بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

١
٢

الإهداء

الى الذين يتمسّكون بالآية الكريمة : الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.

الى الذين يبحثون عن الحقيقة فيدركونها قبل فوات الأوان.

الى الذين يعرفون الرجال في الحق ، ولا يعرفون الحق في الرجال ولو كانوا آباءهم او أجدادهم أو أبناء عشيرتهم ، أو علماء بلدهم أو مدينتهم أو قريتهم.

الى الذين لا يقدّسون الرجال مهما كانت منزلتهم ، سوى الله تعالى والأنبياء والكرام ، وفي مقدّمتهم رسولنا الاكرم (عليه افضل الصلاة والسلام).

الى الذين لا يتّخذون كبراءهم أرباباً من دون الله.

أهدي هذا الكتاب

٣
٤

تمهيد

منذ أن تفتحت عيوننا على الحياة ، ونحن نرى أمّتنا الاسلامية المترامية الأطراف ، وهي مهيضة الجناح ... تتداعى عليها الأمم وهي مشلولة ... مستكينة ... عاجزة عن ردع الغزاة والمحتلين. وكيف تواجه المعتدين وهي جريحة .. مطعونة .. تنزف باستمرار .. لا تقوى على النهوض ، وقد أخذ الإعياء منها كلّ مأخذ ، ومزّقتها الخلافات كلّ ممزّق؟ وليسنا نبالغ إذا قلنا إن أمّتنا الاسلامية تحتضر منذ أمد بعيد .. لكن طال هذا الإحتضار لحكمة إلهية تستدعي إمهال هذه الأمّة المنكوبة ، عسى أن تصحو من سباتها ، وتتحسس مواضع الداء ومواطن الخطأ في مسيرتها ، لتؤوب الى رشدها ، وتعود الى وعيها من جديد ، وتنهض من كبوتها ، وتتلمس الطريق الذي يؤدي إلى قيادة الأمم الأخرى كما أراد الله تعالى لها ، ورسمه القرآن الكريم.

وقبل أن نسترد وعينا من هذه المتاهات المتضاربة ، نسائل أنفسنا : هل بمقدور إنسان .. مهما كان هذا الانسان ، أن يضع يده على موطن الجرح الغائر ، ويكتشف الدواء والعلاج الناجح قبل فوات الأوان؟ أم انّ المسؤولية تتطلب حشداً هائلاً من الرجال ، من مختلف التخصصات الدينية والفقهية ، لتشخيص أسباب الداء ، ومن ثم اكتشاف الدواء لجسد الأمّة المُنهار.

وحين نفكّر برهة من الزمن ، نتوصّل الى نتيجة حاسمة مفادها بأنّ أي مسلم مهما كانت منزلته العلمية أو الدينية أو الثقافية ، إذا جدّ في البحث والتحقيق ، سيتوصّل الى

٥

سُبل الخلاص لهذه الأمّة التي جعلها الله خير أمّة أخرجت للناس ، لولا انحرافها عن الخط الذي رسمه الله لها ، فانزلقت في مهاوي الاختلاف والفرقة والشقاق حتى تفتتت إلى مذاهب وطوائف متناحرة ، يأكل بعضها من لحم بعض ، ويعتدي بعضها على أتباع بعض ، وآل بها الحال الى التناحر والتقاتل والإتهام بالمروق من الدين ، وهي كلّها تستظل تحت راية الاسلام ، وتزعم أنها تستوحي نهجها وسلوكها من القرآن الكريم والسُنّة النبوية المطهّرة والسير على هدْي النبوة.

ثم إنّ القرآن الكريم لم يشرْ إلى هذه المذاهب والطوائف والفِرَق من قريب أو بعيد ، وإنّما حصر الدين بعبارة الاسلام فحسب ، حيث قال تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ (١) ولم يقل : ان الدين عند الله ، مذهب أهل السُنّة والجماعة ، أو المذهب الشيعي أو المذهب السلفي وما الى ذلك من المذاهب والفرق والنِحَل!.

