فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

ودعوى : أنّ ترك السورة (١٧٦٩) سبب لترك الكلّ الذي هو سبب وجود الأمر الأوّل ؛ لأنّ عدم الرافع من أسباب البقاء ، وهو من المجعولات القابلة للارتفاع في الزمان الثاني ، فمعنى رفع النسيان رفع ما يترتّب عليه وهو ترك الجزء ، ومعنى رفعه رفع ما يترتّب عليه وهو ترك الكلّ ، ومعنى رفعه رفع ما يترتّب عليه وهو وجود الأمر في الزمان الثاني. مدفوعة : بما تقدّم في بيان معنى الرواية في الشبهة التحريميّة في الشكّ في أصل التكليف من أنّ المرفوع في الرواية الآثار الشرعية الثابتة لو لا

______________________________________________________

بالفساد ، وثالثة من حيث أمر الشارع بها مرتّبة ، وكون دخول كلّ واحد في المراد موقوفا على دخول الآخر ، فيصف كلّ واحد منها بالجزئيّة والمجموع بالكلّية.

فهذه الامور اعتباريّة عقليّة منتزعة ممّا ذكرناه ، وليست بمجعولة للشارع ، حتّى لو قلنا بكون الأحكام الوضعيّة مجعولة لا نسلّم كون هذه أيضا مجعولة ، ولذا ترى أنّ العضدي مع قوله بكون الوضعيّة مجعولة ادّعى كون الصحّة والفساد من الامور الاعتباريّة العقليّة. فالحكم بارتفاع الأمر المنسيّ لأجل النسيان ، الظاهر في كون المرتفع أمرا شرعيّا أو من الآثار الشرعيّة المرتّبة عليه ، لا يشمل ارتفاع الامور المذكورة. وكما أنّ النبويّ لا يدلّ على ارتفاع الآثار العقليّة ، كذلك لا يدلّ على ارتفاع الآثار الشرعيّة المرتّبة على موضوع العمد ، لأنّ ارتفاعها في صورة النسيان إنّما هو لأجل ارتفاع موضوعها لا لأجل حكم الشارع به ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في الشبهة التحريميّة.

وعلى القول بدلالته على ارتفاع الجزئيّة فيما نحن فيه ، فهل هو يدلّ على ارتفاع الجزئيّة فيما زاد أو نقص في أجزاء المركّب اضطرارا ، كما إذا انحنى إلى حدّ الركوع اضطرارا ، أو ترك إحدى السجدتين لازدحام الناس مثلا ، وكذا فيما ترك الجزء لأجل نسيان الجزئيّة لا لنفس الجزء؟ فيه وجهان ، من عموم اللفظ ، ومن عدم ظهور التزام الأصحاب به.

١٧٦٩. حاصله : أنّ النبويّ مع تسليم ظهوره في نفي الآثار الشرعيّة خاصّة

٢٠١

النسيان ، لا الآثار الغير الشرعية ولا ما يترتّب على هذه الآثار من الآثار الشرعيّة. فالآثار المرفوعة في هذه الرواية نظير الآثار الثابتة للمستصحب (١٧٧٠) بحكم أخبار الاستصحاب في أنّها هي خصوص الشرعيّة المجعولة للشارع دون الآثار العقليّة والعاديّة ودون ما يترتّب عليها من الآثار الشرعيّة.

______________________________________________________

يشمل نفي الآثار الشرعيّة التي تترتّب على المنسيّ بلا واسطة أو معها ولو بوسائط ، وهو كاف في إثبات المدّعى.

١٧٧٠. لا يخفى أنّ المراد بالآثار المرفوعة هنا والآثار الثابتة للمستصحب وإن كان هو الآثار الشرعيّة الثابتة لموضوعاتها بلا واسطة أمر عادي أو عقلي ، إلّا أنّ طريق إثبات ذلك في المقامين مختلف ، لأنّ حمل النبويّ على إرادة رفع الآثار المذكورة إنّما هو من جهة أنّ حمله على ظاهره مستلزم للكذب ، لفرض عدم ارتفاع الامور التسعة عن هذه الأمّة ، فلا بدّ أن يكون المراد رفع آثارها ، لكن لا مطلقا بل الشرعيّة منها خاصّة ، لأنّ المراد بها لو كان ما يشمل العاديّة والعقليّة لزم الكذب أيضا ، لفرض عدم ارتفاع هذه الآثار أيضا ، فلا بدّ أن يكون المراد بها الشرعيّة خاصّة ، لكن لا مطلقا بل ما كان من الآثار الشرعيّة مرتّبا على موضوعاتها بلا واسطة أمر عادي أو عقلي لو لا الامور التسعة المذكورة ، لأنّك بعد ما عرفت من عدم شمول النبويّ للآثار العقليّة والعاديّة ، فلا يعقل شموله للآثار الشرعيّة المرتّبة على موضوعاتها بواسطة أحد الأمرين ، لاستحالة قيام العرض بلا محلّ ، ففرض شموله للآثار الشرعيّة المذكورة فرع شموله لموضوعاتها.

وأمّا وجه تخصيص الآثار الثابتة للمستصحب بالآثار الشرعيّة الثابتة له بلا واسطة أمر عقلي أو عادي ، فإنّ المراد بأخبار عدم جواز نقض اليقين بالشكّ بعد فرض انتقاض اليقين بالشكّ بالضرورة ، هو جعل المتيقّن في زمان الشكّ ، فإن كان المتيقّن حكما شرعا فهو المجعول في زمان الشكّ. وإن كان من الموضوعات الخارجة فلا بدّ أن يكون المراد بجعلها جعل آثارها الشرعيّة ، لعدم قابليّة نفس

٢٠٢

نعم ، لو صرّح الشارع بأنّ حكم نسيان الجزء الفلاني مرفوع أو أنّ نسيانه كعدم نسيانه أو أنّه لا حكم لنسيان السورة مثلا ، وجب حمله تصحيحا (١٧٧١) للكلام على رفع الإعادة وإن لم يكن أثرا شرعيّا ، فافهم.

وزعم بعض المعاصرين (١٧٧٢)

______________________________________________________

الموضوعات الخارجة ولا آثارها العقليّة والعاديّة لجعل الشارع ، ولا آثارها الشرعيّة المرتّبة عليها بواسطة أحد الأمرين ، لما عرفت من استحالة قيام العرض بلا محلّ ، ففرض شمولها لهذه الآثار فرع شمولها للآثار العاديّة والعقليّة أيضا ، وهو خلاف الفرض. نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب العقل لا يفرّق بين آثار المستصحب حينئذ كما سيجيء في محلّه.

