فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-67-6
الصفحات: ٤٥٧

المصادر

(١) القوانين ج ٢ : ص ٣٧.

(٢) مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ٧٧.

(٣) البقرة (٢) : ٢٣٨.

(٤) مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ٢٨٢.

(٥) مسالك الإفهام ج ١ : ص ١٥٨.

١٠١
١٠٢

دوران الأمر بين

الاقلّ والأكثر

١٠٣
١٠٤

الثاني : فيما إذا دار الأمر في الواجب بين الأقلّ والأكثر (١٦٦٣) ومرجعه إلى الشكّ في جزئيّة شىء للمأمور به وعدمها ، وهو على قسمين ؛ لأنّ الجزء المشكوك : إمّا جزء خارجي أو جزء ذهني (١٦٦٤) وهو القيد ، وهو على قسمين : لأنّ القيد إمّا منتزع من أمر خارجي مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ، فمرجع اعتبار ذلك (١٦٦٥) القيد إلى إيجاب ذلك الأمر الخارجي ، كالوضوء الذي يصير منشأ للطهارة المقيّد بها الصلاة.

______________________________________________________

١٦٦٣. يعني : الارتباطيّين منهما ، لما أسلفناه في الحواشي السابقة من خروج الاستقلاليّين منهما من مسائل الشكّ في المكلّف به.

١٦٦٤. مرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في الشرطيّة. وتسميته جزءا إنّما هي باعتبار دخول التقييد في المقيّد ، وإن كان نفس القيد خارجا منه.

١٦٦٥. لا يذهب عليك أنّ الكلام في هذا القسم إنّما هو فيما لو كان الشكّ في شرطيّة القيد المنتزع وبيان الأصل في ذلك ، وأمّا لو كان الشكّ في جزئيّة شيء للأمر الخارج المنتزع منه أو شرطيّته بعد تسليم أصل الشرطيّة ، كما إذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للوضوء أو الغسل أو التيمّم ، فالظاهر خروجه من محلّ الكلام ، إذ لا ملازمة بين القول بالبراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط والقول بها فيما ذكرناه ، لأنّه عند الشكّ في جزئيّة السورة للصلاة أو شرطيّة شيء لها يمكن أن يقال بعدم الجزئيّة أو الشرطيّة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بالتقريب الذي سيأتي في محلّه. ولا يتأتّى ذلك فيما ذكرناه ، لأنّ نفي جزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته

١٠٥

وإمّا خصوصيّة متّحدة في الوجود مع المأمور به ، كما إذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة أو رقبة خاصّة ، ومن ذلك دوران الأمر (١٦٦٦) بين إحدى الخصال وبين واحدة معيّنة منها.

والكلام في كلّ من القسمين في أربع مسائل : أمّا مسائل القسم الأوّل ، وهو الشكّ في الجزء الخارجي : فالاولى منها (١٦٦٧) أن يكون ذلك مع عدم النصّ المعتبر في المسألة فيكون ناشئا من ذهاب جماعة إلى جزئيّة الأمر الفلاني ، كالاستعاذة قبل

______________________________________________________

من الوضوء مثلا للقاعدة المزبورة لا يقضي بحصول ما علم كونه شرطا للصلاة ، ووقوعها متلبّسة بشرطها الذي علم اشتراطها به وهي الطهارة ، إلّا على القول بالاصول المثبتة الّتي لا نقول بها ، بل الأصل عدم حصول شرط الصلاة وبقاء الشغل بالواقع. فعلم من ذلك أنّ الطهارات الثلاث عند الشكّ في بعض أجزائها أو شرائطها مورد لقاعدة الاشتغال ، وإن قلنا بأصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط في المشروط بها.

١٦٦٦. إشارة إلى اندراج كلّ من دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي والشرعيّ في محلّ البحث.

١٦٦٧. اعلم أنّا قد أسلفنا فيما علّقناه على القسم الأوّل ـ أعني : ما دار الواجب فيه بين المتباينين ـ أنّ ظاهر المحقّق القمّي كون النزاع هناك صغرويّا ، وظاهر المحقّق الخوانساري كونه كبرويّا. ويمكن تقرير النزاع هنا أيضا تارة على وجه يرجع إلى اللفظ ، واخرى إلى المعنى.

أمّا الأوّل فبأن يدّعي القائل بالبراءة عدم ثبوت التكليف بالواقع على ما هو عليه ، لأنّ غاية ما نسلّمه هو ثبوت التكليف على ما تمكن لنا معرفته من جهة الأدلّة ، وأمّا ما زاد على ذلك فهو منفي بالأصل ، وحينئذ لا يبقى مقتض لوجوب الاحتياط. أمّا من جهة العقل فلعدم ثبوت التكليف بالواقع على ما هو عليه. وأمّا من جهة الشرع ، فإمّا لحكومة أخبار البراءة على أخبار الاحتياط ، أو لضعف الثانية.

١٠٦

القراءة في الركعة الاولى مثلا على ما ذهب إليه بعض فقهائنا (١٦٦٨).

وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرّح بعض متأخّري المتأخّرين بوجوبه (١) ، وربّما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيّد والشيخ ، لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ، بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه (٢).

وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، والظاهر أنّه المشهور (١٦٦٩) بين العامّة والخاصة المتقدّمين منهم والمتأخّرين ، كما

______________________________________________________

ويدّعي القائل بالاحتياط ثبوت التكليف بالواقع ، نظرا إلى كون العلم الإجمالي كالتفصيلي منجّزا للتكليف بالواقع. ولا مسرح لأخبار البراءة هنا ، إمّا لأنّ مقتضاها مجرّد نفي العقاب على مخالفة الواقع ، لا نفي الحكم الواقعي كما قرّر في محلّ آخر ، ووجوب الأجزاء والشرائط غيري ، وقد قرّر في مبحث المقدّمة عدم ترتّب الثواب والعقاب على الواجبات الغيريّة. وإمّا لدعوى انصرافها إلى الواجبات النفسيّة ، فلا تشمل المقام.

وأمّا الثاني فبأن كان ثبوت التكليف بالواقع مسلّما بين الفريقين ، إلّا أنّ القائل بالبراءة إمّا أن يمنع من اقتضاء الشغل اليقيني البراءة اليقينيّة ، ويدّعي كفاية الإطاعة الاحتماليّة الحاصلة بالإتيان بالأقلّ. وإمّا أن يدّعي ـ لأجل أخبار البراءة ـ جعل الشارع الإطاعة الاحتماليّة بدلا عن الإطاعة القطعيّة. وأمّا القائل بالاحتياط فأمره أوضح. وعلى التقرير الأوّل يكون القول بالبراءة موافقا للأصل ، إذ على القائل بالاحتياط أن يثبت تعلّق التكليف بالواقع ، وبالعكس على التقرير الثاني.

١٦٦٨. هو المفيد الثاني ولد شيخ الطائفة قدس‌سرهما.

١٦٦٩. عزاه إلى المشهور أيضا المحقّق القمّي رحمه‌الله في مبحث كون ألفاظ العبادات أسامي للصحيح أو للأعمّ منه ، قال : «وكيف كان ، فالمتّبع هو الدليل ، لا ينبغي التوحّش مع الانفراد إذا وافقنا الدليل ، كيف وجلّ الأصحاب إن لم نقل كلّهم متّفقون على عدم الفرق ، فمن يعمل بالأصل ـ يعني : أصالة البراءة ـ

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يفرّق بين العبادات وغيرها» انتهى.

وصرّح بالاتّفاق عليه قبله ، قال : «فاعلم أنّ الظاهر أنّه لا إشكال في جواز إجراء أصل العدم في ماهيّة العبادات كنفس الأحكام والمعاملات ، بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه ، كما يظهر من كلمات الأوائل والأواخر ، ولم نقف على تصريح بخلافه في كلام الفقهاء» انتهى. وحكى الفاضل الأصبهاني في حاشية المعالم عن بعضهم نسبة القول بالألفاظ إلى المشهور أيضا.

ولعلّ منشأ الشبهة في النسبة إمّا عدم عنوان هذه المسألة في كلماتهم الاصوليّة ، لأنّه إنّما أحدث البحث عنها جماعة من المتأخّرين ، ولذا قد اختلفت مذاهبهم فيها ، واختلفت النسبة إليهم ، وإمّا لأنّهم قد تمسّكوا بالبراءة في كثير من موارد هذه المسألة في أبواب الفقه ، فمن ادّعى شهرة القول بالبراءة نظر إلى ظاهر كلماتهم في الفقه ، ومن ادّعى شهرة القول بالاحتياط نظر إلى القاعدة ، لكون الشغل اليقيني بالواقع مقتضيا عندهم للبراءة اليقينيّة ، فزعم منه كون القول بالاحتياط مذهبا لهم في المقام. ويحتمل أن يريدوا بالبراءة في موارد التمسّك بها إطلاق الأدلّة على القول بالأعمّ في ألفاظ العبادات ، بأن تسامحوا في التعبير بها عنه ، لموافقتهما في المؤدّى.

ومن هنا سرت الشبهة إلى صاحب الرياض ، فزعم كون القول بالبراءة ملازما للقول بوضع ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ، قال في صلاة الجمعة عند بيان اشتراطها بوجود سلطان عادل : «ليس هنا إلّا الجمعة بهذا الشرط وباقي الشروط الآتية ، ونفيه بأصالة البراءة إنّما يتّجه على القول بكونها أسامي للأعمّ من الصحيحة والفاسدة ، وأمّا على القول بأنّها أسامي للصحيحة خاصّة كما هو الأقرب فلا» انتهى.

