الأصول العامّة للفقه المقارن - المقدمة

الأصول العامّة للفقه المقارن - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٦

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة المجمع

تتميز الاطروحات العلمية لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام باعتمادها منهج الدليل والبرهان في مختلف جوانب المعرفة والالزام بالحجة البالغة والبيان التام كما هو القران الكريم في أياته البيّنات ، وكما هو الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلامتأسست على يد الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمعلى أساس اعلانه الخالد بتلازم الثقلين المباركين كتاب الله وعترته الطاهرة عليهم‌السلام ووصيته لامته بهما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: «اني تركت فيكم ما إن اخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (١).

والذي يقلّب صفحات التاريخ الرائد لائمة اهل البيت عليهم‌السلام يجدهم مثلاً عليا في السير على هذا النهج القرآني والسيرة النبوية الشريفة حتى اذعين لحججهم وبياناتهم أئمة المذاهب الاسلامية الاخرى ، ونهلوا ما تيسر لهم من منهلهم القرآني الحق. ولعل ابرز تلك الحقب التليدة ماكان على يد الامامين الصادقين الباقر والصادق عليهما السلام حتى غدا أكثر من اربعة الاف عالم ومحدث معاصر للامام الصادق عليه السلام يقول : حدثني جعفر بن محمد الصادق. وما نجد اليوم من مساحة التوافق الواسعة في الطرح الاصولي والفقهي بين المذاهب الاسلامية المختلفة في

______________________

(١) صحيح الترمذي ٥ : ٦٦٢.

١
٢

والقطع العقلي ، فجاء خطوة موفقة على طريق اعادة منطق الحوار الموضوعي والبحث العلمي والاحتكام إلى الدليل والبرهان في بلورة الرؤى والاطروحات الاسلامية في كافة مجالات المعرفة وخصوصاً في المجال الفقهي والاصولي.

وقد رأى المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام اعادة طباعة هذا الكتاب القيّم محقّقاً ومستهلاً بمقدمة فيّاضة لسماحة الامين العالم للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام يكشف لنا فيها ، من خلال انتهاله واتصاله العلمي المباشر مع صاحب هذا السفر الجليل ، عن سعة افقه وعمق ابحاثه وشمول تحقيقاته وفي مقدمتها أبحاث الفقه والاصول المقارن ، وبهذا تأتي تلبيتنا للطلبات المتزايدة على هذا العطاء الثر في امصار المسلمين المترامية في اطراف المعمورة مساهمةً صادقةً منّا في تعميق هذا النهج الاسلامي الرشيد ، شعارنا في ذلك قوله تعالى: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر : ٢٩).

صدق الله العلي العظيم والحمدلله رب العالمين

المجمع العالمي لأهل البيت (ع)

المعاونية الثقافية

٣

محور مذهب اهل البيتعليهم‌السلام هو من بركات هذا النهج وعطاءات هؤلاء الأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

وتواصلت هذه المدرسة الاسلامية الكبرى في نهجها هذا وتراكمت فيها معطيات اجيال متوالية من العلماء والفقهاء والمحدثين حتى اصبحت اغنى مدرسة في تراثها وعطائها العلمي الاصيل ، خصوصاً في مجال الفقة والاصول ، ولو لاكيد اعداء الاسلام واعداء اهل البيت عليهم‌السلام لو جدنا ان مساحة التوافق تصل إلى حد التطابق الشمولي ، والزالت كل هذه الفوارق والخلافات التي عمل سلاطين الجور ووعاظهم على تأسيسها وتعميقها على اسس من الجهل المركب والدعوات الباطلة فأضرّت كثيراً في بناء الامة الواحدة ووحدة الكلمة على هدي القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، وأصبحت الشقة الوهمية بين المذاهب الاسلامية تتسع وتتبلور مكونة رؤى متعصبة يتبادل اصحابها التهم دون وعي وادراك. ولو عادوا إلى اوليات الاسلام ورشد العقل لو جدوا ان كل ذلك يمكن ان يتهاوى ويتلاشي امام الدليل القاطع والبرهان الساطع وفق منطق القرآن الكريم والسنّة الصحيحة.