١٧٧١. فيه نظر ، لمنع تعيّن حمله على رفع الإعادة التي هي من الآثار العقليّة ، لأنّه إن اريد به حمله على رفعها مع فرض بقاء الأمر الأوّل فهو غير معقول. وإن اريد به حمله على رفعها مع فرض ارتفاع الأمر الأوّل ، نمنع تعيّن حمله حينئذ على إرادة رفع وجوب الإعادة الذي هو من الآثار العقليّة ، لأنّ ارتفاع وجوبها حينئذ مستند إلى ارتفاع الأمر الأوّل لا إلى رفع الشارع ، بل المتعيّن حينئذ حمله على إرادة رفع الأمر الأوّل ، لأنّ بقائه إذا كان شرعيّا ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله كان رفعه أيضا شرعيّا ، وإن كان بواسطة أمر عقلي وهو ترك الكلّ.

١٧٧٢. هو صاحب الفصول ، قال في مبحث البراءة والاشتغال : «إنّ المستفاد من أدلّة البراءة إنّما هو مجرّد نفي الحكم لا إثبات لوازمه العاديّة ، ككون الماهيّة المجعولة معرّاة عن اعتبار ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، فلا يصلح دليلا على نفي الجزئيّة والشرطيّة ليتعيّن به الماهيّة المخترعة ، كما هو الثمرة في الاستدلال بالأصل». إلى أن قال : «نعم ، لا يبعد دعوى مساعدة جملة من أخبار الباب على أصالة عدم الزيادة المشكوك فيها في المقام ، لا باعتبار حجب العلم أو عدم العلم بالتكليف المشكوك فيه ، ليتوجّه عليه دعوى عدم الحجب فيه بالنظر إلى الظاهر ،

٢٠٣

الفرق بينهما (*) (١٧٧٣) حيث حكم في مسألة البراءة والاشتغال في الشكّ في الجزئيّة : بأنّ أصالة عدم الجزئيّة لا يثبت بها ما يترتّب عليه من كون المأمور به هو الأقلّ ؛ لأنّه لازم غير شرعيّ. أمّا رفع الجزئيّة الثابتة بالنبويّ فيثبت به كون المأمور به هو الأقلّ. وذكر في وجه الفرق ما لا يصلح له من أراده راجعه فيما ذكره في أصالة العدم. وكيف كان ، فالقاعدة الثانويّة في النسيان غير ثابتة.

نعم يمكن دعوى القاعدة الثانويّة في خصوص الصلاة من جهة (١٧٧٤) قوله عليه‌السلام :

______________________________________________________

تحصيلا ليقين البراءة كما في سائر الأحكام التكليفيّة الظاهريّة ، بل باعتبار دلالتها على نفي الجزئيّة والشرطيّة ممّا شكّ في جزئيّته أو شرطيّته من حيث حجب العلم عنها ظاهرا وواقعا ، إذ ليس في وجوبها من باب المقدّمة تحصيلا ليقين البراءة دلالة على إثبات الجزئيّة أو الشرطيّة للواجب مطلقا. فإذا ثبت بعموم الروايات المذكورة سقوط اعتبار جزئيّته أو شرطيّته في الظاهر حصل العلم بالبراءة بدونه في الظاهر ، فيسقط اعتبار كونه مقدّمة ، وهل هذا إلّا كسقوط اعتبار جزئيّة ما عدا الأركان في حقّ الناسي ، وشرطيّة بعض الشرائط ـ كطهارة البدن واللباس ـ بالنسبة إلى الجاهل؟» انتهى.

وقد نقلنا ما ذكره في فصل عقده لبيان أصالة العدم في المسألة الاولى من مسائل الشكّ في الجزئيّة عند شرح قول المصنّف رحمه‌الله «فلولا عدوله عنه في باب البراءة والاحتياط من الأدلّة العقليّة» إلى آخر ما ذكره. وهو رحمه‌الله في ذلك الفصل وإن لم يكن في صدد بيان الفرق بين مقتضى الاستصحاب والنبويّ ، بل في مقام بيان الفرق بين القول باعتبار أصالة العدم لأجل الاستصحاب ، وبين القول باعتبارها من باب أخبار البراءة ، إلّا أنّ ما نسبه إليه المصنّف رحمه‌الله يندرج فيه ، وهو رحمه‌الله قد عدل هناك عمّا نسبه إليه المصنّف رحمه‌الله هنا ، فراجع ولاحظ.

١٧٧٣. يعني : بين الاستصحاب والنبويّ.

١٧٧٤. هنا بحث ، لأنّه إن أراد بتأسيس الأصل بالأخبار المذكورة في خصوص

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بينهما» ، الفرق بين أصالة عدم الحرمة ومضمون النبويّ.

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الصلاة إثبات كون ما عدا الجزء المنسيّ هو المأمور به فقد اعترف بعدم تعقّله. وإن أراد به إثبات كون المأتيّ به بدلا من المأمور به في الواقع وإن لم يتعلّق به أمر أصلا ، كما هو مقتضى ما حقّقه في المقام ، فهو مخالف لظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تعاد» و «قد أتممت» ونحوهما في الأخبار المذكورة ، لظهوره في كون المأتيّ به مأمورا به بالخصوص ، مع أنّ الأمر بما عدا المنسيّ لو لم يكن معقولا لم يقع نظيره في الشرع ، وقد وقع ، كما لو توضّأ بقصد الندب لأجل اعتقاده بعدم دخول وقت الصلاة الواجبة ، ثمّ انكشف خلافه ووقوع الوضوء فيه ، لأنّ اعتقاد كون المأتيّ به هو تمام المأمور به الواقعي فيما نحن فيه لو كان مانعا من تعلّق الأمر به ، كان اعتقاد استحباب الوضوء مانعا من تعلّق الأمر الإلزامي به أيضا ، مع عدم خدشة أحد في صحّته أصلا. مضافا إلى أنّ ما عدا المنسيّ لو لم يكن مأمورا به ، ومع ذلك كان مسقطا عن الواقع ، ولو مع انكشاف الخلاف قبل خروج الوقت ، لزم منه تقويت مصلحة الواقع عن المكلّف من دون تداركها بشيء ، وهو خلاف اللطف ، ومناف للغرض المقصود من التكليف.

ويؤيّده أيضا حكم الشارع بالإعادة عند نسيان بعض الأجزاء دون بعض ، إذ لو لم يكن المأتيّ به مأمورا به في صورة عدم وجوب الإعادة لم يكن لهذا التفصيل وجه ، فهذا كلّه يكشف عن كفاية مجرّد مطابقة المأتيّ به للواقع في صحّة العبادة ، وعدم كون الالتفات إلى كون المأتيّ به هو المأمور به شرطا في صحّة تعلّق الأمر به ، كما هو مبنى عدم المعقوليّة فيما نحن فيه.