وظنّي أنّ هذه الشبهة إنّما نشأت ممّا ذكره الوحيد البهبهاني ثمرة للقولين في ألفاظ العبادات ، من جواز التمسّك بأصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء و

١٠٨

يظهر من تتبّع كتب القوم كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقّق الثاني ومن تأخّر عنهم ، بل الإنصاف أنّه لم أعثر (١٦٧٠) في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك ، كالسيّد والشيخ والشهيد قدس‌سره. وكيف كان : فالمختار جريان أصل البراءة.

______________________________________________________

الشرائط على القول بالأعمّ ، وعدمه على القول بالصحيح.

والحقّ عدم دلالة ما ذكره على الملازمة بين القول بالصحيح والرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، وأنّ التمسّك بأصالة البراءة على القول بالأعمّ غلط فاحش.

أمّا الأوّل فإنّ المقصود من ذكر هذه الثمرة بيان جواز التمسّك بالبراءة على القول بالأعمّ ، نظرا إلى إطلاق الأدلّة على هذا القول بالصحيح ، فحيث كان لازمه القول بإجمال الأدلّة الذي يلزمه الرجوع في مواردها إلى مقتضى الاصول ، وكان المرجع عنده عند الشكّ في الأجزاء والشرائط هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، أطلق القول بالرجوع إلى قاعدة الاحتياط على القول بالصحيح ، لا أنّ هذا لازم للقول بالصحيح ، فهو أعمّ من القول بالاحتياط.

وأمّا الثاني فلعدم جريان الاصول العمليّة ـ سواء كانت هي أصالة البراءة أو الاشتغال ـ مع وجود دليل اجتهادي في مواردها ، طابقته أو خالفته في المؤدّى. فعلى القول بكون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ يكون إطلاق أدلّة العبادات حاكما أو واردا عليها. وأمّا على القول بالصحيح ـ كما هو الصحيح ـ فيمكن القول بالبراءة ، كما هو المختار على ما ستعرفه ، ويمكن القول بوجوب الاحتياط ، كما حكاه المصنّف رحمه‌الله عن السبزواري. وكيف كان ، فالذي يقضي به المتتبّع في فتاوى الفقهاء هو اشتهار القول بالبراءة في المقام ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله.

١٦٧٠. أمّا ما ذكره في المعارج من نسبة القول بالاحتياط إلى جماعة ، والبراءة إلى آخرين ، والتفصيل بالقول بالأوّل فيما ثبت اشتغال الذمّة فيه بالتكليف

١٠٩

لنا على ذلك : حكم العقل وما ورد من النقل. أمّا العقل : فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلّا عدّة أجزاء ، ويشكّ في أنّه هو هذا أو له جزء آخر وهو الشيء الفلاني ، ثمّ بذل جهده في طلب الدليل على جزئيّة ذلك الأمر فلم يقتدر ، فأتى بما علم وترك المشكوك خصوصا مع اعتراف المولى بأنّي ما نصبت لك عليه دلالة ، فإنّ القائل (١٦٧١) بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرّق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو نصب واختفى ، غاية الأمر أنّ ترك النصب من الآمر قبيح ، وهذا لا يرفع التكليف بالاحتياط عن المكلّف.

فإن قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطبّاء أو الموالي ؛ فإنّ الطبيب إذا أمر المريض بتركيب معجون فشكّ في جزئيّة شىء له مع العلم بأنّه غير ضارّ له ، فتركه المريض مع قدرته عليه ، استحقّ اللوم. وكذا المولى إذا أمر عبده بذلك.

______________________________________________________

وبالثاني في غيره إلى ثالث ، قال : «ومثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الإناء فقد نجس ، واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة أم لا بدّ من سبع؟ وفيها عدا الولوغ هل يطهر بغسلة أم لا بدّ من الثلاث؟» فلم تظهر مخالفته لما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، إذ لعلّه أراد بمن قال بالاحتياط الأخباريّين منهم. وأمّا القول بالتفصيل فلعلّه لا يشمل محلّ الكلام ممّا كان الشكّ فيه في الجزئيّة بقرينة ما مثل به له ، لكون الشكّ فيه في الشرطيّة ، إذ المأمور به فيه التطهير ، وحصوله بالسبع أو الثلاث من شرائطه ، ولا ملازمة بين القول بالبراءة في الأجزاء والقول بها في الشرائط ، لاختلاف الأدلّة في ذلك ، كما هو واضح للمتدبّر فيها. نعم ، صريح المصنّف رحمه‌الله نفي وجدان الخلاف ممّن تقدّم على السبزواري في كلا المقامين. نعم ، ويمكن أن يقال بخروج المثال من محلّ النزاع ، من جهة أنّ الكلام في جميع موارد أصل البراءة إنّما هو فيما لم يكن هناك أصل موضوعيّ حاكم عليه ، واستصحاب النجاسة في المثال حاكم على أصالة عدم الشرطيّة.

