها ، إذ لا معنى لبقاء المقدّمة بوصف كونها مقدّمة في الذمّة بعد سقوط ذيها ، إلّا أنّ أهل العرف يزعمون كون الباقي من الأجزاء بعد تعسّر الكلّ هو الموجود عند التمكّن منه ، من دون التفات إلى أنّ الموجود عند التمكّن من الكلّ هي هذه الأجزاء من حيث كونها مقدّمة له ، والثابت بعد تعسّره هي هذه الأجزاء من حيث مطلوبيّتها في نفسها ، وحيث كان المقام مقام توهّم سقوط هذه الأجزاء الميسورة بسبب سقوط الكلّ لأجل تعسّره ، فدفع الإمام عليه‌السلام هذا التوهّم ببيان عدم الملازمة بينهما.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : عقليّا.

٢٦٠