والجواب عنه أنّ اشتراط الالتفات في تنجّز التكليف عقلي لا يمكن دفعه بظواهر الأخبار على تقدير تسليم ظهورها في المدّعى. ومسألة الوضوء إن تمّت إجماعا نقول فيها بنظير ما قلناه فيما نحن فيه ، من كون المأتيّ به بدلا من الواقع لا مأمورا به كذلك. وأمّا لزوم خلاف اللطف فهو واضح الاندفاع ، لاحتمال تضمّن المأتيّ به مصلحة متداركة وإن لم يكن مأمورا به فعلا ، لانتفاء شرط تنجّز

٢٠٥

«لا تعاد الصلاة (١٧٧٥) إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» (٤) ، وقوله عليه‌السلام في مرسلة سفيان : «يسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة ونقيصة» وقوله عليه‌السلام في من نسي الفاتحة : «أليس قد أتممت الركوع والسجود» ، وغيره.

ثمّ إنّ الكلام في الشرط (١٧٧٦) كالكلام في الجزء في الأصل الأوّلي والثانوي المزيّف والمقبول ، وهو غاية المسئول.

______________________________________________________

التكليف فيه. ومن هنا يظهر ضعف التأييد المذكور أيضا ، لاحتمال سقوط الإعادة في بعض الموارد لأجل تضمّن المأتيّ به المصلحة المتداركة كما لا يخفى.

١٧٧٥. هذا وارد لبيان حكم النقيصة نسيانا ، فلا يشمل الزيادة مطلقا والنقيصة عمدا. أمّا الأوّل فلعدم تعقّل الزيادة في أكثر الامور المذكورة فيه ، ووحدة السياق تقضي باشتراك الجميع في جهة الاقتضاء للإعادة. وأمّا الثاني فإنّ النقص العمدي لو لم يكن مبطلا لم يكن الجزء جزءا وكذا الشرط شرطا. وسيجيء استيفاء الكلام فيما يتعلّق بهذه الرواية.

١٧٧٦. قد اشتهر في الكتب الفقهيّة تقسيم الشرط إلى واقعي وعلمي وذكري. وقد يطلق الأوّل في مقابل الأخيرين ، وقد يطلق في مقابل أحدهما. والمراد بالأوّل أن يكون الشرط بحيث يبطل المشروط بالإخلال به مطلقا ، سواء كان مع العلم والتذكّر أم مع الجهل والغفلة ، كالطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة. وبالثاني ما لا يبطل المشروط بالإخلال به عن جهل ، كالطهارة من الخبث في الجملة بالنسبة إلى الصلاة. وبالثالث ما لا يبطل المشروط بالإخلال به عن غفلة ، كإباحة المكان بالنسبة إلى الصلاة ، بناء على صحّة الصلاة في المكان المغصوب مع الغفلة عن كونه مغصوبا.

وتحقيق المقام يقتضي بيان صور المسألة ، وهي أربع :

إحداها : أن يكون كلّ من دليل المشروط والشرط مطلقين شاملين لصور العلم بالشرط والجهل به والتذكّر له والغفلة عنه ، بأن قال الشارع : (أَقِمِ الصَّلاةَ) ،

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بناء على كون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ، وقال : لا صلاة إلّا بطهور لأنّ إطلاق دليل الشرط يقتضي كونه شرطا مطلقا ، ولا يعارضه إطلاق دليل المشروط حتّى يقال بأنّ المتيقّن منه تقييد إطلاقه بالنسبة إلى حالتي العلم والتذكر خاصّة ، لحكومة إطلاق دليل الشرط على إطلاق دليل المشروط.

الثانية : أن يكون إطلاق الدليل في جانب الشرط دون المشروط. فهي أولى من سابقتها في كون الشرط فيها واقعيّا ، لسلامة إطلاق دليله من معارضة إطلاق دليل المشروط.

الثالثة : عكس سابقتها ، بأن كان إطلاق الدليل في جانب المشروط ، بأن كان الشرط ثابتا بدليل لبّي أو وقع في سياق الأمر ، بأن قال : تستّر في الصلاة ، لعدم شمول الأمر لغير حال العلم والتذكّر ، لعدم تعلّقه إلّا بالمقدور ، والشرط المجهول والمغفول عنه غير مقدور للمكلّف ، فهو لا يثبت الشرطية إلّا في حال العلم والتذكّر ، فيبقى إطلاق دليل المشروط بالنسبة إلى حالتي الجهل والغفلة على حاله.

هكذا قيل. وفي إطلاقه نظر ، لأنّه إنّما يتمّ فيما كانت الشرطيّة ناشئة من امتناع اجتماع الأمر والنهي ، لا من اقتضاء الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه أو من ورود الأمر باعتبار شيء ، في شيء ، بناء على استظهار كون الوجوب في مثله غيريّا ، كما يوضحه ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في أصل المسألة ، وأوضحناه عند شرح قوله : «ومن ذلك يعلم الفرق ...».

وكيف كان ، فمقتضى القاعدة فيما نحن فيه في الجملة ـ بل ظاهر الفقهاء مطلقا كما قيل ـ هو الأخذ بإطلاق دليل المشروط ، والحكم بعدم تقيده بما ثبت من الشرطيّة إلّا بالنسبة إلى حال العلم والتذكّر ، لأنّه المتيقّن ممّا ثبت بدليل الشرطيّة ، فيحكم بصحّة المشروط بدون الشرط مع الجهل به أو الغفلة عنه.

الرابعة : إلّا يكون شيء من دليل المشروط والشرط إطلاق ، بأن ثبت كلّ منهما بدليل لبّي أو لفظي مجمل. وهي كسابقتها ، لأنّ المتيقّن من تقييد المراد الواقعي

٢٠٧

المسألة الثانية : في زيادة الجزء عمدا (١٧٧٧) وإنّما يتحقّق في الجزء الذي لم يعتبر فيه اشتراط عدم الزيادة ، فلو اخذ بشرطه فالزيادة عليه موجب لاختلاله من

______________________________________________________

من دليل المشروط بدليل الشرط هو تقيّده بالنسبة إلى حالتي العلم والتذكر خاصّة.

