مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

والاستيفاق من العليم الحكيم

سبحانك ، اللّهمّ ، جلّ حمدك وعزّ مجدك ، يا ربّ العاقلات العالية والسّافلات البالية ؛ ويا قيّوم السّائرات الحائرة والثّابتات الدّائرة ، يا نور النّور ويا مدبّر الامور ، دبّرت بعلمك ونوّرت بفضلك ، يا مكوّن الكون ومشيّئ الشّيء ، كوّنت بحولك وشيّأت بطولك ، رفعت فحوت الحاويات الرّاسيات وخفضت فهوت الدّائرات الهاويات.

أنت جاعل النّور والظّلمات وفاعل الماهيّات والإنيّات ، الفيض شرعتك والجود طرقتك. أنت باسط الجود ومفيض الوجود ، البسط سنّتك والخير منّتك. أنت خالق كلّ شيء ، منك البدء والسّطوع وإليك العود والرّجوع ؛ أدركنى بجميل صنعك وبوّئنى فى منع صفعك.

وصلّ على أفضل وسائلى إليك ومنهل مسائلى لديك ، مبلّغ رسالاتك ومتمّم سفاراتك ، محمّد وأهل بيته الأطاهر والأطائب وحامّته الأفاخر ، مفاخر الأصلاب والتّرائب ، مواضع سرّك وتراجمة وحيك.

ربّ بدأت فتمّم ، يا واهب الحياة ، خلقت فاحد ، قضيت فاعف ، ملكت فأنعم.

< مقدمة >

وبعد ، فيقول أحوج المربوبين إلى ربّه الغنىّ ، محمّد بن محمّد ، الملقّب باقر داماد الحسينىّ ، ختم اللّه له بالحسنى : أخلاّء الخلّة النّورانيّة وأقرباء القرابة الرّوحانيّة ، إنّ هذا مشرع عقلانىّ ومرصد ربّانىّ ، فاز بهجة السّرّ بأنوار أرصادى العقليّة وراز نهجة الفكر بأطوار أدوارى الرّوعيّة. لم أشده فيه عن مرّ الحقّ بمستعذب الشّهرة ، ولم أشفه عن صرف فطرة الحكمة بخليط سوء الفكرة.

وإذ قد اصطفانى ربّى على الأتنان والأتراب من شركاء الصّناعة ورؤسائها فى الملّة الإسلاميّة والذّروة اليونانيّة بشرح الصّدر للإيمان ، واجتبانى منهم لاصطياد الحقّ بالبرهان ،

١

وبلغ نصابى إلى حيث فككت عقد الأفكار ونحلت العلوم ونقدت الأنظار ؛ وبفضل منه ورحمة أرخت أسقام الأفهام وسرحت صدور غوامض الأحكام ، وأبرحت الحكمة وأبلجتها وأملجت الفلسفة وأنضجتها.

فأداء لأخفّ ما من بروق لهذه الموهبة الرّبوبيّة ، وأداء لأقلّ ما لتلك الحقوق على هذه الذّمّة المربوبيّة وضعت هذا العلق المتين والعرق الوتين شريعة للشّارعين وذريعة للبارعين ، عسى اللّه أن يجعله «الافق المبين» والسّبيل المستبين ، فيه أمّ الأنوار العلميّة وأمم الأسرار الحكميّة وبرهان سطوع العقل والحكمة فى ساهرة الدّين وإبّان نجوم الحقّ والحقيقة من مشرق اليقين.

وأيم اللّه ، فلقد آن آنه وحان حينه ، ولم يكد يرام بوضعه إلاّ التّدرّج إلى أن يتعرّف سبيل جناب الرّبوبيّة حيث ما يجدر به من الوجود والصّفات ونسبة المبدعات إليه ، كيف منه البدء وبه البقاء ، وإليه الرّجوع ، على شاكلة ما انضجت من المنهجة الرّبانيّة والفلسفة اليونانيّة حتّى استوت حكمة يمانيّة إيمانيّة ، حسب أقصى ما يتهيّأ له ابن البشر بعقله المخدج وقسطه السّملج استعمالا لشركة الحدس واقتناصا بشبكة البرهان مع غموضة المطلب وصعوبة المسلك وتلوع السّطاع وقصور الباع وما ريم أكرم بغية وأكبر وجهة من أبواب العلم ، وما هو إلاّ العلم الأعلى وحكمة ما فوق الطبيعة المتّسمة بعلم الأنوار والمفارقات.

فإن اتّفق إحصاف الاصول من سائر المقاصد لم يستوجبه المطلب المقصود ، فليس إلاّ على الاستجراء اللاّحق وبالقصد الثّاني ، والاستيفاق لنيل الحقائق والمعانى من ربّ الأول والثّوانى ومن إليه مصير المواحد والثّوانى.

وإذ لم أثق فيه إلاّ بالمهيمن على كلّ الامور ، حفيظ العقول من هلكات الدّثور وعاصم النّفوس عن سقطات العثور ، ولم أتّبع به إلاّ وجه التّعليم بذات الصّدور أؤمّل أن يجعله من أفضل ما يعصم بحوله من الخداج والقصور وأجزل ما يقدّم من طوله لحياة نشأة النّشور ؛ إنّه جدير بالإجابة ، قدير على الإفاضة ، له الملك والأمر ، وبيده الجود والخير ، وهو على كلّ شيء عليم.

وخزائن الحقائق فى الكتاب تنظم أبوابها صرحتان ، فى كلّ منهما مسافات ، فى كلّ منها فصول ، فى كلّ منها عنوانات مناسبة لجواهر المطالب ومسالك المآرب.

٢

الصّرحة الأولى

من كتاب الافق المبين

وهو فلك العلم وسماء اليقين

فى الشّطر الكلّيّ من حكمة ما فوق الطّبيعة

[وفيها مسافات]

المسافة الأولى من الصّرحة الأولى

فى تقدمة جملة تجرى مجرى المبادى فى التّقديم والتّصدير

[وفيها فصول ثلاثة]

٣

[المسافة الأولى في تقديم جملة تجري مجرى المبادي]

[الفصل الأوّل في تحديد الحكمة التي هي فوق الطبيعة ، فيه عنوانان]

[الفصل الثانى في تحقيق الجعل والحمل ، سبعة عناوين وتأسيسات

في الحمل ، فيها أربعة عشر عنوانا]

[الفصل الثالث في ما بقى من أحكام الوجود وما يذكر من أحوال

العدم ، فيه ثلاثة وعشرون عنوانا]

٤

فصل [أوّل]

فيه تحديد الحكمة الّتي هى فوق الطّبيعة وتحصيل موضوعها.

