الأصول في علم الأصول - ج ٢

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٣٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

حجّيّة القطع

٣
٤

حجّيّة القطع

اعلم أنّ الوظائف المقرّرة في الشريعة لعمل المكلّف ـ بالأعمّ من الوظائف العقليّة والنقليّة ـ تحت عناوين ست ؛ فإنّها إمّا وظائف واقعيّة وهي التي لم يؤخذ في موضوعها جهل بحكم أصلا ، أو ظاهريّة وهي ما أخذ في موضوعها الجهل بالحكم الواقعي.

ثمّ الظاهريّة ، إمّا أماريّة وهي ما كان بعنوان انكشاف الواقع ، أو أصليّة وهي ما لم تكن كذلك ، وهذا تارة بعنوان استمرار الحالة السابقة ، وأخرى بعنوان العلم الإجمالي بنوع الحكم في أطراف محصورة ، وثالثة بعنوان الجهل غير المشوب بالعلم بنوع الحكم فعلا ولا سابقا إلّا ما كان في أطراف غير محصورة ، وهذا تارة مع احتمال الرخصة وأخرى لا معه.

فالأوّل الاستصحاب ، والثاني أصالة الاحتياط ، والثالث أصالة البراءة ، والرابع أصالة التخيير.

وإنّما يبحث في الأصول عن هذه الأصول العمليّة الأربعة لعمومها وشيوعها في كلّ أبواب الفقه ، وإلّا فلنا أصول أخر جزئيّة جارية في الشبهات الحكميّة المختصّة ببعض أبواب الفقه كقاعدة الطهارة.

ثمّ البحث عن الأمارات يقع في رسالة مفردة تسمّى برسالة حجّيّة الظنّ ، وعن الأصول العمليّة يبحث في رسالتين : استصحابها في رسالة مستقلّة ، والبقيّة كلّا في رسالة واحدة.

ولنقدّم أمام الكلام البحث عن القطع بشيء من الوظائف الست ؛ فإنّ أبحاث القطع لا تختصّ بالقطع بالأحكام الواقعيّة ، بل تعمّ كلّ قطع بكلّ وظيفة من الوظائف الخمس الأخر.

فاعلم أنّ من التفت إلى شيء من الوظائف والقوانين المتعلّقة بعمل نفسه أو عمل غيره

٥

ـ شرعيّة كانت الوظيفة أو عقليّة ، مكلّفا كان الملتفت أو غير مكلّف ـ لا بدّ وأن يقطع بالوظيفة ، ولا يعقل أن يبقى في الجهل ؛ فإنّه إن لم يقطع بشيء من الأحكام الشرعيّة الستّة فهو منته لا محالة إلى باب العقل ، وباب العقل ليس باب الحيرة والضلالة ؛ فإنّ حكومة العقل حكومة داخليّة ، والجهل إنّما يتصوّر في قوانين الحكومات الخارجيّة ، ومن ذلك الشارع.

فإن جعلنا الحكم الملتفت إليه ما يعمّ حكم العقل والشرع لم يحصل للمكلّف حين الالتفات إلّا حالة واحدة وهي حالة القطع ، وإن خصّصناه بحكم الشرع ثمّ عمّمنا حكم الشرع للواقعي والظاهري حصل له حالتان : القطع وعدم القطع ، ومرجعه على الأخير حكم العقل بالعمل بالظنّ إذا تمّت مقدّمات الانسداد ، أو الأصول العقليّة إن لم تتمّ.

وإن خصّصناه بحكم الشرع ثمّ خصّصنا ذلك الحكم بالواقعي حصل له حالات ثلاث : القطع ، وجهل قامت في مورده أمارة ، وجهل لم تقم في مورده أمارة معتبرة.

وتثليث شيخنا المرتضى رحمة الله للأقسام مبني على هذا (١) ، كما أنّ تثنية الأستاذ العلّامة قدس سرّه (٢) مبني على سابقه ، وتوحيدنا مبني على أوّل الوجوه ، والكلّ له وجه.

لكن لمّا كان المطلوب ضبط مجاري الأصول لم يكن محيص من التثليث حتّى يشار في قسم الشكّ إلى تمييز مجرى كلّ أصل عن مجرى صواحبه ، وبالاختصار يفوت هذا الغرض. فليس لأحد التعريض على تثليث الأقسام بأنّ أحكام القطع لا تختصّ بالقطع بالحكم الواقعي ، فينبغي أن يعمّ القطع إلى كلّ حكم ـ واقعيّا كان أو ظاهريّا ـ فتثنّى الأقسام ؛ فإنّ المقام ليس مقام الإيجاز ، وإلّا كان لنا توحيد الأقسام وتعميم القطع إلى كلّ حكم شرعيّا كان أو عقليّا ؛ لأنّ وجوب متابعة القطع لا يختصّ بالقطع بحكم الشارع.

ثمّ اعلم أنّ وجوب متابعة القطع ممّا لا يليق بأن يبحث عنه ؛ وذلك لأنّه أصل كلّ بحث ، فلولا أنّ تحريك العقل بالعمل بالقطع أصل مسلّم لغى كلّ بحث ؛ فإنّ نتيجة كلّ بحث القطع ، فلولا أنّ القطع محرّك لم يكن للبحث ثمر ، فإذا كان هذا أصل كلّ بحث ، فما ذا يعقل أن يكون أصلا لهذا البحث؟!

