تراثنا ـ العددان [ 97 و 98 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 97 و 98 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٥٢٤

١

تراثنا

صاحب الامتیاز

مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث

المدير المسؤول :

السيّد جواد الشهرستاني

العددان الأوّل والثني [٩٧ ـ ٩٨]

السنة الخامسة والعشرون

محتـويات العـدد

* كلمة العدد :

* الحِراك الفِكري وعَقْلَنة الصِّراعات.

............................................................... هيئة التحرير ٧

* بين الصدوق والقطب الراوندي دراسة في كتابيهما (النبوّة) و (قصص الأنبياء)

........................................... السـيّد حسن الموسوي البروجردي ١١

* مدوّنات الشيخ المفيد رحمه‌الله وقراءته الكلامية للتاريخ.

...................................................... الشيخ قاسم خانجاني ٨٧

* النظرية التفسيرية في المدرسة الإمامية (٣).

.................................................... السيّد زهير الأعرجي ١٩٩

٢

محرّم ـ جمادى الآخرة

١٤٣٠ هـ

* مدرسة الحلّة وتراجم علمائها من النشوء إلى القمّة (٤).

.............................................. السـيّد حيدر وتوت الحسيني ٢٧١

* من ذخائر التراث :

* تفسير سورة الدهر لصدر الدين محمّـد بن نصير الدين الحسني المتوفّى ١١٥٤ هـ.

............................................ تحقيق : السيّد حسين الوردي ٣٠٥

* فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام لعيسى بن يزيد بن بكر بن دأب من أعلام القرن الثاني.

............................................. تحقيق : الشيخ محمّد مشكور ٤٠٥

* من أنباء التراث.

........................................................... هيـئة التحرير ٥٠٩

* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة (تفسير سورة الدهر) للسيّد صدر الدين محمّد بن نصيرالدين الحسني المتوفّى ١١٥٤ هـ والمنشورة في هذا العدد.

٣
٤

٥
٦

كلمة العـدد :

الحِراك الفكري وعَقْلَنة الصراعات

هيئة التحرير

بسم الله الرحمن الرحیم

في خضمّ بحر متلاطم من الأفكار ، وأعاصير آراء امتازت بها البشرية منذ أن كتب التاريخ سطوره الأُولى على كهوف حركته ، كان الإنسان يبحث عن ضالّته عسى أن يجدها بين طيّات بنات أفكاره ، فكانت الحكمة تتجاذب أطراف الصراع في الذات الإنسانية ، فظهرت الأفكار والحضارات الأولى ، فكانت مرحلة النشأة والنموّ ثمّ الأوج والأفول متزامنة ومضطردة باضطراد مراحل الفكر لدى أبنائها ، فتهدّمت صروح بانهدام أركان الحكمة فيها ، وبنيت على أطلالها حضارات ما لبثت أن تداعت بانهدام مقوّماتها ، وبقيت السنن هي السنن تستخلف أفكاراً وحضارات يأتي بعضها لينهض بالبعض الآخر ليقوّم ما اعوجّ منها ويُصلح ما فسد ، وبدأت الصراعات الفكرية تتجاذب أطراف الحوار بين أصحاب الرأي والرأي الآخر ، وبدأ الصراع يفسد للودّ قضية ، وانهارت الحضارات ولم يبق منها إلاّ اسمها أو رسمها ، ولم يتّعظ أقطاب الفكر والحكمة البشرية من فادح الخسارة التي ألقت بظلالها على مسيرة حركة التاريخ ، غافلة عن أنّ الصراع الفكري سلاح ذو حدّين ، فكانت أُولى قرابينه الأنبياء عليهم‌السلام ، ولم يستثن هذا

٧

الصراع مفكّري الحضارات الأولى ، فسقراط الذي جاء بالفكرة في معرفة الذات الإنسانية وسبر غور تصرّفاتها ووضع للأخلاق لُبنتها الأولى وحارب السفسطة فاتّهمه خصومه بالزندقة فتجرّع السمّ في سجنهم ليثأر للكلمة وأخلاقيّاتها ، وإفلاطون في جمهوريّته كان يسعى إلى المدينة الفاضلة فاصطدم بهم.

