منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد :

فإن التربية عملية شاقة تشمل النفس والجسد والعقل والسلوك والروح والوجدان والأخلاق والإنسان والمجتمع والحياة برمتها ، لذا كانت بحق رسالات الأديان التي توجت بالإسلام هي رسالات تربية وإصلاح وتقدم وترق.

والتربية لا تتحدد بزمان أو مكان أو بيئة ، وإنما تحتاج إلى ممارسة ومتابعة وتعاون جميع العقلاء لإنجاح مهمتها ، حتى تتآزر جهودهم في تحقيق الغاية المرجوة منها ، لذا كانت شرائع الإسلام في العقيدة والعبادة والمعاملات دائمة متجددة ملازمة لحياة الإنسان ، تبشر وتنذر ، وترغب وتحذر.

ولا غرو في أن تظل الهداية الربانية وجهود الأنبياء والمرسلين والمصلحين هي النبراس الأول للتربية والمنار المضيء للأجيال ، والحكم الفاصل في نظريات التربية قديما وحديثا.

وما الزواجر والمواعظ المتكررة ومناهج الترغيب والترهيب المتلازمين غالبا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، إلا عوامل ناجحة وحاسمة في تحقيق أهداف التربية الناجحة والوصول إلى الكمال المنشود ، وإعداد الفرد الصالح الملتزم بالأخلاق والقيم الصالحة كالتزامه بالعقيدة والإيمان بالله عزوجل.

وإن هذا الإنسان بأطماعه وحرصه على كسب أكبر قدر من فوائد الكون ليحتاج إلى الحد من أطماعه ، وتخفيف حدة حرصه ووضع ضوابط فعاله أمام جشعه ، ومنع استرساله بما تملي عليه قوته وجبروته ، وذلك حتى تكون المنافسة بينه وبين بني جنسه شريفة لا نزاع فيها ولا صراع ، ولا يتحقق ذلك إلا بأصول راسخة من التربية التي تضمن له السعادة والطمأنينة والاستقرار ، وتكون عاملا مهما في التوصل لتحقيق الآمال العراض في حياته ، بل لتمنحه القدرة على فهم الحياة ، وتزوده بطاقات روحانية هائلة يتغلب بها على مصاعب الدنيا ومعكرات المعيشة.

٣

ومن بداهة القول أو نافلته التأكيد عى أن رسالة الدين وتاجه الإسلام تقوم على منهج التربية الصالحة لإعداد الجيل المؤمن الذي يسعى لخيري الدنيا والآخرة ، وخير نفسه وغيره من أبناء المجتمع على قدم المساواة ، حتى لا يكون هناك في ساحة الحياة أحقاد ولا أطماع ، ولا صراعات ونزاعات ، ولا انحرافات ومفاسد ، ولا جبن وتخاذل ، ولا فتور وخمول ولا حسد ولا تغابن وغش ، وإنما شأن ديننا وعقيدتنا إعداد النفس المؤمنة الصالحة التي لا تعرف اليأس والقنوط ، وتتميز بالإقبال على الحياة بروح طيبة متفائلة راضية ، متعاونة أمينة متفائلة راضية ، متعاونة أمينة على مصالح الأمة وتطلعاتها ، تفيد وتستفيد ، وتعطي ولا تمنع ، وترحم ولا تقسو ، وتصفو ولا تكدر ، وتتنامى ولا تخبو وتتقدم ولا تتأخر ، وتكون هي الطليعة في كل شيء نافع مفيد للإنسان والإنسانية جمعاء.

وإن أهم ما علمنا الإسلام في مجال التربية هو خلق الأمانة ، حتى يكون المربي أمينا على حاجات الناس ، وتكوينهم وتطلعاتهم ، فلا تعصف به الأهواء والشهوات ، والميول والتيارات ، والنزعات الهدامة ، فيضيع مقدرات الأمة ويسيء لعقول أبنائها ويجعلها في شتات وضياع. وعلي المربي أن يكون دائما مراقبا ربه ، خائفا من عقابه وعذابه ، لا يتردد عن قول الحسن وفعله والترغيب فيه ، والتنفير من القبيح والنهي عنه.