وليس الغرض في المقام أيضا البحث عن حجّيّة القطع بمعنى حكم العقل بوجوب متابعته ، وإنّما ذكر في صدر البحث من باب الإشارة والتنبيه على ما هو مسلّم بديهي.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢.

(٢) كفاية الأصول : ٢٥٧.

٦

أحكام القطع

قالوا : لا ريب في وجوب متابعة القطع والعمل عليه عقلا. وأيضا لا ريب في أنّ القطع منجّز لما تعلّق به من الحكم عند الإصابة. ومعذّر مع الخطأ ، يعني تصحّ العقوبة على مخالفة التكليف عند الإصابة ، وتقبح عند الخطأ ، وهذه أحكام ثلاثة مرتّبة على القطع (١).

وفي كلّ ذلك عندي نظر ؛ أمّا حديث وجوب متابعة القطع عقلا ، فيردّه أوّلا : منع حكم العقل بوجوب متابعة القطع ، حتّى إذا قطع الشخص بوجوب الصلاة كان هناك حكمان عقليّان : أحدهما وجوب الإطاعة والآخر وجوب متابعة القطع ، ولو قطعنا بإباحة شيء كان هناك حكم عقلي واحد بوجوب متابعة القطع ، بل الحركة نحو إتيان المقطوع تأثير تكويني خارجي للقطع لا حكم عقلي للقطع.

بيانه : أنّ للعقل قوّتان : قوّة شامخة علميّة ، وهذه هي القوّة المدركة العلّامة الحاكمة ، وأخرى عمّالة مؤثّرة في تحريك العضلات تستخدمها القوّة العلّامة. ولكلّ من القوّتين شعبتان لا تزيد عن ذلك ولا تنقص ، فبقوّته العلميّة يدرك أمرين : حسن الإحسان وقبح الظلم. وكلّ حكم عقلي فرض فهو من جزئيّات هذين الحكمين. قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(٢).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٨.

(٢) النحل (١٦) : ٩٠.

٧

فمناط حكم العقل اثنان ، فإن حكم على ألف بهذين المناطين فقد حكم على اثنين ، وبقوّته العمّالة يحرّك نحو هذين الاثنين بعثا وزجرا ، يبعث نحو الأوّل ويزجر عن الثاني بعد درك صغرى حكميه الأوّلين. فإذا علم أنّ هذا إحسان ـ والفرض أنّه حكم بحسن الإحسان ـ حرّك نحوه ، وإذا أدرك أنّ هذا ظلم ـ والفرض أنّه حاكم بقبح الظلم ـ زجر عنه. فالبعث والزجر قوّتان عمليّتان بصغرى وجدانيّة وكبرى عقليّة ، ومعنى وجوب متابعة القطع هو تحريك القطع نحو المقطوع ، لا حكم العقل بوجوب متابعة القطع وراء ما حكم كبرويّا في موضوع ما تعلّق به القطع.

ومن هذا يظهر لك وجه عدم إطلاق الحجّة على القطع بالنسبة إلى متعلّقة ؛ فإنّ القطع محرّك نحو متعلّقه ، لا واسطة لثبوت متعلّقه ، فإذا قطعنا بوجوب شيء حرّك قطعنا ذلك نحو الإتيان بمتعلّقه ، وليس تحريكه ذلك من القضايا والدعاوى التي يقام عليها البرهان بمثل : هذا مقطوع الوجوب ، وكلّ مقطوع الوجوب واجب.

ولو فرضنا كونها من القضايا والدعاوى أيضا لا يطلق عليه الحجّة ، لكن لا لما قيل من أنّ الحجّة اصطلاحا هو الوسط في البرهان ، والقطع بالوجوب ليس وسطا في البرهان ؛ فإنّه وإن صدق قولنا : هذا مقطوع الوجوب ، ولكن لا يصدق قولنا : كلّ مقطوع الوجوب واجب ؛ لأنّ الواجب ليس عنوان مقطوع الوجوب بل ذاته ، فإنّ ذلك ناشئ من توهّم اعتبار أن يكون الوسط معروضا للحكم في الكبرى ، وهو باطل ، وإلّا فأين يذهب البرهان الإنّي. نعم ، اللازم هو أن يكون الوسط في الكبرى ملازما للحكم ، كان معروضا له أو لازما أو ملازما معه أو كان عينه كما في كلّ إنسان حيوان ناطق.

وإنّما الوجه في عدم إطلاق الحجّة عليه هو عدم كليّة الكبرى فإنّ «كلّ مقطوع الوجوب واجب» قضيّة كاذبة لخطأ القطع كثيرا. نعم ، لو رتّب القياس هكذا : هذا ممّا أنا قاطع فعلا بوجوبه ، وكلّ ما أنا قاطع فعلا بوجوبه فهو واجب ، لم يجر ما ذكرنا ؛ لأنّ القاطع لا يحتمل الخطأ. فالوجه في عدم إطلاق الحجّة عليه مع ذلك هو أنّ الصغرى ـ أعني قولنا : هذا مقطوع الوجوب ـ هو عين القطع بالمطلوب والنتيجة ، فما عساه أن تكون نتيجة لهذا؟ وهل يبقى هناك مجهول يتوصّل بترتيب مقدّمات معلومة إليها؟

وثانيا : أنّ وجوب المتابعة الذي ذكروه للقطع ليس هو للقطع ، بل هو ثابت لصفة

٨

الاطمئنان وسكون النفس ، وصفة الاطمئنان ليست من مقولة الإدراك ، بل هي متولّدة من العلم والإدراك تارة ومن الظنّ أخرى بل ربما تتخلّف عن العلم ، قال الله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(١).