وإنّ الصراع الفكري الكنسي في العصور الوسطى كان من أكثر المظاهر التي تجلّت فيها مصادرة الكلمة وإقصاء الرأي الآخر ، حتى وصل الأمر إلى إصدار الأحكام الكنسية بإحراق مخالفي الكثلكة أحياءً أمام الملأ ، فتمخّض الصراع عن ولادة الرأي الآخر الذي تمثّل في البروتستانتية التي تبلورت على يد مارتن لوثر الذي قام بحركته الإصلاحية المعروفة في شأن الغفرانيّات ، والأُرثوذوكسية التي انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية فأنشأت لها الكنيسة الشرقية البيزنطية.

وقبل العصور المظلمة بقرون كان الصراع الفكري على أشدّه بين المذاهب الإسلامية ومدارسها ، حيث كانت كلّ مدرسة تسعى للاستحواذ على بلاط السلطان ليكون لها السطوة واليد الطولى لخنق أصوات الرأي الآخر ، ولم يسلم من تلك الدوّامة مذهب ولا مدرسة ، وراح ضحيّة تلك الحقبة أئمة ومفكّرون ، وأهدرت دماء وسجن العديد من أصحاب الرأي ، وأُسكتت أصوات كانت امتداداً لصدى الرفض الأوّل الذي أطلقه جندب بن جنادة الربذي أبو ذرّ الغفاري.

ومرّت قرون طوت معها مراحل تطوّر الوعي الإنساني ، وبدا بصيص من الأمل يلوح في الأفق لينبئ عن عصر جديد ، وكان البحث عن الحقيقة يستنهض رجالا طالما أقضّ مضاجعهم صراعات القرون الأولى ، فنهض

 

٨

جمال الدين والكواكبي ومحمّد عبده ، واستبشر الفكر والمفكّرون ، وبدأت مرحلة جديدة في توحيد الكلمة تحت ظلال كلمة التوحيد قادها رجال مصلحون كالسيد البروجردي والسيد هبة الدين الشهرستاني وكاشف الغطاء وشرف الدين ورجالات الأزهر ، وبدت تجلّيات تلك الحقبة واضحة في تأثيراتها تاركة بصماتها على مسيرة الحركة الفكرية من خلال احترام الرأي والرأي الآخر ، وبدت معالم العمران الفكري التي أسّست للفكر الإسلامي المعاصر لبنتها الأولى واضحة المعاني.

إلاّ أنّه سرعان ما بدأت في أوربا مرحلة جديدة من العصور المظلمة تجتاح الفكر الأوربي ، وأخذت الفضيلة والقيم الدون كيشيوتية بالانحسار أمام جيوش صموئيل هينتنغتون ـ الّذين زجّهم في صراع حضاراته ـ وفوكوياما في نهاية تاريخيه.

فعاد دون كيشوت أدراجه راجلا ينذر البشرية بحروب صليبية من نوع جديد أخذت تلقي بظلالها واضحة على مجتمعاتنا الإسلامية ، وبدا للوهلة الأولى وكأنّ طبول الحرب تقرع بين الشرق والغرب لكنّ صداها كان أقرب من ذلك بكثير ، وإذا بها حرب ضروس بين أبناء كلمة التوحيد ، شحذ فيها أصحاب الكلمة والسيف من أبناء جِلدتنا أقلامهم وسيوفهم ؛ لتمزيق ما تبقّى من أوصال هذه الأمّة ، وتجلّت في أبشع صورها عندما بدأ البعض بمصادرة الرأي وإقصاء الرأي الآخر ، حتّى وصل بنا الأمر إلى التكفير والتهويد ، والذبح على الفكرة والمذهب ، وهدر الدم ، واستباحة الأعراض والأموال لكلّ من يخالف في الكلمة والفكرة ، متناسين أنّ الحوار بين المذاهب لم يغب يوماً عن الحراك الفكري منذ نشأة الدولة الفتية في صدر الإسلام ، فكثيراً ما كانت تعقد مجالس الحوار والمناظرات بين

 

٩

الصحابة ، وما مسائل ابن الأزرق عند الكعبة وغيرها ، وحوار ومناظرات الأئمّة عليهم‌السلام مع أئمّة المذاهب الأخرى واختيارهم لأصحابهم للحوار والمناظرات وتوصياتهم لهم بأدب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن خير شاهد على ذلك.

وبالرغم من أنّ تلك المناظرات كان أكثرها يمتاز بطابع الاحتجاج ومنازعة الخصم ؛ إلاّ أنّها كانت تحمل بين طيّاتها معان عظيمة من احترام الرأي والرأي الآخر ، وحراك الآراء وعقلنة الصراعات ، وأنّ المذهب لم يكن في يوم من الأيّام سبباً في تفريق الأمّة ولا مانعاً من توحيد الكلمة ، بل كان نوعاً من الحراك الفكري الذي ساهم في بناء عمرانها الثقافي والاجتماعي ، وكامن من كوامنها الحيوية.

