فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

انتقاض التيمم بوجدان الماء ، فالمتعيّن حينئذ استصحاب بقاء التيمّم وعدم انتقاضه بوجدان الماء ، إلّا أنّ الشيخ لا يقول بحجّيته ، فلا بدّ أن تكون هذه القاعدة عنده مغايرة لهما في المورد.

ويؤيّده أيضا تفصيل المحقّق فيها بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، بالقول باعتبارها في الأوّل دون الثاني ، إذ لو كان مرجعها إلى أصالة البراءة أو استصحاب حال العقل لا يبقى وجه لهذا التفصيل. وكلام المحقّق القمّي رحمه‌الله عند بيان معنى أصالة البراءة مختلّ النظام منهدم الأركان ، ولو لا خوف الإطالة لنقلته هنا ، ونبّهت على بعض ما فيه.

وعلى كلّ تقدير فالذي يقتضيه التحقيق أنّه إن قلنا برجوع قاعدة عدم الدليل إلى أصالة البراءة ـ كما عرفته من الشهيد ـ أو إلى استصحاب حال العقل على حسب اختلاف الموارد ، وإلّا فلا دليل على اعتبارها. وأمّا ما تقدّم من المحقّق فيها من التفصيل ففيه : أنّ هذه القاعدة فيما يعمّ به البلوى إن أفادت القطع بعدم الدليل فالحجّة هو القطع دونها ، وإلّا فلا دليل عليها وإن أفادت الظنّ بالواقع ، بناء على ما هو الحقّ من القول بالظنون الخاصّة.

هذا كلّه في بيان النسبة بينها وبين أصالة البراءة. وأمّا أصالة العدم فالظاهر كونها أعمّ موردا من أصالة البراءة ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله ، وإن تمّت هذه كانت دليلا على قاعدة عدم الدليل ، وهو واضح. والتحقيق فيها أيضا فيما لم يقم إجماع على اعتبارها فيه ـ كما في أصالة عدم النقل والاشتراك والقرينة ـ أنّهم إن أرادوا بالبناء على العدم بمقتضى هذا الأصل التوقّف عن إثبات آثار الوجود عند الشكّ فيه فهو صحيح لا سترة عليه ، لأنّ عاقلا لا يتوقّف في عدم جواز ترتيب آثار الوجود عند الشكّ فيه ، لأنّ المستفاد من طريق العقل حينئذ هو التوقّف والعمل بسائر القواعد والاصول في ترتيب آثار الوجود أو العدم. وإن أرادوا ترتيب آثار العدم عند الشكّ في الوجود ـ كما هو ظاهرهم ـ فلا دليل عليه من العقل.

وبالجملة ، إنّ هنا معنيين ، أحدهما بديهي غير مثمر ، والآخر نظري مثمر

١٤١

وأمّا «عدم الدليل دليل العدم» ، فالمستند فيه عندهم شيء آخر ، ذكره كلّ من تعرّض لهذه القاعدة كالشيخ وابن زهرة والفاضلين والشهيد وغيرهم ، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي.

وبالجملة ، فلم نعثر على من يستدلّ بهذه الأخبار في هذين الأصلين : أمّا رواية الحجب ونظائرها فظاهر. وأمّا النبويّ المتضمّن لرفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهوره في رفع المؤاخذة ولا ينفي به غير الحكم التكليفي ـ كأخواته من رواية الحجب وغيرها ـ وهو المحكيّ عن أكثر الاصوليّين وبين من يتعدّى عن ذلك إلى الأحكام الغير التكليفيّة ، لكن في موارد وجود الدليل على ثبوت ذلك الحكم وعدم جريان الأصلين المذكورين بحيث لو لا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم. ونظرهم في ذلك إلى : أنّ النبويّ ـ بناء على عمومه لنفي الحكم الوضعي ـ حاكم على تلك الأدلّة المثبتة لذلك الحكم الوضعي. ومع ما عرفت ، كيف يدّعي أنّ مستند الأصلين المذكورين المتّفق عليهما هو هذه الروايات التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة؟

نعم ، يمكن التمسّك بها أيضا في مورد جريان الأصلين المذكورين ؛ بناء على أنّ صدق (١٧٠٥) رفع أثر هذه الامور أعني الخطأ والنسيان وأخواتهما كما يحصل بوجود المقتضي لذلك الأثر تحقيقا ـ كما في موارد ثبوت الدليل المثبت لذلك الأثر الشامل لصورة الخطأ والنسيان ـ كذلك يحصل بتوهّم ثبوت المقتضي ولو لم يكن عليه دليل ولا له مقتض محقّق ، لكنّ تصادق بعض موارد الأصلين والرواية مع تباينهما الجزئي (١٧٠٦) لا يدلّ على الاستناد لهما بها ، بل يدلّ على العدم.

______________________________________________________

لم يساعده دليل. وحينئذ إن قلنا برجوع هذا الأصل إلى أصالة البراءة أو استصحاب العدم ، وإلّا فلا دليل عليه.

١٧٠٥. قد أوضح تحقيق الكلام في ذلك في الشبهة التحريميّة من مسائل الشكّ في التكليف.

١٧٠٦. لأنّ نسبة الاصلين إلى النبويّ على ما ذكره عموم من وجه ، لجريان

١٤٢

ثمّ إنّ في الملازمة التي صرّح بها في قوله : وإلّا لدلّت هذه الأخبار على نفي حجيّة الطرق الظنّية كخبر الواحد وغيره ، منعا واضحا ، ليس هنا محلّ ذكره (١٧٠٧) ، فافهم.

واعلم أنّ هنا اصولا ربّما يتمسّك بها على المختار : منها : أصالة عدم وجوب الأكثر.

______________________________________________________

الأصلين في غير الأحكام التكليفيّة والوضعيّة أيضا ، كأصالة عدم القرينة والنقل والاشتراك ، بخلاف النبويّ ، وجريانه في موارد وجود الدليل على إثبات الآثار المرفوعة لولاه من أحكام الوضع والتكليف ، بخلافهما ، وجريان كلّ منهما في موارد توهّم ثبوت الدليل عليه.

١٧٠٧. حاصل منع الملازمة يرجع إلى بيان الفارق بين مؤدّى قاعدة الاشتغال وسائر الطرق الشرعيّة ، وأنّ حكومة أخبار البراءة على الاولى لا تستلزم حكومتها على الثانية. أمّا حكومتها على الاولى فهي بتقريب ما ذكره آنفا.