وأقول أوّلا : إنّ لما أوتيت ، من الحكمة اليمانيّة النّضيجة والفلسفة الإيمانيّة البهيجة ، النّاطق بقوارع فضلها الشّارق لبيان هذا الكتاب البارق الفارق ، شأنا قدسيّا وجاها ملكوتيّا ومكانا عقليّا ومقاما روعيّا لم يكد (٣) (١).

<في الفصل الأوّل عنوانان>

<١> تلويح استنارىّ

عسيت أن اثبّتك على التّفطّن بأن ليس الوجود حقيقته إلاّ نفس الموجوديّة بالمعنى المصدرىّ ، أى : صيرورة نفس الماهيّة فى ظرف ما ، لا معنى ما ينضمّ إلى الماهيّة (٢) أو ينتزع منها ، فيجعل مناطا لصحّة انتزاع الموجوديّة وحمل مفهوم الموجود. فلعلّ المتحقّق أنّه ليس فى ظرف الوجود إلاّ نفس الماهيّة ؛ ثمّ العقل بضرب من التّحليل ينتزع منها معنى الموجوديّة والصّيرورة المصدريّة ، ويصفها به ويحمله عليها على أنّ مصداق الحمل ومطابق الحكم هو نفس الماهيّة بحسب ذلك الظّرف ، لا أمر زائد يقوم بها فيصحّح الحمل.

__________________

(١). آغاز نسخه كتابخانه آيت اللّه مرعشى ، قم ، ش ٥٥١٨ در ١٨١ ورق.

(٢). مثل السّواد والبياض كما ذهب إليه بعضهم ، أو تعمّليا كما ذهب إليه السيّد السّند. والحاصل : أنّ فى الوجود ثلاثة مذاهب ، والاثنان باطل ، فثبت الثّالث ، سمع منه.

٥

فإن أوهم : أنّ الأمر إذا قد أشبه حمل الذّاتيّات ، حيث إنّ مصداق الحمل ومطابق الحكم هناك ليس إلاّ نفس ذات الموضوع والوجود من العرضيّات اللاّحقة قد ينفصل عن ذلك بأنّ ذات الموضوع هناك بنفسها تستقلّ بمصداقيّة الحمل مع عزل النّظر عن أيّة حيثيّة كانت غيرها.

وأمّا حمل الموجود فمصداقه نفس ذات الموضوع ، لكن لا من حيث هى ، بل باعتبار جاعليّة العلّيّة لها. فإذا تعرّفت بضرورة أو برهان صحّ حمل الوجود قطعا. وربما تقود إلى الحكم بها مشاهدة ترتّب آثار الماهيّة عليها ، فيتعرّف أنّ ما هو مصداق الحمل متحقق ، فيحكم بصحّة الحمل ، لا أنّ ترتّب الآثار مصداق الحمل ، أيضا ، كما ظنّ. فقد فارق حمل الذّاتيّات من تلك الجهة. نعم قد خولفت فيه سنّة الحمل فى سائر الذّاتيّات والعرضيّات ؛ إذ ليس فى العوارض ما هذه شاكلته إلاّ الوجود.

وأيضا ، الوجود يباين سائر الأعراض : بأنّ كلّ عرض ، فإنّ وجوده فى نفسه هو بعينه وجوده فى موضوعه. وأمّا العرض الّذي هو الوجود ، فحقيقته هى نفس أنّ كذا فى الأعيان أو فى الذّهن لا شيء أو معنى به كذا فى الأعيان أو فى الذّهن. فوجوده بعينه هو وجود موضوعه.

ولا يستصحّ العقل أن يقال : وجوده فى موضوعه هو وجوده فى نفسه ، بمعنى أنّ له وجودا ، كما يكون للبياض وجود ، بل بمعنى أنّ وجوده فى موضوعه نفس وجود موضوعه ، على خلاف سنّة كلّ عرض غيره ؛ فإنّ وجود العرض فى موضوعه نفس وجود ذلك العرض.

ومن هناك لا يستتمّ قول السّلف : إنّ الوجود مخالف لسائر الأعراض ، لحاجتها إلى الوجود حتّى تكون موجودة واستغناء الوجود عن الوجود حتّى يكون موجودا ، إذ وجود الوجود هو موجوديّة الماهيّة ، وأنّ الفاعل إذا أوجب شيئا أفاد وجوده ، لا حقيقته. وإذا أوجب الوجود أفاد حقيقته ، لا وجوده ؛ إذ حقيقته هى أنّ موضوعه فى الأعيان أو فى الذّهن ، أى صيرورة الماهيّة ، لكن هذه المعانى فى

٦

طبيعة الوجود المشترك البديهىّ فقط ، إذ لم يتبيّن من ذلك أنّ الكون فى الأعيان هو البتّة كون شيء.

ثمّ الفحص والبرهان أوجبا أنّ بعض الكون فى الأعيان هو يقترن بشيء ما ، وبعضه لا يقترن بشيء ، لأنّ الكون فى الأعيان الّذي لا سبب له لو كان متعلّقا بشيء لكان ذلك الشّيء سببا ما لذلك الكون وقد فرض أنّه لا سبب له.

فإذا قلنا : كذا موجود ، فلسنا نعنى أنّ الوجود معنى خارج ، فإنّ كون الوجود معنى خارجا عن الماهيّات إنّما يعرف ببرهان ، حيث يكون ماهيّة ووجود ، كالإنسان الموجود ؛ ولكنّا إنّما نعنى به مجرّد أنّ كذا فى الأعيان أو فى الذّهن. وهذا على ضربين : منه ما يكون فى الأعيان أو فى النّفس بوجود ينتزع منه ؛ ومنه ما لا يكون كذلك ، بل إنّما يكون فى الأعيان بنفس ذاته.