وأمّا الاستنباط فلم يكن إلاّ نوعاً من أنواع ذلك الحراك الذي أثرى الأمّة ، وجعل المسلمين يمارسون أعظم أنواع الحوار ، والاستماع إلى الرأي الآخر واحترامه ، ونوعاً من أنواع البحث عن الحقيقة ، فالتعددية الفكرية والمذهبية في مجتمعاتنا ليست عبئاً يجب التخلّص منه ، وإنّما هي حقيقة تاريخية ينبغي التعامل معها بحكمة ؛ ليتسنّى لنا أن نجني ثمارها ، وهي ذات جذور تاريخيّة مشرقة في مجتمعاتنا ، فقد ألّف العديد من علماء المسلمين كتباً ورسائل تبيّن أدب الحوار والمجادلة وأسسهما وقواعدهما ومقوّماتهما.

فلنرقى بأدب الحوار إلى ما كان عليه السلف الصّالح ، ولنسمو عسى أن نجد في كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة فصل الخطاب.

 

١٠

بين الصدوق والقطب الراوندي

دراسة في كتابيهما

(النبوّة) و (قصص الأنبياء)

السـيّد حسن الموسوي البروجردي

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد :

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أفضل المصلّين

وأشرف الداعين وعلى آله الذين هم أهل الذكر أجمعين ،

واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين

وبعد ..

فيقول العبد الفقير المحتاج إلى رحمة ربّه الغفور السيّد حسن الموسوي البروجردي ـ بصّره الله عيوب نفسه وجعل يومه خيراً من أمسه ـ : إنّ منهج المحدّثين وأصحاب المدوّنات والكتب الحديثية عند الشيعة الإماميّة من القرن الرابع ـ بل ما قبله بيسير ـ إلى زماننا هذا في أخذ الحديث وروايته وذكر إسناده إنّما هو عن طريق الأخذ والقراءة من كتب وأُصول المتقدّمين عليهم ، وقلّما يوجد نقل الحديث في ذلك الأوان عن طريق

 

١١

السماع من المشايخ دون كتابته حتّى أنكر البعض ذلك ، خصوصاً في القرنين السادس والسابع ، وهذا أمر مسلّم به لا يمكن النقاش فيه ، ولذا سمّوا المشايخ الواردة في الأسانيد إلى أصحاب الكتب (مشايخ الإجازة) ، واشتهر عندهم من استغناء مشايخ الإجازة عن التوثيق ، ولإثبات هذا أو نفيه مباحث طويلة ليس هنا مقام بيانها.

وبالجملة : نحن نواجه النقولات الواردة في الكتب بالنسبة إلى ذكر أسانيدها ومصادرها على صور مختلفة ، وهي كما يلي :

الأُولى : رواية الأحاديث مسندةً من دون التصريح بأسامي الكتب المأخوذ منها تلك الأحاديث ، وهذه الأسانيد ليست إلاّ طرقاً إلى أصحاب الكتب والأُصول من المتقدّمين الذين عاشوا في عصر أئمّة أهل البيت عليهم‌السلاموكانت كتبهم محفوظة في أيدي المتأخّرين عنهم وفي خزائن مكتباتهم بأحد طرق التحمّل للحديث ، ونقلوا من تلك الكتب بسرد طرقهم وأسانيدهم إليها ونقلوا بها تراثنا إلى الأجيال التي تليهم بأمانة ، وهذا ديدن المتقدّمين من أصحابنا في أواخر القرن الثالث والقرنين الرابع والخامس(١).

__________________

(١) من أمثلة هذه الصورة : كتب سعد بن عبد الله الأشعري (المتوفّى ٢٩٩ أو ٣٠٠ هـ) ومحمّد بن الحسن الصفّار (المتوفّى ٢٩٠ هـ) ومحمّد بن يعقوب الكليني (المتوفّى ٣٢٩ هـ) ومحمّد بن إبراهيم الكاتب النعماني (من أعلام أواسط القرن الرابع) وأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (المتوفّى ٤٦٠ هـ) ، ومن التصريحات الواضحة في هذا المعنى ما ذكره صدوق أصحابنا محمّد بن علي بن بابويه القمّي (المتوفّى ٣٨١ هـ) في كتاب فقيه من لا يحضره الفقيه ، فإنّه قال في المقدّمة ١ / ٣ ـ ٥ : «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، مثل كتاب حريز بن عبد الله السجستاني ، وكتاب عبيد الله بن علي الحلبي ، وكتب الحسين بن سعيد ، ونوادر أحمد بن محمّد بن عيسى ، وكتاب نوادر الحكمة تصنيف محمّد بن أحمد