هذا ما تقتضيه القواعد الشرعيّة في بادئ النظر. والذي يقتضيه التأمّل الصحيح خلافه ، وكون ما ثبتت شرطيّته في الجملة شرطا واقعيّا مطلقا. أمّا في الصورتين الأوّليين فلما تقدّم. وأمّا في الصورتين الأخيرتين لأنّ الجهل بالشرط والغفلة عنه لا يتحقّقان إلّا مع ثبوت الشرطيّة في حال الجهل والغفلة أيضا ، إذ مع عدم ثبوتها في الحالين لا يتحقّق جهله وغفلة أصلا. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ متعلّق الجهل والغفلة ما هو شرط في حال العلم والتذكّر. مع أنّا نقول : إنّ الجاهل أو الغافل إنّما يأتي بالفعل المجهول شرطه أو المغفول عن شرطه باعتقاد كون المأتيّ به هو المأمور به الثابت في حال العلم والتذكّر. وحينئذ إن تعلّق الأمر بالمأتيّ به الفاقد للشرط لزم تعلّقه بما هو غير مقصود للمأمور وغير ملتفت إليه أصلا ، نظير ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في الجزء المنسيّ ، كما هو مقتضى إحالته الكلام في الشرط إلى ما ذكره في الجزء. ولكنّا قد ذكرنا هناك الفرق بينهما ، فراجع ولاحظ. ومع تسليم عدم الفرق بينهما في الأصل الأوّلي ، لا فرق أيضا بينهما في الأصل الثانوي الثابت في خصوص الصلاة بعموم قوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» وغيره من الأخبار ، فلا يحكم بفسادها مع فقد الشرط المجهول أو المغفول عنه إلّا فيما ثبت بالدليل ، فتدبّر.

١٧٧٧. اعلم أنّ هنا امورا لا بدّ أن ينبّه عليها :

الأوّل : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من اختصاص محلّ النزاع في الزيادة العمديّة بزيادة الجزء الذي لم يثبت اعتباره بشرط عدم الزيادة ولا لا بشرط ، مع كون الزيادة بقصد الجزئيّة لا بدونه ، لعدم الإشكال في البطلان على الأوّل وفي عدمه على الأخيرين. وسنشير إلى توضيح الكلام في اعتبار قصد الجزئيّة عند بيان ما

٢٠٨

حيث النقيصة ؛ لأنّ فاقد الشرط كالمتروك ، كما أنّه لو اخذ في الشرع لا بشرط الوحدة والتعدّد فلا إشكال في عدم الفساد.

ويشترط في صدق الزيادة قصد كونه من الأجزاء ، أمّا زيادة صورة الجزء لا بقصدها ـ كما لو سجد للعزيمة في الصلاة ـ لم تعدّ زيادة في الجزء. نعم (*) ، ورد في بعض الأخبار : «أنّها زيادة في المكتوبة» ، وسيأتي الكلام في معنى الزيادة في الصلاة.

ثمّ الزيادة العمديّة تتصوّر على وجوه : أحدها : أن يزيد جزءا من أجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءا مستقلا (١٧٧٨) ، كما لو اعتقد شرعا أو

______________________________________________________

يتعلّق بالمستفيضة الدالّة على بطلان الصلاة بالزيادة فيها.

الثاني : أنّ مرجع النزاع في إبطال الزيادة العمديّة للعبادة إلى النزاع في إبطال مشكوك المانعيّة ، لكونه جزئيّا من جزئيّات هذا النزاع ، لأنّ مرجعه إلى النزاع في كون الزيادة العمديّة مانعة من صحّة العبادة وعدمه. فالأولى أن يقرّر النزاع في مطلق ما يشكّ في مانعيّته ، سواء كان على تقدير منعه من الموانع أو القواطع. وسيشير المصنّف رحمه‌الله إلى جهة الفرق بينهما ، وسنشير أيضا في تنبيهات هذه المسألة إلى أقسام الشكّ في المانع ، فانتظره.

الثالث : أنّ المراد من الإبطال حيثما قلنا بإبطال مشكوك المانعيّة للعبادة ليس على حقيقته ، لأنّ معناه إحداث البطلان في الشيء وجعل وجوده كعدمه بعد وقوعه صحيحا ، وموانع الصلاة ليست كذلك ، لأنّها إمّا مانعة من انعقادها صحيحة إن وقعت في ابتدائها ، وقاطعة لها إن وقعت في أثنائها. نعم ، إطلاق المبطل على مثل الشرك على وجه الحقيقة ، لإحباطه جميع الأعمال الماضية كالعجب على قول ، كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله في معنى قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ).

١٧٧٨. سواء كان المزيد من سنخ المزيد عليه كما مثّل به المصنّف رحمه‌الله ، أم لا كما إذا اعتقد كون الواجب في الصلاة هو الركوع وتغميض العين بعده.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : ربّما.

٢٠٩

تشريعا (١٧٧٩) أنّ الواجب في كلّ ركعة ركوعان ، كالسجود. الثاني : أن يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، كما لو اعتقد أنّ الواجب في الركوع الجنس الصادق على الواحد والمتعدّد.

الثالث : أن يأتي بالزائد بدلا عن المزيد عليه بعد رفع اليد عنه إمّا اقتراحا (١٧٨٠) ، كما لو قرأ سورة ثمّ بدا له في الأثناء أو بعد الفراغ وقرأ سورة اخرى لغرض دينيّ كالفضيلة أو دنيويّ كالاستعجال. وإمّا لإيقاع الأوّل على وجه فاسد بفقد بعض الشروط ، كأن يأتي ببعض الأجزاء رياء أو مع عدم الطمأنينة المعتبرة فيها ، ثمّ يبدو له في إعادته على وجه صحيح.

أمّا الزيادة على الوجه الأوّل : فلا إشكال في فساد (١٧٨١) العبادة إذا نوى ذلك قبل الدخول في الصلاة أو في الأثناء ؛ لأنّ ما أتى به وقصد الامتثال به ـ وهو المجموع المشتمل على الزيادة ـ غير مأمور به ، وما امر به وهو ما عدا تلك الزيادة لم يقصد الامتثال به. وأمّا الأخيران : فمقتضى الأصل عدم بطلان العبادة فيهما ؛ لأنّ مرجع ذلك

______________________________________________________

١٧٧٩. كاعتقاد العوام بصحّة عباداته الفاسدة التي أخذها من أبويه ومن شابههما ممّن لا يعتبر قوله شرعا.

١٧٨٠. في القاموس : الاقتراح ارتجال الكلام واستنباط الشيء من غير سماع.

١٧٨١. لم يعلم وجه الفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني ، حيث نفى الإشكال عن فساد العمل هنا ، وجعله محلّ شبهة وموردا للأصل في الثاني ، مع اشتراك علّة الفساد فيهما من عدم كون المقصود مأمورا به وعدم كون المأمور به مقصودا. نعم ، يمكن التمسّك بالأصل بالنسبة إلى الثالث ، لتعلّق القصد فيه بجعل أحد الأمرين ـ أعني : البدل والمبدل منه ـ جزءا لا بكلّ منهما ولا بمجموعهما ، وغاية ما يوجب قصد البدليّة هو الشكّ في فساد العمل لا القطع به.