فمن أين جاءت هذه التسميات لهذه المذاهب والطوائف التي كانت كثيرة جداً وتقلّصت لتصبح خمساً أو ستاً أو سبعاً على أكثر تقدير؟ ومن أوعز لأصحابها ومؤسسيها بفرض تقليدها على الأتْباع والعوام دون غيرها من المذاهب والطوائف؟ وما الدليل على مشروعية هذه ال مذاهب وانّها تمثّل الحق كما يريده الله ورسوله الكريم؟

وقبل الدخول في صلب بحثنا في تفاصيله الدقيقة ، وتنقيب التأريخ ، وتقليب صفحاته المطوية بدقة ، سعياً لكشف الحقيقة المجرّدة والناصعة التي بقيت خافية على الذين نشأوا مقلّدين للآباء والأجداد دون أن يبذلوا جهداً للتحرّي عن الحق من خلال تصفّح المجريات التأريخية وتراكماتها الّتي أوصلتنا الى حيث العجز والخَوَر والضعف الى حد لا يمكننا النهوض من دون الاعتماد على الغير من أتْباع قوى الضلال والاستكبار الحاقدة

__________________

(١) آل عمران ١٩.

٦

على ديننا ومُثُلنا ومبادئنا وقيمنا المقدسة.

تنبغي الاشارة ـ ولو بصورة عابرة ـ الى نقاط مهمة تستدعي إلقاء الضوء عليها كل تتضح معالم موضوعنا الذي نخوض فيه ، باعتباره يمثل نوعاً من المجازفة والخطورة ، كالذي يسير على أسلاك شائكة وهو حافي القدمين ، والسبب أن هناك نوعاً من المُحرّمات والخطوط الحُمر التي يحذّرون المسلمين من اختراقها والتوغّل فيها خشية أن تمسّ أو تزيل هالات مصطنعة حول شخصيات ، تحوّلت بفعل تلك الهالات إلى رموز مقدّسة عند البعض من مختلف المذاهب الاسلامية.

لكن الحق أحقّ أن يُتّبع ، ولابد من إزاحة الاقنعة عن الوجوه ، وكشف النقاب عن الحقائق المرّة التي ظلّت غائبة عن العقول والقلوب لآماد طويلة بفعل التردّد والخوف من إزالة أكداس من الشوائب ، وأكوام من الطلاءات المُتحجّرة حول التأريخ الحقيقي الاصيل الذي ينتظر الصقل الدقيق ليخرج ناصعاً من غير بقع وخطوط سود شوهّت وجهه الاصلي.

النقطة الاولى التي نودّ الاشارة إليها ولو لُماماً ، قضية القيام بدراسة التأريخ الاسلامي والوقوف على مجرياته وحوادثه عن كثب ، وفرْز عناصره الايجابية والسلبية على حد سواء ، وتشخيص مُفرداته وجوانبه الخفية ، وتحديد الأيدي التي أثّرت في ملامحه ورسْم خطوطه الرئيسية حتى ندرك الاسباب والعلل التي أدّت بأمّتنا الى هذا المستوى من التدنّي والانحسار عن موقع القوة والتأثير الى حد أصبحت تضحك منّا الأمم التي سبقتنا على الصعيد العلمي والمدني والحضاري.

ويبدو ان هناك فئاتاً من المسلمين لا ترضى بنبش التأريخ ، وإعادة كتابته خوفاً من المسّ بشخصيات حولها هالة وهمية من «القداسة» ، فلا ينبغي ـ في رأي هؤلاء ـ توجيه أي نوع من النقد أو الاتهام لها ، واعتبار هذا الموقف من المُسلّمات الثابتة التي لا يمكن

٧

زحزحتها ، وإن القناعات والثوابت التي آمن بها المسلمون منذ قرون مديدة ، يجب أن تبقى كما هي دون تغيير.

ويستشهد هذا النمط من المسلمين ، لتبرير موقفهم السلبي من إعادة قراءة التأريخ ، خصوصاً في مراحله الاولى ، بالآية القرآنية الكريمة : تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١).

وقد غفل هؤلاء عن هذه الآية إنما تشير الى الامم السابقة للاسلام ، حيث إن ما كسبته تلك الامم ، من سيئات لا تدفع ثمنه الأُمّة الاسلامية التي تُحاسب على أعمالها فحسب.