وأمّا عدم حكومتها على الثانية ، فإن مؤدّيات الطرق الظاهريّة من أخبار الآحاد وغيرها منزّلة بحكم أدلّتها منزلة نفس الأحكام الواقعيّة ، من دون اعتبار ثبوت مؤدّياتها في مورد الشكّ في الواقع. وبعبارة اخرى : أنّ اعتبارها إنّما هو من باب المرآتيّة والكشف عن الواقع ، بتنزيل هذا الانكشاف الظنّي ولو نوعا بمنزلة الانكشاف القطعي بحكم الشارع ، فكأنّه قال : كلّ ما أدّت إليه هذه الطرق افرضه نفس الواقع ، بإلغاء احتمال تخلّفها عنه وترتيب آثار الواقع عليه. ولا ريب أنّ حكم العقل بالاحتياط في موارده إنّما هو لتحصيل الائتمان عن العقاب المرتّب على مخالفة المأمور به الواقعي ، وهو يحصل فيما نحن فيه بالإتيان بالأكثر. وكذا دلالة أخبار البراءة على عدم الوجوب في الظاهر إنّما هو عند الشكّ فيه. فحكومة هذه الأخبار على قاعدة الاحتياط لأجل الائتمان بها عن ترتّب العقاب على ترك الأكثر ـ إن كان الواجب في الواقع هو الأكثر ـ لا يستلزم حكومتها على أخبار

١٤٣

وقد عرفت سابقا حالها (١٧٠٨).

ومنها : أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك في جزئيّته. وحالها حال سابقها بل أردأ ؛ لأنّ الحادث المجعول (*) (١٧٠٩) هو وجوب المركّب المشتمل عليه ، فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ ، ووجوبه المقدّمي بمعنى اللابدّية لازم له غير حادث بحدوث مغاير كزوجيّة الأربعة ، وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير ، لكن لا يترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت ليثبت بذلك كون الماهيّة هي الأقلّ (**).

______________________________________________________

الآحاد ، بل الأمر بالعكس ، لارتفاع الشكّ عن التكليف نفيا أو إثباتا في موارد الطرق الظاهريّة ، ولذا نقول بحكومتها على الاصول العمليّة مطلقا ، سواء وافقتها أم خالفتها. وقد أوضح المصنّف رحمه‌الله تحقيق الكلام في ذلك في أوّل هذا المقصد من مقاصد الكتاب.

ثمّ إنّه يمكن قلب الملازمة على صاحب الفصول ، بأن يقال : إنّ ما كان لنا إليه طريق في الظاهر ـ كأخبار البراءة فيما نحن فيه ـ لا يصدق عليه أنّه مجهول ، وأنّه ممّا احتمل في مخالفة العقاب ، وإلّا لدلّت أدلّة الاشتغال على عدم حجّية الأدلّة الظنّية.

١٧٠٨. بقوله : «لكنّ الإنصاف أنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الأكثر لا ينفع في المقام ، بل هو قليل الفائدة ..». ومنه يظهر كون الوجه الثاني أردأ من هذا الوجه ، لفرض عدم جريان الأصل على الوجه الثاني على جميع احتمالاته.

١٧٠٩. حاصله : أنّ لوجوب الجزء معان ، أحدها : وجوبه في حال كونه جزءا من الكلّ. وثانيها : وجوبه المقدّمي ، بمعنى عدم البدّ منه في الإتيان بالكلّ. وثالثها : وجوبه الغيري العارض له ، مع ملاحظته في نفسه وكونه مقدّمة للإتيان بالكلّ.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المجعول» ، المجهول.

(**) في بعض النسخ : بدل «الأقلّ» ، الأوّل.

١٤٤

ومنها : أصالة عدم جزئيّة الشيء المشكوك. وفيه : أنّ جزئيّة الشيء (١٧١٠) المشكوك ـ كالسورة ـ للمركّب الواقعي وعدمها ، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم.

وإن اريد أصالة عدم صيرورة السورة جزء المركّب المأمور به ، ليثبت بذلك خلوّ المركّب المأمور به منه ، ومرجعه إلى أصالة عدم الأمر بما يكون هذا جزء منه ، ففيه : ما مرّ من

______________________________________________________

والأوّل عين وجوب الكلّ ، لأنّ الوجوب في حال جزئيّة الجزء وكونه في ضمن الكلّ عارض لمجموع الأجزاء ، واعتبار كلّية الكلّ وجزئيّة الأجزاء لا يوجب التعدّد فيه ، نظير حركة السفينة العارضة لها ولأهلها مع اتّحادها في الحقيقة ، فالوجوب واحد وإن اختلف بالاعتبار وملاحظة الكلّ والأجزاء بلحاظين ، فمرجع نفي وجوب الجزء إلى نفي وجوب الكلّ ، وقد عرفت الحال فيه في الوجه الأوّل.

والثاني لازم لطبيعة المقدّمة ، فمرجع نفيه إلى نفي المقدّمية ـ أعني : الجزئيّة ـ فيما نحن فيه ، وستعرف الكلام فيه. مع أنّه لا يفيد تعيين المأمور به في الأقلّ إلّا على القول بالاصول المثبتة.

والثالث وإن كان مجعولا بجعل مغاير لوجوب الكلّ ، إلّا أنّ نفيه بالأصل مثبت.

١٧١٠. حاصله : أنّه إن أراد بأصالة عدم الجزئيّة أصالة عدم كون المشكوك فيه من أجزاء المركّب التي هي فرع العلم بعدم اتّصافه بهذا الوصف ، أعني : عدم كونه من أجزاء المركّب في الزمان السابق ، ففيه : أنّ الجزئيّة وكذا عدمها بهذا المعنى ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم.

لا يقال : إنّ المشكوك فيه قبل الأمر بالمركّب لم يكن جزءا منه يقينا ، فيستصحب عدمه.

لأنّا نقول : إنّ عدم كونه جزءا منه حينئذ إنّما هو لأجل عدم وجود المركّب ، فهو حينئذ كما لا يتّصف بالجزئيّة كذلك بعدمها ، لأنّ كلّا منهما من الامور الإضافيّة الموقوف صدقها على وجود المضاف إليه وهو الكلّ ، وهذا معنى

١٤٥

أنّه أصل مثبت. وإن اريد : أصالة عدم دخل (١٧١١) هذا المشكوك في المركّب عند اختراعه له الذي هو عبارة عن ملاحظة عدّة أجزاء غير مرتبطة في نفسها شيئا واحدا ، ومرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشيء مع المركّب المأمور به شيئا واحدا ؛ فإنّ الماهيّات المركّبة لما كان تركّبها جعليّا حاصلا بالاعتبار ـ وإلّا فهي أجزاء لا ارتباط بينها في أنفسها ولا وحدة تجمعها إلّا باعتبار معتبر ـ توقّف جزئيّة شىء لها على ملاحظته معها واعتبارها مع هذا الشيء أمرا واحدا.