فالوجود الّذي هو الكون فى الأعيان ويصدق أنّه فى الأعيان ليس يحتاج فى أن يكون فى الأعيان إلى كون فى الأعيان يقترن به أو ينتزع منه ، فإنّ ما به صيرورة كلّ شيء فى الأعيان هو أولى بأن يكون بذاته فى الأعيان.

وفرق بين «لذاته فى الأعيان» وبين «بذاته فى الأعيان» ، فإنّ ما يكون لذاته فى الأعيان يصحّ أن يكون له سبب ؛ وما يكون بذاته لا يكون له سبب.

وبالجملة ، الوجود المطلق معنى مصدريّ لا يؤخذ من مبدأ المحمول قائم بالموضوع انضماما أو انتزاعا ، بل من نفس ذات الموضوع المجعولة بجعل الجاعل إيّاها ، ولا يتصوّر لذلك المعنى تحصّل وتقوّم إلاّ بنفس الإضافة إلى موضوعه ، لا قبل الإضافة.

وإذ دريت أنّ حقيقته : أنّ موضوعه فى الأعيان لا غير ؛ فاعلمن : أنّ مرتبة ذات موضوعه فى العين أو فى الذّهن اصطلح على التّعبير عنها بفعليّة الماهيّة ووضع لها اسم هو تقرّر الذّات ، وحيثيّة هذا المفهوم المصدرىّ المنتزع تسمّى بالوجود ويعبّر عنها بالموجوديّة ؛ فإنّ تقرّر الماهيّة وفعليّتها وإن لم تنسلخ عن اقتران الوجود إلاّ فى اعتبار العقل إلاّ أنّها مستتبعة للموجوديّة ، والموجوديّة مسبوقة بها

٧

(٤) ؛ وفعليّة تقرّر الماهيّة بجعل الجاعل معيار صحّة انتزاع الموجوديّة بالفعل ومناط صدق حمل الموجود.

فليتقن القول على هذا القسط ، فإنّه متى تعوهد رعاية الاعتبارات وتأدية حقوقها فقد اصيب نصاب الأمن من مخاطر الشّكوك والأوهام ، وإنّ إهمال جهة الاعتبارات وإضاعة حقوق الحيثيّات أفق اختلال الحكمة. وإذ قد بلغ الأمر إلى الانسياق إلى ذروة هذا المقام فلنحقّق القول فى الجعل والحمل بفضل اللّه وعصمته.

<٢> ذنابة ...

إنّ ما تلى عليك هو ما راموه بقولهم : «نحن متى ما قلنا «الوجود» ، فإنّما نعنى به «الموجود» ، أى : إنّ المقصود بالوجود هو صيرورة الماهيّة وموجوديّتها المأخوذة من نفس الماهيّة المتقرّرة ، لا معنى يلحق الماهيّة ، فيشتقّ منه الموجود ويحمل عليها ، كما يكون فى السّواد والأسود ، كما أنّ الإنسانيّة مفهوم مأخوذ من نفس ذات الإنسان ، لا أمر يقترن بالإنسان. ومن لم يفقه ذلك ظنّ أنّهم قصدوا أنّ مبدأ الاشتقاق إنّما هو المشتقّ ، وتشبّث بذلك فى أنّ الأمور العامّة للموجودات هى المشتقّات.

٨

فصل [ثان]

فيه إشباع العقول فى تحقيق الجعل والحمل وما يلتصق بذلك

<في الفصل الثاني سبعة عناوين>

<١> إخاذة فى تحديد حريم المتنازع فيه

الجعل : إمّا بسيط ، وهو جعل الشّيء وأثره التّابع له نفس ذلك الشّيء ويتقدّس عن تعليق شيء بشيء ، ولا يكون بحسبه إلاّ مجعول فقط يبدعه الجاعل ويفيض نفسه ، ويعبّر عن تلك المرتبة المجعولة بتقرّر الذّات وقوام الماهيّة وفعليّتها ؛ وإمّا مؤلّف ، هو جعل الشّيء شيئا وتصييره إيّاه وأثره المترتّب عليه هو مفاد الهيئة التّركيبيّة الحمليّة ، ولا يتعلّق بشيء واحد ، بل له مجعول ومجعول إليه ، وهو إنّما يتعلّق بصيرورته إيّاه.

وما يظنّ : «أنّه لم يخل ذلك من الانتهاء إلى جعل بسيط إمّا لنفس الصّيرورة أو الاتّصاف أو اتّصاف الاتّصاف أو لمفهوم ما فى بعض المراتب» ساقط بأنّ النّسبة الّتي هى الصّيرورة أو الاتّصاف فى هذا النّحو من الجعل إنّما يلحظ بين المجعول والمجعول إليه على أنّها مرآة لمخلوطيّة أحدهما بالآخر ، لا على أن يتوجّه الالتفات إليها برأسها ، وإنّما دخولها فى متعلّق الجعل بالعرض من تلك الجهة. فإذا لوحظت على الاستقلال بالالتفات من حيث إنّها ماهيّة ما انعزل النّظر حينئذ عن الطّرفين إلاّ بالعرض ، وانصرم متعلّق الجعل المؤلّف ، وعاد الحكم بأنّ هذه الماهيّة : هل تفتقر فى نفسها إلى جاعل يفيضها ، أو تستغنى ، لأنّ شأن الماهيّات الاستغناء بحقائقها التّصوّرية

٩

عن الجعل والافتقار إليه فى الخلط بما لا يدخل فى قوامها مفوّضا إلى البرهان.

أليس قد قرع سمعك : أنّ التّصوّر والتّصديق نوعان من الإدراك مختلفان بحسب الحقيقة ، لا بحسب المتعلّق فقط ؛ إذ التّصديق لا يتعلّق إلاّ بمفاد الهيئة الحمليّة ، كمفهوم «هو هو» ، والتّصوّر يتعلّق بكلّ شيء ، والنّسبة إنّما تدخل فى متعلّق التّصديق بالتّبعيّة ، حيث يؤخذ الموضوع متلبّسا بالمحمول ، وأثر التّصوّر حصول نفس الشّيء وأثر التّصديق كون الشّيء شيئا. وكذلك الوجود المحمول والوجود الرّابطىّ نوعان متباينان بحسب الحقيقة وبحسب المتعلّق وبحسب ما يتبع. فاحكم بأنّ شاكلة الجعلين فى هذه الأحكام تلك الشّاكلة.