ولقد زخرت ساحة الامة الراشدة بمبادرات علمية مسؤولة وتصديات رسالية واعية قام بها اساطين العلم من مختلف المذاهب الاسلامية وخصوصاً من علماء مدرسة اهل البيت عليهم‌السلام في مجال التأسيس العلمي للرؤية الاسلامية وتقليص حجم الاختلاف فيها ، ومنهم العلم الحجة السيد محمد تقي الحكيم في كتابه الفريد «الاصول العامة للفقة المقارن» ، الذي جاء كمدخل الى دراسة الفقه المقارن بين المذاهب الاسلامية ، مستعرضاً فيه ـ بروح موضوعية ولغة علمية رصينة ـ مختلف المدارس الفقهية الاسلامية مقوّماً لأدلتها وحججها ، ملتمساً في ذلك ثوابت التشريع الاسلامي في مقاييسه واُسسه الحاكمة وفق مدلول النص الاسلامي

٤

الكتاب المذكور في مجمله محاولة تقريبية فكرية فريدة يقل نظيرها بل يكاد ينعدم. وكم كنا نود لو اقتفى العلماء الآخرون أثرها وراحوا يتوسعون فيها ، الأمر الّذي لم يحدث بعد. لكننا سوف نقتبس نماذج من بحوثه لنتبين ما ذكرناه من التوازن بين الأصالة والانتفاح ونعرف آثاره التقريبية من خلال هذه النماذج.

أولا : في مطلع البحوث يفصح عن هدفه من هذه البحوث حينما يذكر فوائد الفقه المقارن وتتلخص في الأمور التالية :

أ ـ محاولة البلوغ إلى واقع الفقه الإسلامي.

ب ـ العمل على تطوير الدراسات الفقهية والأصولية.

ج ـ إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية.

د ـ تقريب شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرّقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر ، مما ترك المجال مفتوحا أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بما لا يؤمنون به (١).

وهكذا نلاحظ روحا تقريبية عالية هدفها الانفتاح على مختلف الآراء ، والمنطقية في العرض ، والعلمية في البحث والاستدلال ، والسعي لتضييق الخلاف بين المسلمين. ويتجلى هذا المعنى أيضا حين يتحدث عن أصول المقارنة ، فيركز على الروح الموضوعية «ونقصد منها هنا أن يكون المقارن مهيئا من وجهة نفسية للتحلل من تأثير رواسبه والخضوع لما تدعو إليه الحجة عند المقارنة سواء وافق ما تدعو إليه ما يملكه من مسبقات أم خالفها» ويضيف «فإذا كان بهذا المستوى من

__________________

(١) أصول الفقه المقارن ١٠.

٥

مقدمة

الامين العالم للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام

لقد كانت لحظات تتلمذي على آية الله السيد محمد تقي الحكيم من أمتع أيام حياتي العلمية حيث توسمت في سماحته الاستاذ الوقور ، والعالم الكف ء ، والقدرة المطمئنة في الرد والاقناع ، والمثابرة الدؤوب في التحقيق ، والوعي الاجتماعي الفريد.

وأستطيع أن أؤكد أنه كان يشكل الي جانب إخوته من العلماء كالمرحوم العالم المظفر والمرحوم الشهيد العظيم الصدر أحد أعمدة النهضة العلمية والاجتماعية للحوزة العلمية الرائدة في النجف الاشرف.

ولحسن الحظ فقد وفقت للاستماع والاستفادة منه من خلال بحوثه في كلية الفقه كما وفقني الله تعالى للحضورة في بحثه الاكاديمي (الخارج) وكان من أمتع البحوث وأعمقها.

والذي أود التركيز عليه هنا هو جانب التعادل العلمي الذي امتاز به وأعني به : تحقيق التوازن بين الأصالة الاصولية والفقهية والعقيدية لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام والانفتاح على آراء المذاهب الأخرى. وسأقتصر في هذا المقال على الجانب الفكري الاصولي ومن خلال كتاب السيد الاستاذ في «الاصول العامة للفقه المقارن» فقط.

٦

النتائج.

ثالثا : موضوع التحريف : وشبهة التحرف في القرآن الكريم تعد من أكبر الشبهات التي تثار لا في وجه حجّيّة الظواهر القرآنية فحسب بل تستعمل كأداة ضخمة لضرب المذاهب الإمامي باعتباره يقول بها وكتب الهمز واللمز هذه تزخر بتوجيه الاتهام والكلام المطول ضده.