فسكون النفس حالة تغتري النفس تبعث العضلات نحو المطلوب. فما زعموه أنّه للقطع ليس هو للقطع بل هو لصفة أخرى نسبتها مع القطع عموم من وجه ، فربما يجتمعان ، وفي مادّتين يفترقان.

وأمّا منجّزيّة القطع مع الإصابة ومعذّريّته مع الخطأ فباطل ؛ بأنّ الأوّل منهما أثر لكلّ احتمال لتكليف منجّز ، كان احتمالا جازما لا يحتمل معه الخلاف أو كان احتمالا غير جازم يحتمل معه الخلاف. ولذا يعاقب على مخالفة التكاليف المشتبهة قبل الفحص ، وكذا يعاقب على مخالفة التكاليف في باب الدماء والفروج ؛ لأهمّيّة تلك التكاليف وتنجّزها بمجرّد الاحتمال. وإنّما لا تنجّز في موارد البراءة ؛ لأنّ احتمال التكليف فيها ليس احتمالا لتكليف منجّز بل احتمال لتكليف يؤمّن العقل من العقاب عليه على تقدير وجوده.

فصحّ أن نقول : المنجّز للتكليف هو احتمال التكليف لا القطع بالتكليف. وإنّما القطع منجّز بمناط أنّه احتمال للتكليف لا بمناط أنّه قطع به حتّى تعدّ المنجّزيّة من أحكام القطع.

نعم ، احتمال التكليف الذي لا مؤمّن عقلي في مورده منجّز لا كلّ احتمال للتكليف.

وأمّا المعذّريّة فتلك حكم الجهل بالتكليف ، وأثر ستره الواقع [سواء] كان الجهل مركّبا وهو الجهل المقرون بالاعتقاد ، أو بسيطا وهو الجهل الخالي عن الاعتقاد. فليست المعذّريّة أيضا أثرا للقطع بما هو قطع.

فصحّ أن نقول : إنّ الأحكام الثلاثة المتقدّمة ليست أحكاما للقطع بما هو قطع.

أقسام القطع

ينقسم القطع إلى قطع طريقي محض ، وهو الذي تقدّم أنّه لا تطلق عليه الحجّة ، وأنّه تجب متابعته عقلا وأنّه منجّز مع الإصابة ومعذّر مع الخطأ ، وإلى موضوعي ، وهو ما أخذ في

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٦٠.

٩

متعلّق الحكم وتوجّه إليه الخطاب ، فيكون سابقا على الخطاب سبق الموضوع على الحكم ، كما أنّ الأوّل يكون لا حقا للخطاب لحوق العلم للواقع المعلوم.

وربما يجتمعان في قطع واحد فيكون قطع واحد طريقا وموضوعا ـ طريقا بالنظر إلى حكم ، وموضوعا بالإضافة إلى آخر ـ كما إذا فرضنا أنّه يجب التصدّق لمن قطع بوجوب صلاة الجمعة ، فكان القطع طريقا محضا لوجوب صلاة الجمعة ، وموضوعا لوجوب الصدقة. وهذا القطع يغاير القطع الطريقي في الأحكام المتقدّمة. يعني تطلق عليه الحجّة ، ويقع وسطا لإثبات ما تعلّق به من الأحكام كما في كلّ موضوع بالنسبة إلى حكمه ، وأيضا ليس منجّزا ولا معذّرا بل المنجّز والمعذّر قطع آخر تعلّق بأنّ هذا القطع له حكم كذا.

وبالجملة : حكم هذا القطع حكم سائر موضوعات الأحكام. ومن هذا يظهر أنّ كلّ قطع طريقي فهو موضوع للأحكام العقليّة الثلاثة المتقدّمة ، فكلّ قطع هو حجّة بالنسبة إلى الأحكام العقليّة الثلاثة. وإنّما ليس بحجّة بالنسبة إلى الأحكام الأخر التي تعلّق القطع بها لا بالنسبة إلى هذه الأحكام التي تعلّقت بالقطع.

ثمّ إنّهم قسّموا القطع الموضوعي إلى أقسام أربعة ، فإنّه إمّا تمام الموضوع أو جزؤه ـ على أن يكون الجزء الآخر هو الواقع الذي تعلّق به القطع ـ أو شيء آخر أجنبي ، وعلى كلّ منهما إمّا مأخوذ في الموضوع بما هو كاشف عن متعلّقه أو بما هو صفة للقاطع أو للمقطوع به.

ولكنّ الحقّ بطلان التقسيم من الجهة الثانية ، فينحصر القطع الموضوعي في اثنين. بيانه : أنّ القطع وإن كان من صفات النفس ـ وهو في هذه الجهة يشارك سائر صفات النفس من الشجاعة والسماحة مقابل صفات المادّة ـ وهذه الجهة جهة قابلة للحكم عليها ، لكن إن تعلّق الحكم بهذه الجهة عمّ ذلك الحكم سائر صفات النفس ، وهم لا يقولون به ، وخلاف المفروض من تعلّق الحكم بالقطع. وإن اختصّ الحكم بالقطع كان ذلك الحكم حكما على جهة كشفه وواردا على فصله المميّز له من بين سائر الصفات الذي ليس ذلك إلّا جهة كشفه عن الواقع ؛ إذ ليست له جهة مميّزة إلّا هذه.