ثمّ الجعل المؤلّف لا يتوسّط بين الشّيء وبين نفسه ، كقولنا : «الإنسان إنسان» ، ولا بينه وبين شيء من ذاتيّاته ، كقولنا «الإنسان حيوان» لانحفاظ الخلط فى مرتبة الماهيّة من حيث هى هى ؛ والدّخول فى أصل قوامها ، بل يختصّ بالعرضيّات ، سواء كانت لوازم الماهيّات ، كقولنا : «الأربعة زوج» ، أو العوارض الممكنة الانسلاخ ، كقولنا : «الإنسان موجود ، والجسم أبيض» ، لعرى الذّات عنها فى مرتبة التقرّر ، وصحّة سلبها عن الماهيّة من حيث هى ولحوقها لها فى مرتبة متأخّرة.

وأمّا الجعل البسيط ، فافتقار الماهيّة إليه بحسب نفس الذّات وتقرّر القوام هو حدّ حريم الخلاف بين امم الحكمة من المشّائين والرّواقيّة والإشراقيّة من الاتّفاق على امتناع انسلاخ التّقرّر عن الوجود ، لصحّة سلب المعدوم عن نفسه على ضدّ ما يتوهّمه أقوام من المتكلّمين.

<٢> سياقة

لعلّ الحقّ لا يتعدّى مجعوليّة الماهيّات بالجعل البسيط ، كما فى القرآن العزيز ، من قوله ، عزّ من قائل : «وَجَعَلَ الظُّلُمٰاتِ وَالنُّورَ» (الأنعام ١ /) على معنى أنّ أثر الجاعل وما يفيضه ويبدعه أوّلا وبالذّات هو نفس الماهيّة ، ثمّ (٣) يستتبع ذلك جعلا مؤلّفا للموجوديّة ، مفاده خلط الوجود والماهيّة وصدق الحمل فى قولنا : «الإنسان

١٠

موجود». لكن لا باستيناف إفاضة من الجاعل أو باقتضاء من الماهيّة الفائضة ، بل بنفس استيجاب ذلك الجعل المتقدّس البسيط على سبيل الاستلزام أو الاستتباع.

ألست قد سبق إلى فطانتك ؛ أنّ الوجود حقيقته صيرورة الماهيّة ، وأنّ نفس قوام الماهيّة مصحّح حمل الوجود ومصداقه ، فاحدس أنّها إذا استغنت بحسب نفسها ومن حيث أصل قوامها عن الفاعل صدق حمل الوجود عليها من جهة ذاتها وخرجت عن حدود بقعة الإمكان ، وهو باطل.

فإذن ، هى فاقرة إلى فاعلها من حيث قوامها وتقرّرها ومن حيث حمل الموجوديّة وهى فى ذاتها بكلا الاعتبارين فى اللّيس البسيط والسّلب الصّرف والقوّة المحضة ، ويخرجها مبدعها إلى التقرّر والأيس بجعل بسيط يتبعه على اللّزوم بلا وسط جعل مؤلّف لا باستيناف.

وأمّا التّشبّث : ب‍ «أنّ جعل الإنسان موجودا يرجع إلى إفاضة نفس الوجود أو نفس الاتّصاف أو اتّصاف الاتّصاف ؛ أو ما يجعل أثرا للفاعل بالحقيقة فى شيء من المراتب ، وإلاّ لم ينته الجعل إلى الوقوف أصلا. فلم تحصل الموجوديّة. وذلك لأنّ الاتّصاف فى نفسه ماهيّة ما ، فإن استغنى نفسه عن الجاعل كان الوجود للإنسان بلا علّة أولا ، فيكون نفسه الأثر ، وإلاّ عاد التّرديد إلى ما هو الأثر ، كاتّصاف الاتّصاف وهكذا».

فغير منجح ، فإنّ من لا يستصحّ مجعوليّة الماهيّة يجعل الاتّصاف متعلّق الجعل من حيث إنّه خلط طرفيه. كما أنّ النّسبة فى القضيّة إنّما يتعلّق بها التّصديق من حيث هى بين الطرفين لا يلتفت إليها بالذّات ومستغنيا عنه بحسب نفسه ، أى بحقيقته التّصوّريّة إذا لوحظ بالاستقلال ، كما هو شأن الحقائق عنده ، ولا يخرج ذلك ماهيّة عن الحاجة فى ثبوتها إلى الجعل المؤلّف ، فضلا عن ماهيّة الموصوف.

ومن لم يحصّل يظنّ : أنّ منكر الجعل البسيط يجعل الصّادر الأوّل نفس الاتّصاف ، ثمّ يكل الأمر فى اتّصاف الاتّصاف وما بعده إلى انتزاع العقل إلى حيث ينبتّ الاعتبار ، فيعترض بعدم الفرق بين الاتّصاف وبين نفس الماهيّة ، فلم لم تكن هى الصّادر ، وأنّ

١١

الاتّصاف نسبة ، فكيف يكون أوّل الصّوادر ، وأنّ الموجد للحركة بالاختيار لا يحتاج إلاّ إلى أن يتخيّل الحركة المخصوصة ، لا إلى تصوّر الاتّصاف بالوجود.

وبعض الإشراقيّة من أتباع الرّواقيّة يتمسّك : بأنّ الوجود من الاعتبارات العقليّة ، فلا يكون من الفاعل إلاّ نفس الماهيّة العينيّة. ولو كان الوجود هو ما من الفاعل : فإمّا إن لم يفده شيئا زائدا ، فهو كما كان ، أو أفاد ، فكان للوجود وجود إلى لا نهاية.

وهو أيضا على خداج قلّة الجدوى. فالانتزاعيّات الذّهنيّة كالعينيّات الخارجيّة ، والاتّصاف باعتبار العقليّة كالتّلبّس بالأوصاف العينيّة فى الاحتياج إلى الفاعل. وكون الماهيّة عينيّة إنّما معناه صحّة أن ينتزع منها الوجود فى الأعيان.

والمشّائيّة تضع : أنّ ذلك أثر إفادة الفاعل ، لا نفس المنتزع ، ولا الماهيّة المنتزع منها ، ولا نفس حقيقة صحّة الانتزاع. فمحجّة البرهان ما انتهجناه.