ومن هنا نجد السيد الحكيم (حفظه الله) يولي أكبر الاهتمام لهذه الشبهة ويعالجها أروع علاج ، فيبحث أولا عن منشئها في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث ، وما ورد في أصول الكافي من روايات مؤكدا على أن المنشأ إنما هو في كتب الفريقين معا ، ومعقبا على ما قاله الشيخ أبو زهرة من أن ما جاء في الكافي هي وثيقة تكفير المرحوم الكليني ، مؤكدا أن أسلوب التكفير أسلوب مرفوض ، خصوصا إذا كان من قبل العلماء ، موضحا أن مجرد التشكيك في هذا الموضوع لا يعد تشكيكا في ضرورة من ضروريات الدين حتى يؤدي إلى الكفر ، على أن مجرد رواية أحاديث النقص وعدم التعقيب عليها لا يدل على الوثوق بصدورها ، بل لعل رواية الكليني لها في النوادر دليل على إنكارها بعد ما جاء في الرواية المرفوعة عنهم عليهم‌السلام من قوله عليه‌السلام : «ودع الشاذ النادر».

على أن الكليني نفسه روى الروايات العلاجية والتي تأمر بعرض الروايات على كتاب الله عزوجل «فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه» (١) وروايات النقص لا تنسجم مطلقا مع الآية الشريفة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢).

وهكذا يستمر في رد الشبهة منافحا ومدافعا بقوة يقول :

__________________

(١) أصول الكافي ، هامش مرآة العقول : ١ ٦.

(٢) سورة الحجر : الآية ٩.

٧

القدرة على التحكم بعواطفه ... كان أهلا لأن يخوض الحديث» (١).

ثانيا : دراسة أسباب الخلاف. وهي الأصل الثاني من أصول المقارنة.

فبعد أن أرجع ابن رشد في مقدمة كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» (٢) إلى الصغريات ، أي إلى الاختلاف في تنقيح الصغريات لحجية الظهور (أعني ظهور الكتاب والسنة) أو لحجية القياس ، يؤكد السيد الحكيم أن الخلاف في الكبريات أكبر أثرا من الخلاف في الصغريات ، ويقصد به الخلاف في أصول الفقه ليكشف عن هدفه العام في الكتاب ، وهو تضييق شقة هذا الخلاف ، تحقيقا لما ذكره من قبل في التقريب بين المذاهب الفقهية.

وإذا كان لنا أن نضيف شيئا هنا قلنا إن هناك منشأ آخر لاختلاف نتائج البحوث الفقهية وهو الاختلاف في ترتيب الأدلة وكيفية الرجوع إليها ، إذ يجد الباحث في بطون الكتب الفقهية الاختلاف الكثير بين الفقهاء مع أن الواقع يقتضي الترتيب بينها ، وهذه النقطة بالضبط درسها السيد الحكيم في موضع آخر بعد الحديث عن مصطلحي «الورود والحكومة» وهما مصطلحان يختص بهما الفقه الإمامي دون غيره وعلى ضوئهما يتم ترتيب الأدلة على النحو التالي :

أ ـ أدلة الطرق والأمارات (أدلة الواقع).

ب ـ أدلة الواقع التنزيلي كالاستصحاب.

ج ـ أدلة الوظيفة الشرعية.

د ـ أدلة الوظيفة العقلية (٣).

ومتى ضمنّا وحدة الترتيب في الرجوع إلى الأدلة ضمنّا التقارب الكبير في

__________________

(١) ن ، م : ١٦.

(٢) بداية المجتهد : ١ ٥ ٦.

(٣) أصول الفقه المقارن : ٨٥ ٨٦.

٨

وهذا الموضوع أيضا يتصوره الكثيرون العائق الأكبر أمام تقارب المسلمين باعتبار أنه يعني إيجاد منبع آخر للشريعة في مقابل السنة النبوية وحينئذ فمن الطبيعي أن يؤدي اختلاف المنابع إلى اختلاف النتائج.