١٢

__________________

ابن يحيى بن عمران الأشعري ، وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله ، وجامع شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد (رضي الله عنه) ، ونوادر محمّد بن أبي عمير ، وكتب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي ، ورسالة أبي ـ (رضي الله عنه) ـ إلىّ ، وغيرها من الأُصول والمصنّفات التي طرقي إليها معروفة في فهرس الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافي رضي الله عنهم».

ولاحظ كتابه الفقيه ومشيخته ، فإنّه رحمه‌الله صرّح في غير موضع بأسماء الكتب التي نقل عنها وأنّ إسناده طريق إلى رواية هذه الكتب ، منها : كتاب زياد بن مروان القندي ١ / ٢٦٣ / ١١٠ ، نوادر إبراهيم بن هاشم ١ / ٢٣١ / ٤٥ ، كتاب محمّد بن مسعود العيّاشي ١ : ٣٥٦ / ٢ كتاب عبد الله بن المغيرة ١ : ٢٩٦ / ١٥ ، كتاب علي ابن جعفر ٤ : ٥ ، كتاب العلل للفضل : ٥٣ ، كتاب حميد بن المثنّى العجلي : ٦٥ ، كتاب الكافي للكليني : ١١٦ ، مضافاً إلى أنّ جلّ من روى عنهم عليهم‌السلام كانوا أصحاب أُصول وكتب وترجمهم النجاشي والطوسي وابن شهر آشوب و.. في فهارسهم وذكروا إليهم طرقاً وأسانيد.

ومن أمثلة ذلك أيضاً مشيخة التهذيبين لشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (المتوفّى ٤٦٠ هـ) ، فإنّه رحمه‌الله صرّح في مقدّمة مشيخة التهذيب ١٠ : ٤ بتخريجه جميع روايات التهذيب عن كتب الأصحاب وأُصولهم ، قال : «واقتصرنا من إيراد الخبر على الابتداء بذكر المصنّف الذي أخذنا الخبر من كتابه أو صاحب الأصل الذي أخذنا الحديث من أصله واستوفينا غاية جهدنا ما يتعلّق بأحاديث أصحابنا رحمهم‌الله ...» إلى أن قال : «والآن فحيث وفّق الله تعالى للفراغ من هذا الكتاب نحن نذكر الطرق التي يتوصّل بها إلى رواية هذه الأُصول والمصنّفات ، ونذكرها على غاية ما يمكن من الاختصار لتخرج الأخبار بذلك عن حدّ المراسيل وتلحق بباب المسندات».

وقال في آخر المشيخة : ٨٨ ـ بعد ذكر جملة من طرقه إلى الأصحاب ـ : «قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنّفات والأُصول ، ولتفصيل ذلك شرح يطول هو مذكور في الفهارس المصنّفة في هذا الباب للشيوخ رحمهم‌الله من أراده أخذه من هناك إن شاء الله ، وقد ذكرنا نحن مستوفى في كتاب فهرست الشيعة ، والحمد للّه ربّ العالمين».

وأشار أيضاً في مقدّمة مشيخة الاستبصار ٤ : ٣٧٦ أنّه عمل هذا الكتاب على

  

١٣

 

الثانية : تصريح باسم مصادرهم وذكر طرقهم إليها وإلى مؤلّفيها في أوّل كتبهم أو في مطاويها وذلك لشهرة هذه الكتب وكثرة الطرق إلى مؤلّفيها ، ونلاحظ هذه الحالة في جملة من تآليف القرن السادس وما بعده إلى القرن الثامن(١).

__________________

نفس المنهج الذي سلكه في كتاب التهذيب من الأخذ عن الكتب والأصول لأصحابنا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وأحال في آخر المشيخة : ٤٢٦ باقي الطرق إلى فهارس الشيوخ الموضوعة لهذا المعنى.