فإن تعلّق الحكم بالجهة المميّزة كان ذلك حكما على القطع بما هو كاشف ، وإن تعلّق الحكم بالجهة المشتركة لم يكن ذلك حكما على القطع بل حكما على كلّ جهة كشفه وواردا على فصله المميّز له من بين سائر الصفات الذي ليس ذلك إلّا جهة كشفه عن الواقع ؛ إذ

١٠

ليست له جهة مميّزة إلّا هذه فإنّ تعلّق الحكم بالجهة المميّزة كان ذلك حكما على القطع بما هو كاشف ، وإن تعلّق الحكم بالجهة المشتركة لم يكن ذلك حكما على القطع بل حكما على كلّ صفة هو للنفس ومن ذلك القطع.

نعم ، لا بأس بالحكم عليه تارة بما هو كاشف بإلغاء وجهة كونه صفة للنفس ، وأخرى بما هو صفة خاصّة كاشفة عن الواقع. فيكون الدخيل في الموضوع في الأوّل محض جهة الكشف ، وفي الثاني جهة الصفتيّة منضمّة إلى جهة الكشف. فتكون الأقسام أربعة أيضا لكن بالنحو الذي قلناه ، لا بالنحو الذي قالوه.

وربما يتوهّم أنّ القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الكاشفيّة لا يعقل أن يكون على وجه تمام الموضوع (١) ، وهو توهّم ناشئ من حسبان أنّ المراد من الكاشفيّة هنا هي الكاشفيّة الحقيقيّة الموجودة في العلم ، مع أنّ المراد منها الكاشفيّة الزعميّة الموجودة في نظر القاطع ؛ فإنّ القطع هو الاعتقاد الجازم ، والعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.

نعم ، أخذ العلم في الموضوع على وجه تمام الموضوع غير معقول.

فتحصّل أنّ أقسام القطع خمسة ، واحد طريقي وأربعة موضوعي ، وهذه الأقسام جارية في الظنّ أيضا.

فظنّ طريقي محض يجري عليه كلّ ما تقدّم من الكلام في القطع الطريقي طابق النعل بالنعل ، وهذا هو الظنّ المعتبر على وجه الحكومة بمقدّمات دليل الانسداد ـ إن قلنا بها ـ وأخر موضوعي كأقسام القطع الموضوعي المتقدّم ، فتارة على وجه تمام الموضوع ، وأخرى على وجه جزء الموضوع ، وعلى كلّ منهما تارة يكون الحكم على جهة كشفه فقط ، وأخرى على جهة كشفه منضمّا إلى جهة صفتيّة.

هذا ، ولكنّ الحقّ بطلان قسم جزء الموضوع في الظنّ ، بل الظنّ إن كان موضوعيّا فهو تمام الموضوع. توضيحه : أنّ الجزء الآخر ـ وهو الواقع المظنون ـ إن أحرز بالقطع ذهب الجزء الأوّل ـ وهو الظنّ ـ فلا يرتّب الحكم من جهته ، وإن لم يحرز فلا يرتّب من جهة عدم إحراز الواقع المظنون.

__________________

(١) فوائد الأصول ٣ : ١١.

١١

ودعوى أنّ الظنّ بنفسه جزء الموضوع وحجّة معتبرة محرزة للجزء الآخر مساوقة لكون الظنّ تمام الموضوع وأنّ الحكم يدور مداره ، إن كان هناك واقع أو لم يكن.

نعم ، لا بأس بأخذ الظنّ جزء الموضوع ، ويكون الجزء الآخر أمرا أجنبيّا غير الواقع المظنون.

قيام الأمارات والأصول مقام القطع

قد عرفت في المبحث السابق انقسام القطع إلى أقسام خمسة ، والآن نبحث عن أنّ الأمارات وكذا بعض الأصول هل تقوم بدليل اعتبارها مقام القطع بأقسامه الخمسة ، أو لا تقوم إلّا مقام بعض الأقسام؟ ثمّ ذاك البعض أيّ بعض هو؟

فاعلم أنّه لا إشكال ولا كلام في إمكان قيام الأمارات مقام كلّ الأقسام ، إن نهضت أدلّة متعدّدة على تنزيلات متعدّدة. وإنّما الكلام في معقوليّة القيام مقام الجميع ، والتنزيل منزلة ذلك الجميع بعبارة واحدة مثل عبارة : «نزّلت الظنّ منزلة القطع».

ثمّ بعد الفراغ عن المعقوليّة يبحث في مقام الإثبات عن مؤدّى أدلّة التنزيل ، وأنّه تفيد أيّ مقدار من التنزيل؟

قد يقال : إنّ مثل عبارة «نزّلت الظن منزلة القطع» لا تتكفّل التنزيل منزلة القطع الطريقي والموضوعي جميعا ، ولا يعقل تكفّلها لهما (١) ؛ وذلك لأنّ الظنّ والقطع في أحد التنزيلين لا بدّ أن يكونان ملحوظين باللحاظ الآلي وعبرتان إلى المظنون والمقطوع ، وكان عقد التنزيل حقيقة بين المظنون والمقطوع ، وفي التنزيل الآخر لا بدّ أن يكونان ملحوظين باللحاظ الاستقلالي ، وكانا هما المنزّل والمنزّل عليه ، والجمع بين اللحاظين في عبارة واحدة لا يمكن ، فلا يمكن الجمع بين التنزيلين في مثل عبارة «نزّلت الظن منزلة القطع».