ومع ذلك فإن هناك آيات قرآنية عديدة تحث المسلمين على أهميتها استقراء سِيَر الامم السابقة لأخذ العبرة منها ، في حين نحن بصدد الحديث عن أمّتنا الاسلامية في أوائل ظهورها ، إذ نحن لم نزل جزءا منها ، وما كسبته من أعمال وممارسات وانحرافات ، لم تزل تبعاتها تمسّ حياتنا يومياً ، فكيف نغضّ الطرف عن تلك ونسدل الستار على فترة أساسية من حياة الأمّة الاسلامية الحرجة ، لأن هناك من لا يروق له كشف الأوراق ، وقراءة التأريخ الاسلامي الاول من جديد ، خوفاً من زعزعة معتقداته التي بناها على أساس الواقع التأريخي المنقول بحذافيره من خلال المؤرخين وكتاّب التأريخ المنحازين الى هذا الطرف أو ذاك ، من مذاهب المسلمين ، وإن اعادة استقراء صفحات التأريخ ، ربما تقلب الموازين ، وتزعزع العقائد والقناعات التي سار عليها هذا المذهب أو ذاك ، وهذه الطائفة أو تلك.

فما الخشية من مثل هذه التوقعات ، مادمنا نحن طلّاب الحق الذي ينبغي أن نتّبعه

__________________

(١) البقرة ١٤١.

٨

مهما كانت قناعاتنا ومسلّماتنا وثوابتنا التأريخية ، فلعلنا كنّا مخطئين طيلة القرون السابقة؟ وإلا لو كنّا على الحق المبين ، فلِمَ هذا الانحطاط الذي يلفّ حياتنا جميعاً؟

وكيف أصبحنا أمّة متقوقعة على نفسها ، ولم تستطع أن تجاري الأمم المتقدمة الأخرى ، فضلاً عن أن تسبقها في مضمار الرقي والتقدم والنظم الحضارية؟ ثم ألم تكن الشريعة الاسلامية قد جاءت للناس كافة ، وأرسل الله نبيه الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للبشرية جمعاء؟ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (١).

وبشَّر الله تعالى أمّته بأنها ستكون خير الأمم ، وان الدين الاسلامي سيستوعب الاديان السابقة كلها .. فلماذا انحسرت الأمّة الاسلامية عن مسرح الحياة ، وأضحت أمّة على هامش الأمم؟ كل تلك الحقائق المرّة تمرّ على أذهاننا ، ونحن نقرّر خوض تجربتنا مع التأريخ ، سواء سررنا أو حزنّا ، وسواء جاءت نتائج البحث والتحليل لتعزّز قناعتنا السابقة ، أو جاءت بقناعة جديدة.

المهم لدينا ، التوصّل للحقيقة فحسب ، وعدم المضي كالعميان المُنقادين ونحن نتّبع الآباء والأجداد على غير هدى ، فقط أنهم آبائنا وأجدادنا ، ولأنهم كذلك ، فهم على حق مؤكّد لا يمكن المساس به ، ولا يجوز نِقاشه بأي حال من الأحوال؟

هذه القناعة ، هي قناعة وخيار كل أتباع المذاهب الاسلامية وطوائفها وفِرَقها .. فكلهم على حق مبين بالرغم من وجود التضارب في العقائد والاحكام الشرعية المُطبّقة. بينما الاسلام واحد ، والقرآن واحد ، والنبي واحد ... فلِمَ هذه الاختلافات العميقة بين المذاهب والفِرَق العديدة التي أفضت الى حروب وصراعات شعواء ، ذهبت ضحيتها ، نفوس وجهود وطاقات جمّة ، كانت الأئمّة بأمس الحاجة اليها وهي تواجه الأمم

__________________

(١) سبأ ٢٨.

٩

الأخرى في سبيل هدايتها وضمّها الى الأمّة الاسلامية؟

ولاشك ان هناك أسباباً وعللاً أفضت الى هذا التشرذم في صفوف الأمّة ، وحدوث الصراعات والشقاقات الحادة فيما بين ابنائها ، والعجز عن نشر الاسلام في أقصى الارض ، تنفيذاً لأهداف الدعوة الاسلامية التي جاءت للناس كافة.