١٦٧١. دفع لما يمكن أن يتوهّم من التزام قبح المؤاخذة على تقدير عدم

١١٠

قلت : أمّا أوامر الطبيب (١٦٧٢) ، فهي إرشاديّة ليس المطلوب فيها إلّا إحراز الخاصيّة المترتّبة على ذات المأمور به ، ولا نتكلّم فيها من حيث الإطاعة والمعصية ؛ ولذا لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبريّة غير طلبيّة (*) كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها وإن لم يترتّب على مخالفته وموافقته ثواب أو عقاب ، والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة المجهول وعدمه.

وأمّا أوامر الموالي الصادرة بقصد الإطاعة ، فنلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء فاطّلع عليه المولى وقدر على رفع جهله ولو على بعض الوجوه الغير المتعارفة إلّا أنّه اكتفى بالبيان المتعارف فاختفى على العبد لبعض العوارض. نعم ، قد يأمر المولى بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ، بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة أو علم

______________________________________________________

النصب ، وعدم القبح في صورة الاختفاء ، فتصحّ دعوى وجوب الاحتياط في الثانية ، وجريان البراءة في الاولى ولا يلزم من القول بالبراءة في الأولى الالتزام بها في الثانية أيضا. وما نحن فيه من قبيل الثانية دون الاولى.

وحاصل الدفع دعوى التسوية بين الصورتين على القول بالبراءة والاحتياط ، وإن كانت المؤاخذة في الاولى على القول بالبراءة أقبح. ووجه التسوية على القول بالبراءة واضح. وأمّا على القول بالاحتياط ، فإنّ غاية ما يتصوّر أن يكون فارقا بينهما هو قبح ترك النصب في الاولى ، ولكنّه لا يرفع التكليف بالاحتياط عن المكلّف على القول به ، فلا وجه للتفصيل بينهما بالقول بالبراءة في الاولى والاحتياط في الثانية.

١٦٧٢. حاصله : بيان الفرق بين ما كان الغرض من الأمر إطاعة العبد لمولاه ، وبين ما كان الغرض منه حصول شيء آخر ، وكان المأمور به مقدّمة لحصوله ، بأن كان الأمر به إرشادا للمكلّف إلى تحصيل هذا الشيء ، بل كان هو المأمور به

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «غير طلبيّة» ، مجملة.

١١١

أنّه الغرض من المأمور به ، فإنّ تحصيل العلم بإتيان المأمور به لازم ، كما سيجيء في المسألة الرابعة.

فإن قلت : إنّ الأوامر الشرعيّة كلّها من هذا القبيل ؛ لابتنائها على مصالح في المأمور به ، فالمصلحة فيها إمّا من قبيل العنوان في المأمور به أو من قبيل الغرض. وبتقرير آخر (١٦٧٣) المشهور بين العدليّة أن الواجبات الشرعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، فاللطف إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف ولا يحصل إلّا بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته.

______________________________________________________

في الحقيقة ، بدعوى تقبيح العقلاء لمؤاخذة المولى لو عاقب العبد لأجل ترك الجزء المشكوك فيه في المقام الأوّل. وحيث كان طريق الإطاعة والمعصية موكولة إلى طريقة العقلاء في أوامرهم العرفيّة ، يثبت بذلك حصول الإطاعة بالإتيان بالأقلّ ، وإن كان المأمور به عند المولى هو الأكثر ، بخلاف ما لو كان الغرض من المأمور به تحصيل شيء آخر بحيث كان حصوله موقوفا على حصول جميع أجزاء المأمور به الواقعي ، لأنّ بنائهم على الاحتياط عند الشكّ في بعض أجزائه وشرائطه ، إنّما هو من جهة كون نفي جزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته منافيا للغرض المقصود من الأمر. وأوامر الطبيب من هذا القبيل ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، ولذا قلنا بوجوب الاحتياط عند الشكّ في بعض أجزاء الطهارات الثلاث أو شرائطها ، كما أوضحناه عند شرح قوله : «فيرجع اعتبار ذلك القيد إلى إيجاب ذلك الأمر الخارجي» فراجع.

١٦٧٣. هذا تقرير للسؤال على طرز آخر لا يبتني على قول الإماميّة والمعتزلة بكون الأحكام الشرعيّة ناشئة من المصالح والمفاسد الكامنة. وقد سمعت من بعض مشايخي في تقريره : أنّ شكر المنعم وإطاعته سبحانه وتعظيمه واجب بحكم العقل ، والمحصّل لهذه العناوين هي الواجبات الشرعيّة ، فهي لطف فيها ، بمعنى كونها مقرّبة للعبد إليها لأجل كونها مقدّمة لحصولها ، بل هذه العناوين قائمة بها ، فهي

١١٢

قلت أوّلا : مسألة البراءة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره (١٦٧٤) ، فنحن نتكلّم فيها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن (١٦٧٥) والقبح (*) ، أو (**) مذهب بعض العدليّة (١٦٧٦) المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به (٣).

______________________________________________________

المأمور به في الحقيقة ، والأفعال المحصّلة لها مقدّمة لها أو هي أغراض مقصودة منها.