كما قد يقال : إنّ العبارة وأمثالها ناهضة لإثبات تنزيل الظنّ منزلة القطع في جهة كشفه ، فكلّ حكم يحوم حول جهة كشف القطع رتّب على الظنّ دون ما يحوم حول جهة صفتيّة. فالعبارة تؤدّي تنزيل الظنّ منزلة القطع الطريقي وأيضا تؤدّي تنزيله منزلة القطع الموضوعي

__________________

(١) درر الفوائد : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

١٢

على جهة الكاشفيّة دون الموضوعي على وجه الصفتيّة (١).

ولكن المختار عدم المانع العقلي من عموم التنزيل وشمولاه لجميع أقسام القطع لو لا الانصراف اللفظي.

بيانه : أنّ القطع كما هو موضوع للأحكام الشرعيّة بجهتي كشفه وطريقيّته كذلك هو موضوع للأحكام العقليّة الثلاثة المتقدّمة ، ومن جملتها وجوب المتابعة على زعم القوم ، فإذا أريد تنزيل الظنّ منزلة القطع في جهة وجوب المتابعة وأيضا في كلّ حكم شرعي هو للقطع لم يحتج إلى لحاظ القطع آليّا بل لا يلحظ إلّا استقلالا ، وينشأ أحكام مثله للظنّ الملحوظ استقلالا. وكون وجوب المتابعة في القطع عقليّا لا يمنع من جعل مماثله في الظنّ ، ويكون مماثله المجعول في الظنّ حكما تعبّديّا شرعيّا.

هذا ، ولكنّ أدلّة اعتبار الأمارات غير واف لتنزيل الظنّ منزلة القطع الموضوعي ، وإنّما مفادها وضعا أو انصرافا تنزيل المؤدّى منزلة المؤدّى. انظر إلى قوله : «ما يقوله عنّي ، فعنّي يقول» (٢) ، وإلى قوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» (٣) وإلى قوله عليه‌السلام : «عليك بزكريا بن آدم القمّي ، المأمون على الدين والدنيا» (٤). إلى غير ذلك من أدلّة حجّيّة خبر الواحد ، وأدلّة اعتبار سائر الأمارات.

إن قلت : هب أنّ أمثال هذه التعبيرات يختصّ بتنزيل المؤدّى دون نفس الظنّ ، إلّا أنّ بالملازمة بين التنزيلين يمكن تتميم المدّعى ، فأحد التنزيلين يكون مدلولا مطابقيّا للعبارة والآخر مدلولا تبعيّا ؛ فإنّ مؤدّى الظنّ إذا كان واقعا تعبّدا كان قطعنا الوجداني به قطعا بالواقع تعبّدا ، فيرتّب عليه ما يرتّب على القطع بالواقع الحقيقي من الأحكام.

قلت : نعم ، قطعنا به قطع بالواقع تعبّدا ، على أن تكون كلمة تعبّدا تمييزا للواقع لا للقطع

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٦.

(٢) الكافي ١ : ٣٢٩ باب في تسمية من راه عليه‌السلام ، ح ١ ؛ الغيبة للطوسي : ١٤٦ ـ ١٤٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٨ أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٤ وفي المصادر «ما قال لك عنّي فعنّي يقول».

(٣) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) : ٥٣٦ / ١٠٢٠ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٩ ـ ١٥٠ أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٤٠.

(٤) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) : ٥٩٤ / ١١١٢ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٦ أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٢٧.

١٣

حتّى يكون ذلك تنزيلا آخر غير التنزيل المتعلّق بالمؤدّى. والمفيد في المقام هو الثاني دون الأوّل ، ولا ملازمة بين التنزيل المؤدّى منزلة الواقع وبين تنزيل القطع به منزلة القطع بالواقع. كما لا ملازمة بين تنزيل زيد منزلة الأسد وبين تنزيل أبيه منزلة أب الأسد وأخيه منزلة أخ الأسد ، فأبوه بعد تنزيل زيد ، أب وجداني للأسد التنزيلي لا أب تنزيلي للأسد الواقعي ، والمجدي لترتيب آثار أب الأسد الحقيقي هو الثاني دون الأوّل ، وإنّما الأوّل يجدي في ترتيب أثر الأب الحقيقي للأسد التنزيلي ، ولا يحتاج ترتيبه إلى أزيد من تنزيل الابن منزلة الأسد ؛ لأنّ الجزء الآخر وهو الأبوّة محرزة بالوجدان فإذا نزّل الابن تمّ بذلك موضوع الأثر فيرتّب الأثر.

هذا كلّه بناء على أنّ مؤدّى أدلّة الأمارات جعل الأحكام الظاهريّة. أمّا إذا كان مؤدّاها جعل الحجّيّة ، أو كونها تقادير لفعليّات الأحكام الواقعيّة ـ نظير الأمارات العقلانيّة ـ فلا يبقى مورد للتوهّم المتقدّم ؛ فإنّه لم ينزّل المؤدّى منزلة الواقع كي يستلزم ذلك تنزيل القطع به منزلة القطع بالواقع.

وبمثل ما حرّرناه في الأمارات نقول في الاستصحاب ؛ فإنّ عبارة «لا تنقض اليقين» لا مانع من أن يشمل تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن وتنزيل الشكّ منزلة اليقين ، فيرتّب آثار نفس اليقين ـ على أن يكون اليقين ملحوظا بما هو يقين لا بما هو عبرة إلى المتيقّن ـ ؛ فإنّ صفة المنجّزيّة لمّا كانت ثابتة لنفس صفة اليقين نزّل الشكّ منزلته في هذه الصفة ومعنى إعطاء المنجّزيّة للشكّ وجعل الشكّ منجّزا هو التكليف بإتيان المشكوك.