وقبل الخوض في هذا البحث العقائدي الهام ، لابد من التوقف عند محطتين جوهريتين لا يمكن إستيعاب الموضوع بكل جوانبه ، والوصول إلى نتائج حاسمة دون الإحاطة بهما ، لأنهما تعتبران بمثابة الفيصل في نقد مواقف وسِيَر الشخصيات التي عاصرت البعثة المحمدية وما بعدها ، عن عهد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى العهود المتأخرة ، كما انهما ضروريتان جداً لمعرفة المهام المُوكلة من الله تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والولاية الممنوحة له ، وما هي الواجبات المُلقاة على عاتق المسلمين ازا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوامره؟ وهل هي ولاية محدودة بحدود تبليغ القرآن والشرع المقدس ولا تتعدّاها الى كل تفاصيل الحياة .. أم انها ولاية عامة ومطلقة وشاملة للدين والدنيا وتستغرق كل شؤون المسلمين وتفاصيل حياتهم؟.

هاتان الخطوتان والمحطتان ضروريتان جداً ، وتمهّدان السبل لفرز النتائج المترتبة على سيرة ومواقف الرجال الذين عاصروا بدايات نزول الرسالة الاسلامية ، والمجريات التي حدثت منذ ذلك المنعطف التأريخي الخطير وحتى هذا اليوم.

ومهما يكن من شيء ، فإن هاتين المحطتين أو الوقفتين ، ليستا ضروريتين فحسب ، بل هما واجبتان كمقدّمتين مُمهّدتين لبناء الأحكام على الأشخاص ، وتشخيص درجاتهم الايمانية ، ومدى طاعتهم لله ورسوله أو معصيتهما بالفعل.

المحطة الأولى : معنى أولوية الرسول في حياة المؤمنين : الآية القرآنية ٦ من سورة الاحزاب ، تنص على أن النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ. فيا ترى ماذا يقصد

١٠

القرآن الكريم بهذه الأولوية التي هي أهم من المؤمنين أنفسهم؟

سندرج في الأسطر التالية ، آراء كبار علماء الجمهور المسلم بما يعطي صورة جلية عن معنى «أوْلى» التي من المفروض أن يتقيد بها المؤمنون الصالحون والمخلصون ، فهي تندرج في مفهوم الطاعة التي ينبغي لهم أن يمتثلوا لها من خلال تنفيذ كل الاوامر والتعاليم النبوية حرفيا ، وإلا يصبح الانسان المسلم من العاصين مهما كانت مكانة هذا الانسان ، صحابياً كان أو غير صحابي ، لأن المسألة هي مسألة التمسّك والالتزام بالنص وتطبيقه ، وعدم تجاوزه بأي حال من الأحوال.

تُرى ماذا ي قول علماء التفسير الكبار من الجمهور المسلم عن معنى النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟ إليك أيها القارئ ، تفاسيرهم لهذه الآية المباركة : «الاولوية» في الأمور كلها ، فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس ، فلذلك أطلق الولاية ، فيجب عليهم أن يكون أحب اليهم من أنفسهم ، وأمره أنفذ عليهم من أمرها.

ويجب على المؤمنين أن يقدّموا حكم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على حكمهم لأنفسهم ، لوجوب طاعته لأنها مقرونة بطاعة الله تعالى ، ولأن أنفس المؤمنين تدعوهم الى ما فيه هلاكهم ، والرسول يدعوهم الى ما فيه نجاتهم.

وكما ان أولوية النبي هي من بعض المؤمنين ببعض ، في نفوذ حكمه فيهم ، ووجوب طاعته عليهم وقضائه فيهم. وطبق هذه الاولوية للنبي على أنفس المؤمنين ، فينبغي على كل المؤمنين الذين عاصروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذين جاءوا من بعده أن يطيعوه طاعة مطلقة ، ويتقيدوا بأوامره كلها ، مهما علت منزلة هؤلاء المؤمنين ، ومهما كانوا مقرّبين إليه ، وإلا أصبحوا عُصاة من الهالكين (١).

__________________

(١) فتاوى السبكي ٢ : ٢٣٢ ؛ نيل الاوطار ـ الشوكاني ٦ : ١٧٢.