وبالجملة : نحن نرى أسامي جمع من أعاظم الفقهاء والمحدّثين عملوا فهرساً للكتب والأُصول للقدماء من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، وهذه الفهارس ليست كالكتب الرجاليّة الصرفة بل تتصدّى لجمع وتبويب قائمة أسامي المصنّفين وتوثيقهم وأسامي كتبهم وكيفية نسخها وروايتها من حيث الحجّيّة ، وقد كتب هذه الفهارس أمثال حميد بن زياد الدهقان الكوفي (المتوفّى ٣١٠ هـ) وأبي جعفر محمّد بن جعفر ابن أحمد بن بُطّة المؤدّب القمّي (المتوفّى ق ٤ هـ) ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (المتوفّى ٣٤٣ هـ) وعلي بن الحسين المسعودىّ (المتوفّى ٣٤٦ هـ) وأبي غالب أحمد بن محمّد الزراري (المتوفّى ٣٦٨ هـ) والشيخ الصدوق محمّد بن بابويه (المتوفّى ٣٨١ هـ) والحسين بن الحسن بن محمّد بن موسى بن بابويه (المتوفّى ق ٤ هـ) وأحمد بن عبد الواحد بن عبدون البزّاز (المتوفّى ٤٢٣ هـ) وأبي العبّاس أحمد بن علي النجاشي الكوفي (المتوفّى ٤٥٠ هـ) وشيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (المتوفّى ٤٦٠ هـ) وغيرهم من أساطين هذه الطائفة ، ولكلّ ما ذكرناه هنا شواهد وأدلّة كثيرة لا يقتضي المقام إيرادها ، وفيما بيّناه كفاية.

(١) من أمثلة هذه الصورة كتاب المناقب لأبي جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني (المتوفّى ٥٨٨ هـ) وكتب يحيى بن الحسن الأسدي الحلّي المعروف بابن البطريق (المتوفّى ٦٠٠ هـ) وكتب السيّد علي بن موسى بن طاوس الحسني الحلّي (المتوفّى ٦٦٤ هـ) ومن ماثلهم ؛ فإنّهم رحمهم‌الله صرّحوا باسم مصادرهم وذكروا طرقهم إليها إمّا في أوّل كتبهم أو في أثنائها ؛ قال ابن طاوس في مقدّمة فلاح السائل : ٥٢ : «وربّما لا أذكر أوّل طريقي في كلّ حديث من هذا الكتاب لئلاّ يطول ، ويكفي أنّني أذكر طريقي إلى رواية كلّما رواه جدّي السعيد أبو جعفر

  

١٤

الثالثة : لم يسندوا طرقهم إلى مؤلِّف مصادرهم واكتفوا باسم مصدر التخريج استغناءً بشهرة الكتب والأحاديث واعتماداً على كثرة الطرق والأسانيد ، نشاهد هذه الطريقة بين المحدّثين وأصحاب المدوّنات الحديثيّة من القرن الثامن إلى زماننا هذا ، فإنّهم ذكروا طرقهم وأسانيدهم إلى المصنّفات والأُصول القديمة في كتب ورسائل مستقلّة خصّصوها لهذه المهمّة ، وذلك مثل الإجازات الصغيرة والكبيرة والأثبات الموضوعة لهذا المعنى ، فإنّ الأسانيد كانت ولا تزال موضع اهتمام كبير لدى المشتغلين في هذه الطبقة بحيث لا يوجد طالب علم في هذه الطبقات لم يكن عنده طريق أو طرق متعدّدة للاتّصال إلى شيوخنا المؤلّفين ومؤلّفاتهم(١).

__________________

الطوسي تلقّاه الله جلّ جلاله ببلوغ المأمول ، فإنّه روى في جملة ما رواه عن الشيخ الصدوق هارون بن موسى التلّعكبرىّ ـ قدّس الله روحه ونوّر ضريحه ـ كلّما رواه ، وكان ذلك الشيخ الصدوق قد اشتملت روايته على جميع الأُصول والمصنّفات إلى زمانه ...» إلى أن قال : «ثمّ رويت بعدّة طرق عن جدّي أبي جعفر الطوسي كلّ ما رواه محمّد بن يعقوب الكلينىّ وكلّ ما رواه أبو جعفر محمّد بن بابويه وكلّ ما رواه السعيد المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان وكلّ ما رواه السيّد المعظّم المرتضى وغيرهم ممّن تضمّن كتاب الفهرست وكتاب أسماء الرجال وغيرهما رواية جدّي أبي جعفر الطوسي عنهم رضوان الله عليهم وضاعف إحسانه إليهم» انتهى كلامه.

وسرد بعد ذلك طريقين من طرقه روايةً عن مشايخه إلى الشيخ الطوسي ثمّ قال تعليقاً على طريقه الأخير : «وهذه روايتي عن أسعد بن عبد القاهر الإصفهاني اشتملت على روايتي عنه للكتب والأُصول والمصنّفات ، وبعيد أن يكون قد خرج عنها شيء من الذي أذكره من الروايات».