______________________________________________________

عدم كون الجزئيّة وعدمها من الامور المسبوقة بالعدم. وبالجملة ، إنّ صدق عدم كونه جزءا من المركّب المأمور به موقوف على فرض وجود الكلّ خاليا من المشكوك فيه في زمان ثمّ يشكّ في اعتباره فيه بعد ورود الأمر به ، وهو خلاف الفرض.

وإن أراد بأصالة عدم الجزئيّة أصالة عدم الأمر بمركّب يكون المشكوك فيه جزءا منه ليثبت بها خلوّ المركّب المأمور به منه ، لأنّا إذا علمنا إجمالا بتعلّق أمر الشارع إمّا بمركّب مشتمل عليه وإمّا بمركّب خال منه ، فأصالة عدم الأوّل تثبت الثاني ، ففيها أنّها مثبتة ، مع أنّها معارضة بالمثل.

وإن أراد بها أصالة عدم ملاحظة الشارع للمشكوك فيه في المركّب المأمور به عند اختراعه ، على نحو ما فصّله المصنّف رحمه‌الله ، ومرجعه إلى أصالة عدم الحكم الوضعي المنتزع من الأمر بالمركّب ، فله وجه وإن كان ضعيفا ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله.

والفرق بين هذا الشقّ والشقّ الأوّل من الترديد أنّ المستصحب في الأوّل عدم جزئيّة المشكوك فيه من المركّب الخارجي ، وفي الثاني عدم جزئيّة المشكوك فيه من المركّب الجعلي الاعتباري. ومرجع نفي جزئيّته حينئذ إلى نفي الحكم الوضعي المنتزع من الأمر بالمركّب الجعلي الاعتباري. ومن هذا البيان تظهر صحّة الإيراد على هذا الشقّ بما أورده على الشقّ الأوّل ، لأنّ مجرّد كون المركّب في أحدهما خارجيّا وفي الآخر اعتباريّا لا يصلح لدفع الإيراد عن هذا الشقّ.

١٧١١. جواب الشرط قوله : فله وجه.

١٤٦

فمعنى جزئيّة السورة للصلاة ملاحظة السورة مع باقي الأجزاء شيئا واحدا ، وهذا معنى اختراع الماهيّات وكونها مجعولة ؛ فالجعل والاختراع فيها من حيث التصوّر والملاحظة ، لا من حيث الحكم حتّى يكون الجزئيّة حكما شرعيّا وضعيّا في مقابل الحكم التكليفي ، كما اشتهر في ألسنة جماعة إلّا أن يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى وتمام الكلام يأتي في باب الاستصحاب عند ذكر التفصيل بين الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة.

ثمّ إنّه إذا شكّ في الجزئيّة بالمعنى المذكور فالأصل عدمها ، فإذا ثبت عدمها في الظاهر يترتّب عليه كون الماهيّة المأمور بها هي الأقلّ ؛ لأنّ تعيين الماهيّة في الأقلّ (١٧١٢) يحتاج إلى جنس وجودي وهي الأجزاء المعلومة ، وفصل عدمي هو عدم جزئيّة غيرها وعدم ملاحظته معها ، والجنس موجود بالفرض والفصل ثابت بالأصل ، فتعيّن المأمور به ، فله وجه. إلّا أن يقال : إنّ جزئيّة الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركّب منه ومن الباقي شيئا واحدا ، كما أنّ عدم جزئيّته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ، فجزئيّة الشيء وكلّية المركّب المشتمل عليه مجعول بجعل واحد ، فالشكّ في جزئيّة الشيء شكّ في كلّية الأكثر ونفي جزئيّة الشيء نفي لكلّيته ، فإثبات كلّية الأقلّ بذلك إثبات لأحد الضدّين بنفي الآخر ، وليس اولى من العكس.

______________________________________________________

١٧١٢. على أصالة عدم الجزئيّة بالمعنى الذي قرّره ، وعدم كونه من الاصول المثبتة ، وذلك لأنّ تعيين الماهيّة في الأكثر أو الأقلّ يحتاج إلى إثبات جنس ، وهو في الأكثر اشتماله على ما اشتمل عليه الأقلّ ، وفي الأقلّ اشتماله على الأجزاء المعلومة ، وفصل وهو في الأكثر ، اشتماله على ما لم يشتمل عليه الأقل ، وفي الأقلّ عدم اشتماله على ما فوقه ممّا اشتمل عليه الأكثر ، والجنس والفصل في الأكثر وجوديّان ، وجنسه وإن كان متيقّنا إلّا أنّ فصله من حيث كونه وجوديّا لا يمكن إثباته عند الشكّ فيه بأصالة العدم ، بخلاف الأقلّ ، فإنّ جنسه وإن كان وجوديّا إلّا أنّه متيقّن بالفرض ، وفصله وإن فرض كونه مشكوكا إلّا أنّه من حيث كونه عدميّا يمكن إثباته بالأصل. ومن هنا ظهر أنّ المقصود من أصالة عدم

١٤٧

ومنه يظهر : عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التفات الآمر حين تصوّر المركّب إلى هذا الجزء ، حتّى يكون بالملاحظة (*) شيئا واحدا مركّبا من ذلك ومن باقي الأجزاء ؛ لأنّ هذا أيضا لا يثبت أنّه اعتبر التركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء. هذا ، مع أنّ أصالة عدم الالتفات لا يجري بالنسبة إلى الشارع المنزه عن الغفلة ، بل لا يجري مطلقا فيما دار أمر الجزء بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبّا ، لحصول الالتفات فيه قطعا ، فتأمّل (١٧١٣).

المسألة الثانية : ما إذا كان الشكّ في الجزئيّة ناشئا من إجمال الدليل كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردّد ـ بأحد أسباب الإجمال ـ بين مركّبين يدخل أقلّهما (١٧١٤) جزءا تحت الأكثر بحيث يكون الآتي بالأكثر آتيا بالأقلّ.