١١

المحطة الثانية : الفرق بين الاسلام والايمان : إذا أردنا معرفة الفرق بين الاسلام والايمان ، والتمييز بينهما ، فلابد والحال هذه من التدقيق في الآيات القرآنية التي توضّح بما لا يدع مجالاً للشك ، الاختلافات الجوهرية بينهما. فالمؤمن مهما تكن درجة إيمانه فهو مسلم ، ولكن ليس كل مسلم هو مؤمن ، لأن المسلم ربما يكون منافقاً ، وبالتالي فهو غير مؤمن ، لأن صفة الايمان مضادة لصفة النفاق ولا يجتمعان أبداً كما نصّ القرآن الكريم على ذلك.

فالقرآن يؤكد ان هناك أناساً يدّعون الايمان بالله وباليوم الآخر ، ولكنهم ليسوا بمؤمنين (١) ، وانهم بذلك يحاولون أن يخدعوا الله والمؤمنين ، وان هؤلاء يندرجون في خانة الذين في قلوبهم مرض والمكذّبين لأنهم يزعمون الاصلاح في الارض ولكنهم مفسدون (٢).

ويحذّر الله (المؤمنين) من إطاعة الكفار والارتداد على الاعقاب وبالتالي سيكون مآلهم الى الخسران (٣).

ومن المؤمنين من يبتغي عرَض الحياة الدنيا ويلهث وراء المغانم في الحروب (٤).

ويميّز القرآن ، المؤمنين الحقيقيين الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم ويعتبرهم المهتدين بحق (٥).

__________________

(١) البقرة ٨.

(٢) البقرة ٩ ـ ١٢.

(٣) آل عمران ١٤٩.

(٤) النساء ٩٤.

(٥) الانعام ٨٢.

١٢

ويدعو الله (المؤمنين) للاستجابة لله والرسول إذا دعاهم وأن يتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصة (١). ويوصي الله (المؤمنين) بعدم خيانة الرسول (٢). ويقول الله للنبي بان الله حسبه ، ومن اتّبعه من المؤمنين لا كلّهم (٣).

ويفرز الله المؤمنين ، فئتين ، فئة مهاجرة ومجاهدة بأموالها وأنفسها في سبيل الله ، ومنها التي آوت الرسول ونصرته ... وفئة أخرى لم تهاجر ، وان المؤمنين حقاً هم الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أو الذين آووا الرسول ونصروه (٤).

وينصح الله (المؤمنين) ألا يتّبعوا خطوات الشيطان لأنه يأمرهم بالفحشاء والمنكر ، ولولا فضل الله عليهم ورحمته ، ما زكا منهم أحد (٥).

والله لا يترك الذين يدّعون الإيمان دون أن يفتنهم ليعلم الصادقين من الكاذبين (٦).

والمؤمنون الذين يعصون الله ورسوله ، يضلون ضلالاً مبيناً (٧).

والمؤمنون الذين إن لم يطيعوا الله ورسوله تبطل أعمالهم (٨).

وبإمكاننا تلخيص المفهوم القرآني للايمان والفرق بينه وبين الاسلام ، بأن إسلام

__________________

(١) الانفال ٢٥.

(٢) الانفال ٢٧.

(٣) الانفال ٦٤.

(٤) الانفال ٧٢.

(٥) النور ٢١.

(٦) العنكبوت ٢ ـ ٣.

(٧) الاحزاب ٣٦.

(٨) محمد ٣٣.

١٣

المرء لا يقتضي سوى إعلان الشهادتين باللسان فقط دون النفوذ الى القلب ، والاقتناع بالرسالة الاسلامية والقرآن والنبوة ، أما الايمان ، فهو الاقتناع بهذه المفردات ، لكن تتفاوت هذه القناعة وثباتها في أفئدة المؤمنين ، بين قناعة متذبذبة سطحية تتقاذفها الرياح يميناً وشمالاً ، وسرعان ما تتلاشى بمجرد حدوث هزّة ولو كانت بسيطة أو مواجهة فتنة معينة أو إمتحان يسير ، وبين قناعة راسخة متجذّرة في الأعماق ، لا تقتلعها الهزّات والشدائد والفتن والصدمات مهما بلغت من القوة والنفوذ.