نعم ، ظاهر أخبار الاستصحاب ومنصرفها هو جعل المؤدّى ؛ فإنّ ظاهرها أنّ اليقين لوحظ عبرة إلى المتيقّن ، فمن أجل هذا الظهور لا نتعدّى إلى ترتيب آثار اليقين لا أنّ هناك مانع عقلي من الشمول.

عدم جواز أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه

لا يؤخذ القطع بحكم في موضوع شخص ذلك الحكم ؛ للزوم الدور.

وأمّا أخذه في موضوع حكم آخر مثله أو ضدّه فلا مانع منه ؛ لإمكان أن يكون القطع بالحكم عنوانا ثانويّا مغيّرا للحكم الثابت بالعنوان الأوّلي الذي تعلّق به القطع فيرتفع ذلك

١٤

ويأتي حكم آخر مثله أو ضدّه. نعم ، ليس للمولى الإعلام بحكم كان نفس الإعلام به مسقطا لفعليّته ، وكان يلزمه البعث نحو الفعل بإيجاب الاحتياط.

نعم ، إذا اتّفق العلم به من العبد زال بسببه الحكم المعلوم وجاء مكانه حكم آخر ، ونحوه الكلام في الظنّ.

وهل يؤخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أخرى منه ، كأن يكون القطع بمصلحة فعل موجبا لفعليّة وجوبه ، أم لا؟ إشكال.

من أنّ كلّ مرتبة لا حقة من الحكم تقوم بما قامت به مرتبته السابقة فلا تكون مرتبة الفعليّة من الحكم قائمة بغير ما قامت به مرتبة الإنشاء ، وإلّا لم تكن الفعليّة فعليّة تلك الإنشاء بل كانت فعليّة إنشاء آخر قائم بما قامت به هذه الفعليّة ، فالإنشاء الذي يصير بالقطع فعليّا لا يكون إنشاء هذا الذي صار فعليّا ، وإلّا لزم أن يكون القطع دخيلا في الإنشاء كدخله في الفعليّة حتّى يحصل توارد المرتبتين على محلّ واحد ، بل هو إنشاء آخر قائم بنفس الواقع وهو لم يصل إلى حد الفعليّة فلم يؤخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أخرى من ذلك الحكم ، وإنّما أخذ في موضوع مرتبة أخرى من مثله.

ومن أنّ مرتبة الفعليّة إنّما تقوم بما قامت به مرتبة الإنشاء إذا كانت مرتبة الإنشاء علّة تامّة للفعليّة ، أمّا إذا كانت من مجرّد الاقتضاء احتاج فعليّتها إلى انضمام أمر ـ من وجود شرط أو ارتفاع مانع ـ فكان ذلك الأمر دخيلا في الفعليّة بعد عدم دخله في الإنشاء. وليكن المقام من ذلك القبيل ، فكان القطع هو ذلك الأمر الدخيل في الفعليّة أو ملازما له. وهو الأظهر.

١٥

التجرّي

هل القطع فيما أخطأ يوجب حدوث مثل الحكم المقطوع به أو لا ، بعد الاتّفاق على أنّه لا يوجبه فيما أصاب؟ والظاهر اختصاص الخلاف والنزاع بالقطع بخصوص الوجوب والحرمة دون مطلق الحكم الشامل للإباحة.

وربما يفصّل بين القطع بحرمة واجب أو وجوب حرام فلا ، وبين غيرهما فنعم ، أو يراعي مع ذلك أقوى المناطين فيحكم بتأثيره.

وليعلم أنّ هذا البحث لو تمّ لعمّ من الجهتين ، من جهة خطأ القطع وإصابته ، ومن جهة كون المقطوع به حكما إلزاميّا وعدمه ، مثل أن يقطع بإباحة ما ليس بمباح أو كراهة ما ليس بمكروه ، ولم يكن وجه للتخصيص ؛ إذ القطع لو كان له التأثير كان مؤثّرا في جميع الموارد بلا امتياز مورد عن مورد فيتأكّد الواقع لدى الإصابة بما يأتي من الحكم من ناحية القطع.

ووراء هذا البحث بحث آخر ، وهو أنّه لو لم يكن للقطع هذا التأثير ولم يحدث بالقطع حكم فهل يحدث بالقطع استحقاق العقاب عند المخالفة لأجل التجرّي وبما أنّ العبد قاصد للمعصية ، أو أنّ العقاب يختصّ بالمعصية الحقيقيّة؟

أمّا الكلام في المبحث الأوّل ـ أعني قبح الفعل المتجرّى به عقلا وحرمته شرعا على أن يكون عنوان التجرّي على المولى قبيحا نظير معصيته ، ومحرّما كسائر العناوين المحرّمة شرعا ـ : فالحقّ أنّ القبيح غير ثابت. والعقل إن وجّه الذمّ على المتجزّي فبخبث ذاته وانكشاف أنّه غير مبال بمعصية المولى ، لا بما أنّه فاعل للقبيح ، ولا بما أنّه قاصد للمعصية.

١٦

ولعلّ هذا المقدار من الذمّ واللوم يوجّه على مرتكبي المعاصي في عالم الرؤيا ؛ لكشف ذلك عن أنّ الفاعل غير مكترث عن المعاصي في عالم اليقظة ، وإن كان في الملازمة تأمّلا.