______________________________________________________

الجزئيّة في المقام ليس إلّا إثبات مجراها ، لا شيء آخر حتّى يقال بكونها مثبتة ، فإذا ثبت فصل الأقلّ بالأصل وكان جنسه متيقّنا ثبت تعيّن كون الماهيّة هو الأقلّ. وأنت خبير بأنّ إثبات أحد جزئي الماهيّة بالأصل والآخر بالفرض لا يخرج الأصل من كونه مثبتا ، ولذا لو تردّد الأمر بين الوجوب والاستحباب لا يمكن أن يقال إنّ مطلق الرجحان ثابت بالفرض ، وإذا ثبت عدم المنع من الترك الذي هو فصل الاستحباب ثبت استحباب الفعل ، كما سيجيء في محلّه.

١٧١٣. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى إمكان دعوى حصول الغفلة على وجه خاصّ ، لاختلاف الالتفات في مقام الإيجاب والاستحباب ، لأنّ الالتفات إلى الشيء على وجه يكون مقوّما لغيره بحيث ينتفي بانتفائه مغاير للالتفات إليه على وجه لا يكون كذلك ، والالتفات على الوجه الثاني لا يستلزمه على الوجه الأوّل ، فتدبّر.

١٧١٤. احتراز عمّا لو اشتمل الأقلّ على جزء لا يشتمل عليه الأكثر ، بأن لا يعتبر فيه ذلك أو اعتبر عدمه. وكذا قوله : «بحيث يكون الآتي ...» احتراز عمّا لو اعتبر الأقلّ بشرط لا كالقصر والإتمام ، لأنّ هذين القسمين داخلان في المتباينين

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل : «بالملاحظة» ، بملاحظته.

١٤٨

والإجمال : قد يكون في المعنى العرفي (١٧١٥) ، كأن وجب في الغسل غسل ظاهر البدن ، فيشكّ في أنّ الجزء الفلاني ـ كباطن الاذن أو عكنة البطن (١٧١٦) ـ من الظاهر أو الباطن ، وقد يكون في المعنى الشرعيّ كالأوامر المتعلّقة في الكتاب والسنّة بالصلاة وأمثالها ، بناء على (١٧١٧) أنّ هذه الألفاظ موضوعة للماهيّة الصحيحة يعني الجامعة لجميع الأجزاء الواقعيّة. والأقوى هنا أيضا جريان أصالة البراءة لعين ما أسلفناه في سابقه من العقل والنقل.

وربّما يتخيّل جريان قاعدة الاشتغال هنا وإن جرت أصالة البراءة في المسألة المتقدّمة ؛ لفقد الخطاب التفصيلي المتعلّق بالأمر المجمل في تلك المسألة ووجوده هنا (١٧١٨) ، فيجب الاحتياط بالجمع بين محتملات الواجب المجمل ، كما هو الشأن

______________________________________________________

دون الأقلّ والأكثر. وربّما يتوهّم كون القيد الأوّل مغنيا عن الثاني ، لعدم دخول الأقلّ تحت الأكثر عند اعتبار الأقلّ بشرط لا. وفيه : أنّ المراد بالدخول هو الدخول ولو في الظاهر ، وبكون الآتي بالأكثر إتيانا بالأقلّ هو الإتيان في مقام الإطاعة والامتثال.

١٧١٥. وكذا اللغوي. ولعلّ المراد بالعرف أعمّ منه ومن العرف العامّ.

١٧١٦. قال الطريحي : «في الحديث : كأنّي انظر إلى أبي وفي عنقه عكنة. هي بالضمّ فالسكون واحدة العكن كصرد ، طيّ في العنق. وأصلها الطيّ في البطن من السمن. ويقال في الجمع أعكان أيضا. وتعكّن البطن صار ذا عكن».

١٧١٧. [أنّ هذه الألفاظ على معانيها اللغويّة](*) واستعمال الشارع لها في المعاني اللغويّة ، لما قرّرناه في محلّه من إمكان تأتّي النزاع في الصحيح والأعمّ ، والثمرة المرتّبة عليه من الإجمال والبيان في استعمال الشارع أيضا ، وإن قلنا ببقائها على المعاني اللغويّة.

١٧١٨. كأنّ وجود الخطاب التفصيلي قاطع للعذر عند الله وعند العقل. و

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، والظاهر أنّها من زيادات النسّاخ.

١٤٩

في كلّ خطاب تعلّق بأمر مجمل ؛ ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح كما هو المشهور ، وجوب الاحتياط في أجزاء العبادات وعدم جواز إجراء أصل البراءة فيها.

وفيه : أنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوع ، لأنّ

______________________________________________________

لعلّ الوجه فيه أنّ حكم العقل بالبراءة إنّما هو لقبح العقاب بلا بيان ، والفرض هنا وصول البيان وإجمال متعلّق الخطاب لا يصلح للعذر بعد كشف الخطاب عن ثبوت متعلّقه في الواقع ، وتمكّن المكلّف من امتثاله ولو بالاحتياط ، بخلافه في المسألة السابقة ، لفرض عدم العلم هناك بوجود خطاب تفصيلي ، ومجرّد العلم بوجود أحد الخطابين في الواقع لا يصلح قاطعا للعذر ، لصدق عدم البيان معه ، ولذا فرّعوا على القول بالصحيح ـ كما هو المشهور ـ وجوب الاحتياط ، وعدم جواز التمسّك بأصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط. مع ما تقدّم في المسألة السابقة من أنّ المشهور عند الشكّ فيهما مع كون الشبهة ناشئة من فقدان النصّ هي البراءة ، ووجه التوفيق بينهما هو ما ذكرناه من وجود الخطاب التفصيلي هنا ، بخلافه هناك.

وتوضيح ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله أنّ مجرّد وجود الخطاب مع قطع النظر عن مدلوله لا يصلح فارقا بين المسألتين بلا ريب. وأمّا مع ملاحظة مدلوله فلا ريب في حصول العلم بمدلوله في المسألة السابقة أيضا ، لأنّ الفرض هناك حصول العلم بوجوب أحد الأمرين ، أعني : الأقلّ أو الأكثر. ولا شكّ أنّ قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) على القول بالصحيح لا يزيد على هذا العلم شيئا ، فيرجع الفرق بين المسألتين إلى مجرّد وجود الخطاب اللفظي مع قطع النظر عن مدلوله وعدمه. ومع عدم تأثيره في الفرق بين المسألتين لا بدّ أن يلاحظ العلم الإجمالي الحاصل فيها ، وأنّه يصلح منشأ لوجوب الاحتياط أو لا ، وهو غير صالح لذلك كما قرّره المصنّف رحمه‌الله.