وعليه فالقرآن الكريم يصف الطبيعة الانسانية على حقيقتها دون محاباة أو مًصانعة لأحد.

وعموماً فإن المؤمنين الذين كانوا ملتفين حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيهم خصائص ايجابية وأخرى سلبية. والقرآن الكريم لا ينكر أية خصلة يتصف بها الانسان المؤمن ، ويبرزها على علّاتها حتى وإن نفاها ذلك المؤمن ، أو حاول إخفاءها ، ومع صفاته السلبية والسيئة ، يظل المؤمن مؤمناً ، إذا إذا شكّك في معتقداته أو أنكرها في قلبه وأفعاله.

يبقى المؤمنون المخلصون ، وهم الذين يعملون الصالحات ويتواصون بالحق وبالصبر ، لا يزيغون حتى آخر لحظة من حياتهم ، أو يرتدّون على الاعقاب.

١٤

معالم المدرسة السُنيّة وقواعدها

حين نزل الوحي على الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله إبّان بعثته المباركة ، آمن بنبوته عدد من أهل مكة ثم أهل المدينة ومن حولها ، وان هؤلاء المسلمين الذين كان أكثرهم من المهاجرين والأنصار ، هم من الصحابة لأنهم لازموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واحتكوا به وصاحبوه وآووه ، والقرآن الكريم امتدحهم فضلاً عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهؤلاء تلقّفوا كل ما تفوّه به نبينا «عليه الصلاة والسلام» وحفظوه لأنهم كانوا يترقّبون نزول الوحي عليه ليستوعبوا الأحاديث النبوية وتجسيدها في حياتهم وسلوكهم خير تجسيد. وهؤلاء الصحابة الكرام ، هم الذين نقلوا الشريعة الاسلامية التي جاء بها الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الى الأجيال اللاحقة من خلال التابعين لهم بإحسان. والصحابة ـ في رأي الجمهور السُنّي ـ كانوا على درجة كبيرة من الايمان والاخلاص لأنهم لازموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واحتكوا به واقتبسوا من نور النبوة وأشعة الوحي المباركة ، فنشأت في نفوسهم حصانة ضد الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فقد ثبتت عدالتهم أجمعين ، وقام القرآن الكريم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتزكيتهم باستثناء المرتدين والمنافقين ، وعددهم قليل ومحدود ، وعلى رأسهم بالطبع ، رمز النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول.

وكانت العلاقات بين الصحابة على درجة كبيرة من الاحترام والثقة المتبادلة ، اذ كانت تسود سيرتهم ، مثالية عجيبة ، وعميقة ... كيف لا؟ وقد عاش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بين

١٥

ظهرانيهم ، فاستقوا من معينه العذب. وانبثقت نظريتان عند أهل السًنّة والجماعة ، حول الصحابة ، نظرية تؤكد هذه العلاقات الرفيعة بين جيل الصحابة وترفض أي خوض فيما جرى بينهم من صراعات ، ومشاحنات ، باعتبار أن هذه الأمور تأتي من باب الاجتهاد والتأويل ، ولا يحق لنا نبش هذه المجريات ، فنأثم بسبب ذلك ، فهم أعلم منّا في هذا المجال.

وهناك نظرية أخرى تقرّ بوجود تلك الصراعات الدموية والاختلافات السياسية والفقهية ، بل والانحرافات بين صفوف بعض الصحابة إلى حد ارتكابهم للمنكرات والموبقات ، لكن هذه الأمور الشائنة كلها لا تؤثر في عدالتهم الثابتة والمفروغ منها في الكتاب والسُنّة ، حيث حذّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من سبّهم ولعنهم والاساءة اليهم ، وإنّ الله أعدّ للذين ينالون من الصحابة عذاباً أليماً في الآخرة ،وحذّر من المسّ بالصحابة الكبار الملازمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حلّه وترحاله ... ولذا لا يجوز الخوض فيما جرى بين الصحابة خاصة بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن ذلك يعتبر مساساً بنزاهتهم وقداستهم ، وهم الذين أعدّهم الله لحمل أمانة نقل الحديث النبوي من بعده الى الأجيال اللاحقة.