ودعوى أنّ الإتيان بمقطوع الحرمة هتك للمولى بما أنّه تجرّى عليه ، يدفعها أنّ ذلك من توهّم الهتك لا واقعه ، وكيف يهتك بما هو راض به.

وأمّا الحرمة الشرعيّة فتحتاج إلى دليل ، ولم يدلّ عليها شيء من الأدلّة السمعيّة ، والدليل العقلي قد عرفت ما فيه.

وربما يقال ـ في سند منع التحريم ـ : إنّ الفعل بعنوان مقطوع الحرمة خارج عن تحت الاختيار ؛ لأنّ القاطع غير ملتفت إلى قطعه فكيف يتّصف بالحرمة؟! بل ربما يزاد على ذلك أنّ الفعل المتجرّى به بذاته خارج عن الاختيار من غير لحاظ عنوان خاصّ.

نعم ، ذلك في بعض أقسام التجرّي لا جميع أقسامه ، وهو التجرّي الحاصل في موارد الشبهات الموضوعيّة ، كما إذا شرب خلّا بزعم أنّه خمر ؛ فإنّ القصد تعلّق بعنوان الخمر وليس ، والذي هو أيس ـ أعني عنوان الخلّ أو عنوان مطلق المائع ـ لم يتعلّق به القصد.

ويردّ الأوّل ، أوّلا : منع عدم التفات القاطع إلى قطعه ، بل قطعه حاضر لديه ومشاهد عنده بذاته لا بقطع آخر ، وإنّما الأمور الخارجيّة تحضر بصورها في الذهن دون الأمور الذهنيّة.

وثانيا : كفى في جواز الحكم على الشيء بعنوان التفات المكلّف إلى الحكم ولو بعنوان آخر ، ولا يلزم الالتفات إليه بعنوان الذي حكم عليه. مثلا إذا اعتقد المكلّف حرمة فعل بعنوان أنّه غناء ، وكان محرّما واقعا بعنوان التصنيف كان ذلك كافيا في ثبوت التحريم. كذلك المقام إذا اعتقد المكلّف حرمة مائع بعنوان أنّه خمر فبان أنّه محرّم بعنوان أنّه مقطوع الحرمة كفى ذلك في تنجزّ الحكم.

والسرّ في ذلك هو أنّ اعتبار الالتفات إنّما هو لأجل حصول الانبعاث ، وهذا يحصل في موارد الاشتباه الموضوعي مع الإصابة في أصل اعتقاد الحكم. فللمولى أن يحرّم الفعل بعنوان إذا رأى أنّ العبد معتقد بالتحريم بعنوان آخر ، ولا يلزمه التنبيه على العنوان الواقعي.

ويردّ الثاني : أنّ مناط اختياريّة الفعل كون الفعل صادرا عن مبدأ العلم والإرادة ، مقابل الاضطراري الصادر فيه الفعل لا عن هذا المبدأ. والعلم الباعث للعمل علمان : كبروي وصغروي ، فإذا علم بوجوب إكرام العالم ، ثمّ علم بأنّ هذا عالم ، حرّكه ذلك نحو العمل وكان

١٧

الفعل داخلا بذلك في عداد الأفعال الاختياريّة. ولا يعتبر في العلم الذي عليه مدار الاختياريّة الإصابة ، بل يكفي مطلق الاعتقاد وإن أخطأ ، إمّا في الكبرى أو الصغرى أو فيهما.

ومن ذلك المقام ؛ فإنّه إذا قطع بأنّ هذا خمر ـ واعتقد بأنّ شرب الخمر صلاح ملائم للنفس ـ تحرّك نحو شرب ما قطع بخمريّته ، وكانت حركته تلك حركة صادرة عن مبدأ الإرادة والاختيار ، وكان فعله ذلك اختياريّا وإن لم يكن خمرا واقعا. نعم ، هو خطأ ، والخطأ من أقسام الفعل الاختياري القسيم للاضطراري ، فقد اشتبه الخطأ بالاضطرار.

وأمّا التفصيل بين اعتقاد حرمة واجب أو وجوب حرام وبين غيرهما ، فيحدث الحكم على طبق ما اعتقد في الثاني دون الأوّل ، أو يفصّل في الأوّل أيضا بأن يوازن بين الحكمين ويحكم بفعليّة أقواهما مناطا ومع التساوي يحكم بالإباحة ، فذلك ليس تفصيلا في المقام ، وإنّما هو إطلاق للقول بتحريم الفعل المتجرّي به ؛ فإنّ لازم ذلك الإطلاق هو تلك الموازنة والحكم بفعليّة أقواهما مناطا ـ إن كان ـ وإلّا فالإباحة كما هو الضابط الساري في كلّ مقام.

فإذا فرضنا أنّ في قتل ابن المولى مقدار من المفسدة ، وفرضنا أيضا أنّ في قتل من قطع بأنّه عدوّ المولى مقدار من المصلحة فاجتمع العنوانان في واحد ، أثّر من المناطين ما هو الأقوى منهما ، ومع التساوي فالإباحة. ثمّ إن كانت القوّة في جانب ما اعتقده كان هو المؤثّر ـ إن بلغت القوّة حدّا تقتضي الإلزام أولا ـ وإن كانت في جانب الواقع كان المكلّف معذورا في تركه ، فلا الواقع يصير فعليّا ولا ما اعتقده ، إلّا عند من يرى تأثير العنوان الملتفت إليه ، وإن كان مغلوبا في مناطه. وعند هذا الشخص كان التفصيل باطلا ، ويتعيّن القول بحرمة التجرّي مطلقا.