فإن قلت : لا بدّ من الجزم بالفساد فيه أيضا ، لكون الإتيان بمشكوك المانعيّة في العبادة تشريعا محرّما ومفسدا لها ، لعدم اختصاص مورد التشريع بموارد الإتيان

٢١٠

الشكّ (١٧٨٢) إلى الشكّ في مانعيّة الزيادة ، ومرجعها إلى الشكّ في شرطيّة عدمها ، وقد تقدّم أنّ مقتضى الأصل فيه البراءة.

وقد يستدلّ على البطلان : بأنّ الزيادة تغيير لهيئة العبادة الموظّفة فتكون مبطلة. وقد احتجّ به في المعتبر على بطلان الصلاة بالزيادة (٥). وفيه نظر ؛ لأنّه إن اريد تغيير الهيئة المعتبرة في الصلاة ، فالصغرى ممنوعة ؛ لأنّ اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة أوّل الدعوى ، فإذا شكّ فيه فالأصل البراءة عنه. وإن اريد أنّه تغيير للهيئة المتعارفة المعهودة للصلاة فالكبرى ممنوعة ؛ لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلا.

ونظير الاستدلال بهذا للبطلان في الضعف : الاستدلال للصحّة باستصحابها ، بناء على أنّ العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة ، والأصل بقائها وعدم عروض

______________________________________________________

بمقطوع الفساد بقصد الشرعيّة ، وهو واضح.

قلت : نعم إنّ التشريع إنّما يتحقّق في موارد فقد الدليل على صحّة العمل ولو في الظاهر ، والأصل من جملة الأدلّة ، فتدبّر.

١٧٨٢. إن شئت أجريت أصالة البراءة في نفس الزيادة العمديّة من دون دعوى رجوع الشكّ فيها إلى الشكّ في الشرطيّة ، بأن تقول : الأصل عدم ترتّب العقاب على هذه الزيادة.

فإن قلت : إنّ عدم ترتّبه عليها لا يستلزم عدم ترتّبه على نفس العبادة المتروكة لأجل حصول هذه الزيادة فيها.

قلت : إنّ المقصود من عدم ترتّب العقاب على الزيادة المذكورة عدم كونها منشأ للعقاب بنفسها ولا بواسطة ترك العبادة التي زيد بعض أجزائها ، وأدلّة البراءة ـ من خبر الحجب والتوسعة ونحوهما ـ تنفي كون مجهول الحكم منشأ للعقاب مطلقا ، كما تقدّم في الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة. واستدلّ عليه أيضا ببناء العقلاء على عدم المانعيّة عند الشكّ في كون شيء مانعا من حصول الإطاعة في أوامرهم العرفيّة. ولعلّ الوجه فيه أنّ المشكوك فيه لو كان مانعا لبيّنه المولى ، نظير ما لو شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته في إطاعتهم العرفيّة.

٢١١

البطلان لها.

وفيه : أنّ المستصحب إن كان صحّة مجموع الصلاة فلم يتحقّق بعد. وإن كان صحّة الأجزاء السابقة منها فهي غير مجدية ؛ لأنّ صحّة تلك الأجزاء إمّا عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلّق بها ، وإمّا ترتّب الأثر عليها. والمراد بالأثر المترتّب عليها حصول المركّب بها منضمّة مع باقي الأجزاء والشرائط ؛ إذ ليس أثر الجزء المنوط به صحّته إلّا حصول الكلّ به منضمّا إلى تمام غيره ممّا يعتبر في الكلّ. ولا يخفى أنّ الصحّة بكلا المعنيين باقية للأجزاء السابقة ؛ لأنّها بعد وقوعها مطابقة للأمر بها لا تنقلب عمّا وقعت عليه ، وهي بعد على وجه لو انضمّ إليها تمام ما يعتبر في الكلّ حصل الكلّ ، فعدم حصول الكلّ لعدم انضمام تمام ما يعتبر في الكلّ إلى تلك الأجزاء لا يخلّ بصحّتها.

ألا ترى أنّ صحّة الخلّ من حيث كونه جزءا للسكنجبين لا يراد بها إلّا كونه على صفة لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في تحقّق السكنجبين لحصل الكلّ ، فلو لم ينضمّ إليه تمام ما يعتبر فلم يحصل لذلك الكلّ ، لم يقدح (١٧٨٣) ذلك في اتّصاف الخلّ بالصحّة في مرتبة جزئيّته.

فإذا كان عدم حصول الكلّ يقينا لعدم حصول تمام ما يعتبر في الكلّ غير قادح في صحّة الجزء ، فكيف إذا شكّ في حصول الكلّ من جهة الشكّ في انضمام تمام ما يعتبر ، كما فيما نحن فيه؟ فإنّ الشكّ في صحّة الصلاة بعد تحقّق الزيادة المذكورة من جهة الشكّ في انضمام تمام ما يعتبر إلى الأجزاء ؛ لعدم كون (١٧٨٤) عدم الزيادة شرطا ، وعدم انضمامه (١٧٨٥) ؛ لكون عدم الزيادة أحد الشرائط المعتبرة ولم يتحقّق ، فلا يتحقّق الكلّ. ومن المعلوم أنّ هذا الشك لا ينافي القطع بصحّة الأجزاء السابقة ، فاستصحاب صحّة تلك الأجزاء غير محتاج إليه ؛ لأنّا نقطع

______________________________________________________

١٧٨٣. جواب الشرط.

١٧٨٤. تعليل للانضمام.

١٧٨٥. معطوف على قوله : «وانضمام تمام».

٢١٢

ببقاء صحّتها ، لكنّه لا يجدي في صحّة الصلاة بمعنى استجماعها لما عداها من الأجزاء والشرائط الباقية.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت فلا يعرض البطلان للأجزاء السابقة أبدا ، بل هي باقية على الصحّة بالمعنى المذكور إلى أبد الدهر وإن وقع بعدها ما وقع من الموانع ، مع أنّ من الشائع في النصوص والفتاوى إطلاق المبطل والناقض على مثل الحدث وغيره من قواطع الصلاة. قلت : نعم ، ولا ضير في التزام ذلك ، ومعنى بطلانها عدم الاعتداد بها في حصول الكلّ ؛ لعدم التمكّن من ضمّ تمام الباقي إليها ، فيجب استئناف الصلاة امتثالا للأمر.