ومن متطلبات الأمانة كثرة الاطلاع على العلوم والمعارف القديمة والحديثة ، والتعرف على ما لدى الآخرين من نظريات بناءة ، ليختار ما هو صالح منها ، وينتقي ما هو مفيد ، ويتجنب ما هو ضار ، وإمامه ومنهجه وهدفه وغايته هو الالتزام بنظام الدين والإسلام والخلق الفاضل وأخص بنود الأخلاق خلق الحياء ، إذ لا فائدة من علم بلا أخلاق ، ولا أخلاق بل حياء.

ومن أهم أصول التربية الاجتماعية وركائزها العتيدة في شرعة الإسلام التحلي بروح الأخوة الإنسانية والإيمانية بالله تعالى ، حتى يحس المربي من أعماق نفسه بشعور قوي نحو غيره ، ألا وهو الانتماء لهذه الرابطة الأخوية الأصيلة والتي يكون العطاء والعمل بموجبها.

إن الأمانة والأخوة صمام الأمان للتربية الناجحة ، ولعل أخلص القائمين بالتربية هم الموجهون الدينيون الذين لا يرجون جزاء ولا شكورا ، فتراهم يتحرقون من أجل إيصال الكلمة الطيبة لغيرهم والتذكير بالعمل الصالح مناط الحياة الفاضلة.

ولا أعدو الحقيقة إن قلت : إن الأخ الفاضل الأستاذ عمر أحمد عمر الذي عرفته

٤

منذ مدة طويلة في رحاب جامعة دمشق هو الرجل الفاضل والمربي الناجح ، إنه طيب النفس ، لا مع الفكر ، واسع الأفق ، مخلص العقيدة لدينه ، قوي الهمة والعزيمة في عمله وواجبه.

وكتابه هذا فضلا عن تميزه بتحقيق الأحاديث النبوية وتخريجها من مصادرها الموثوقة ، جمع بين الأصول الإسلامية التربوية ، وبين الأفكار والنظريات العلمية العصرية ، لذا كان جلي الفائدة عظيم الأثر.

ومنهجه وسبيله ليس جديدا إنما هو منهج الإسلام وتراثه وعقيدته وتشريعه الخالد ، كما قال الله تعالى في كتابه المجيد : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف : ١٠٨).

الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه

بجامعة دمشق

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسّلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وبعد ، فإن التربية أخطر عملية يتأثر بها الإنسان وعليها يتوقف نمو الإنسان إلى أقصى الحدود المرسومة له ، وبها يصلح لأداء المهمة المنوطة به.

وحين تبرز أمة على مسرح التاريخ ، وتتفوق على الأمم المعاصرة والسابقة لها ، وتصبح أشد منها قوة وأكثر رقيا ، وتحقق العدل والحياة الكريمة لأفرادها ؛ ثم تريد أن تكشف السر الذي جعلها خير الأمم ، فادرس المنهج الذي ربت عليها صغارها ؛ فجعلتهم أبطالا صالحين وعلماء راسخين.

وإن القرآن الكريم هو دستور التربية الناجحة ؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنزله لهداية الخلق وارشادهم ، كما جاء في قوله سبحانه :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) سورة الإسراء : (٩).

وهو يتضمن أعظم منهج تربوي عرفه البشر. وقد جربته أمة كانت تعاني من الفرقة والضعف والجهل والتأخر ، فأصبحت أرقى الأمم وأعلمها وأقواها ، وبقيت كذلك قرونا عديدة ، وهي تنهل من معينه الفياض ، وتأوي إلى ظله الوارف ، ثم حدثت عوامل جعلتها تنحرف عنه ؛ فمنيت بالتمزق والتخلف.

وهي الآن تحاول أن تلحق بمن سبقها في مضمار الرقي ، ولكنها تتعثر في سيرها ، وتجد العقبات والمزالق في طريقها. فإذا أرادت أن ترقى القمة مرة ثانية ، وأن تأخذ بيد البشرية الضالة ، وأن تنقذها من شفا الحفرة التي توشك أن تقع فيها ؛ فيجب أن تعود إلى ذلك المنهج القويم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد سعيت إلى نفض الغبار الذي تراكم على ذلك المنهج مع مرور الزمن ، وتسليط الضوء عليه ، عسى أن أسهم في رقي هذه الأمة ، وأكون سببا في هداية كثير من الحائرين الضالين ، وأقدم دليلا ومنهاجا للمربين والمعلمين.

