الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أعوذ بالله الرحيم من الشيطان الرجيم

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ

بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(١).

موضوع العلم (٢)

موضوع كلّ علم هو الجامع المنتزع من جزئيّات موضوعات مسائله. والمبحوث في كلّ علم هو الجامع المنتزع من محمولات تلك المسائل. فمن قضايا علم واحد تنتزع قضيّة كليّة الطرفين ، موضوعها موضوع العلم ومحمولها الجهة المبحوث عنها في العلم. فكان الموضوع هنا بمعنى موضوع القضيّة ـ وهو أحد إطلاقاته ـ لا بمعنى موضوع العرض الذي هو إطلاقه الآخر. ومعلوم أنّه لا يعتبر في موضوع القضيّة أن يكون المحمول عارضا له ـ فضلا عن أن يكون عارضا ذاتيّا له ـ ألا تنظر إلى القضايا الأوّليّة والاخرى الشائعة.

ولعلّ الخلط بين الإطلاقين وحسبان أنّ الإطلاق في المقام بالمعنى الثاني أوجب

__________________

(١) آل عمران (٣) : ١٢٦.

(٢) نقل هذا المبحث من كتاب بشرى المحقّقين من تأليفات المصنّف قدس‌سره.

٣

قصرهم موضوع العلم بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، فساقوا من ذلك الكلام في تحقيق العرض الذاتيّ ، وبيان ما يميّزه عن العرض الغريب. أو لعلّ تعبّدا جاءهم من المقنّنين (١) للعلوم والتزاما من الواضعين للفنون بأن لا يبحثوا فيما وضعوه وقنّنوه عمّا سوى العرض الذاتيّ ، أو لعلّ حديثا مأثورا جاءهم من الإمام المعصوم عليه‌السلام ينهاهم عن ذلك. ولعمري إنّ ما ذكرناه واضح لا يغشّيه حجاب ، وجليّ لا يغطّيه ضباب.

والعجب العجاب أنّهم صرّحوا بأنّ موضوع العلم هو بعينه موضوع قضايا مسائله لا يختلف عنه إلّا بالكليّة والجزئيّة. ومع ذلك لم يزالوا مصرّين على ما ذهبوا إليه ، ومكبّين على ما نطقوا به من اعتبار العروض الذاتيّ.

هذا مع ما يلزمهم من خروج كثير من مسائل العلم عنه ، حتّى التزموا بالاستطراد فيها.

وعلى ما ذكرناه كلّ القضايا الواردة على متن الموضوع هي من مسائل العلم ، سواء أكانت باحثة عن ماهيّة الموضوع ، أو عن وجوده ، أو عن عوارضه الذاتيّة ، أو الغريبة. فالنحوي إذا باحث عن شرح ماهيّة الكلمة ، أو عن وجودها وما هو مفاد كان التامّة ، أو عن عوارضها الذاتيّة ، أو الغريبة ، كانت أبحاثه جميعا داخلة في الفنّ. وكذا المنطقيّ إذا باحث عن شرح ماهيّة التصوّر والتصديق ، أو عن وجودهما ، أو عن عوارضهما الذاتيّة ، أو الغريبة كانت أبحاثه تلك داخلة في الفنّ.

نعم ، البحث عن أنّ موضوع العلم أيّ من الأمرين أو الأمور المعلومة ، خارج عن الفنّ على كلّ حال داخل في المبادئ.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ موضوع علم الأصول هو الحجّة على الحكم الشرعي الفرعي. وحسب ما ذكرناه كلّ من البحث عن ماهيّة الحجّة ، أو عن وجود الحجّة ، أو عن عوارض الحجّة داخل في علم الأصول ؛ ومباحث الأصول العمليّة العقليّة داخلة في القسم الثاني ؛ فإنّه يبحث فيها عن وجود الحكم العقل المسلّم الحجيّة ؛ وكذا البحث عن حجّيّة الظنّ عند الانسداد بناء على الحكومة ؛ وكذا بعض المباحث العقليّة التي ذكروها في خلال مباحث الألفاظ كمسألة مقدّمة الواجب ، ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة اقتضاء الأمر

__________________

(١) من مقنّني العلوم ، والتزام من واضعي الفنون (خ ل).

٤

بالشيء النهي عن ضدّه.

نعم ، البحث عن الأصول العمليّة الشرعيّة ، وكذا البحث عن الأمارات الشرعيّة ـ بناء على كون مؤدّياتها جعل الأحكام ظاهريّة أو واقعيّة كما هو مذهب السببيّة ـ يكون داخلا في المباحث الفقهيّة ؛ وإنّما يكون من مباحث الأصول بناء على القول في الأمارات بجعل الحجّيّة ، وكان ذلك بحثا عن ثبوت الحجّة الشرعيّة.