وبعد أن أدّى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مهامه الجسيمة في تبليغ الرسالة الاسلامية وإكمال الدين ، رحل الى بارئه الاعلى دون أن يشير الى خليفة من بعده ، أملاً في ان تقوم الأمّة باختيار الخليفة المناسب الذي يقوم مقامه في إكمال وإستمرار المسيرة الاسلامية.

واجتمع الصحابة أو بعضهم في سقيفة بني ساعدة واختاروا الخليفة الأول أبي بكر ، وبايعه جل المهاجرين والأنصار باستثناء علي وبني هاشم الذين كانوا يعتقدون أنه أحق بالخلافة من أبي بكر لسابقته وقربه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنه سرعان ما بايع كسائر المسلمين حفظاً لوحدة الأمّة.

١٦

ولما حانت وفاة الخليفة الأول ، أوصى من بعده الى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي بايعته الأمّة خليفة عليها ، وهو الخليفة الراشد الثاني الذي عيّن قبل موته مجلساً للشورى يتكون من ستة من الصحابة الأجلّاء. وانتخب هذا المجلس الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفّان الذي في عهده حدثت فتنة كبرى أثارها بعض المشاغبين في مصر والعراق والمدينة المنوّرة أدّت الى مقتل عثمان ومبايعة المسلمين لعلي رابع الخلفاء الراشدين.

وفي عهد الخلفاء الراشدين الثلاث تم تدوين القرآن بعد إن كان موزّعاً في الصحف والرقاع والصدور.

وكان عهد هؤلاء الخلفاء الراشدين ، عهد عدالة ورفاهية ومساواة بين الرعية ونبذ للظلم والاجحاف والتلاعب بمقدرات المسلمين لأن سيرة هؤلاء الخلفاء ، كانت امتداداً للسيرة النبوية ولم تشهد تعسفاً وإنحرافاً عن المبادئ والتعاليم الاسلامية ، ولذلك فهي تعتبر سيرة مثالية. وأقوال وآراء الخلفاء الراشدين حجة في الدين ، إذ كانوا مجتهدين يراعون المصلحة الاسلامية العليا.

وقد منع الخلفاء الثلاث الأوائل تدوين الحديث لئلا يختلط بالقرآن الكريم ، وتخللت عهودهم فتوحات عديدة في العراق وفارس وسوريا ومصر ، غير ان الاوضاع تغيرت بعد مقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب على يد الخوارج فقد أصبح الحكم ورائياً ينتقل من الآباء الى الأبناء.

ولم يكن الحكم الأموين الذي أخلف الحكم الراشد ، صفات الحكم الاسلامي العادل سوى عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي يُعدّ خليفة راشد خامس.

ولم تتوقف الفتوحات في العهد الأموي ، بل امتدت الى أقاصي آسيا وافريقيا حتى شملت الاندلس.

١٧

وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز وبإيعاز منه بالذات ، انبثقت فكرة تدوين الحديث النبوي كيلا يضيع ويتلاشى بعد مئة عام على رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وموت أكثر الصحابة.

تقوض الحكم الأموي بعد سبعين عاماً على تبوّء بني أميّة للخلافة ، وتصدى بني العباس للسلطة والحكم حيث بدأ نشوء المذاهب الاسلامية الكبرى ، واتسعت حركة الاجتهاد ليصل عدد الفقهاء والمجتهدين الى أربعمائة مجتهد او اكثر ، اما عدد أصحاب المذاهب ، فبلغ ثلاثة عشر إماماً ، إندثرت مذاهبهم سوى أربعة مذاهب اعتمدها الجمهور وهي المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، وكل أصحابها إلتمسوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاختلافات بين هذه المذاهب ، اختلافات فقهية فرعية ، جاءت لاغناء الفقه الاسلامي وإثراء جوانبه المتعددة ، مما أدى الى تنويه الأحكام الشرعية وتوسيع نطاقها ، وبالتالي فإن الاختلافات بين المذاهب الاربعة ، اختلافات ايجابية محمودة مادامت إختلافات فقهية لا تقضي الى صراعات ومشاحنات تعصف بالامّة الاسلامية وتذهب ريحها وتفتّ في عضدها.