إلاّ أن السيد الحكيم بمقتضى طول باعه يثبت العكس ويؤكد أن الإيمان بسنة أهل البيت عليهم‌السلام يعني تحكيم السنة النبوية وتجليتها في المسير ، مما يقلب الاستنتاج الآنف رأسا على عقب.

فقبل كل شيء يشير إلى الحوار الّذي تم بين المرحوم السيد شرف الدين والمرحوم الشيخ البشري حيث تم دفع الدور المتصور والقائل بان كلام الأئمة لا يشكل حجة على غيرهم إلاّ إذا ثبتت حجيته وانه من السنة وكونه من السنة أول الكلام وقد دفع هذه الشبهة بان ثبوت كونهم من الرّواة الموثوقين يرفع شبهة الدور.

ثم راح يستدل على عصمتهم وحجية أقوالهم من الكتاب كما جاء في آية التطهير ومن السنة كما جاء في حديث الثقلين ويدفع كل الشبهات المطروحة في البين بأقوى الحجج والبراهين بما لا مزيد عليه أحيانا.

وينتهي إلى أن حجية سنة أهل البيت عليهم‌السلام انما هو في الواقع تحكيم للسنة النبوية وتطبيق لأوامرها خصوصا وان السنة النبوية نفسها لم تجمع على عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيها الناسخ والمنسوخ ، والعام والخاصّ ، والمطلق والمعتبر ، ثم ان المشكلة تتعقد بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند تكثر الفتوح وانتشار الوضع.

يقول (حفظه الله) (وما دمنا نعلم ان السنة لم تدون على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزه عن التفريط برسالته فلا بدّ ان نفترض جعل مرجع تحدد لديه السنة بكل خصائصها ، وبهذا تتضح أهمية حديث الثقلين وقيمة إرجاع الأمة إلى أهل البيت عليهم‌السلام فيه لأخذ الأحكام عنهم كما تتضح أسرار تأكيده على

٩

«فرواية هذه الأحاديث في الشواذ النوادر من كتابه ، وتعارضها في مروياته ، ولزوم طرحها بالنسبة إلى منهجه الّذي رسمه ، وعدم التلازم بين الإيمان بالصدور لو آمن بصدورها وبين الإيمان بمضمونها ، كل ذلك مما يوجب القطع بطرحه لهذه الأخبار وإيمانه بعدم التحريف» (١).

وبعد أن يكمل دفاعه عن المرحوم الكليني وهو من أجلّة العلماء والغيارى على الدين يعود إلى نفس الشبهة ليؤكد أنها واردة على كتاب الصحاح والمسانيد ومستدرك الحاكم وكنز العمال وأمثالها.

وإن رفع هذه الشبهة بمسألة نسخ التلاوة لا يجدي نفعا ، بل إن بعض المرويات لا ينسجم حتى مع نسخ التلاوة.

وهنا يؤكد الأستاذ الحكيم أن نقل الروايات هي من طبيعة أي عمل موسوعي ، وإن على المجتهدين بعد ذلك أن يفحصوا ويمحّصوا.

ثم يركز على نفس الشبهة معتبرا إياها شبهة في مقابل البديهة وأن أخبار التحريف مع تضارب مفاهيمها لا تزيد على كونها أخبار آحاد وهي لا تنهض على الوقوف أمام التواتر الموجب للقطع بأن هذا القرآن الّذي بأيدينا هو القرآن الّذي نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن يزاد أن ينقص فيه. وهكذا يمضي في الاستدلال القوي القويم لينقل بعد ذلك أقوال العلماء كالشيخ الطوسي رحمة الله والسيد المرتضى مما يؤكد أنها شبهة لا غير.

وهكذا نجده (حفظه الله) يبذل قصارى جهده وعلمه ليرفع عائقا كبيرا أمام وحدة المسلمين ، وتقارب آرائهم وتحقيق التقارب بينها.

رابعا : سنة أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

(١) أصول الفقه المقارن : ٢٠٣.

١٠

أ ـ القياس :

وقد انتهى إلى ان تعريفه هو (مساواة فرع لأصله في علة حكمه الشرعي) وقد أكد ان هذا التعريف ليس محل الاعتراض المعروف على القياس وانما ينصب الاعتراض على تعريف آخر تم هجره ، وهو (التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل).