٧

وقد خطر لي أن أقوم بهذا الجهد منذ أكثر من عشر سنين ، وكنت أتهيب القيام به لخشيتي من التقصير في الإحاطة بذلك المنهج ، أو العجز عن التعبير عنه بوضوح يتناسب مع بيان القرآن وبلاغته. ورغبت في أن يكفيني غيري من المربين والأدباء هذه المهمة العسيرة ، فلم أجد من أحسن القيام بها ؛ لأن القرآن الكريم لا يستطيع أن يفهم مقاصده وأغراضه ، وأن يتكلم ويكتب في موضوعاته إلا من تفيا طويلا في ظلاله ، وعاش مع وقائعه وأحكامه ، وتمكن من حفظ آياته ، وثابر على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، وتلقى العلم عن العلماء الراسخين ، وقرأ أمهات كتب التفسير ، وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وكان أديبا سهل العبارة ، ملما بضروب الإعجاز وأطراف البلاغة.

وبجانب القرآن الكريم توجد السنة النبوية ، وهي مبينة لمعانيه ، ومتممة لأحكامه. وهي مثله تحوي على منهج تربوي قويم ، ولا ريب في ذلك ، فقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم المربين وأكبر المصلحين ؛ ربى أمة بكاملها على أسس سليمة ومبادئ قويمة فكانت خير أمة أخرجت للناس. قال الله عزوجل :

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) سورة آل عمران : (١٦٤).

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجمعة ٢ ولذا يجب على من يحاول استخراج منهج القرآن في التربية أن يرجع إلى السنة ليكتمل عمله ، وتعظم الفائده منه.

فإذا تمكنت من عرض هذا المنهج وتوضيحه فالفضل في ذلك لله وحده. وإن أخطأت أو قصرت فمن نفسي. ويشفع لي حرصي على الحق وإخلاصي في طلبه وبذلي الجهد للوصول إليه.

والله أسال أن يعنيني على إتمام هذا العمل ، وأن يثيبني عليه ، وأن يثيب كل من ساهم فيه واطلع عليه واستفاد منه.

عمر أحمد عمر

٨

الفصل الأول :

معنى التربية والحاجة إليها وأهدافها

١ ـ معنى التربية

لكلمة التربية أصول لغوية ثلاثة :

١ ـ ربا يربو : بمعنى زاد ونما. قال الله تعالى :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (١).

٢ ـ ربي يربى : بمعنى نشأ وترعرع. قال ابن الأعرابي :

فمن يك سائلا عني فإني

بمكة منزل وبها ربيت

٣ ـ رب يرب : ورب الشيء بمعنى أصلحه وتولى أمره وساسه وقام عليه ورعاه (٢).

ورب العالمين هو مربيهم ومتولي أمرهم ومصلحهم. قال الإمام البيضاوي في تفسيره : (الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية ، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا) (٣).

وقال الراغب الأصفهاني :

(الرب في الأصل التربية ، وهي إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام) (٤).

ويرى" فيخته" أن التربيه هي العمل الذي يسعى إلى تحقيق جوهر الكائن الإنساني ككائن يسعى إلى الخير بذاته ولذاته).

ويعرف عالم النفس" هنري جولي" التربية بأنها (مجموعة الجهود التي تهدف إلى أن تيسر للفرد الامتلاك الكامل لمختلف ملكاته وحسن استخدامها).

ويعرف عالم الاجتماع" دركهايم" التربية بأنها" العمل الذي تحدثه الأجيال الراشدة في الأجيال الناشئة من أجل الحياة الاجتماعية. وتهدف إلى تأسيس وتنمية عدد من العادات الجسدية والعقلية والأخلاقية التي يطالب بها المجتمع السياسي والوسط الاجتماعي الذي يعد له".

٩

وكذلك يعرف" جون ديوي" التربية بأنها" وظيفة اجتماعية".

ورأت الدكتورة" فاطمة الجيوشي" أن تعريفات التربية العديدة تتفق على أنها : «العمل الإرادي الذي يحدثه الراشدون في الصغار لتحقيق هدف الفرد وهدف الجماعة التي ينتمي إليها في مناخ اجتماعي محدد (٥).