نعم ، إنّ حكم الشارع على بعض الأشياء بكونه قاطعا للصلاة (١٧٨٦) أو ناقضا يكشف عن أنّ لأجزاء الصلاة في نظر الشارع هيئة اتّصاليّة ترتفع ببعض الأشياء دون بعض ؛ فإنّ الحدث يقطع ذلك الاتّصال والتجشّؤ لا يقطعه ، والقطع يوجب الانفصال القائم بالمنفصلين ، وهما فيما نحن فيه الأجزاء السابقة والأجزاء التي تلحقها بعد تخلّل ذلك القاطع ، فكلّ من السابق واللاحق يسقط عن قابليّة ضمّه إلى الآخر وضمّ الآخر إليه.

ومن المعلوم أنّ الأجزاء السابقة كانت قابلة للضمّ إليها وصيرورتها أجزاء فعليّة للمركّب ، والأصل بقاء تلك القابليّة وتلك الهيئة الاتّصاليّة بينها وبين ما يلحقها ، فيصحّ الاستصحاب في كلّ ما شكّ في قاطعيّة الموجود. ولكن هذا مختصّ بما إذا شكّ في القاطعيّة ، وليس مطلق الشكّ في مانعيّة الشيء ـ كالزيادة فيما نحن

______________________________________________________

١٧٨٦. أنت خبير بأنّ إطلاق القاطع والناقض على ما يشمل المانع ـ سيّما في المركّبات التي يكون المطلوب فيها الإتيان بالمركّب من حيث مجموعه ـ شايع ، كيف لا وقد منعنا في محلّه دلالة قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» على اختصاص حرمة النقض بما كان الشكّ فيه في المانع دون المقتضي فضلا عمّا نحن فيه ، وحينئذ يشكل التمييز بين الناقض والمانع بالتعبيرات المذكورة ، فلا يبقى محلّ لاستصحاب الهيئة الاتّصالية.

٢١٣

فيه ـ شكّا في القاطعيّة.

وحاصل الفرق بينهما : أنّ عدم الشيء في جميع آنات الصلاة قد يكون بنفسه من جملة الشروط ، فإذا وجد آناً ما فقد انتفى الشرط على وجه لا يمكن تداركه ، فلا يتحقّق المركّب من هذه الجهة ، وهذا لا يجدي فيه القطع بصحّة الأجزاء السابقة فضلا عن استصحابها.

وقد يكون اعتباره من حيث كون وجوده قاطعا ورافعا للهيئة الاتّصاليّة والارتباطيّة في نظر الشارع بين الأجزاء ، فإذا شكّ في رافعيّة شىء لها حكم ببقاء تلك الهيئة واستمرارها وعدم انفصال الأجزاء السابقة عمّا يلحقها من سائر الأجزاء.

وربّما يردّ استصحاب الصحّة بأنّه : إن اريد صحّة الأجزاء المأتيّ بها بعد طروّ المانع الاحتمالي فغير مجد ؛ لأنّ البراءة إنّما تتحقّق بفعل الكلّ دون البعض. وإن اريد إثبات عدم مانعيّة الطارئ أو صحّة بقيّة الأجزاء فساقط ؛ لعدم التعويل على الاصول المثبتة (٦) ، انتهى.

وفيه نظر يظهر ممّا ذكرنا ، وحاصله : أنّ الشكّ إن كان في مانعيّة شىء وشرطيّة عدمه للصلاة ، فصحّة الأجزاء السابقة لا تستلزم عدمها ظاهرا ولا واقعا ، حتّى يكون الاستصحاب بالنسبة إليها من الاصول المثبتة.

وإن كان في قاطعيّة الشيء ورفعه للاتّصال والاستمرار الموجود للعبادة في نظر الشارع ، فاستصحاب بقاء الاتّصال كاف ، إذ لا يقصد في المقام سوى بقاء تلك الهيئة الاتّصاليّة ، والشكّ إنّما هو فيه لا في ثبوت شرط أو مانع آخر حتّى يقصد بالاستصحاب دفعه ، ولا في صحّة بقيّة الأجزاء من غير جهة زوال الهيئة الاتّصالية بينها وبين الأجزاء السابقة ، والمفروض إحراز عدم زوالها بالاستصحاب.

هذا ، ولكن يمكن الخدشة فيما اخترناه من الاستصحاب بأنّ المراد بالاتّصال والهيئة الاتّصالية إن كان ما بين الأجزاء السابقة بعضها مع بعض ، فهو باق لا ينفع. وإن كان ما بينها وبين ما لحقها من الأجزاء الآتية ، فالشكّ في وجودها لا بقائها. وأمّا أصالة بقاء الأجزاء السابقة على قابليّة إلحاق الباقي بها ، فلا يبعد كونها من الاصول المثبتة (١٧٨٧).

______________________________________________________

١٧٨٧. ستعرف وجهه.

٢١٤

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ استصحاب الهيئة الاتصاليّة من الاستصحابات العرفيّة الغير المبنيّة على التدقيق ، نظير استصحاب الكرّية في الماء المسبوق بالكرّية. ويقال في بقاء الأجزاء السابقة (١٧٨٨) على قابليّة الاتّصال : إنّه لما كان المقصود الأصلي من القطع وعدمه هو لزوم استئناف الأجزاء السابقة وعدمه وكان الحكم بقابليّتها

______________________________________________________

١٧٨٨. هذا تصحيح لجريان الاستصحاب وإخراج له من كونه مثبتا ، وذلك لأنّك قد عرفت ممّا ذكره عدم صحّة استصحاب الاتّصال الحاصل بين الأجزاء السابقة ، للقطع ببقاء هذا الاتّصال بينها بعد طروّ ما يشكّ في مانعيّته أيضا. وكذا استصحاب الاتّصال الحاصل بين الأجزاء السابقة واللاحقة ، للعلم بعدم وجوده قبل وجود ما يشكّ في مانعيّته ، فينتفي موضوع الاستصحاب ، فلا مجرى له على التقديرين.

وأمّا استصحاب بقاء الأجزاء السابقة على قابليّة إلحاق اللاحقة بها ، فهذا الأصل وإن كان جاريا إلّا أنّه مثبت ، لأنّ المقصود منه عدم وجوب استئناف الأجزاء السابقة بعد طروّ ما يشكّ في مانعيّته ، وهو لا يترتّب على المستصحب المذكور إلّا بواسطة عدم مانعيّة المشكوك فيه ، إلّا أن يقال بكون الواسطة خفيّة في نظر أهل العرف ، لأنّ الحكم المذكور ـ أعني : عدم وجوب الاستئناف ـ مرتّب في نظرهم على صحّة الأجزاء السابقة ، بمعنى بقائها على قابليّة إلحاق الباقية بها من دون التفات إلى كون عدم مانعيّة المشكوك فيه واسطة في الترتّب ، وبهذا يخرج الأصل من كونه مثبتا.