وفيه نظر ، يظهر وجهه بالتأمّل فيما حكي عن المحقّق الثاني في جامعه عند بيان نيّة وجه الوجوب والندب في الوضوء ، قال : «المراد بوجه الوجوب والندب السبب الباعث على إيجاب الواجب وندب المندوب ، فهو على ما قرّره جمهور العدليّين من الإماميّة والمعتزلة أنّ السمعيّات ألطاف في العقليّات ، ومعناه : أنّ الواجب السمعي مقرّب من الواجب العقلي ، أي : امتثاله باعث على امتثاله ، فإنّ من امتثل الواجبات السمعيّة كان أقرب إلى امتثال الواجبات العقليّة من غيره. ولا معنى للطف إلّا ما يكون المكلّف معه أقرب إلى الطاعة. وكذا الندب السمعي مقرّب من الندب العقلي ، أو مؤكّد لامتثال الواجب العقلي ، فهو زيادة في اللطف ، والزيادة في الواجب لا يمتنع أن يكون ندبا. ولا نعني أنّ اللطف في العقليّات منحصر في السمعيّات ، فإنّ النبوّة والإمامة ووجود العلماء والوعد والوعيد بل جميع الآلام تصلح للإلطاف فيها ، وإنّما هي نوع من الإلطاف» انتهى.

وعلى كلّ تقدير فمبنى التقرير الأوّل على كون الغرض من الأوامر تحصيل المصالح الكامنة ، ومبنى الثاني على كون الغرض منها كون العبد قريبا من امتثال الواجبات العقليّة.

١٦٧٤. الضمير عائد إلى الواجب.

١٦٧٥. وكذا لكون الواجبات السمعيّة ألطافا في الواجبات العقليّة.

١٦٧٦. إشارة إلى الخلاف بين القائلين بالحسن والقبح ، بأنّ أوامر الشرع

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : رأسا.

(**) في بعض النسخ زيادة : على.

١١٣

وثانيا : إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا ، ولذا لو اتي به (١٦٧٧) لا على وجه الامتثال لم يصح ولم يترتّب عليه لطف ولا أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة ، بل اللطف إنّما هو في الإتيان به على وجه الامتثال ، وحينئذ : فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ـ فإنّ من صرّح من العدليّة بكون العبادات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا

______________________________________________________

لا بدّ أن تنشأ من حسن في المأمور به خاصّة كما هو المشهور بينهم ، ويدلّ عليه قول الأمير عليه‌السلام في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام : «يا حسن إنّ الله لا يأمر إلّا بالحسن» أو يجوز أن ينشأ من حسن في نفس الأمر وإن خلا المأمور به منه بالكليّة ، كما في الأوامر الابتلائيّة ، بل الأوامر الظاهرية أيضا على تقدير تخلّفها عن الواقع في وجه ، كما حكي عن بعض أهل العدل ، وتبعه صاحب الفصول وغيره.

١٦٧٧. قد يقال بانتقاض هذا بالواجبات التوصّلية ، لوضوح عدم اختصاص النزاع بالواجبات التعبّدية ، ولا ريب في عدم اعتبار قصد التقرّب وكذا الوجه في الواجبات التوصليّة. اللهمّ إلّا أن يقال بخروجها من محلّ الكلام ، لأنّ المصالح والأغراض فيها واضحة. فإذا شكّ في شرطيّة شيء منها ، كما إذا شكّ في حصول الطهارة بالغسلة أو الغسلتين ، أو شرطيّة شيء في العقود أو الإيقاعات أو سائر الأحكام ، فأصالة البراءة عن الشرطيّة لا تقضي بحصول آثارها في الخارج ، لعدم دلالتها على كون المجرّد عن المشكوك فيه سببا مؤثّرا في الشرع ، إلّا على القول بالاصول المثبتة. مع أنّ معنى أصالة البراءة كما ستعرفه هو مجرّد نفي العقاب ، ولا مسرح له في الأحكام الوضعيّة.

لا يقال : فما معنى أصالة عدم الشرطيّة في العبادات ، مع أنّها من الأحكام الوضعيّة؟

لأنّا نقول : إنّ معناها عند الشكّ في شرطيّة شيء من العبادة هو عدم ترتّب العقاب من جهة هذا المشكوك فيه ، ولو باعتبار كون تركه مفضيا إلى ترك نفس

١١٤

في الواجبات العقليّة ، قد صرّح بوجوب (١٦٧٨) إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به ـ وهذا متعذّر فيما نحن فيه ؛ لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقلّ المتحقّق في ضمنه ؛ ولذا صرّح بعضهم (١٦٧٩) كالعلّامة رحمه‌الله ويظهر من

______________________________________________________

العبادة. وستقف على تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وإن اريد إجرائها بالنسبة إلى الآثار التكليفيّة المترتّبة عليها ، من حرمة الأكل والشرب والتصرّف ونحوها ، بأن يقال : إذا شكّ في حصول الطهارة بالغسلة الواحدة والنقل والانتقال بالعقد الفارسي ، الأصل جواز شربه وأكله بعد غسل المشكوك فيه مرّة واحدة ، وجواز تصرّف البائع في الثمن والمشتري في المثمن بعد وقوع العقد بالفارسيّة ، فضعفه غنّي عن البيان.