والتربية تشمل النمو الجسمي والعقلي وزيادة القدرات المادية والمعنوية والتدريب والتوجيه ، والإعداد للحياة ، ورعاية الناشئ وتعليمه وصقل مواهبه ، والأخذ بيده إلى ما فيه صلاحه ، وجعله يعمل على تحقيق أكبر نفع لنفسه ولغيره ، ويصل إلى المستوى اللائق به والمناسب له ، ويشعر بالسعادة في حياته.

والتربية أوسع معنى من التعليم الذي يكون بنقل المعلومات من المعلم إلى المتعلم ؛ لأن التعليم يقتصر على الجانب العقلي ، بينما تتعلق التربية بالجسم والعقل والنفس والروح ، وتهتم بنمو الكائن بكل جوانبه.

فكل ما يحتاج إليه الإنسان لينمو وتزداد قوته يدخل في مجال التربية وكل تمرين أو عمل يؤثر في بنيته أو في ميوله وعواطفه تشمله التربية ، وكل تعليم أو توجيه يؤثر على نفسية المرء ، ويغير من اتجاهه يعتبر من محتواها وكل إعداد وتدريب يقصد به الفرد ليعود عليه بالنفع تتضمنه التربية. وكل تنشئة وتنمية جسمية أو فكرية أو نفسية تدخل في معناها.

والمربي الحق على الإطلاق هو الله الخالق جل وعلا. فهو الذي خلق الكائنات جميعها ، وجعل بعضها ينمو ويتعلم بالحصول على الغذاء والتمرين المناسبين. وهو الذي منح الإنسان العقل ، وجعله قابلا للتعليم والتدريب والتوجيه. وعمل المربي تابع لخلق الله وإيجاده ، ونابع من شرع الله وكتابه. وإذا كانت التربية وفق الأسس التي شرعها الله كانت مواتية ، وآتت ثمارها على أحسن وجه.

والتربية عملية هادفة لها أغراضها وأهدافها وغايتها. وهي تقتضي خططا متدرجة ، تسير فيها الأعمال التربوية وفق ترتيب منظم صاعد ، ينتقل مع الناشئ ومن مرحلة إلى مرحلة (٦)

١٠

٢ ـ الحاجة إلى التربية

يحتاج إلى التربية كل كائن حي ينمو ويكبر ، ويتعلم ويزداد قوة ، ويتأثر بالتدريب والتوجيه. والكائنات قسمان : جامدة وحية. أما الكائنات التي نحسبها جامدة ، والتي لا تتغذى ولا تنمو ، فلا تخضع لأي عملية تربوية. وأما الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان فهي التي تخضع للتربية ، ويجعلها المربون حقلا لأعمالهم. ولكل كائن ما يناسبه. وأبسط هذه الكائنات وأقلها حاجة إلى التربية النبات. وأشدها تعقيدا وأكثرها حاجة إلى التربية الإنسان. وإليك تفصيل ذلك :

أ ـ تربية النبات :

لا يهتم الناس بتربية كل أنواع النبات ، وإنما يهتمون بتربية أنواع مخصوصة تفيدهم في الغذاء أو البناء أو يصنعون منها الألبسة والمفروشات ، أو يتمتعون بالنظر إلى أوراقها الخضراء وأزهارها الجميلة ويبتهجون باستنشاق روائحها الشذية.

وأول ما يجب على من يريد تربية بعض النباتات أن يحدد الغاية من تربيتها ، وهل يقصد التغذي بها ، أو الحصول على ثمارها ، أو الانتفاع بأخشابها ، أو غير ذلك؟

ثم يجب أن يدرس تركيب التربة التي يريد زراعتها ويختار المزروعات المناسبة لها. فالتربة تختلف في تركيبها والعناصر المؤلفة لها ، كما تختلف في ألوانها. وقد جعل الله هذا الاختلاف كالاختلاف في ألوان الثمار آية على قدرته. قال سبحانه وتعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ (٧) بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٨).