(١) من أمثلة الصورة الثالثة : العلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (المتوفّى ٧٢٦ هـ) والشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي (المتوفّى ٧٨٦ هـ) والشيخ علي بن يونس البياضي (المتوفّى ٨٧٧ هـ) والمحقّق الثاني علي بن الحسين الكركي (المتوفّى ٩٤٠ هـ) والشهيد الثاني زين الدين بن أحمد العاملي (المتوفّى ٩٦٥ هـ)

  

١٥

هكذا قطعت أحاديث النبىّ وأهل بيته عليه وعليهم السلام مراحلها الزمنيّة من حيث الإسناد والنقل حتّى وصلت إلينا محلولةً مشاكلها ، معروفةً الصحيح منها من الدخيل ، فعلينا أن نسبر القرائن الموجودة في كلّ واحد من مؤلّفات أصحابنا وأن نستخرج منهجية الأخذ في الكتب الحديثيّة والمصادر التي اعتمدوا عليها ، وإنّه لجدير بالباحثين في علوم الشريعة أن يعطوا مزيداً من العناية لهذا البحث ويعيّنوا من خلال ذلك المصادر المأخوذة منها أخبار كلّ كتاب حتّى يميّزوا قيمته العلميّة ، ولا يخفى علينا ثمرات هذا البحث وأهمّيّته لكي نعالج به قيمة تراثنا العلمي.

الراوندي وقصص الأنبياء وما روى فيه من الأخبار :

وبعد كلّ هذا وذاك فنحن ـ فيما يلي ـ نتصدّى للبحث عن مصادر الشيخ الإمام والفقيه الشهير والمحدّث الخبير قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي (المتوفّى ٥٧٣ هـ) في كتابه قصص الأنبياء ، فنقول :

إنّه رحمه‌الله عاش في الفترة التي ابتدأ فيها التحوّل النقلي من الطبقة الأُولى إلى الطبقة الثانية وهما اللتان مَرّ بيانهما آنفاً ـ يعني رواية الأحاديث مع ذكر الطرق بدون التصريح بأسماء الكتب ، والرواية مع التصريح وذكر الطرق في أوّل الكتاب أو أثنائه ـ وذلك أنّه روى الأخبار والأحاديث الواردة في هذا الكتاب مسندةً من دون أن يصرّح بأسماء مصادرها ذاكراً طرقه في أوّل أكثر

__________________

والشيخ البهائي محمّد بن الحسين العاملي (المتوفّى ١٠٣١ هـ) والعلاّمة محمّد باقر المجلسي (المتوفّى ١١١٠ هـ) والمحدّث الميرزا حسين النوري (المتوفّى ١٣٢٠هـ) ، وقد يعدّ هؤلاء الأعلام حلقات اتّصال السند إلى قدمائنا رضوان الله عليهم أجمعين ، واتّصلت رواية المتأخرين في سلسلة الأسانيد إلى هؤلاء الأعاظم.

 

١٦

فصول الكتاب ، وعليه فإنّه نهج في هذا الكتاب بين هذين المنهجين المذكورين لا على نهج واحد ، ولكنّه يمكننا أن نستعلم مصادره من وجود القرائن المتوفّرة الموجودة ضمن كتابه وخارجه ، وذلك أنّه إن كان المصدر المحتمل موجوداً أمكن إثبات ذلك أو نفيه بالمقايسة إلى ذاك المصدر ومن مقارنة أحاديثه بأحاديث الكتاب ، فقد نثبت ذلك عن طريق اتّحاد المباحث والمطالب أو ترتيبها أو اتّحاد الألفاظ في النقل أو قرائن أُخرى على الأخذ ، أو عدمها على عدمه ، ولم نجد لهذا القسم من مصادر الراوندي في هذا الكتاب إلاّ مصدراً واحداً وهو كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى لأمين الإسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي (المتوفّى ٥٤٨ هـ) والمعروف كونه من مشايخ القطب(١) ؛ فإنّ القطب نقل غالب الباب العشرين ـ وهو آخر أبواب القصص ـ من هذا الكتاب ، وفيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى. ومن اللازم أن نقول : إنّ جميع ما روي من الكتب المذكورة في الباب العشرين ـ بل جزء يسير من الباب التاسع عشر ـ فهو بواسطة كتاب إعلام الورى؛ وذلك مثل كتاب تفسير القمّي وكمال الدين للصدوق وصحيحي البخاري ومسلم وغيرها ؛ فلا تظنّ أنّ روايته بدون الواسطة.