المبحث الثاني : في أنّ المتجرّي هل يستحقّ العقاب على قصده وتجرّيه ، وإن لم يكن قصده ولا فعله حراما شرعيّا ، أم لا؟ ولو تمّ الاستحقاق هنا جاء مثله في المعصية الحقيقيّة ، فكان استحقاق العقاب هناك بجهتين : من جهة القصد ومن جهة الفعل ، إلّا أن يلتزم بأن لا عقاب على الفعل وأنّ العقاب في المعصية الحقيقيّة أيضا على التجرّي.

ويمكن الاستدلال على الاستحقاق بالأدلّة الأربعة :

فمن الكتاب قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١).

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٨٤.

١٨

وقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً)(١).

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢).

وقوله تعالى : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣) بناء على أنّ نسبة القتل إلى المخاطبين ـ مع تأخّرهم عن القاتلين ـ لرضاهم بفعلهم.

ومن السنّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نيّة الكافر شرّ من عمله» (٤).

وقوله عليه‌السلام : «إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم» (٥).

وما ورد من أنّ المخلّد يخلّد في النار أو الجنان ، بعزمهم على الثبات على ما كانوا عاملين به من خير أو شرّ (٦).

وما ورد من أنّه «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار». قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لأنّه أراد قتل صاحبه ولم يتمكّن» (٧).

وما ورد من العقاب على مقدّمات الحرام بقصد التوصّل إلى الحرام ، كغارس الكرم للخمر (٨) ، والماشي لسعاية المؤمن (٩).

وفحوى ما دلّ على أنّ الراضي بفعل قوم كالداخل معهم ، وعلى الفاعل إثمان : إثم الرضا وإثم الدخول (١٠).

__________________

(١) القصص (٢٨) : ٨٣.

(٢) النور (٢٤) : ١٩.

(٣) آل عمران (٣) : ١٨٣.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٥٠ أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٦ ، ح ٣

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٤٨ أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٥ ، ح ٥.

(٦) وسائل الشيعة ١ : ٥٠ أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٦ ، ح ٤.

(٧) وسائل الشيعة ١٥ : ١٤٨ ، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، ب ٦٧ ، ح ١ بتفاوت.

(٨) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٢٣ أبواب ما يكتسب به ، ب ٥٥ ، ح ١ ـ ٧.

(٩) وسائل الشيعة ١٢ : ٣٠٦ أبواب أحكام العشرة ، ب ١٦٤ ، ح ١ ـ ١٤.

(١٠) نهج البلاغة : ٦٩٠ ، حكمة ١٥٤. وفيه قال عليه‌السلام : «الراضي بفعل قوم كالدّاخل فيه معهم. وعلى كلّ داخل في باطل إثمان ، إثم العمل به ، وإثم الرّضى به».

١٩

ومن الإجماع ما حكاه جماعة (١) على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى ، وإن انكشف فساد ظنّه.

ومن العقل حكمه بقبح الجرأة على المولى وهتك احترامه ، والطغيان عليه بالعمد على معصيته.

وربما يقرّر حكم العقل بأنّا إذا فرضنا أنّ شخصين قطعا بحرمة إناءين فشرباهما فأخطأ أحدهما وأصاب الآخر ، فإمّا ألا يستحقّ العقاب واحد منهما ، أو يستحقّانهما جميعا ، أو يستحقّ المصيب دون المخطئ أو بالعكس ، والطرفان باطلان بالضرورة ؛ إذ لا وجه لعدم استحقاق العاصي للعقاب ، وأمّا الوسطان فالأخير منهما مستلزم لإناطة الاستحقاق بأمر غير اختياري ـ أعني به الإصابة ـ فيتعيّن أوّلهما وهو المطلوب (٢).

والجواب عن الجميع إجمالا : أنّها لو تمّت لاقتضت ترتّب الاستحقاق على قصد المعصية الحقيقية دون المقام ، مع عدم الملازمة بين الموردين.

وأمّا الجواب تفصيلا ، فعن الآية الأولى : بأنّ الحساب غير العقاب ، وقد ورد أنّ في حلال الدنيا حسابا. مضافا إلى أنّ إبداء ما في النفس ظاهر في الإقرار بما ارتكبته من المعاصي دون الجري على مقتضى الإرادة ، ليكون إخفاؤه عبارة عن عدم الجري لتدلّ الآية على ترتّب العقاب على القصد الساذج.

وعن الآية الثانية : بأنّ القصد لا يسمّى إرادة إلّا عقيب تأثيره في الحركة نحو المراد ، وما لم يؤثّر عبّر عنه بالعزم ، ولذا أخذوا في تعريف الإرادة التحريك للعضلات ، فتخلو الآية حينئذ عن الدلالة على المقصود.

وعن الآية الثالثة : بأنّ ظاهرها هو ترتّب العقاب والعذاب على مجرّد حبّ شيوع ارتكاب الفواحش بين المؤمنين ، وقضيّته حرمة هذا الحبّ ـ كما دلّ على ذلك أخبار ترتّب الإثم على الرضا بفعل العصاة ـ وأين ذلك من ترتّب الاستحقاق على قصد ارتكاب المعاصي؟! ولا فحوى أيضا في البين.

__________________

(١) راجع منتهى المطلب ١ : ٢٠٩ ، س ٢٤ ، الطبعة الحجريّة.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٩.

٢٠