١٥٠

المتيقّن من مدلول هذا الخطاب وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدّمي ، فلا محيص عن الإتيان به ؛ لأنّ تركه مستلزم للعقاب ، وأمّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقى مشكوكا ، فيجئ فيه ما مرّ من الدليل العقلي والنقلي.

والحاصل أنّ مناط وجوب الاحتياط (١٧١٩) عدم جريان أدلّة البراءة في واحد معيّن من المحتملين ـ لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر ـ حتّى يخرج المسألة بذلك عن مورد البراءة ويجب الاحتياط فيها ؛ لأجل تردّد الواجب المستحقّ على تركه العقاب بين أمرين لا معيّن لأحدهما ، من غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلّق بالمجمل وبين وجود خطاب مردّد بين خطابين. فإذا فقد المناط المذكور وأمكن البراءة في واحد معيّن ، لم يجب الاحتياط من غير فرق بين الخطاب التفصيلي وغيره.

فإن قلت (١٧٢٠) : إذا كان متعلّق الخطاب مجملا فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالإتيان بمراده واستحقّ العقاب على تركه مع وصف كونه مجملا ، وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن استحقاق العقاب. قلت : التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله حتّى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين أمرين ، حتّى يجب الاحتياط فيه ولو كان المصداق مردّدا بين الأقلّ والأكثر نظرا إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعيّن المطلوب من العبد ، كما سيجيء في المسألة الرابعة. وإنّما هو

______________________________________________________

١٧١٩. ظاهره أنّ المناط فيه تعارض أصالة البراءة في طرفي العلم الإجمالي وتساقطهما لذلك. ولكن مختار المصنّف رحمه‌الله ـ كما صرّح به في المتباينين وغيره ـ أنّ المناط فيه عدم جريان أصالة البراءة في موارد العلم الإجمالي من رأس ، وأنّ مقتضى أخبار البراءة فيها إمّا جواز المخالفة القطعيّة ، وهو مناف للعلم الإجمالي ، أو وجوب الموافقة القطعيّة ، وهو المطلوب.

١٧٢٠. حاصل السؤال : منع ما تقدّم من عدم تأثير وجود الخطاب التفصيلي في الفرق بين المسألتين ، أعني : مسألتي إجمال النصّ وفقدانه ، لأنّه مع وجوده وإجمال

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

متعلّقه ـ كما هو الفرض ـ يحصل القطع بتعلّق التكليف بتحصيل ما هو مراد من الخطاب ، إلّا أنّه لأجل الاشتباه في متعلّق الخطاب ـ وهي الصلاة في قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ـ وقع الاشتباه في مصداق مفهوم المراد وأنّه الأقلّ أو الأكثر ، والقطع بحصول الامتثال لا يحصل إلّا مع القطع بالإتيان بما هو مراد من الخطاب في الواقع ، وهو لا يحصل فيما نحن فيه إلّا بالإتيان بالأكثر. وهذا نظير ما لو ورد خطاب مبيّن مردّد مصداقه الخارجي بين الأقلّ والأكثر ، كما سيجيء في المسألة الرابعة ، لأنّ مناط وجوب الاحتياط فيه تعلّق الحكم في الخطاب بشيء مبيّن مطلوب لا يحصل القطع بالإتيان به بالإتيان ببعض محتملاته ، وهو موجود فيما نحن فيه أيضا ، لتعلّق التكليف بتحصيل مراد الشارع من الخطاب ، والقطع به لا يحصل بالإتيان بالأقلّ ، فيجب فيه الاحتياط أيضا لذلك ، بخلاف مسألة فقدان النصّ ، إذ لا خطاب مفصّل فيه حتّى يجري فيه ما ذكرناه ، وغاية الأمر أنّ العلم الإجمالي حاصل فيه بوجوب أحد الأمرين من الأكثر والأقلّ في الواقع. وقبح التكليف بالمجهول بالجهل البسيط ينفى بتنجّز التكليف بالأكثر إن كان هو الواجب في الواقع ، لانحلال العلم الإجمالي فيه إلى شكّ بدوي في الأكثر وعلم تفصيلي في الأقلّ ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله.

وبالجملة ، إنّ المكلّف به مع فقدان النصّ فيما نحن فيه مردّد بين أمرين ، أعني : الأكثر والأقلّ ، والعلم الإجمالي بوجوب أحدهما منحلّ إلى شكّ بدوي وعلم تفصيلي ، ومع إجمال النصّ متعلّق بعنوان واقعي ، وهو تحصيل مراد الشارع من الخطاب الصادر عنه. ومصداق المراد مردّد بين الأقلّ والأكثر. والقول بالبراءة في الأوّل لا يستلزمها في الثاني ، نظير ما عرفته من الشبهة المصداقيّة.

وحاصل الجواب : منع كون التكليف متعلّقا بمفهوم لفظ المراد من الخطاب حتّى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه المصداق ، لأنّ الألفاظ إنّما وضعت للمعاني الواقعيّة من حيث هي لا من حيث كونها مرادة للشارع ، كيف لا

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو غير معقول ، لتأخّر القصد والإرادة عن مقام الوضع ، فلا يعقل أخذه فيه.

فمداليل الألفاظ هي المعاني الواقعيّة من حيث هي ، والألفاظ كاشفة عنها. فقول الشارع : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، يفيد إرادة وجوب الصلاة الواقعيّة من المكلّفين ، لا وجوب ما هو مراد للشارع بوصف كونه مرادا حتّى يقال بتردّد مصداق المراد ، فيجب فيه الاحتياط وإن كان تردّده بين الأقلّ والأكثر. فالإرادة إنّما عرضت على ما تنجّز التكليف به في الواقع ، لا أنّ المكلّف به هو المراد الواقعي. والفرق بين كون المكلّف به الواقعي مرادا وكون المراد مكلّفا به واضح ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل دون الثاني ، والسؤال إنّما يتّجه على الثاني دون الأوّل.