واليوم طبق الرؤية السُنّية ـ يعيش أتباع المذاهب السنّية الأربعة في وئام وتآخْ ـ وليس هناك ما يدعو الى تنازع وشقاق بعد أن اتفقت الامّة على صحة هذه المذاهب وأفضليتها ، وانها تسير على الخط الذي رسمه الله ورسوله الكريم «عليه الصلاة والسلام» ولم تحدّ عنهما أبداً.

وللتأكد من صحة دعاوى الجمهور المسلم الذي تجسّده مذاهب أهل السُنّة والجماعة ، لابد لنا من التوغل في عمق المدرسة السُنّية ورؤيتها للتحوّلات التي طرأت على الدعوة الاسلامية غداة رحيل الرسول الى بارئه الاعلى ، والمجريات التي عاصرتها خلال القرون الثلاثة الاولى وما بعدها من قرون خلت.

١٨

النظرة السنية للتوحيد

صفات الله تعالى عند أهل السُنّة

يُجمع أهل السُنّة والجماعة على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسُنّة كلها ، والايمان بها ، وحملها على الحقيقة لا المجاز.

فكل صفة وصف الله بها نفسه ، أو وصف بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي صفة حقيقية لا مجازية.

ولذلك ينقل صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله بأن جهنم لا تزال يُلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع الله فيها قدمه ، فينزوي بعضها الى بعض وتقول قط قط.

ويروي المؤرخون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله بأن الله يهبط في ثلث الليل الأخير الى السماء الدنيا ثم تفتح أبواب السماء حيث يبسط يده ، قائلاً : هل من سائل يعطي سؤله فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر (١). وان الله خلق آدم على صورته طوله ستون

__________________

(١) السنن الكبرى ـ النسائي ٤ : ٤٢٠ الحديث ٧٧٦٨ ؛ سنن الدارمي ١ : ٣٤٧ ؛ المعجم الاوسط ـ الطبراني ٦ : ١٥٩ ؛ دقائق التفسير ـ ابن تيمية ٢ : ٢٠٢.

١٩

ذراعاً (١) ، وان الله يُرى يوم القيامة كرؤية الشمس بالظهيرة ، والقمر ليلة البدر (٢).

وحين جاء رجل من أهل الكتاب الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصف له كيف يمسك الله السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر والثرى على إصبع ، والخلائق على إصبع وهو يقول : أنا الملك ، أنا الملك ، ضحك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : ما قدروا الله حق قدره (٣). كما إن الله سوّى فوق السماء سريراً (٤).

وعن جرير بن عبد الله البجلي ، قال : كنا جلوساً عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنظر الى القمر ليلة البدر فقال : «إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تُضامون في رؤيته» (٥).

وتروي كتب الصحاح عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الله أتاه في أحسن صورت ، فقال : يا محمد ، قلت : لبيك ربي وسعديك ، فوضع يده بين كتفي ، فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت ما بين المشرق والمغرب ... وتجلّى لي كل شيء وعرفت ، وان أهل الجنة بينا هم في نعيمهم ، اذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فينظر اليهم ، وينظرون إليه ، ولا يلتفتون الى شيء

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٢٥ ؛ صحيح مسلم ٨ : ١٤٩ ؛ احكام القرآن ـ ابن عربي ١ : ٥٨٨ ؛ تأريخ مدينة دمشق ٧ : ٣٩١.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٧٩ ؛ صحيح مسلم ١ : ١١٥ ؛ المستدرك على الصحيحين ٤ : ٥٨٢ ؛ مسند ابي داود الطيالسي : ٢٨٩.

(٣) صحيح البخاري ٦ : ٣٣ ؛ صحيح مسلم ٨ : ١٢٦ ؛ السنن الكبرى ـ النسائي ٦ : ٤٤٦.

(٤) تأويل مختلف الحديث : ٦٥ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٩ : ٢٧٧ ؛ تفسير الآلوسي ١٦ : ١٥٤.

(٥) نشرة العبد ـ لبنان ـ العدد ٢٩٢ ـ رؤية الله عز وجلّ : ٣.

٢٠