نعم ، يبقى الإشكال في المقام في مثل ما لو شكّ في وجوب نفقة الزوجة في بعض الموارد ، كاجرة الطبيب وغيرها ، وكذا غير ذلك من الواجبات التوصّلية التي لا إشكال في جريان أصالة البراءة فيه.

١٦٧٨. يظهر من هذا التصريح أنّ الواجب إنّما يصير لطفا مع الاقتران بقصد وجهه لا مع عدمه. ويرد عليه أوّلا : أنّ معنى كون الواجبات السمعيّة لطفا في العقليّة ـ كما عرفته من المحقّق الثاني عند شرح قوله : «وبتقرير آخر» ـ أنّ العبد مع امتثاله للواجبات السمعيّة يكون قريبا من امتثال الواجبات العقليّة ، ولا ريب أنّ هذا القرب أمر عادي مرتّب على امتثال الواجبات السمعيّة ، ولا أثر فيه لاعتبار قصد الوجه فيها وعدمه ، مع فرض حصول الامتثال وسقوط التكليف بدونه.

وثانيا : أنّه لم يظهر من أحد اعتبار قصد الوجه الواقعي مع عدم التمكّن منه ، وهو مع وضوحه قد صرّح به في صدر الكتاب ، بل قد ادّعى هنا القطع بعدم اعتباره مع إمكانه أيضا.

١٦٧٩. أي : بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ، مع فرض تعذّره عند عدم العلم بالواجب والمندوب.

١١٥

آخر منهم : وجوب تميّز الأجزاء الواجبة من المستحبّات ليوقع كلا على وجهه.

وبالجملة : فحصول اللطف بالفعل المأتيّ به من الجاهل فيما نحن فيه غير معلوم (*) ، بل ظاهرهم عدمه ، فلم يبق عليه (١٦٨٠) إلّا التخلّص من تبعه مخالفة الأمر الموجّه إليه ، فإنّ هذا واجب عقلي في مقام الإطاعة والمعصية ولا دخل له بمسألة اللطف ، بل هو جار على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا ، وهذا التخلّص يحصل بالإتيان بما يعلم أنّ مع تركه يستحقّ العقاب والمؤاخذة فيجب الإتيان ، وأمّا الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان.

فإن قلت : إنّ ما ذكر (١٦٨١) في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود هنا ، وهو أنّ المقتضي ـ وهو تعلّق الوجوب الواقعي بالأمر الواقعي المردّد بين الأقلّ والأكثر ـ موجود ، والجهل التفصيلي به لا يصلح مانعا لا عن المأمور به ولا عن توجّه الأمر كما تقدّم في المتباينين حرفا بحرف.

قلت : نختار هنا أنّ الجهل مانع عقلي عن توجّه التكليف بالمجهول إلى المكلّف ؛ لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبّب عن ترك الجزء المشكوك من دون بيان ، ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك الأقلّ من حيث هو من دون بيان ؛ إذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه العلم التفصيلي بأنّه مطلوب للشارع

______________________________________________________

١٦٨٠. أي : لم يبق على المكلّف حين لا يعلم بحصول اللطف إلّا هذا.

١٦٨١. يؤيّده أنّ مرجع الأقلّ والأكثر الارتباطيّين إلى المتباينين عند التحقيق ، لأنّ اعتبار الأقلّ بشرط لا يباين الأكثر الذي يندرج فيه الأقلّ ، فلا يبقى بينهما جامع متيقّن يؤخذ به ، وينفى وجوب الزائد بالأصل كما في الاستقلاليّين.

وإن شئت قلت : إنّ عدم إجزاء الأقلّ على تقدير وجوب الأكثر عن التكليف المعلوم إجمالا يجعل المقام كالمتباينين ، لأنّ مجرّد اندراج الأقلّ تحت الأكثر مع عدم إجزائه عن شيء لا يصلح فارقا بينهما في حكم العلم الإجمالي.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وإن احرز الواقع.

١١٦

بالاستقلال أو في ضمن الأكثر ، ومع هذا العلم لا يقبح المؤاخذة.

وما ذكر في المتباينين ـ سندا لمنع كون الجهل مانعا من استلزامه لجواز المخالفة القطعيّة وقبح خطاب الجاهل المقصّر ، وكونه معذورا بالنسبة إلى الواقع ـ مع أنّه خلاف المشهور أو المتّفق عليه ، غير جار فيما نحن فيه. أمّا الأوّل ، فلأنّ عدم (١٦٨٢) جواز المخالفة القطعيّة لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل ؛ فإنّ وجوب الأقلّ بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلا وإن لم يعلم أنّ العقاب لأجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه وهو الأكثر ؛ فإنّ هذا العلم غير معتبر في إلزام العقل بوجوب الإتيان ؛ إذ مناط تحريك العقل إلى فعل الواجبات وترك المحرّمات ، دفع العقاب ، ولا يفرّق في تحريكه بين علمه بأنّ العقاب لأجل هذا الشيء أو لما هو مستند إليه.