ولما كان الماء الذي يروي المزروعات متماثلا في تركيبه في كل الأصقاع ، فإن اختلاف التربة من مكان إلى آخر يجعل النباتات مختلفة في أشكالها وألوانها ، بما أودعه الله في كل منها من الخاصية التي تجعله يمتص من التربة العناصر المناسبة له دون غيرها. قال تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً (٩) وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها (١٠) قِنْوانٌ دانِيَةٌ (١١) وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً

١١

وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ (١٢) انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ (١٣) إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٤).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ (١٥) وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١٦)

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ (١٧) سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ (١٨) فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ (١٩) لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً (٢٠) كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٢١)

وإذا غرست التربة الطيبة بالأشجار الملائمة لها ، وأمدت بما تحتاج إليه ، فإنها تصبح جنات بإذن الله. قال الله عزوجل :

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ (٢٢) وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٣)

ثم يجب أن تختار النباتات المناسبة لمناخ المنطقة التي تزرع فيها. فأشجار المناطق الحارة لا تعيش في المناطق الباردة ، والنباتات التي تحتاج إلى رطوبة عالية لا تحتمل الجفاف الشديد ، ولكل نوع من المزروعات فصل تزرع فيه ، وما يزرع في الصيف لا ينمو إذا زرع في الشتاء ، فيجب أن تزرع النبتة في الفصل المناسب لها.

وبعد تهيئة الأرض وبذرها أو شتلها بالغراس تحتاج إلى الري بالماء الذي ينزل من السماء أو الذي ينبع من الأرض. قال سبحانه :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (٢٤) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٥)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ (٢٦) يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ (٢٧) فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً (٢٨) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢٩)

١٢

وحاجة النباتات إلى الماء تختلف في المقدار ومواعيد الري بحسب النوع والفصل والتربة والمناخ. فيجب جعل الماء بالمقدار المناسب وفي الوقت المناسب ، أو زرع ما يتناسب مع كمية الماء التي تنزل من السماء كل عام في الأرض البعلية.

وفوق ذلك يجب حرث الأرض وقلع الأعشاب الغريبة ، وقطع الأغصان اليابسة والتي تنمو بشكل غير مرغوب فيه. كما يجب إضافة السماد ومكافحة الحشرات والأوبئة. وهذا كله يحتاج إلى خبرة ودراية لا يحيط به غير المختصين بهذا الشأن.

فإذا روعيت كل هذه الأمور فإن المحصول يكون وفيرا وجيدا.

فإن كان حبوبا فإنها تتضاعف إلى سبعمائة ضعف. قال الله تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣٠)

وإن كان أشجارا فإنها ترتفع عالية ، وتتفرع أغصانها. وتعطى ثمارا يانعة جيدة.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها (٣١) كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٣٢)

وبذلك تحقق تربية النبات هدفها.

* * *

١٣

٢ ـ تربية الحيوانات

لقد ذلل الله للإنسان بعض الحيوانات ، واعتاد الناس تربيتها من قديم ، لأنها تفيدهم في الغذاء والركوب عليها وتحمل أمتعتهم ، ولأنهم ينتفعون من جلودها وأصوافها وأشعارها ، ويسرون بالنظر إليها. قال الله تعالى :

(وَالْأَنْعامَ (٣٣) خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ (٣٤) وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٣٥) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ (٣٦) إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ (٣٧) وَمِنْها جائِرٌ (٣٨) وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٩)

وامتن الله على الناس بأن سقاهم اللبن من ضروع الغنم والماعز والإبل والبقر. قال سبحانه :

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ (٤٠) وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) (٤١)

كما امتن عليهم بأن جعل هذه الحيوانات خاضعة لأصحابها ، ينتفعون منها على وجوه عديدة. قال تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها (٤٢) لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ). (٤٣)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ (٤٤) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٤٥)

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً (٤٦) كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٤٧)

وعرف الناس فوائد العسل الذي تصنعه النحل ، وأصبحوا يربون النحل للحصول على العسل. والله هو الذي سخر النحل لهذا العمل.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٤٨). ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً (٤٩) يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٠)

١٤

واستطاع الناس تعليم بعض الكلاب والطيور الجارحة للاعتماد عليها في الصيد.

قال تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١)

كما استطاعوا تعليم بعض الكلاب بالاعتماد على حاسة الشم القوية التي تمتاز بها أن تتعقب المتهمين بالقتل أو السرقة ، أو تتبع الأثر للبحث عن المسروقات ، واستطاعوا تعليم الحمام الزاجل واستخدامه في نقل الرسائل وبعض الأشياء الخفيفة.