وبالجملة ، إنّ المكلّف به وما أراده الشارع من المكلّف هو نفس الواقع من حيث هو ، والألفاظ كاشفة عنه. ولا ريب أنّه لا فرق في إثبات هذا المعنى بين كون الكاشف عنه هو الخطاب اللفظي كما فيما نحن فيه ، أو الإجماع مثلا كما في مسألة فقدان النصّ ، فالقول بالبراءة أو الاحتياط في إحداهما يستلزم القول به في الاخرى ، وهو واضح.

وممّا ذكرناه يظهر منشأ التوهّم الذي نقله المصنّف رحمه‌الله واندفاعه. أمّا الأوّل فإنّه قد توهّم بعضهم عدم جواز التمسّك بأصالة البراءة على القول بوضع أسامي العبادات على الماهيّات الصحيحة ، بل وعلى القول باستعمالها فيها أيضا وإن قلنا ببقائها على المعاني اللغويّة ، لما أشرنا إليه سابقا من تأتّي النزاع بحسب الاستعمال أيضا ، لأنّه إذا كان الموضوع له أو المستعمل فيه هي الماهيّة الصحيحة ، يكون المكلّف به هي العبادة الصحيحة في الواقع ، ومفهوم الخطاب من هذه الجهة مبيّن فإذا تردّدت العبادة المأمور بها بين الأقلّ والأكثر لأجل الشكّ في بعض أجزائها أو شرائطها ، يقع الشكّ في مصداق هذا المفهوم المبيّن ، وأنّه هو الأكثر أو الأقلّ ، فيجب الإتيان حينئذ بما يقطع بكونه صحيحا في الواقع وهو الأكثر ، كما سيجيء في المسألة الرابعة.

١٥٣

متعلّق بمصداق المراد والمدلول ؛ لأنّه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ، واتّصافه بمفهوم المراد والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر لا مصداقه.

ونظير هذا توهّم : أنّه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح ، والصحيح مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، فيجب فيه الاحتياط. ويندفع : بأنّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق ، فافهم.

وأمّا ما ذكره بعض متأخّري المتأخّرين : من (*) الثمرة بين القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح وبين وضعها للأعمّ ، فغرضه بيان الثمرة على مختاره من وجوب الاحتياط في الشكّ في الجزئيّة ، لا أنّ كلّ من قال بوضع الألفاظ للصحيحة فهو قائل بوجوب الاحتياط وعدم جواز إجراء أصل البراءة في أجزاء العبادات ؛ كيف؟ والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيحة قد ملئوا طواميرهم من إجراء الأصل عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة بحيث لا يتوهّم من كلامهم أنّ مرادهم بالأصل غير أصالة البراءة.

______________________________________________________

وأمّا الثاني فإنّ المكلّف به ليس هو مفهوم الصحيحة ، بل مصداقه الخارجي. وما ذكرت إنّما يتمّ على الأوّل دون الثاني ، لأنّ الموضوع له لفظ الصلاة هو الأجزاء الخارجة المردّدة بين التسعة والعشرة مثلا ، لا مفهوم الصحيحة.

فإن قلت : كيف يفرض وضع اللفظ لمصداق الصحيحة ، والصحّة متأخّرة عن الوضع والأمر والامتثال؟ لأنّها بمعنى موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ، فلا يعقل أخذها في مفهوم اللفظ ، وإلّا لزم تقدّم الشيء على نفسه.

قلت : تحقيق الكلام في ذلك محرّر في مبحث الصحيح والأعمّ. ومحصّله : أنّ المقصود من الصحّة في قولهم : أسامي العبادات موضوعة للصحيحة أو الأعمّ ، ليس هو المعنى المذكور ، لعدم تعقّله كما عرفت ، بل المقصود منها هناك كون الماهيّة

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : أنّه.

١٥٤

والتحقيق : أنّ ما ذكروه ثمرة للقولين من وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح وعدمه على القول بوضعها للأعمّ ، محلّ نظر. أمّا الأوّل ، فلما عرفت من أنّ غاية ما يلزم من القول بالوضع للصحيح كون هذه الألفاظ مجملة ، وقد عرفت أنّ المختار والمشهور في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر عدم وجوب الاحتياط.

وأمّا الثاني (١٧٢١) ، فوجه النظر موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتّب تلك الثمرة ، أعني عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعمّ ، وهو أنّه إذا قلنا بأنّ المعنى الموضوع له اللفظ هو الصحيح ، كان كلّ جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق حقيقة معنى لفظ «الصلاة» ، فالشكّ في جزئيّة شىء شكّ في صدق الصلاة ، فلا إطلاق للفظ «الصلاة» على هذا القول بالنسبة إلى واجدة الأجزاء وفاقدة بعضها ؛ لأنّ الفاقدة ليست بصلاة ؛ فالشكّ في كون المأتيّ به فاقدا أو واجدا شكّ في كونها صلاة أو ليست بها.

______________________________________________________

على النحو الذي قرّرها الشارع عليه ، من الترتيب بين أجزائها واشتمالها على كيفيّاتها الحاصلة من الشرائط ، وهذه الماهيّات إذا تعلّق الأمر بها وأتي بها على ترتيبها وكيفيّاتها تتّصف بالصحّة بالمعنى المصطلح عليه.

١٧٢١. لا يذهب عليك أنّ الملازمة الثانية في كلام المصنّف رحمه‌الله هو عدم وجوب الاحتياط على القول بالأعمّ ، وهو أعمّ من أن يكون ذلك لأجل أصالة البراءة عن المشكوك فيه من الأجزاء والشرائط ، أو لأجل إطلاق أسامي العبادات على هذا القول. وقد حمله المصنّف رحمه‌الله على الثاني ، ولذا اقتصر في الإيراد على هذه الملازمة بالمنع من جواز التمسّك بإطلاقات العبادات. ولعلّه مبنيّ على حمل أصالة البراءة في كلام من جعل ثمرة القول بالأعمّ جواز التمسّك بها ـ كما حكي عن الوحيد البهبهاني ـ على المسامحة ، بإرادة ما يوافقها وهو الإطلاق ، لغاية بعد إرادة ظاهرها ، لوضوح توقّف جريان الاصول العمليّة في مورد على عدم دليل اجتهادي فيه ، لحكومته أو وروده عليها ، وإطلاق الألفاظ أو عمومها معدود في الأدلّة

١٥٥

وأمّا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو القدر المشترك بين الواجدة لجميع الأجزاء والفاقدة لبعضها ـ نظير «السرير» الموضوع للأعمّ من جامع أجزائه ومن فاقد بعضها الغير المقوّم لحقيقته بحيث لا يخلّ فقده بصدق اسم «السرير» على الباقي ـ كان لفظ «الصلاة» من الألفاظ المطلقة الصادقة على الصحيحة والفاسدة. فإذا أريد بقوله : «أقيموا الصلاة» فرد مشتمل على جزء زائد على مسمّى الصلاة كالصلاة مع السورة ، كان ذلك تقييدا للمطلق ، وهكذا إذا اريد المشتملة على جزء آخر كالقيام ، كان ذلك تقييدا آخر للمطلق ، فإرادة الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء يحتاج إلى تقييدات بعدد الأجزاء الزائدة على ما يتوقّف عليها صدق مسمّى الصلاة ، أمّا القدر الذي (١٧٢٢) يتوقّف عليه صدق «الصلاة» ، فهى من مقوّمات معنى المطلق ، لا من القيود المقسّمة له.