ومنه يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين استصحاب الكريّة في الماء المسبوق بها بعد أخذ مقدار منه يشكّ معه في بقائه عليها ، لأنّ المسامحة في المثال إنّما هي في بقاء الموضوع السابق ، حيث يقولون بعد أخذ مقدار منه يشكّ معه في بقائه على الكريّة : إنّ هذا الماء كان كرّا ، والمسامحة فيما نحن فيه إنّما هي في إلغاء الواسطة بتوهّم ترتّب الحكم ـ أعني : عدم وجوب الاستئناف ـ على صحة الأجزاء السابقة ، فلا تغفل.

٢١٥

لإلحاق الباقي بها في قوّة الحكم بعدم وجوب استئنافها ، خرج من الاصول المثبتة التي ذكر في محلّه عدم الاعتداد بها في الإثبات ، فافهم.

وبما ذكرنا يظهر سرّ ما أشرنا إليه في المسألة السابقة من عدم الجدوى في استصحاب الصحّة لإثبات صحّة العبادة المنسيّ فيها بعض الأجزاء عند الشكّ في جزئيّة المنسيّ حال النسيان.

وقد يتمسّك لإثبات صحّة العبادة عند الشكّ في طروّ المانع بقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) ، فإنّ حرمة الإبطال إيجاب للمضيّ فيها ، وهو مستلزم لصحّتها ولو بالإجماع المركّب (١٧٨٩) ، أو عدم القول بالتفكيك بينهما في غير الصوم والحجّ. وقد استدلّ بهذه الآية غير واحد تبعا للشيخ قدس‌سره.

وهو لا يخلو عن نظر يتوقّف على بيان ما يحتمله الآية الشريفة من المعاني ، فنقول : إنّ حقيقة الإبطال ـ بمقتضى وضع باب الإفعال ـ إحداث البطلان في العمل الصحيح وجعله باطلا نظير قولك : أقمت (١٧٩٠) زيدا أو أجلسته أو أغنيته.

______________________________________________________

ويمكن أن يقال : إنّ عدم وجوب الاستئناف من الآثار العقليّة المرتّبة على صحّة الأجزاء السابقة ، بمعنى بقائها على قابليّة الاتّصال ، مثل كون وجوبه من الآثار العقليّة المرتّبة على عدم صحّتها بالمعنى المذكور ، فالأصل المذكور على تقدير كون الواسطة خفيّة لا يخرج من كونه مثبتا.

١٧٨٩. الفرد الأظهر هو الاكتفاء بالدلالة الالتزاميّة اللفظيّة ، لأنّ حرمة إبطال الأعمال مستلزمة لصحّتها في نظر أهل الشرع. وفي الترديد الذي هو من قبيل منع الخلوّ إشارة إلى كون المقام من موارد اجتماع الإجماع المركّب وعدم الفصل. والمناط في الأوّل هو عدم جواز إحداث قول ثالث ولو في موضوع واحد. وفي الثاني عدم جواز الفصل بين حكم موضوعين فصاعدا ، وإن اتّحد القول فيهما. وفيما نحن فيه كلّ من قال بحرمة الإبطال قال بالصحّة أيضا.

١٧٩٠. لأنّ الأوّل كما أنّه إنّما يصدق إذا كان زيد جالسا وفي الثاني إذا

٢١٦

والآية بهذا المعنى راجعة إلى النهي عن جعل العمل لغوا لا يترتّب عليه أثر كالمعدوم بعد أن لم يكن كذلك ، فالإبطال هنا نظير الإبطال في قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (٧) بناء على أنّ النهي عن تعقيبها بهما ؛ بشهادة قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً ...) (٨).

الثاني : أن يراد به إيجاد العمل على وجه باطل ، من قبيل قوله : «ضيّق (١٧٩١) فم الركيّة» ، يعني أحدثه ضيّقا ، لا أحدث فيه الضيق بعد السعة. والآية بهذا المعنى نهي عن إتيان الأعمال مقارنة للوجوه المانعة عن صحّتها أو فاقدة للامور المقتضية للصحّة. والنهي على هذين الوجهين ظاهره الإرشاد ؛ إذ لا يترتّب على إحداث البطلان في العمل أو إيجاده باطلا عدا فوت مصلحة العمل الصحيح.

الثالث : أن يراد من إبطال العمل قطعه ورفع اليد عنه ، كقطع الصلاة والصوم والحجّ. وقد اشتهر التمسّك لحرمة قطع العمل بها. ويمكن إرجاع هذا إلى المعنى الأوّل (١٧٩٢) بأن يراد من الأعمال ما يعمّ الجزء المتقدّم من العمل ؛ لأنّه أيضا عمل لغة ، وقد وجد على وجه قابل لترتّب الأثر (*) وصيرورته جزءا فعليّا للمركّب ، فلا يجوز جعله باطلا (١٧٩٣) ساقطا عن قابليّة كونه جزءا فعليّا ، فجعل

______________________________________________________

كان قائما ، كذلك الإبطال فيما نحن فيه إنّما يصدق بإحداث البطلان بعد وقوع الفعل صحيحا.

١٧٩١. من قبيله أيضا قولهم : المجمل والمبيّن ، لأنّ المراد بالأوّل ما لم تتّضح دلالته ، وبالثاني ما اتّضحت دلالته ، لا ما عرض له الإجمال بعد وضوح دلالته ، ولا ما عرض له البيان بعد عدم وضوح دلالته.

١٧٩٢. هو خلاف ظاهر الآية ، لظهور العمل في مجموع الأجزاء إن كان من قبيل المركّبات ، كما هو مورد الآية على المعنى الثالث.

١٧٩٣. فإن قلت : هذا مناف لما تقدّم منه من عدم قابليّة الأجزاء السابقة

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : عليه.

٢١٧

هذا المعنى مغايرا للأوّل مبنيّ على كون المراد من العمل مجموع المركّب الذي وقع الإبطال في أثنائه.

وكيف كان فالمعنى الأوّل أظهر (١٧٩٤) ؛ لكونه المعنى الحقيقي ، ولموافقته لمعنى الإبطال في الآية الاخرى المتقدّمة ومناسبته لما قبله من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٩) ؛ فإنّ تعقيب إطاعة الله وإطاعة الرسول بالنهي عن الإبطال يناسب الإحباط (١٧٩٥) ، لا إتيان العمل على الوجه الباطل ؛ لأنّها مخالفة لله وللرسول. هذا كلّه ، مع ظهور الآية في حرمة إبطال الجميع ، فيناسب الإحباط بمثل الكفر ، لا إبطال شىء (١٧٩٦) من الأعمال الذي هو المطلوب.