وفي هذا العصر تمكن الإنسان من تربية الأسماك في الأحواض الكبيرة والبحيرات الصناعية ، وافتن في تربية الطيور التي تعطيه اللحم والبيض ، واعتنى بتربية أنواع عديدة لما لها من الفائدة أو لما يجده فيها من المتعة. وتحديد الغاية من تربية الحيوان واختيار النوع المناسب لذلك أمر أساسي. وقد يتوجب اختيار صنف معين لنوع من الحيوانات دون غيره. فالذي يريد تربية العجول لذبحها يختار صنفا ينمو بسرعة ويكبر إلى حد لا تصل إليه أصناف أخرى. كما إن الذي يريد تربية أبقار للبنها يختار صنفا يدر اللبن بكميات كبيرة. وكذلك الذي يربي الدجاج للحصول على البيض يختار صنفا يختلف عن الصنف الذي يربى للحصول على اللحم.

وبالإضافة إلى إعداد المكان المناسب للحيوان وتقديم ما يحتاج إليه من العلف والماء بطريقة فنية نظيفة ومريحة ، وبمقادير مدروسة ، أصبح الإنسان يعتمد على الآلات لحلب الأبقار. وجمع البيض وحفظ الألبان ومشتقاتها ، وصناعة اللحوم ومعلباتها.

ولما كانت الحيوانات تمتاز عن النباتات بالحس والحركة ، فمن الواجب على مربيها أن يحسن معاملتها لتستجيب له ولا تنفر منه. فالذي يعمد إلى فرس ليمسك بزمامها يعلم أنه إذا حمل بيده قبضة من العشب ، ومشى نحوها بهدوء ، وناداها برفق فإنها تقبل إليه ؛ ولكنها تهرب منه إذا جاء إليها راكضا ، ولم يكن في يده شيء تأكله. والذي يريد تدريب مهر على الركوب فإنه يبدأ بوضع شيء خفيف على ظهره ، ثم يزيد في ثقله ، وهو يسوسه ويطعمه ويمشي بجانبه ، حتى يمكنه من أن يعلو ظهره في الوقت المناسب.

١٥

وقد يتأثر الحيوان بالصوت الحسن والنغمات الموزونة أكثر من الضرب بالسياط. فالجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقال ، ويستصغر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي ، واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال ، ما إن تسمع صوت الحادي حتى تمد أعناقها ، وتصغي إليه ناصبة آذانها ، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها. وربما تتلف أنفسها من شدة السير ونقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها.

وقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري قال : كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب ، فأضافني رجل منهم ، وأدخلني خباءه ، فرأيت عبدا أسود مقيدا بقيد ، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدي البيت ، وقد بقي منها جمل ، وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه ، فقال لي الغلام : أنت ضيف ولك حق ، فتشفع فيّ إلى مولاي ، فإنه مكرم لضيفه ، فلا يرد شفاعتك ، فعساه يحل القيد عني.

قال : فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت : لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد.

فقال : إن هذا العبد قد أفقرني ، وأهلك جميع مالي. فقلت : ما ذا فعل؟

فقال : إن له صوتا طيبا ، وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال ، فحملها أحمالا ثقالا ، وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته. فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد. ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك.

قال : فأحببت أن أسمع صوته ، فلما أصبحنا أمرته أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هناك ، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهي. فما أظن أني سمعت قط صوتا أطيب منه (٥٢).

وكانت الطيور تقف على رأس داود عليه‌السلام لاستماع صوته. قال تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ (٥٣) وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). (٥٤) وتوصل العلماء إلى اسماع الأبقار نغمات معينة حين حلبها تجعلها تقف هادئة وتدر اللبن ، كما توصلوا إلى إسماع الزرازير والحيوانات التي يرغبون في إبعادها عنهم أصواتا تجعلها تنفر وتبتعد ؛ فتجتنب أضرارها.

وبذلك تدخل في تربية الحيوان عوامل ليست في النبات.

١٦

٣ ـ تربية الإنسان :

إن تربية الإنسان أشد تعقيدا وأكثر أهمية ، وهي تستغرق مدة أطول من تربية غيره من الكائنات.