______________________________________________________

١٦٨٢. حاصله : بيان الفرق بين ما نحن فيه وبين المتباينين ، بدعوى عدم كون الجهل بالواقع تفصيلا مانعا من تنجّز التكليف بالواقع ، ومن توجّه الخطاب الواقعي إلى الجاهل في المتباينين ، وتسليم المنع فيما نحن فيه.

أمّا الأوّل فإنّ الجهل هناك لو كان مانعا من تنجّز الخطاب الواقعي لأدّى ذلك إلى جواز المخالفة القطعيّة ، لأنّه مع عدم تنجّز الخطاب الواقعي ، إمّا أن يجوز ترك خصوص أحد المشتبهين ، أو أحدهما المخيّر فيه ، أو كليهما. والأوّل ترجيح بلا مرجّح. والثاني خارج من مفهوم الخطاب الواقعي. ولا دليل على تقييده في الظاهر. ومجرّد الجهل التفصيلي لا يصير دليلا على إرادته لا من الخطاب الواقعي ، لاستلزامه استعمال اللفظ الواحد في التعيين والتخيير باعتبار اختلاف الحالين ، وهو غير جائز. مع أنّه مستلزم لثبوت التخيير الشرعيّ بين المشتبهين ، وهو خلاف الفرض. ولا من الخارج ، إذ كما يحتمل ثبوت التخيير بينهما في حال الجهل ، كذلك يحتمل عدم وجوب شيء منهما ، لأنّ الكلام هنا بعد فرض كون الجهل مانعا. والثالث مفروغ من بطلانه ، لمنافاته للعلم الإجمالي الذي هو كالتفصيلي في الاعتبار ولو في الجملة.

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثاني فإنّ العلم الإجمالي فيه لما كان منحلّا إلى علم تفصيلي وهو العلم بمطلوبيّة الأقلّ ، وشكّ بدوي وهو الشكّ في مطلوبيّة الأكثر ، فالجهل فيه يصلح للمنع من تنجّز التكليف بالواقع ، فيؤخذ بالأقلّ ، لكونه متيقّنا ، وينفى وجوب الأكثر بالأصل ، لكون الشكّ فيه بدويّا. فالجهل التفصيلي هنا مع كونه مانعا من تنجّز التكليف بالواقع غير مستلزم للترجيح بلا مرجّح ، لما عرفت من وجود المرجّح للأخذ بالأقلّ.

وقول المصنّف رحمه‌الله : «عدم جواز المخالفة القطعيّة ...» إشارة إلى أنّ كون الجهل فيما نحن فيه مانعا من تنجّز التكليف بالواقع على ما عرفت لا يوجب جواز ترك الأقلّ ، لفرض كونه مخالفة تفصيليّة.

لا يقال : إنّ مطلوبيّة الأقلّ مردّدة بين المطلوبيّة النفسيّة والغيريّة ، لأنّ الواجب في الواقع إن كان هو الأقلّ كان واجبا نفسيّا ، وإن كان هو الأكثر كان الأقلّ مطلوبا في ضمنه من باب المقدّمة. والمحرّك للعقل إلى الامتثال هو العلم بترتّب العقاب أو احتماله على المخالفة. والواجب في الواقع إن كان هو الأقلّ كان العقاب مترتّبا على مخالفته ، وإن كان هو الأكثر كان مترتّبا على مخالفته دون الأقلّ ، فلا يكون الأقلّ مطلوبا على وجه يترتّب العقاب على مخالفته على كلّ تقدير ، فلا يكون متيقّنا في المقام. ومجرّد العلم بمطلوبيّته لنفسه أو لغيره غير مجد عند العقل كما عرفت.

لأنّا نقول : إنّ الأقلّ وإن لم يعلم كونه مطلوبا لنفسه أو غيره ، إلّا أنّ كون تركه سببا لترتّب العقاب ـ إمّا لأجل نفسه ، أو لأجل كونه مفضيا إلى ترك الواجب وهو الأكثر ـ معلوم بالتفصيل ، وهذا القدر كاف في إلزام العقل بعدم جواز تركه ، لأنّ العلم بجهة ترتّب العقاب غير معتبر في إلزام العقل ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. ومن هنا يظهر ضعف ما تقدّم في الحاشية السابقة من رجوع الأقلّ والأكثر الارتباطيّين عند التحليل العقلي إلى المتباينين ، فتدبّر.