وقد أكد على انهم أضافوا شروطا في تعريف العلة كأن تكون وصفا ظاهرا ، ومنضبطا ومناسبا وان لا يكون الوصف قاصرا على الأصل ، وبهذه الشروط قد تضيق شقة الخلاف.

ومن هنا فهو لا يصدر حكمه السريع على القياس وانما يؤكد على ان الحديث (حول حجية القياس متشعب جدا بتشعب أقوالهم وتباينها وطبيعة البحث تدعونا إلى ان نقف منها موقفا لا يخلو من صبر وأناة) (١).

وهو يؤكد على ان المنع عن العمل انما ينصب على قسم من أقسام القياس لا غير ، فان المسالك لمعرفة العلة ان كانت مقطوعة أو قام على اعتبارها دليل قطعي فلا شك في الحجية ، اما إذا كانت المسالك غير مقطوعة فهي التي يخالفها الشيعة ولم تثبت الأدلة المطروحة عليها للنقد ، وقد ناقشها دليلا دليلا لينتهي إلى أن جميع ما ذكره مثبتو القياس من الأدلة لا تنهض بإثبات الحجية له فنبقى نحن والشك في حجيته ، والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها.

ب ـ الاستحسان :

والبحث هنا يكاد يكون من أمتع البحوث التقريبية ، إذ يثبت فيه الأستاذ ان

__________________

(١) أصول الفقه المقارن : ص ٣٠٦.

١١

الاقتداء بهم وجعلهم (سفن النجاة) تارة و (أمانا للأمة) أخرى و (باب حطة) ثالثة وهكذا (١).

ومما ينبغي ذكره هنا لتأكيد ما ذكره السيد الحكيم هو ان الرجوع إلى سنة أهل البيت عليهم‌السلام هو في الواقع رجوع إلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم تلامذة الرسول والمحكمون لشرعته وحديثهم حديثه ونقلهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحينئذ يعود هذا الفارق الموهوم جسرا للتفاهم والرجوع إلى الواقع والتقارب بين المسلمين.

ولا أدل على ذلك من سعة المسامحة المشتركة بين الفقه الإمامي والفقه السني حتى تصل إلى أكثر من ٩٠ بالمائة من الفقه بمجموعه ، بل ان الروايات المشتركة بين الفريقين تشكل أروع صورة للتقارب بين المضامين بحيث تعود الروايات المختلفة قليلة الحجم وضعيفة الأثر خصوصا على الصعيد الفقهي ولهذا مجال مطول من الحديث.

خامسا : حول الأصول المختلف فيها (القياس ...) ..

ومن موارد الاختلاف الكبرى ، الاختلاف حول القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وأمثالها وقد تعرض لها السيد الأستاذ بكل حكمة وموضوعية ودرسها بكل عمق ، واستطاع من خلال دراسته ان يثبت حقيقتين كبيرتين :

الأولى : أصالة الموقف الإمامي.

الثانية : ان الهوة بين الموقفين ليست بهذا البعد الّذي يتصوره البعض بل قد تضيق هذه الهوة إلى الحد الّذي يعود النزاع فيها لفظيا ولو على مستوى بعض الاتجاهات.

وهذا ما سنلاحظه فيما يلي :

__________________

(١) الأصول الفقه المقارن : ١٦٨.

١٢

واما على تعريفها الآخر فينحصر إدراكها بالعقل والّذي ينبغي ان يقال عنها انها تختلف من حيث الحجية باختلاف ذلك الإدراك .... وبهذا يتضح ان الشيعة لا يقولون بالمصالح المرسلة إلاّ ما رجع منها إلى العقل على سبيل الجزم (١).

وهكذا نجد على هذا المستوى من البحث ان التلاقي بين الفريقين يتم في هذه المرحلة أيضا وان كان الاختلاف يتحقق أحيانا في تشخيص المصاديق.

والّذي أود ان أضيفه هنا هو أن العمل بالمصالح المرسلة امر طبيعي في حدوده الطبيعية وان الّذي يتم تطبيقه في الدولة الإسلامية مثال على ذلك ، ذلك ان المصالح المنظورة هنا هي المصالح العامة أو المصالح التي تعود إلى عموم الافراد وهي التي ينظر إليها القائلون بالمصلحة المرسلة ، ومع ذلك فإن الأمر يعود إلى الحاكم الشرعي الولي الّذي أوكلت إليه رعاية مصالح الأمة ، والحاكم بدوره عادة ما يشكل مجالس لتشخيص المصالح المذكورة.