فأما المدة التي يحتاج إليها الإنسان في التربية فتدوم طوال حياته ، لأنه لا يصبح كاملا وإن طالت تربيته ، فتراه يخطئ ويتعثر في سيره ، ويقع في المشكلات من حين إلى آخر. ومهما حصل من العلوم ، وتلقى من التربية يبقى محتاجا إلى المزيد منها. وهذا سر قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٥٥)

وتبقى علوم الإنسان محدودة وضئيلة لقصور عقله وقلة إدراكه :

(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٥٦)

ولذلك فإنه يحتاج إلى من يوجهه وينصحه ويربيه ويعلمه ما دام حيا وتعظم حاجته إلى التربية في المراحل الأولى من عمره ، وخاصة حين يصبح مميزا قادرا على الفهم حتى سن البلوغ والرشد ، أي ما بين السنة السادسة والسابعة إلى الخامسة عشرة والثامنة عشرة من عمره.

وأما أهمية تربية الإنسان فلمكانته المرموقة في هذا الكون ؛ فقد جعله الله خليفة في هذه الأرض :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٥٧)

وسخر له ما في البر والبحر وما في السموات والأرض :

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا (٥٨) مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩) وجعله من أكرم وأفضل المخلوقات :

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً). (٦٠)

والإنسان لا يستطيع إعمار الأرض وتحقيق الخلافة فيها ، ولا يستطيع الاستفادة من ثروات الأرض وخيرات السماء على أحسن وجه ، ولا يستحق التكريم والتفضيل إلا بالتربية الرفيعة التي ينالها والعلوم الهامة التي تعلمها ؛ ولهذا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم لما أخبرهم بأسماء الأشياء التي لم يتعلموها. قال سبحانه :

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي

١٧

بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ). (٦١)

وأما سبب تعقيد وصعوبة تربيته فلانه توجد فيه عدة عناصر ، ويتأثر بكثير من العوامل ولا تقتصر تربيته على جسمه كالنباتات والحيوانات ، بل يجب أن تشمل عقله وروحه وانفعالاته أيضا. وتفصيل ذلك نستأنفه بعد تحديد أهداف التربية.

* * *

١٨

٣ ـ أهداف التربية

إن تحديد الهدف أمر أساسي في كل عمل. وبعد أن يتم توضيح الهدف ، وتوجد القناعة بأهميته ، تبين الطريق المؤدية إليه ، ويبدأ السير مرحلة بعد مرحلة ، وخطوة بعد خطوة ، حتى الوصول إلى الغاية وتحقيق الهدف المرسوم وما لم يكن هذا فإن الجهود تتبعثر والخطوات تتعثر ، ويصبح المرء كمن يدور في حلقة مفرغة ، فيضل ويتثاقل إلى الأرض ولا يرغب في بذل أي جهد.

ومثال ذلك أنك لو طلبت من مجموعة من الناس أن يسيروا على طريق لا يعلمون طوله ، ولا الغاية التي يبلغونها بعد قطعها ، فإنك مهما حاولت أن تحثهم على متابعة السير ، تجدهم يميلون إلى تقصير الخطوات ، ويبدو عليهم التعب ، ويرغبون في الجلوس والرجوع. أما لو كانت الطريق بطول يقطعه المرء في ساعة أو ساعتين ، وكانت تتنهي بحديقة فيها الطعام اللذيذ والماء العذب والمناظر الجميلة والألعاب الممتعة ، وكانوا بوصولهم إليها تفتح لهم أبوابها ، ويقدم إليهم كل ما يرغبون فيه بدون مقابل ، وكان لديهم دافع إلى الطعام والشراب أو المتعة والتسلية ، فإنهم يسيرون بأقصى سرعة ، ولا يشعرون بأي تعب ، ويتسابقون في الوصول إليها.

وكذلك حين يتم تحديد هدف التربية بشكل صحيح ، ويكون هذا الهدف واضحا للمريبين ومقبولا من الذين يعلمون في حقلها ويتأثرون بها ، وتوضع الوسائل المؤدية إليه ، ويبدأ العمل بأساليب محكمة ؛ فإن التربية تؤتي ثمارها ، وتصبح ذات أثر كبير في رقي الأمة وازدهار المجتمع.