ثمّ الأجدر بالجعل البسيط ، لتقدّسه عن شوائب التّكثّر ، أن يقال له تأثير إبداعىّ وإخراج للأيس عن اللّيس المطلق ؛ وب‍ «المؤلّف» : إنّه اختراعىّ مسبوق بقابل ما ، وإن لم تكن المادّة. ولذلك كان الأوّل أصون للتّحفّظ عن إسناد الكثرة فى المعلول الأوّل إلى الوحدة الحقّة.

<٣> شكوك وإزاحات

لعلّك تقول : أليس من المتحقّق : أنّ سلب الشّيء عن نفسه إنّما يمتنع (٦) مطلقا إذا كان وجود الشّيء عين ماهيّته ، فلم يتصوّر عدمه أصلا. وأمّا فى الماهيّات الممكنة فإنّما مع اعتبار الوجود فقط ، إذ يصحّ سلب المعدوم عن نفسه فضلا عن الذّاتيّات. وربّما تصدق السّالبة بانتفاء موضوعها ، وذات الممكن لا تأبى العدم ، ولذلك لم يكن شيء من الممكنات هو هو لذاته. وكان هو المطلق هو المبدأ الأوّل وحده. وفى الأسماء الإلهيّة : «يا هو ، يا من هو ، يا من لا هو إلاّ هو». فكيف يستقيم عدم تخلّل الجعل بين الشّيء ونفسه وبينه وبين ذاتيّاته.

ثمّ أما وضعت من قبل : أنّ الوجود خارج عن الماهيّات الممكنة ، نسبته إليها

١٢

نسبة اللّواحق ، فكيف تجعل مصداق حمل الموجود على ذات الممكن نفس ماهيّته ، وهل هى إلاّ شاكلة الماهيّة بالقياس إلى ما يدخل فيها ، على أنّ الوجود بالنّسبة إلى الممكنات لا يكون على شاكلة لوازم الماهيّة أيضا. ثمّ تحصيل سبق الماهيّة على الوجود عسر على القريحة.

فيزاح : بأنّ خلط الذّات والذّاتيّات لا يكون بمقتض أو اقتضاء. أليس النّظر إلى الماهيّة من حيث هى غير ممكن الانسلاخ عن أن يكون بينه لحاظ ذاتيّاتها. وأمّا ما يلحق ، فإمّا من تلقاء مقتض أو باقتضاء من تلقاء جوهر الماهيّة.

فقولنا : «الإنسان إنسان أو حيوان» لا يحوج صدقه إلى الجعل من جهة الخلط وإن أحوج إلى لحاظ تقرّر الموضوع ، فما يستدعيه إنّما هو تقرّر ذات الموضوع. لست أقول : الصّدور عن العلّة ، بل التّقرّر فقط ، حتّى لو أمكن التّقرّر بنفس الذّات من غير علّة لكفى ، على أنّ ذلك أيضا ليس من جهة اقتضاء خصوص الخلط باعتبار خصوصيّة الطرفين ، بل من جهة استدعاء مطلق طبيعة الرّبط الإيجابيّ.

فإذن ، توقّف صدق خصوص الحمل ، فى ذاتيّات الماهيّات بخصوصيّة حاشيتيه ، الموضوع والمحمول ، على مجعوليّة نفس الماهيّة ، وصدورها عن الجاعل إنّما هو بالعرض وعلى سبيل الاتّفاق من جهتين : عدم تقرّر الماهيّة الإمكانيّة بنفسها ومطلق كون الرّبط إيجابيّا ، لا بالذّات من جهة خصوص الخلط وخصوصيّة حاشيتى الحمل.

فلا احتيج : إلى توسيط جعل مؤلّف للخلط بين الطرفين ، ولا إلى اعتبار جعل بسيط للذّات. فالجاعل يفعل ماهيّة الإنسان ، ثمّ هو بنفسه إنسان وحيوان ، لا بجعل مؤلّف أصلا ، ولا بنفس ذلك الجعل البسيط.

وهذا أصل غامض ؛ من لم يرزق الفطنة ولم يكن لقريحته سبيل إلاّ إلى الغفول عنه تخيّل : أنّه تفصّى بأنّ صدق الحمل بنفس جعل الماهيّة لا بجعل مستأنف ؛ فإنّ الجعل يتعلّق أوّلا بنفس الماهيّة ، ثمّ العقل ينتزع منها كونها هى أو بعض ذاتيّاتها (٧) ، ومصداق الحمل نفس جعل الماهية ؛ وزعم أنّ ذلك مذهب الإشراقيّة ، وهو على شفير حفرة الوهن والسّخافة.

١٣

فقد تحققت : أنّ مصداق الحمل بخصوصيّة نفس الماهيّة بما هى هى. وقولهم : «ذاتيّات الماهيّة مجعولة بعين جعلها» إنّما عنى به أنّ جعل الماهيّة هو بعينه جعلها ، فهى مجعولة فى ذواتها جعلا بسيطا هو عين جعل الماهيّة ، بل الجعل البسيط الوحدانىّ يتعلّق أوّلا بالذّاتيّات والمقوّمات ، ثمّ بالماهيّة.

وهذا مسلك الإشراقيّة والرّواقيّة ، وإنّما حاولنا ترميمه وتقويمه «بالحكمة اليمانيّة» ، لا أنّ ذلك الجعل يوسّطه اعتبار العقل بين الماهيّة ومقوّماتها للحاظ الخلط وصدق الحمل.

وكذلك مصداق الحمل نفس الماهيّة المجعولة ، لا جعلها ومجعوليّتها ؛ فإنّ بين الاعتبارين فرقا ، على أنّ التّشكيك لا يختصّ بالرّواقيّة ، بل يعترى المشّائيّة أيضا.