وبالجملة : كلّ ما كان باحثا عن الحجّة العقليّة أو الشرعيّة كان داخلا في علم الأصول ، وكلّ ما كان باحثا عن ثبوت حكم فرعي ـ ولو ظاهري ـ على طبق ما قامت عليه الحجّة كان داخلا في المباحث الفقهيّة.

لكنّ المختار عندنا عدم الجعل في شيء من الأمارات والأصول لا للحكم ولا للحجّة ، وإنّما الأمارات والأصول هي تقادير فعليّات الأحكام الواقعيّة ، والمجعول هو الأحكام الواقعيّة لا مجعول سواه. وهذه الأحكام فعليّة إذا نهض عليها أمارة أو أصل ، وغير فعليّة إذا لم ينهض ، وهذا ليس التزاما بتأثير الأصل أو الأمارة في جعل الحكم ليطابق مسلك السببيّة ، إنّما التأثير للواقع. فالمناطات الواقعيّة مؤثّرة في إنشاء تكاليف فعليّة مع مصادفة أمارة أو أصل لها ، غير مؤثّرة مع عدم هذه المصادفة.

وهذا بالنتيجة يطابق القول بجعل الحجيّة ، لكنّه ليس قولا بجعل الحجّيّة ، وإنّما كان أمر الشارع بالعمل على طبق الأصول والأمارات أمرا احتياطيّا ؛ لأجل صيانة الواقعيّات التي هي فيها ، بل هذا الحكم أيضا عقلي في موضوع درك كيفيّة تأثير الواقعيّات. وقد نبّه الشارع بأمره بالعمل على طبق الأمارات والأصول على كيفيّة تأثيرها وأنّها مؤثّرة تارة وغير مؤثّرة أخرى ، ومدار تأثيرها على قيام أمارة أو أصل عليها.

هذا في الأصول والأمارات المثبتة للتكليف ، وأمّا الأمارات والأصول النافية له فمعنى اعتبارها هو رفع اليد عن التكاليف الواقعيّة ، وعدم فعليّة الواقعيّات التي هي فيها كما في موارد خلت عن الحجّة رأسا. والتفصيل موكول إلى محلّه.

هذا حال الأمارات والأصول.

أمّا مباحث الألفاظ فهي تبحث عن أحوال الحجّة وعوارضها وهو الظهور. وعنوان البحث وإن كان عامّا لا يختصّ بخصوص ألفاظ الكتاب والسنّة ، لكن أخذ العنوان العامّ

٥

معرّفا للمقصود الخاصّ لكمال سماجة تخصيص العنوان مع عموم مناط الظهور. وهذا هو الفارق بين المقام وبين العلوم العربيّة التي هي نفس العنوان العامّ بما هو عنوان عامّ مقصود بالبحث فيها. ويمكن إدراج البحث في الظهور في البحث عن وجود الحجّة ؛ لأنّ الحجّة في الحقيقة هي ظهور الكتاب والسنّة لا ذاتهما ليكون الظهور من عوارض الحجّة.

وممّا ذكرناه في الموضوع ظهر لك التعريف ، وأنّ علم الأصول هو العلم الباحث عن الحجّة على الحكم الشرعي الفرعي. وهذا عامّ يشمل كلّ المسائل المدوّنة في الأصول بلا استطراد شيء حسبما بيّنّاه ، كما أنّه خاصّ يخرج عنه غيره من العلوم المقدّميّة للفقه ؛ إذ البحث فيها عن عنوان عامّ بعض جزئيّاته هو الحجّة كالعلوم العربيّة ، أو عن مبادئ الحجّة كعلم الرجال ، أو عن كيفيّة الاستدلال وترتيب القياس كعلم الميزان.

جهة امتياز العلوم

امتياز العلوم إمّا بالموضوع أو بالمحمول أو بكليهما ؛ لأنّ ذلك لازم اتّحاد العلم مع القضايا المدوّنة فيها بعد امتياز قضيّتين إمّا بالموضوع أو بالمحمول أو بكليهما إن كان ، ومع اتّحاد طرفي القضيّة كانت القضيّة قضيّة واحدة ، وفي المقام كان العلمان علما واحدا ؛ فإنّ المجموع يمتاز عن المجموع بما يمتاز به الآحاد عن الآحاد.