فوضوح الهدف والرغبة في تحقيقه هو الأساس الأول ، وتعيين الطريق الموصلة إليها والوسائل اللازمة لبلوغه هو الأساس الثاني. وبدون ذلك لا توجد تربية نافعة ولا تظهر لها ثمار يانعة.

وإذا استعرضنا الأهدف التي نادى بها المربون في أوربا في العصر الحديث نجدها متعددة ومختلفة بحسب النزعة الفكرية لكل منهم :

" فكومينوس" الذي يعد من أهم ممثلي الحركة الواقعية في التربية في القرن السابع عشر جعل الهدف من التربية هو مساعدة الإنسان على الوصول إلى السعادة الأبدية ، وذلك بالإتصال بالله. وكان المربون في عصره يرون أن التربية تساعد على الوصول إلى تلك الغاية بتحطيم الغرائز والشهوات الطبيعية والعواطف ، وسلوك

١٩

مسلك تهذيبي ، وروحي يؤدي إليها أما كومينوس فكان يعتقد أن الغاية القصوى الدينية يحصل عليها الإنسان بسيطرته سيطرة خلقية على نفسه. ولضمان ذلك ينبعي أن يعرف الإنسان نفسه ، وأن يعرف كل الأشياء ؛ فالمعرفة والفضيلة والتقوى هي بهذا الترتيب الهدف من التربية (٦٢).

ثم انتشر المذهب التهذيبي الذي يرى أنصاره أن عملية التعليم لا الموضوع المتعلم هي أهم شيء في التربية. ويمثل هذا المذهب التربوي" جون لوك" بقوله : إن أعظم عمل للمربي هو أن يقوّم السلوك وأن يشكّل العقل ، وأن يغرس في تلميذه العادات الطيبة ومبادئ الفضيلة والحكمة ، وأن يكوّن في نفسه فكرة عن النوع الإنساني ، ويقوده إلى حب ما هو حميد وجدير بالثناء. وأن يعوده النشاط والحيوية والاجتهاد في أداء ما يعمل ، وأن يعوده تحمل المشاق.

وأن يدعه يتذوق قدرا يسيرا من طعم المادة التي يجب أن يتقنها بجهوده الخاصة. أما الدراسات التي يطلب منه القيام بها فهي تمرين لملكاته وحسن استغلال أوقاته حتى لا ينزع إلى التواني والكسل» (٦٣).

وأنصار النزعة النفسية في التربة يرون مع" بستالوتزي" (١٧٤٦ ـ ١٨٢٧ م) أن المربي لا يغرس قوى جديدة في الإنسان ، أو ينفخ فيه روح الحياة ، لأن مهمته الأساسية هي منع أي قوة خارجية أن تقف في طريق النمو الطبيعي للفرد. فقوى الفرد الأخلاقية والعقلية والعملية يجب أن تستمد حياتها من القوى الداخلية لا من مصادر صناعية.

والتربية في نظره عبارة عن النمو العضوي للفرد سواء أكان هذا النمو أخلاقيا أو عقليا أو جسميا. وهي نمو جميع قوى الإنسان وملكاته نموا طبيعيا تقدميا منسجما (٦٤)

أما هربارت (١٧٧٦ ـ ١٨٤١ م) وهو من أصحاب النزعة النفسية أيضا فقد جعل الغرض من التربية أخلاقيا بقوله : (فالعمل الوحيد والكلي للتربية يمكن أن يلخص في كلمة الأخلاق). وقوله (إن لفظ الفضيلة يعبر عن الغرض من التربية جميعه). والفضيلة في نظره هي : (الحرية الباطنية التي تطورت إلى حقيقة واقعة ثابتة في الفرد) (٦٥).

وكذلك" فروبل" (١٧٨٢ ـ ١٨٥٢ م) اعتبر هدف التربية هو النمو وعملية التربية هي عملية نمو. وليس هناك أهداف خارجية. كما أكد الناحية الخلقية في التربية ، وجعل مهمة التربية بناء الأخلاق لأنها توجه نشاط الطفل ، وتربطه بالحياة وتكشف عن طبيعته الباطنية عن طريق العمل (٦٦).

٢٠