وحينئذ : فإذا شكّ في جزئيّة شىء للصلاة ، فإن شكّ في كونه جزءا مقوّما لنفس المطلق فالشكّ فيه راجع إلى الشكّ في صدق اسم «الصلاة» ، ولا يجوز فيه إجراء البراءة ؛ لوجوب القطع بتحقّق مفهوم الصلاة كما أشرنا إليه فيما سبق ، ولا إجراء أصالة إطلاق اللفظ وعدم تقييده ؛ لأنّه فرع صدق المطلق على الخالي من ذلك المشكوك ، فحكم هذا المشكوك عند القائل بالأعمّ حكم جميع الأجزاء عند القائل بالصحيح.

وأمّا إن علم أنّه ليس من مقوّمات حقيقة الصلاة ، بل هو على تقدير اعتباره وكونه جزءا في الواقع ليس إلّا من الأجزاء التي يقيّد معنى اللفظ بها ؛ لكون اللفظ موضوعا للأعمّ من واجده وفاقده ، فحينئذ فالشكّ في اعتباره وجزئيّته راجع إلى الشكّ في تقييد إطلاق الصلاة في «أقيموا الصلاة» بهذا الشيء ، بأن يراد منه مثلا أقيموا الصلاة المشتملة على جلسة الاستراحة. ومن المعلوم أنّ الشكّ في التقييد

______________________________________________________

الاجتهاديّة ، وقد أوضحه المصنّف رحمه‌الله في أوّل هذا المقصد من مقاصد الكتاب.

١٧٢٢. هذا القدر على ما زعمه المحقّق القمّي هو الأركان ، وعند الفاضل الأصبهاني معظم الأجزاء.

١٥٦

يرجع فيه إلى أصالة الإطلاق وعدم التقييد ، فيحكم بأنّ مطلوب الآمر غير مقيّد بوجود هذا المشكوك وبأنّ الامتثال يحصل بدونه وأنّ هذا المشكوك غير معتبر في الامتثال ، وهذا معنى نفي جزئيّته بمقتضى الإطلاق.

نعم ، هنا توهّم نظير ما ذكرناه سابقا من الخلط بين المفهوم والمصداق ، وهو توهّم : أنّه إذا قام الإجماع بل الضرورة على أنّ الشارع لا يأمر بالفاسدة ؛ لأنّ الفاسد ما خالف (١٧٢٣) المأمور به ، فكيف يكون مأمورا به؟ فقد ثبت (١٧٢٤) تقييد الصلاة دفعة واحدة بكونها صحيحة جامعة لجميع الأجزاء ، فكلّما شكّ في جزئيّة شىء

______________________________________________________

١٧٢٣. لا يخفى أنّ الفاسد بهذا المعنى لا يعقل أن يكون مأمورا به ، لأنّ الفساد بهذا المعنى مترتّب على مخالفة الأمر ، فهو متأخّر عنه ، فكيف يعقل تعلّق الأمر به؟ وإلّا لزم تقدّم الشيء على نفسه. وحينئذ لا معنى لدعوى الإجماع والضرورة على عدم كون الفاسد مأمورا به ، لأنّ مقتضاه دعوى الإجماع والضرورة على كون المأمور به صحيحا ، أعني : الصحّة بمعنى موافقة الأمر ، وهو غير معقول ، كما يظهر بمقايسته على ما ذكرناه ونبّهنا عليه سابقا.

والاولى أن يدّعى الإجماع على كون المأمور به محبوبا عند الشارع ، أو على كون المراد به هو الجامع لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة عنده. وهذا أيضا مراد من ادّعى عدم كون الفاسد مأمورا به ، بل ما ذكره من الجواب أيضا يبتني على ما ذكرناه ، لعدم تماميّته على تقدير دعوى كون المراد بالمأمور به مصاديق الصحيح بمعنى موافق الأمر ، كما يظهر بالتدبّر فيما قدّمناه.

١٧٢٤. يعني : ثبت تقييد الصلاة بقيد عامّ جامع لجميع القيود التي لها مدخل في تحقّق المأمور به ، فتكون ألفاظ العبادات مجملة بالعرض نظير القول بالصحيح ، إلّا أنّ الإجمال على الأوّل يكون عرضيّا كما عرفت ، وعلى هذا القول ذاتيّا ، وهذا المقدار غير مجد ، إذ المأمور به على التقديرين هو عنوان الصحيحة ، فمع الشكّ في بعض الأجزاء أو الشرائط تقع الشبهة في مصداق الصحيحة وأنّه هو الأكثر أو الأقلّ.

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ويظهر اندفاع هذا التوهّم ممّا تقدّم في دفع التوهّم السابق في كلام المصنّف رحمه‌الله. وحاصله كما أشار إليه هنا : منع اقتضاء تقييد المراد بالصحّة لكون المأمور به هو عنوان الصحيحة ، بل غايته كون المأمور به مصاديقها الخارجة ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، فإذا قال الشارع : أقيموا الصلاة ، وثبت كون المراد هي الصحيحة ، يعني : الجامعة للأجزاء والشرائط ، فمقتضى هاتين القضيّتين كون المأمور به هي الصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط. فإذا شكّ في اعتبار جزء أو شرط فيها ، فمع صدق عنوان الصلاة على الخالية من هذا المشكوك فيه ، أعني : الأجزاء والشرائط الثابتة من الأدلّة كما هو مقتضى القول بالأعمّ ، ثبت بمقتضى صدق الإطلاق بضميمة أصالة عدم قيد آخر كون الخالية منه صلاة صحيحة بالمعنى المتقدّم.