والفرق بين هذا وما يبحث عنه في بحث المصالح المرسلة يتلخص في امرين :

الأول : إيكال الأمر إلى الولي وأهل الخبرة العملية الذين يستشيرهم وعدم الاقتصار على النظرة الفردية لهذا الفقيه أو ذاك.

الثاني : ان الأحكام القائمة على المصلحة تبقى موقتة بمقدار قيام المصلحة ولا تشكل فتوى دائمة كما هو الحال لدى الفقهاء عادة.

وقد نصّ الدستور الإسلامي على إيجاد مجلس لتشخيص المصلحة يقوم على حل الخلاف بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور كما يقوم ابتداء بتشخيص المصالح العامة وتقديم المشورة للقائد الولي في مجال إدارة شئون الأمة.

__________________

(١) أصول الفقه المقارن : ٤٨٩.

١٣

الخلاف فيه يكاد ينعدم فبعد استعراض تعاريفه يصل إلى انها ترجع إلى أصول أربعة هي :

الأول : ان الاستحسان هو العمل بأقوى الدليلين ولا خلاف فيه بين المذاهب.

الثاني : ان الاستحسان هو العمل بما يقتضيه العرف وحينئذ يكون من صغريات مسألة العرف ، وهو لا يكون حجة إلاّ إذا امتد إلى عصر المعصوم وأقر من قبله وحينئذ يكون من تطبيقات كبرى حجية السنة.

الثالث : الاستحسان الّذي يرجع إلى الاستصلاح ويأخذ حينئذ حكمه.

الرابع : الاستحسان كحالة نفسية لبعض المجتهدين ، وحجيته مقصورة على من يدعون القطع ولا يشكل قاعدة محددة وأصلا كسائر الأصول وقد ناقش الأدلة المذكورة لحجية هذا القسم الرابع وأبطلها جميعا.

ج ـ المصالح المرسلة :

وقد اختلف في حجيتها ، فذهب مالك وأحمد إلى ان الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، وغالى فيه الطوفي فاعتبره دليلا أساسيا في السياسات الدنيوية والمعاملات وقدّمه على ما يعارضه من النصوص عند تعذر الجمع ، بينما ذهب الشافعي إلى ان من استصلح فقد شرع كمن استحسن والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى (١).

وبعد استعراض الأقوال والأدلة يخلص الأستاذ إلى نتيجة مهمة هي :

(ان تعاريف المصالح المرسلة مختلفة ، فبعضها ينص على استفادة المصلحة من النصوص والقواعد العامة ... ومقتضى هذا النوع من التعاريف إلحاقها بالسنة ...

__________________

(١) مصادر التشريع لخلاف : ص ٨١.

١٤

المجالين الآخرين وبهذا التوضيح لايبقى مجال للخلاف المعتد به.

هذه بعض الامثلة سقناها من ما كتبه السيد الاستاذ الحكيم لنبرز الدور الرائع الذي لعبته بحوثه في مسألة التقريب بين المذاهب ، وهناك امثلة اخرى ـ سواء في هذا الكتاب أو في غيره ـ تؤكد هذه الحقيقة.

والواقع : ان فكرة التقريب بين المذاهب وان كانت قد طرحت مؤخر أكشعار اجتماعي لتحقيق قدر جيد من الوحدة الاسلامية ، إلّا انه في الواقع يشكل واجباً شرعياً على كل الفقهاء التقصّي الواقع والاصول إلى الحقيقة بروح موضوعية والتخلص من كثير من سوء الفهم ، والتهم التي تطلق على عواهنها لتضعيف هذا او ذاك او حتى لتكفير بعض المسلمين وهو امر خطير.

١٥

د ـ فتح الذرائع وسدها :

والذريعة : هي (الوسيلة المفضية إلى الأحكام الخمسة) كما ينتهي إليه الأستاذ وهذا البحث ليس من مختصات مذهب دون آخر.