أمّا المصادر الأُخرى للقطب فليست موجودةً ، ولذلك أشكل الأمر علينا شيئاً ما ، ولكنّ القرائن تؤكّد لنا بعض احتمالات تسهّل تعيين مصادر القصص بل قد توصلنا إلى الاطمئنان بها ، فلنذكر في ما يلي ما جمعناه من القرائن والأمارات حول مصادر غير موجودة لكتاب القصص ، فنقول :

يستكشف بالملاحظة السريعة لكلّ من راجع هذا الكتاب أنّ القطب

__________________

(١) خاتمة مستدرك وسائل الشيعة ٣ : ٨٣ ، ونقل عنه في الرقم : ١٤٨ من كتاب قصص الأنبياء.

  

١٧

أخذ جلّ أخبار كتابه هذا عن بعض كتب الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن موسى بن بابويه رحمه‌الله (المتوفّى ٣٨١ هـ) كما قال العلاّمة الأفندي في رياض العلماء بعد البحث في انتساب الكتاب إلى القطب : «وأخباره جلّها مأخوذة من كتب الصدوق»(١) ، وذلك للأدلّة والشواهد التاليّة :

الأوّل : إنّ القطب يروي جميع هذه الأخبار والأحاديث بالسند المتّصل عن طريق مشايخه إلى الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام مروراً بالشيخ الصدوق في أوّل كلّ حديث منها بعبارة : «بالإسناد عن ابن بابويه» «عن ابن بابويه» «بإسناده» «وبهذا الإسناد» يعني الإسناد السابق الذي يبدأ بالصدوق أو يبدأ بأحد مشايخ الصدوق مع العطف بالطرق السابقة بـ (و)(٢) ، كما نعلم أنّ الراوندي يروي جميع كتب الصدوق بل جميع كتب قدماء أصحابنا ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ على ضوء طرقه وأسانيده ممّا تسبّب بأن عدّه علماء الحديث من المشايخ المهمّين لرواية كتب القدماء ومن حلقات وَصْل المتأخّرين إلى المتقدّمين(٣).

الثاني : إنّ مجموعةً كبيرةً من تلك الأخبار موجودة في كتب الشيخ الصدوق بنفس السند والمتن(٤) أو باختصار في المتن بالسند

__________________

(١) رياض العلماء ٢ : ٤٢٨.

(٢) تورّق كتاب القصص فإنّه مملوء من هذا التعبير.

(٣) انظر كتاب الإجازات من بحار الأنوار ١٠٧ : ٤٨ و ٤٩ (إجازة الشيخ زين الدين علي بن حسان الرهمي لأبي علي الحسين بن خشرم الطائي في سنة ٦٠٠ هـ) ، و ١٠٧ : ١٥٤ (إجازة السيد محمّد بن الحسن بن أبي الرضا العلوي البغدادي للسيّد شمس الدين محمّد بن أحمد بن أبي المعالي العلوي) ، و ١٠٩ : ٣٤ (إجازة الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني للسيّد نجم الدين الحسيني).

(٤) انظر نماذج من ذلك في المجلّد الأوّل تحت الأرقام : ٢ ، ٥ ، ١٣ ، ١٤ ، ١٥ ،

  

١٨

الواحد(١) ، كما أنّ قسماً منها نقله العلماء عن الشيخ الصدوق أو عن أحد كتبه(٢). ومن اللازم أن يعلم أنّ عدّة من أخبار الكتاب المبدوّة بالصدوق لم ترد في أيّ من كتب الصدوق المطبوعة(٣).

هذا ، ومن المحتمل قوياً أنّ يكون الراوندي قد أخذ هذه الأخبار عن أحد كتب الصدوق وفقاً لما كان قد اختصرتها بعض كتب المتقدّمين وزاد فيما بينها بعض الأخبار والآراء الخاصّة به ، وذلك مثل كتابه فقه القرآن من كلام الملك الديّان الملخّص من كتاب التبيان لشيخ الطائفة الطوسي (المتوفّى ٤٦٠هـ)(٤) ، واللبّ واللباب المستخرج من كتاب فصول عبد الوهّاب(٥) ، وخلاصة التفاسير له أيضاً.