فإن قلت : إنّه لا ريب في عروض الإجمال للخطاب إذا قال الشارع : اريد منك صلاة صحيحة ، فيما لو فرض الشكّ في بعض أجزائها أو شرائطها ، فما وجه الفرق بين ما ثبت التقييد في نفس الكلام وبين ما ثبت من الخارج كما هو محلّ الكلام؟

قلت : الفارق هو العرف ، لأنّه المرجع في مباحث الألفاظ. والنكتة فيه أنّه مع ثبوت القيد من الخارج كان للمطلق إذا لوحظ في نفسه ظهور في الإطلاق ، فكلّما شكّ في عروض مانع من إطلاقه يدفع بما عرفته من الظهور ، بخلاف ما لو ثبت القيد في الكلام ، لأنّه سقط المطلق عن إطلاقه على حسب مقتضاه ، ولذلك مثال في الخارج ، لأنّ المولى إذا قال لعبده : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم من العلماء من كان عدوّا لي ، فإذا شكّ في كون شخص عدوّا له يحرز عدم عداوته وكونه صديقا له بعموم الخطاب الأوّل ، بخلاف ما لو قال : أكرم العلماء غير أعدائي ، إذ لا ريب في إجماله بالنسبة إلى من شكّ منهم في كونه عدوّا للمولى.

١٥٨

كان راجعا إلى الشكّ في تحقّق العنوان المقيّد (١٧٢٥) المأمور به ، فيجب الاحتياط ليقطع بتحقّق ذلك العنوان على تقيّده ؛ لأنّه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو الصلاة ، فلا بدّ من إتيان كلّ ما يحتمل دخله في تحقّقها كما أشرنا إليه ، كذلك يجب القطع بتحصيل القيد (*) المعلوم الذي قيّد به العنوان ، كما لو قال : «أعتق مملوكا مؤمنا» فإنّه يجب القطع بحصول الإيمان ، كالقطع (**) بكونه مملوكا.

ودفعه يظهر ممّا ذكرناه : من أنّ الصلاة لم تقيّد بمفهوم «الصحيحة» وهو الجامع لجميع الأجزاء ، وإنّما قيّدت بما علم من الأدلّة الخارجيّة اعتباره ، فالعلم بعدم إرادة «الفاسدة» يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للامور التي دلّ الدليل على تقييد (١٧٢٦) الصلاة بها ، لا أنّ مفهوم «الفاسدة» خرج عن المطلق وبقي مفهوم «الصحيحة» ، فكلّما شكّ في صدق «الصحيحة» و «الفاسدة» وجب الرجوع إلى الاحتياط لإحراز مفهوم «الصحيحة». وهذه المغالطة جارية في جميع المطلّقات (١٧٢٧) بأن يقال : إنّ المراد بالمأمور به في قوله : «اعتق رقبة» ليس إلّا الجامع لشروط الصحّة ؛ لأنّ الفاقد للشرط (***) غير مراد قطعا ، فكلّما شكّ في شرطيّة شىء كان شكّا في تحقّق العنوان الجامع للشرائط ، فيجب الاحتياط للقطع بإحرازه.

______________________________________________________

١٧٢٥. على صيغة المفعول. والمراد به عنوان الصلاة. والضمير في قوله : «على تقييده» عائد إلى العنوان ، يعني : ليقطع بتحقّق عنوان الصلاة مع ما قيّد به من وصف الصحّة.

١٧٢٦. فتبقى أصالة الإطلاق بالنسبة إلى غير هذه الامور التي دلّ الدليل على اعتبارها على حالها ، فيعمل بها في نفي القيود المشكوكة.

١٧٢٧. بل العمومات أيضا ، مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وهذا جواب نقضي آخر لاستلزام المغالطة المذكورة عدم جواز التمسّك بعمومات المعاملات و

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «القيد» ، المقيّد.

(**) في بعض النسخ : بدل «كالقطع» ، كما يجب القطع.

(***) في بعض النسخ : بدل «للشرط» ، للشروط.

١٥٩

وبالجملة : فاندفاع هذا التوهّم غير خفيّ بأدنى التفات ، فلنرجع إلى المقصود ونقول : إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعمّ كغيرها من المطلقات كان لها حكمها ، ومن المعلوم أنّ المطلق ليس يجوز دائما التمسّك بإطلاقه ، بل له شروط (١٧٢٨) ، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضيّة المهملة بحيث لا يكون المقام مقام بيان ؛ ألا ترى : أنّه لو راجع المريض الطبيب فقال له في غير وقت الحاجة : «لا بدّ لك من شرب الدواء أو المسهل» ، فهل يجوز للمريض أن يأخذ بإطلاق الدواء والمسهل؟ وكذا لو قال المولى لعبده : «يجب عليك المسافرة غدا».

وبالجملة ، فحيث لا يقبح من المتكلّم ذكر اللفظ المجمل ـ لعدم كونه إلّا في مقام هذا المقدار من البيان ـ لا يجوز أن يدفع القيود المحتملة للمطلق بالأصل ؛ لأنّ جريان الأصل لا يثبت الإطلاق وعدم إرادة المقيّد إلّا بضميمة : أنّه إذا فرض ـ ولو بحكم الأصل ـ عدم ذكر القيد وجب إرادة الأعمّ من المقيّد وإلّا قبح التكليف ؛ لعدم البيان ، فإذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح الإخلال بذكر القيد مع إرادته في الواقع.

______________________________________________________

مطلقاتها أيضا ، وهو خلاف ما استقرّت عليه طريقة العلماء في أبواب المعاملات.

١٧٢٨. منها : عدم ورود المطلق في مقام الإهمال ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. ومنها : عدم وروده في مقام بيان حكم آخر ، كقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) فلا يجوز الاستدلال بإطلاقه على طهارة موضع إمساك الكلب ممّا أخذه من الصيد ، نظرا إلى عدم تقييد جواز الأكل بغسله كما حكي عن الشيخ ، لوروده في مقام بيان حكم جواز الأكل ، فهو ساكت عن حكم طهارة موضع العضّ ونجاسته. ومنها : كون المطلق متواطئا ، بأن لا تكون له أفراد شائعة ينصرف إليها الإطلاق. ومنها : عدم وهنه بورود تقييدات كثيرة توهن في إطلاقه ، كما في كثير من إطلاقات القواعد الشرعيّة ، ولكن ستقف على ما فيه.

١٦٠