فالفقه الإمامي يبحث عن مقدمة الواجب ومقدمة الحرام ورغم الاختلاف في النتائج فإن البحث لا يعد غريبا على أي مذهب إسلامي ، ولذا يقول : «والخلاصة ان جلّ من تعرفنا عليهم من الأصوليين شيعة وسنة باستثناء بعض محققيهم من المتأخرين هم من القائلين بفتح الذرائع وسدها وان لم يتفقوا في حدود ما يأخذون منها وما يتركون» (١) وان كان السيد الأستاذ يأخذ عليهم اعتبار ذلك أصلا في مقابل بقية الأصول مع انها لا تعود كونها من صغريات السنة أو العقل.

هـ ـ العرف :

عند ما يتم تشخيص مجالات العرف وهي :

١ ـ ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نصّ فيه مثل الاستصناع ، بل ما يستكشف منه أصل من أصول الفقه كالاستصحاب.

٢ ـ ما يرجع إليه لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع للعرف تحديدها كالإسراف.

٣ ـ ما يستكشف منه مراد المتكلمين.

عند ما يتم هذا التشخيص يتوضح ان العرف لا يشكل أصلا من الأصول لأنه يرجع إلى السنة اما بالإقرار كما في المجال الأول أو بتشخيص المصاديق كما في

__________________

(١) ن. م : ص ٤١٥.

١٦

على يد سماحة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سرّه وسماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي قدس سرّه.

كما حضر دروس البحث الخارج في الأصول على يد سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدس سرّه وسماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي قدس سرّه وسماحة آية الله العظمى الميرزا حسن البجنوردي قدس سرّه.

دوره العلمي :

عند ما شرع بتدريس السطوح العالية في الفقه والأصول ، تسابق طلاب العلم في الحوزة العلمية في النجف الأشرف لحضورها لسنوات عدة.

بعدها بدأ بحثه الخارج في الفقه على متن كتاب (المكاسب) للشيخ الأنصاري قدس سرّه ، وفي أصول الفقه على متن كتاب (الكفاية) للآخوند في حوزة النجف الأشرف.

وامتاز على نظرائه من أساتذة الحوزة العلمية بتدريسه طلاب البحث الخارج علم أصول الفقه وعلم القواعد الفقهية مقارنة بآراء أئمة المذاهب الإسلامية الأخرى.

كما امتاز بجمعه بين النهج التقليدي والنهج الحديث في التدريس ، فدرّس في «كلية منتدى النشر» في عام ١٩٤٤ م النحو والصرف والبلاغة والأدب والتاريخ والفقه والأصول وعلم النّفس وعلم الاجتماع. كما درّس علوم أصول الفقه المقارن ، والقواعد الفقهية المقارنة ، وفقه اللغة والتاريخ ، والأدب وتاريخه ، وعلم النّفس ، وعلم الاجتماع في كلية الفقه في النجف الأشرف. ودرّس أصول الفقه المقارن في معهد الدراسات الإسلامية العليا بجامعة بغداد عام ١٩٦٤ م ولعدة سنوات.

١٧

السيد محمد تقي الحكيم

ترجمة في سطور

هو العلم العلاّمة والفقيه المبدع والأستاذ المتضلع آية الله السيد محمد تقي الحكيم (دام ظله الشريف).

ولد في مدينة العلم والاجتهاد النجف الأشرف بالعراق عام ١٩٢٤ م ، وطوي مراحل حياته العلمية فيها ولا زال إلى يومنا هذا.

ترعرع منذ أيام تفتّق ذهنه وتفتّح وعيه في أجواء العلم والعلماء ، ونشأ نشأة علمية بتوجيه من والده قدس سرّه واحتضان أعلام أسرته له. ودرس المقدمات والسطوح (١) على كبار علماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف آنذاك ، فأخذ علوم العربية والمنطق على يد أخيه آية الله السيد محمد حسين الحكيم قدس سرّه وسماحة الشيخ نوري الجزائري ، والبلاغة على يد العلمين الجليلين سماحة السيد صادق السيد ياسين قدس سرّه وسماحة الشيخ علي ثامر قدس سرّه ، والفقه على يد سماحة آية الله السيد يوسف الحكيم ، وسماحة آية الله السيد حسن الحكيم قدس سرّه ، وأصول الفقه على يد سماحة آية الله السيد محمد علي الحكيم ، والفلسفة والتاريخ على يد سماحة آية الله الشيخ محمد رضا المظفر قدس سرّه.