فلا يجدر أن يزاح إلاّ بما يجدى الفريقين. لكن أتباع المشّائيّة ربّما ينقضون أيضا : بأنّ صحّة سلب المعدوم عن نفسه إنّما يستوجب استلزام الرّبط الإيجابيّ وجود الموضوع لا الفرعيّة. فصدق الحمل فى الذّاتيّات لا يتوقّف على الجعل المؤلّف للموضوع ، أى جعله موجودا ، بل إنّما يستلزمه ويستتمّ لو قيل بالمساوقة بين مرتبتى الفعليّة والوجود. وسينساق نظرك إلى الحقّ الصّريح إن شاء اللّه تعالى. ثمّ اللّواحق

(١) : منها : لوازم الماهيّة ، ومصداق الحمل فيها نفس الماهيّة المجعولة ومفهوم المحمول مع اقتضاء من الماهيّة للخلط ، لا الماهيّة باعتبار المجعوليّة فضلا عن الوجود المتأخّر عنها إن أسندنا لوازم الماهيّة إلى نفس الماهيّة فقط من جهة اقتضائها للخلط من غير اعتبار مدخليّة مطلق الوجود ، كما بلغ إليه نظر شيخ الصّناعة ورئيسها ؛ فإنّ ملاحظة المجعوليّة إنّما احتيج إليها فى صدق الحمل ، لكون الموضوع من الطّبائع الإمكانيّة ولا ذات متقرّرة له إلاّ بالمجعوليّة لا من حيث إنّ ذاته إحدى حاشيتى هذا الحمل بخصوصه ، ولاستدعاء مطلق الرّبط الإيجابيّ بما هو مطلق الرّبط الإيجابيّ ذلك ، لا من حيث الخصوصيّة إلاّ بالعرض ، على قياس ما تعرّفت.

وما أعضل الأمر بمثير فتنة التّشكيك وغيره : «أنّه يلزم حينئذ جواز كون الوجود

١٤

من لوازم الماهيّة وهى تكون من حيث هى هى مؤثّرة فيه ، لا من حيث هى موجودة أو معدومة» ، فمزيّف : بأنّ عدم اعتبار الوجود فى الماهيّة عند اقتضائها صفة لا يقتضي انفكاكها عن الوجود حالة الاقتضاء ، فإنّ انفكاكها عن الوجود وهى هى محال ، فضلا عن أن تكون مؤثّرة. فإذن لا يتصوّر كونها مؤثّرة فى الوجود الّذي لا ينفكّ حالة التّأثير عنه ، ولا كذلك الحال بالقياس إلى صفة اخرى ، بل يتصوّر للماهيّة مرتبة من الوجود لا يكون بحسبها الخلط بالصّفة وإن كان الاقتران فى الأعيان دائما ولازما.

وإن قلنا باعتبار مدخليّة مطلق الوجود ، فيكون مصداق الحمل ماهيّة الموضوع المتقرّرة بالجعل ومفهوم المحمول واقتضاء الماهيّة باعتبار مطلق الوجود للخلط ؛ وإن كان خصوص الوجودين ممّا لا مدخل له.

و (٢) منها : عوارض ممكنة الافتراق ، ومصداق حملها ماهيّة الموضوع المتقرّرة ، بل الموجودة ، ومفهوم المحمول ومقتض للخلط من خارج.

وأمّا اللاّحق الّذي هو الوجود ، فمصداق الحمل فيه نفس ماهيّة الموضوع المتقرّرة من غير اعتبار أمر ما معها أصلا ، كما يكون فى سائر العوارض من لوازم الماهيّة واللّواحق المفارقة ، لكن لا بما هى هى بنفسها ، كما هو فى الذّاتيّات ، لكون الوجود غير داخل فى قوامها ، بل من حيث إنّها صادرة بنفس تقرّرها عن الجاعل. فالمناط بالذّات هاهنا حقيقة هو حيثيّة الصّدور بالجعل البسيط.

فإذن ، ما أسهل أن يظهر لك : أنّ الماهيّة ما لم تصدر عن الجاعل لم يحمل عليها شيء أصلا. فإذا صدرت صدق أنّها هى أو ما هو من ذاتيّاتها ، ولكن لا من حيث هى صدرت ، بل إنّما (٨) حين ما صدرت على مجرّد المقارنة ، لا التّوقّف وأنّها موجودة باعتبار ما تلحظ من حيث هى صدرت ، أى بلحاظة تلك الحيثيّة ، لا بلحاظتها من حيث هى بنفسها ، ولكن حين ما صدرت. فلذلك لم يكن شيء من الممكنات الهو المطلق ، بل إنّما يصحّ أن يقال : هو نفسه أو هو بعض ذاتيّاته حين المجعوليّة ، ويصدق : هو موجود وثابت ، باعتبار المجعوليّة.

فكان المبدأ الأوّل ، جلّ ذكره ، هو على الإطلاق ولم يكن هو إلاّ هو ، وكان

١٥

مكوّن الكون ومشيّئ الشّيء.

لست أقول : مكوّن الكون كونا ومشيّئ الشّيء شيئا ، فاحدس : أنّ حمل الوجود يشابه حمل الذّاتيّات من وجه ويباينه من وجه ويباين حمل لوازم الماهيّة من كلا الوجهين مباينة صرفة ؛ وأنّ سبق الماهيّة على الوجود سبق بالماهيّة ، وما به السّبق فيه تقرّر الماهيّة ، لا سبق بالطبع أو بالعلّيّة ، فما به السّبق فيهما الوجود أو عارضه ، أى الوجوب. فليس للماهيّة مرتبة وجود يتصوّر بحسبها سلب الخلط بالوجود ، وإنّما لها مرتبة فعليّة وتقرّر ليست بما هى هى بعينها مرتبة انتزاع الوجود ، أى الوجوديّة المصدريّة ، بل إنّما هى مستتبعتها وغير منسلخة عن اقترانها مطلقا ، وذاتيّات الماهيّة أيضا لها تقدّم بالماهيّة عليها من حيث التّقرّر ، ويحكم العقل بأنّ الجعل البسيط المتعلّق بالماهيّة بالإصدار إنّما الأحقّ أن يتعلّق بالإصدار أو لا بها ثمّ بالماهيّة ، كما أنّ لها تقدّما بالطّبع أيضا على الماهيّة بحسب الوجودين ، فقد اجتمع فيها نحوان من التّقدّم.

ثمّ إنّ هناك فحصا على شدّة غموض ، كأنّا قد سقنا إليه فطانتك ؛ فإنّ الماهيّة فى مرتبة الصّدور ، وهى بعينها مرتبة التّقرّر تتأخّر عن مقوّماتها وتتقدّم على الوجود ، فيكون نسبة الوجود والذّاتيّات إلى الماهيّة على التّعاكس ، ولكن على سبيل أنّ تعلّق الجعل البسيط بالماهيّة متأخّر عن تعلّقه بعينه بالذّاتي ومتقدّم بحسب تلك المرتبة بعينها على متعلّق الجعل المؤلّف للوجود ، أى : إنّ الماهيّة موجودة.