١١٨

وأمّا عدم معذوريّة الجاهل المقصّر ، فهو للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقلّ ، وهو العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، وأنّه لولاه (١٦٨٣) لزم إخلال الشريعة ، لا العلم الإجمالي الموجود في المقام ؛ إذ الموجود في المقام علم تفصيلي وهو وجوب الأقلّ ، بمعنى ترتّب العقاب على تركه وشكّ في أصل وجوب الزائد ولو مقدّمة. وبالجملة : فالعلم الإجمالي فيما نحن فيه غير مؤثّر في وجوب الاحتياط ؛ لكون أحد طرفيه معلوم الإلزام تفصيلا والآخر مشكوك الإلزام رأسا.

ودوران الإلزام في الأقلّ بين كونه مقدّميّا أو نفسيّا لا يقدح في كونه معلوما بالتفصيل ؛ لما ذكرنا من أنّ العقل يحكم بوجوب القيام بما علم إجمالا أو تفصيلا إلزام المولى به على أيّ وجه كان ، ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شكّ في إلزامه ، والمعلوم إلزامه تفصيلا هو الأقلّ والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد ، والمعلوم إلزامه إجمالا هو الواجب النفسي المردّد بين الأقلّ والأكثر ، ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم تفصيلي ومشكوك ، كما في كلّ معلوم إجمالي كان كذلك ، كما لو علم إجمالا بكون أحد (١٦٨٤) من الإناءين اللذين أحدهما المعيّن نجس خمرا ؛ فإنّه يحكم بحلّية الطاهر منهما ، والعلم الإجمالي بالخمر لا يؤثّر في وجوب الاجتناب عنه.

______________________________________________________

ومن التأمّل فيما ذكرناه يظهر توضيح الكلام في فساد مقايسة ما نحن فيه على الجاهل المقصّر ، لما عرفت أنّ العلم الإجمالي فيما نحن فيه راجع إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، وفي الجاهل المقصّر لا متيقّن في البين ، لدوران أمره بين امور متباينة. فعلم الجاهل المقصّر إجمالا بوجود واجبات ومحرّمات واقعيّة ، نظير علم غير المقصّر بوجوب أحد المتباينين. فكون الجهل التفصيلي بالواقع مانعا من تنجّز التكليف بالواقع فيما نحن فيه لا يستلزم أن يكون مانعا في الجاهل المقصّر أيضا ، نظير ما عرفته في المتباينين.

١٦٨٣. أي : لو لا كون الجاهل المقصّر مكلّفا وغير معذور.

١٦٨٤. قد يقال بالفرق بين المثال وما نحن فيه ، إذ حرمة شرب الخمر ليست

١١٩

وممّا ذكرنا يظهر أنّه يمكن التمسّك في عدم وجوب الأكثر بأصالة عدم وجوبه ؛ فإنّها سليمة في هذا المقام عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الأقلّ ؛ لأنّ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلا فلا يجري فيه الأصل. وتردّد وجوبه بين الوجوب النفسي والغيري مع العلم التفصيلي بورود الخطاب التفصيلي (١٦٨٥) بوجوبه بقوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٤) وقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٥) وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٦) وقوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (٧) وغير ذلك من الخطابات المتضمّنة للأمر بالأجزاء لا يوجب جريان أصالة عدم الوجوب أو أصالة البراءة.

لكنّ الإنصاف : أنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الأكثر لا ينفع في المقام ، بل هو قليل

______________________________________________________

من جهة نجاسته ، ولذا يحرم وإن لم نقل بنجاسته. ويتفرّع عليه أنّه إن شرب الخمر المخلوط بالبول استحقّ العقاب من جهتين ، من جهة شرب النجس ، ومن جهة شرب الخمر ، فإذا علم إجمالا بكون أحد الإنائين ـ اللذين أحدهما المعيّن نجس ـ خمرا ، يتوجّه هنا خطابان ، أحدهما : وجوب الاجتناب عن النجس ، والآخر وجوب الاجتناب عن الخمر. والأوّل قد علم مصداقه تفصيلا والآخر إجمالا ، ومقتضى امتثال كلا الخطابين وجوب الاجتناب عن كلا الإنائين ، بخلاف ما نحن فيه ، لاتّحاد الخطاب فيه ، فهو نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين علم بكون أحدهما المعيّن منهما غصبا. فالمثال المطابق لما نحن فيه ما لو علم إجمالا بتنجّس أحد الإنائين بالبول مع العلم بتنجّس أحدهما المعيّن بغيره من النجاسات ، لوضوح عدم كون اجتماع عناوين من النجاسات في مورد موجبا لتعدّد العقاب ، لأنّ حرمتها شرعا إنّما هي من جهة كونها نجسا ، لا بولا أو غائطا أو نحوهما.

١٦٨٥. أنت خبير بأنّه لا أثر لوجود هذه الخطابات ، لوضوح كونها غيريّا ، والعلم بوجوب أجزاء الأقلّ من باب المقدّمة حاصل بالفرض. ومجرّد كون وجوب ما أصليّا غيريّا أو غيريّا تبعيّا لا أثر له في المقام. مع أنّ محلّ النزاع لا يختصّ بمثل الصلاة التي ثبت وجوب أجزائها بالخطابات المفصّلة.

١٢٠