وممّا ذكرنا يقوى احتمالنا من أنّ القطب يروي أخبار كتابه القصص

__________________

٢٠ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٤٣ ، ٦٤ ، ٦٧ ، ٨١ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ، ٩٥ ، ١٠١ ، ١٠٤ ، ١٠٦ ، ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١١٦ ، ١١٩ ، ١٢٠ ، ١٢٧ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٤١ ، ١٥٠ ، ١٥٥ ، ١٦٣ ، ١٧٦ ، ١٩٧ ، ٢٠٠ ، ٢١٢ ، ٢٢٤ ، ٢٢٧ ، ٢٤٠ ، ٢٧١ ، ٢٧٣ ، ٢٧٥ ...

(١) انظر نماذج من ذلك في المجلّد الأوّل تحت الأرقام : ٣٨ ، ٤١ ، ٥١ ، ٨١ ، ١٦٠ ، ١٠٩ ، ٢١٣ ، ٢٤٢ ...

(٢) لاحظ استخراجات كتاب القصص.

(٣) لاحظ استخراجات كتاب القصص.

(٤) رياض العلماء ٢ : ٤٢٣ و ٤٢٤ ، الذريعة ١ : ٤١ / ٢٠٢ ، ١٦ : ٢٩٥ ، والكتاب مطبوع في مكتبة السيّد المرعشي في قم المقدّسة.

(٥) قال الأفندي في رياض العلماء ٢ : ٤٢١ : «له تلخيص فصول عبد الوهّاب في تفسير الآيات والروايات مع ضمّ الفوائد والأخبار من طرق الإماميّة». لاحظ : الذريعة ١٨ : ٢٩٢ / ١٥٩ ، أعيان الشيعة ٧ : ٢٤٠. وتوجد نسخة ناقصة منه في مكتبة آية الله البروجردي في قم المقدّسة برقم : ٤٠٩ ، وذكرت في فهرسها ٢ : ٢٥٩.

  

١٩

عن بعض كتب شيخنا أبي جعفر الصدوق رحمه‌الله ، وإذا رجعنا إلى قائمة أسامي كتب الصدوق وجدنا فيما بينها كتابين يناسبان موضوع كتاب قصص الأنبياء : الأنبياء والرسل وأحوالهم وتاريخهم ، والكتابان هما : كتاب النبوّة وكتاب جامع حجج الأنبياء(١).

واستناداً لما ذكرنا لابدّ أن يكون الكتاب المحتمل المروي عنه هو كتاب النبوّة لا كتاب جامع حجج الأنبياء ، وذلك :

أوّلاً : إنّي لم أعثر على من نقل عن كتاب جامع الحجج في الطبقات التالية بعد الصدوق(٢).

ثانياً : عدم توافق اسم الكتاب المذكور مع موضوع المرويّات الموجودة عندنا ، وذلك أنّها في القصص والتأريخ وما يظهر من اسم جامع الحجج أنّه في العقائد والبراهين على إثبات نبوّة الأنبياء.

ويؤكّد ما قلناه وجود قرائن متعدّدة توصلنا إلى القول بذلك اطمئناناً :

الأُولى : وجود كتاب النبوّة إلى عصر القطب الراوندي ـ بل ما بعده ـ وتداوله بين العلماء ، فقد نقل عنه الشيخ أمين الإسلام الطبرسي (المتوفّى ٥٤٨ هـ) في كتابه مجمع البيان روايات كثيرة(٣) ، وكذا ولده أبو نصر

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٨٩ / ١٠٤٩ ، الذريعة ٥ : ٤٨ / ١٩٣ و ٢٤ : ٤٠ / ٢٠٠ ، مكتبة ابن طاوس لاتان كلبرك : ٤٧٦ / ٤٧٤.

(٢) لا يقال : إنّ ابن طاوس (المتوفّى ٦٦٤ هـ) نقل في فرج المهموم : ٢٠٩ عن كتاب دلائل النبوّة للشيخ الصدوق فلعلّه هو كتاب جامع حجج الأنبياء فتبدّل الاسم بهذا وكلا الاسمين يشيران إلى موضوع واحد وهو الحجج والأدلّة لإثبات النبوّة ، لأنّا نقول : إنّ النصّ المذكور في الفرج موجود في كتاب قصص الأنبياء للراوندي [ص ٢٢٧ / ٢٧٠]تفصيلاً.

(٣) مجمع البيان ١ : ١٦٣ و ١٦٨ و ٣٧٥ ، ٤ : ٢٨١ و ٢٨٥ ، ٥ : ٤٢ و ٢٧٢ و ٢٨١

  

٢٠