لست أقول : على جعل مؤلّف يتعلّق به ؛ فإنّ صدق هذه الهيئة الحمليّة بنفس استتباع تعلّق الجعل البسيط بالماهيّة لذلك ، لا بجعل مؤلّف يتعلّق به متأخّر عن الجعل البسيط للماهيّة أو فى مرتبته ؛ إذ تلك ليست إلاّ سنّة سائر العوارض غير الوجود ؛ وفى الذّاتيّات ليس يتقدّم على جعل مؤلّف يتوسّط بين الماهيّة وبين ما هو ذاتىّ لها ، فقد عرفت استحالته ، ولا على متعلّقه ، كقولنا : «الإنسان حيوان» فقد عرفت أنّه لا استتباع هناك ، بل مجرّد اقتران على وجه الاتّفاق.

وإذا لوحظ الوجود على أن يصلح متعلّقا للجعل البسيط ، أى الموجوديّة من حيث إنّها مفهوم ما ، لا بمعنى أنّ الماهيّة موجودة ربما تعلّق به جعل بسيط مباين للجعل

١٦

البسيط المتعلق بالماهيّة ولا يترتّب عليه على سبيل اللّزوم البتّة ، وهذه أساسات حكميّة لاصول علميّة أنضجت أثمار أشجارها العقليّة بأشعّة شمس الإلهام والتّوفيق.

<٤> وهم وتنبيه

ربما اختلج سرّك ما يتشبّث به بعض مقلّدة أتباع المشّائيّة ، من : «أنّ العلّة المحوجة إلى العلّة هى الإمكان ، وهى كيفيّة نسبة الوجود إلى الماهيّة ، فلم تكن المجعوليّة بحسب الماهيّة».

فكدت تستحقّ أن يقال لك : كأنّك لست من أهل التّحصيل لاصول تليت عليك، وإلاّ لاستبصرت فاستشعرت أنّ ذلك ـ بعد أن دريت ما حقيقة الوجود وكيف نسبته إلى الماهيّة ومتى صحّة انتزاعه منها مع امتناع الانفكاك بينه وبين تفرّد الماهيّة ـ هو الّذي أفضى إلى استيجاب المجعوليّة لنفس الماهيّة ، على أنّ القول فى الإمكان أرفع ممّا يصنعه الحكماء العامّة.

وأمّا أنّ الماهيّة من حيث هى هى كيف تتّصف بالمجعوليّة ، وهى من عوارضها ، والماهيّة من حيث هى ليست إلاّ هى ، فلقد استبان نظيره فى الوجود ، وأنّ الماهيّة من حيث هى لا بشرط شيء إنّما يلحقها أن توجد بالوجود الّذي تؤخذ هى لا بشرط الخلط وعدم الخلط به. فكذلك المجعوليّة ، أعنى أنّ العقل إنّما يعتبر عروضها لها فى نحو الملاحظة الّتي هى ظرف الخلط والتّعرية.

<٥> تفريعات تأصيليّة

يتفرّع عن أصل الجعل البسيط فروع هى اصول لعويصات مسائل حكميّة.

(١) منها : مطلب «هل» على أقسام ثلاثة : هل الشّيء ، وهل الشّيء موجود على الإطلاق ، وهل الشّيء موجود على صفة.

ويشبه أنّ أحقّ ما يسمّى بالهليّة البسيطة هو الأوّل. والهليّة المركّبة ضربان : بالإضافة وعلى الإطلاق. ولو اصطلح على جعل البسيطة ضربين (٩) : بسيطة على

١٧

الحقيقة وهى هليّة الشّيء فى نفس ماهيّته ، وبسيطة على الإضافة وبالقياس ، وهى هليّة الشّيء بحسب الوجود فى نفسه ، والمركّبة هليّة الشيء على صفة ، فلا شطط.

وكأنّ من آمن بالجعل البسيط إنّما أذهل نفسه عن الثّليث ثقة بعدم انفصال الوجود عن التقرّر إلاّ فى اعتبار العقل. فمهما تحقّق الوجود ثبت التّقرّر. لكنّ المرتبتين مختلفتان ، وللشىء بحسب كلّ منهما لواحق وأحكام. فالإهمال مغلّط فى المعايير العلميّة والاعتبارات التّصوّريّة والإذعانيّة والاقتناصات الحدّيّة والبرهانيّة.

(٢) ومنها : الجعل البسيط إنّما ينسب إلى العلّة الفاعليّة ، بل إلى فاعل الماهيّات ومفيض الوجودات على الإطلاق. وأمّا سائر العلل فإنّما ينسب إليها الدّخول فى ما يتوقّف عليه الجعل المؤلّف ، أى علّة الموجوديّة. وأمّا توقّف نفس الماهيّة وقوامها عليها فكاد يكون بالعرض.

فإذا استتمّ ما يتوقّف عليه وجود المعلول وبلغ الاستعداد نصابه واستجمع الفاعل شرائط الإفاضة حصل الوجود ؛ لكن حصول الوجود إنّما يكون بأن يبدع الجاعل نفس الماهيّة ، فيتبعه الموجوديّة.

ثمّ يشبه أن يكون الأحقّ بعقد الاصطلاح عليه تخصيص الجاعل بالعلّة الفاعلة إذا كان تأثيرها بإصدار نفس الماهيّة بالجعل البسيط. وأمّا سائر العلل فلا يقال لشيء منها الجاعل. وكذلك الفاعل بالجعل المؤلّف ، أى فاعل الوجود ، لا أستصوب أن يطلق عليه الجاعل ، بل إنّما الموجد والفاعل فقط.

(٣) ومنها : مطلق ثبوت شيء لشيء ، بما هو طبيعة ثبوت شيء لشيء على الإطلاق ، فرع تقرّر ذات المثبت له ومستلزم ثبوته. وأمّا بالنّظر إلى خصوصيّة الحاشيتين فربّما يكون أيضا على هذه الشّاكلة ، أى : على الفرعيّة بالقياس إلى تقرّر المثبت له والاستلزام بالقياس إلى ثبوته ، كما فى ثبوت الوجود للماهيّة.