______________________________________________________

الواقعة على وجه الصحّة لعروض البطلان لها.

قلت : إنّ المراد بالصحّة في المقامين مختلف ، لأنّ المراد بها فيما تقدّم كون الأجزاء السابقة على وجه لو انضمّ إليها باقي الأجزاء مع شروطها الشرعيّة حصل الكلّ ، وترتّب عليه حصول الامتثال ، والمراد بها هنا كون الأجزاء السابقة على وجه كانت قابلة بالفعل لانضمام سائر الأجزاء إليها. وهي بالمعنى الأوّل ثابتة للأجزاء السابقة ولو مع القطع بعروض المانع في أثناء العمل ، وبالمعنى الثاني يحصل القطع بعدمها مع القطع بعروض المانع في أثناء العمل.

١٧٩٤. قد يقال بعدم العلاقة المعتبرة بينه وبين المعنى الأخير. وفيه نظر.

١٧٩٥. لأنّ تعقيب الإطاعة بحرمة الإبطال يناسب جعل الإطاعة الواقعة على وجه الصحّة باطلة ، لا النهي عن إيجادها باطلة من أوّل الأمر. وأنت خبير بأنّ ظاهر الآية هو النهي عن إبطال الأعمال لأجل عدم الإطاعة ، لا عن إبطالها بعد وقوعها صحيحة بالإطاعة ، فالآية إنّما تناسب المعنى الثاني من معاني الإبطال دون الأوّل منها.

١٧٩٦. وإن كان هو الجزء المتقدّم من العمل ليشمل ما نحن فيه.

٢١٨

ويشهد لما ذكرنا مضافا إلى ما ذكرنا ما ورد من تفسير الآية بالمعنى الأوّل ، فعن الأمالي وثواب الأعمال عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : الحمد لله ، غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : لا إله إلّا الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنّة. فقال له رجل من قريش : إنّ شجرتنا في الجنّة لكثير ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم ، ولكن إيّاكم أن ترسلوا إليها نارا فتحرقوها ؛ إنّ الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (١٠).

هذا إن قلنا بالإحباط (١٧٩٧) مطلقا أو بالنسبة إلى بعض

______________________________________________________

١٧٩٧. فيه إشعار بنوع تردّد له في القول بالإحباط ، وهو كما ترى خلاف مذهب محقّقي المتكلّمين كما صرّح به الطريحي ، بل خلاف مذهب الإماميّة طرّا ، كما حكي التصريح به عن اللاهيجي وغيره. والعجب من المحقّق القمّي قدس‌سره حيث صرّح بحقيقة هذا القول ، لأنّ اللازم له الجزم ببطلانه.

ولا بأس بأن نشير إلى بعض الكلام في ذلك فنقول : قد حكي عن الأشاعرة القول بنفي استحقاق الثواب والعقاب بالأعمال الصالحة والطالحة ، وأنّ كلّا من الثواب والعقاب منوط بالمشيّة ، فإن شاء الله عذّب المطيع وإن شاء أثاب العاصي.

وأنكره الباقون ، فمنهم من قال بعدم استحقاق العقاب بالمعصية مع الإيمان ، وبعدم استحقاق الثواب مع الكفر ، وهو المحكيّ عن المرجئة ومنهم من قال بعدم استحقاق الثواب بالأعمال الصالحة. وهو المحكيّ عن أبي الحسين البلخي ، قال : لأنّ إيجاب هذه التكاليف وقع شكرا للنعم التي أنعم الله بها ، فلا يستحقّ بها مكلّف ثوابا. وأبطله المحقّق الطوسي بأنّ إيجاب المشقّة في شكر النعم قبيح عند العقلاء ، إذ يقبح عقلا أن ينعم الإنسان على غيره نعمة ثمّ يكلّفه ويوجب عليه شكره على تلك النعمة من غير أن يصل إليه ثواب ، والقبيح لا يصدر عن الله تعالى ، فتعيّن أن

٢١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون إيجاب التكاليف لاستحقاق الثواب.

ومنهم من قال باستحقاق الثواب بالعمل الصالح ، واستحقاق العقاب بالعمل الطالح. وهذه الفرقة قد اختلفت بين من قال بالإحباط والتكفير. والمراد بالأوّل أن يسقط الثواب المتقدّم بالمعصية المتأخّرة ، وبالثاني أن تكفّر الذنوب المتقدّمة بالطاعة المتأخّرة. وهذا محكيّ عن جماعة من المعتزلة. ومن قال بأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم ، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا. وهو محكيّ في كلام جماعة عن المحقّقين ، بل الإماميّة قاطبة ، كما حكي عن اللاهيجي في رسالته المسمّاة بسرمايه إيمان. وصرّح المحقّق الطوسي قدس‌سره ببطلان القول الأوّل من دون تأمّل.

واختلف القائلون بالإحباط على قولين :

أحدهما : المحكيّ عن أبي علي على اختلاف النقل عنه. قال القوشجي : «قال أبو علي : إنّ المتأخّر يسقط المتقدّم ، ويبقى هو على حاله» انتهى. وظاهره أنّ المتأخّر بأيّ وجه كان يسقط المتقدّم زائدا كان أم لا ، ويبقى هو بحاله. ونقل الآمدي والشيخ الطريحي : أنّ الطاعات تحبط المعاصي إن كانت زائدة ، وتبقى بحالها ، والعكس. وأوضحه الطريحي بأنّ أحد الاستحقاقين لو كان خمسة والآخر عشرة ، فإنّ الخمسة تسقط وتبقى العشرة بحالها. قال : ويسمّى الإحباط. ونقل الإمام الرازي عنه أنّ بقدر الطارئة من المعاصي تحبط السابقة من الطاعات من غير أن ينتقص منه شيء ، فإن بقي من الطاعات زائد على قدر المعاصي أثيب وإلّا فلا.

وثانيهما : محكيّ عن أبي هاشم ، وهو أن ينتفي الأقلّ بالأكثر ، وينتفي من الأكثر بالأقلّ ما ساواه ، ويبقى الزائد مستحقّا ، وإن تساويا صارا كأن لم يكن. وهذا هو الموازنة.

قال الطريحي : «قد أبطلهما ـ يعني : القولين ـ المحقّقون من المتكلّمين بأنّ ذلك موقوف على بيان وجود الإضافات في الخارج ، كالأخوّة والبنوّة وعدمهما.

٢٢٠