وبعد ان أتقن المقدمات والسطوح العلمية حضر دروس الخارج (٢) في الفقه

__________________

(١) المقدمات والسطوح مصطلح خاص بالحوزات العلمية يناظر مستوى الدراسة الاعداية والجامعية الحديثة.

(٢) الدرس الخارج مصطلح خاص بالحوزات العلمية يناظر مستوى الدراسات العليا في الجامعات الحديثة.

١٨

١ ـ المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد بالقاهرة عام ١٩٦٤ م.

٢ ـ المؤتمر المشترك بين مجمعي اللغة العربية في القاهرة والمجمع العلمي العراقي ، المنعقد ببغداد عام ١٩٦٥ م.

٣ ـ المؤتمر المشترك بين مجمعي اللغة العربية في القاهرة والمجمع العلمي العراقي المنعقد بمصر عام ١٩٦٧ م.

٤ ـ مؤتمر دراسة أحرف الطباعة العربية ، الّذي دعت إليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، المنعقد بالقاهرة عام ١٩٧١ م.

٥ ـ ندوة المصطلحات القانونية المنعقدة بدعوة من اتحاد المجامع العربية في دمشق عام ١٩٧٢ م.

٦ ـ المؤتمر التأسيسي لجمعية الجامعات الإسلامية المنعقد في مدينة فاس المغربية ، بدعوة من جامعة القرويين عام ١٩٧٤ م.

٧ ـ ندوة معالجة تيسير النحو العربي المنعقدة في العاصمة الجزائرية عام ١٩٧٥ م.

مؤلفاته المطبوعة :

١ ـ مالك الأشتر مطبعة العربي النجف الأشرف ، عام ١٩٤٦ م.

٢ ـ شاعر العقيدة مطبعة دار الحديث بغداد ، عام ١٣٦٩ ه‍.

٣ ـ الأصول العامة للفقه المقارن دار الأندلس بيروت ، عام ١٩٦٣ م.

٤ ـ الزواج المؤقت ودوره في حل مشكلات الجنس دار الأندلس بيروت ، عام ١٩٦٣ م.

٥ ـ الوضع تحديده ، تقسيماته ، مصادر العلم به مطبعة العاني بغداد ، عام ١٣٨٥ ه‍.

١٩

نشاطاته العلمية والثقافية الأخرى :

أسس مع عدد من الاعلام «جمعية منتدى النشر» في النجف الأشرف ، وواكب نشاطاتها لأكثر من ربع قرن ودرّس في كلّيتها.

وأسس مع عدد من المفكرين «المجمع الثقافي لمنتدى النشر» عام ١٩٤٣ م ، وساهم في نشاطاته الثقافية المختلفة.

وأسس مع عدد من العلماء «كلية الفقه» في النجف الأشرف عام ١٩٥٨ م ، ودرّس فيها ، وانتخب عميدا لها عام ١٩٦٥ م ، وشغل هذا المنصب حتى عام ١٩٧٠ م.

وقد انتخبته بعض الجامعات والمجامع العلمية لمناصب ومهمات علمية فيها ، منها :

منحته جامعة بغداد درجة (الأستاذية) عام ١٩٦٤ م ، بقرار من مجلس الجامعة.

أشرف على العديد من الرسائل الجامعية لطلبة الدراسات العليا ، وناقش مجموعة من رسائل الماجستير والدكتوراه ، كما ترأس بعضا من لجان المناقشة.

اختير خبيرا عليما أكاديميا لترقية بعض حملة الشهادات العليا لرتبة جامعية أعلى.

انتخب بالإجماع عضوا عاملا بالمجمع العلمي العراقي عام ١٩٦٤ م ، ومثّل المجمع في عدد من المؤتمرات العلمية.

انتخب عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام ١٩٦٧ م.

انتخب عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق عام ١٩٧٣ م.

انتخب عضوا في مجمع الحضارة الإسلامية الأردني عام ١٩٨١ م.

دعي لحضور العديد من المؤتمرات والندوات العلمية في البلاد العربية وغيرها ، وشارك في جملة منها ، من ذلك :

٢٠