فقد استبان لك : أنّ ظرف عروض الوجود فى ظرف الخلط والتّعرية هو بعينه ، وإنّما ذلك على قاعدة الاستلزام بالنّظر إلى الثّبوت ؛ فإنّ الثّبوت فى ذلك الظرف لا يتقدّم على نفسه ولكن يتأخّر عن تقرّر الماهيّة فيه.

١٨

وكذلك القول فى لوازم الماهيّات ، بناء على الحقّ من إسنادها إلى نفس الماهيّة ، فثبوتها للماهيّة مترتّب على فعليّة المرتبة ومستلزم لثبوتها لا متوقف عليه ؛ فإنّ الوجود وإن كان أوّل ما يلحق الماهيّة وينتزع منها ، لكن ليس ذلك بحسب ما يستدعيه ثبوت اللاّزم للماهيّة ، بل كانت الماهيّة المتقرّرة فى نفسها بحيث أن كان أوّل ما يتبعها وينتزع منها الموجوديّة.

وإنّما استدعاء ثبوت اللاّزم للماهيّة أن يكون مقترنا بوجودها ومسبوقا بفعليّتها لا غير ، واستدعاء طبيعة الملزوم أن تكون مخلوطة بالوجود فى مرتبة اقتضائها لذلك اللاّزم ، ولذلك امتنع أن يكون الوجود من لوازم الماهيّة.

وربما يكون على الفرعيّة والتّرتّب بالنّسبة إلى تقرّر المثبت له وثبوته كليهما ، كما فى العوارض اللاّحقة غير الوجود وغير لوازم الماهيّة ، أى حيث يرجع الثبوت إلى لحوق شيء خارج عن قوام الماهيّة غير منتزع من نفسها وغير مستند إليها ؛ فإنّ ثبوتها للمعروض مسبوق بفعليّة ماهيّة المعروض وبوجوده جميعا.

وقد يكون بحسب خصوص الحاشيتين على مجرّد الاستلزام دون الفرعيّة بالقياس إلى تقرّر المثبت له وإلى ثبوته جميعا ، وإن كان من حيث إنّه مطلق ثبوت شيء لشيء على الفرعيّة بالنّسبة إلى التّقرّر فقط ، كما فى ثبوت الذّاتيّات لذويها. وأمّا من لم يؤمن بالجعل البسيط فجدير بأن يمنع الفرعيّة ويقنع بالاستلزام مطلقا. فأحسن إعمال السّجيحة بلطف القريحة.

(٤) ومنها : سبق فعليّة الماهيّة على الوجود إنّما يستقيم على تلك المحجّة ، فيقال : صار الإنسان فوجد. لست أقول : صار الإنسان إنسانا أو شيئا آخر فوجد ، بل صدر نفس الإنسان وفاض قوامه فوجد. وأمّا الّذين لا يؤمنون بالجعل البسيط فلعلّ القول بالمساوقة أصحّ لأنظارهم. لكن تأخّر اللّواحق المنضمّة والانتزاعات اللاّحقة والاعتبارات العارضة عن مرتبة قوام الماهيّة كاد يكون من الفطريّات. وأمّا سبق الوجود على الفعليّة فلا يستصحّه إلاّ ذو فطرة سقيمة (١٠).

(٥) ومنها : الجاعل إذا فعل نفس الماهيّة انتزع منها الوجود قبل سائر اللّواحق.

١٩

فإذا كان المجعول ممّا يستمرّ ذاته يكون ذلك باستمرار تأثير الجاعل فى نفس الماهيّة بالإصدار على أن يفعل نفس الماهيّة ويصدرها فى تمام زمان تقرّرها ، وهو زمان شخصىّ لو حلّله الذّهن إلى أزمنة أو انتزع منه آنات حكم العقل بأنّ الجاعل يصدرها زمانا فزمانا ، أو آنا فآنا ، بنفس الجعل الأوّل ، كما إذا كان المجعول اتّصاف الماهيّة بالوجود ؛ فلزم لاستلزام المعلول تحصيل العلّة وجوده فى زمان شخصىّ هو مجموع زمان وجوده.

فإذا حلّله الذّهن إلى أزمنة أو انتزع منه آنات ، حكم العقل بأنّ العلّة تفيض الوجود وتحصّله زمانا فزمانا ، أو آنا فآنا ، بنفس التحصيل الأوّل ، إذ الماهيّة فى حدّ نفسها ليست على جهة من الفعليّة أصلا ، لا فعليّة قوام الماهيّة وتقرّرها ولا فعليّة الوجود ولا فعليّة صفة من الصّفات اللاّزمة والصاحبة ؛ بل هى من حيث نفسها فى حيّز القوّة الصّرفة وبقعة الفاقة المحضة. فحيث لا إفاضة من الجاعل لا ماهيّة ولا وجود للمجعول.

فما لم يستمرّ جعل الجاعل لم يستمرّ قوام الماهيّة ولا اعتبار الوجود ، ولا يستلزم ذلك كون الجاعل زمانيّا فى فعله ، بل مجرّد كون المجعول زمانيّا فى نفسه. وسينكشف لك من ذى قبل إن شاء اللّه تعالى.

فتحدّس من ذلك : أنّ الموجودات الممكنة فى ذواتها ، من حيث ماهيّاتها وباعتبار وجوداتها وبجميع مالها من اللّوازم واللّواحى ، وديعة من جناب الموجود البحت الواجب الوجود الحقّ المتقرّر بذاته ، أودعها برحمته مستودع حكمته ؛ وعارية استعارها عالم التّقرّر من كبرياء حضرته ، فإذن له ما فى السّماوات وما فى الأرض.

(٦) ومنها : ما ليس له ماهيّة متقرّرة فى الأعيان أو فى ذهن ما من الأذهان السّافلة والعالية ، فليس من عالم الإمكان ، بل من الممتنعات بالذّات ، فإنّ سلب تقرّر الماهيّة على الإطلاق وإن أمكن بالنّظر إلى نفس الماهيّة دائما ولو حين ما هي متقرّرة إلاّ أنّ الجاعل يطرده عن الماهيّة بأن يفعلها ويفيض تقرّرها وقوامها فى الأعيان أو فى ذهن ما ، ويتبع مطلق التّقرّر مطلق الوجود.

٢٠