وقد عرفت أنّ موضوع علم الأصول هو الحجّة على الحكم الشرعي ، فهو بموضوعه ممتاز عن سائر ما عداه ؛ لعدم البحث في شيء من العلوم عن هذا الموضوع ، وإن عمّت أبحاثه ذلك لكن لا يبحث فيها عن ذلك بما هو حجّة ، كالبحث في العلوم العربيّة عن إعراب الكتاب والسنّة ، وكالبحث في المعقول عن اجتماع الأمر والنهي ، لكن بعنوان معقوليّة صدوره من المبدأ لا بعنوان وجود الحجّة ، وهو حكم العقل على جواز الاجتماع. وإحدى الحيثيّتين من شيء إذا كان موضوعا لعلم جاز جعل الحيثيّة الاخرى موضوعا لعلم آخر ، ولم يضرّه وحدة المتحيّث بالحيثيّتين واتّحاد المعنون بالعنوانين ؛ فإنّ المدار في الوحدة والتعدّد على وحدة العنوان وتعدّده.

٦

جهة وحدة العلم

قوام اتّحاد علم واحد ومدار وحدته ـ مع تشتّت مسائله ـ على اعتبار المعتبر واقتطاع المدوّن عدّة من القضايا وجملة من الأبحاث ، وجعل الجملة واحدة كما في العشرة وباقي مراتب الأعداد. فكانت وحدة الغرض مصحّحة للاعتبار لا أنّه عليها المدار وبها الاعتبار.

وعليه فللشخص أن يعتبر مجموع علمين واحدا لغرض هو أوسع من غرضيهما كمطلق الصيانة الشامل للفكر والمقال بالنسبة إلى علمي النحو والمنطق ، أو يعتبر علما واحدا اثنين لغرضين خاصّين ، يختصّ كلّ منهما بشطر من مسائل ذلك العلم مندرجين تحت الغرض الواحد العامّ الشامل لمجموع الغرضين الذي من أجله اعتبر المجموع واحدا. فللغرض عرض عريض ومراتب متصاعدة حتّى أمكن اعتبار مجموع العلوم واحدا.

٧

الوضع

دلالة اللفظ وكونه آلة إشارة إلى المعنى ذاتيّة ، وليست بجعل جاعل. لكن هذه الإشارة الذاتيّة هي الإشارة باللفظ إلى اللفظ ، يعني يشار بشخص اللفظ الصادر من لافظه إلى نوع ذلك اللفظ وجنسه. وهذه الدلالة لا توصف بحقيقة ولا مجاز ؛ إذ ليست من رشحات اللفظ ونتائجه ، ولئن كان وضع أو لم يكن ـ كما في المهملات ـ كانت هذه الدلالة ثابتة ، وذلك من أعظم الشواهد على ذاتيّة هذه الدلالة.

وهذه الدلالة الذاتيّة هي مفتاح الدلالة الاخرى العرضيّة الوضعيّة ، وهي دلالة اللفظ على المعنى ، بل في الحقيقة ليست هناك دلالة أخرى غير هذه ، ولا تنبعث من الوضع وسبب الوضع دلالة لم تكن ، وإنّما يؤثّر الوضع في صرف هذه الدلالة من جانب إلى جانب ـ أعني من جانب اللفظ إلى طرف المعنى ـ ويوجّهها إلى المعنى بعد أن كانت متوجّهة إلى نفس اللفظ.

فالوضع يصرف الدلالة من مدلول إلى مدلول بعد انحفاظ أصل الدلالة. وليكن هذا مراد من قال : إنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة (١) ، يعني أنّ الوضع ليس شأنه إحداث الكشف والدلالة للّفظ

__________________

(١) قال العلّامة في تهذيب الأصول : ٦ : «ذهب عباد بن سليمان [الصيمري] إلى أنّ اللفظ يدلّ على المعنى لذاته ؛ لاستحالة ترجيح بعض الألفاظ بمعناه من غير مرجّح».

ونقل في الفصول الغرويّة : ٢٣ ، نسبة لزوم رعاية المناسبة الذاتيّة في الوضع إليه.

٨

بعد أن لم يكن في ذاته ذاك الكشف والدلالة ، لا أنّ دلالة الألفاظ على المعاني ذاتيّة غير منوطة بوضع الواضع ، فإنّ هذه الدعوى بديهيّة البطلان لا يتفوّه بها أحد.

ثمّ إنّ حقيقة الوضع الصارف للدلالة من جانب إلى آخر والموجّه لها من مدلول إلى مدلول عبارة عن التنزيل وادّعاء الوحدة والهويّة والعينيّة بين اللفظ والمعنى ، يعني أنّ لفظ «زيد» المركّب من موادّ خاصّة بهيئة خاصّة هو بعينه ذاك الشخص الخارجي الموصوف بالصفات الخاصّة الخارجيّة ، فصار ذاك الشخص الخارجي بعد هذا التنزيل وجودان : وجود عينيّ خارجيّ ، وأخر لفظيّ ادّعائي. فإذا صار ذلك الشخص هو عين كلمة «زيد» وكلمة «زيد» هي عين ذلك الشخص حصلت الإشارة بلفظ «زيد» إلى ذلك الشخص ، وكانت الإشارة باللفظ إليه إشارة باللفظ إلى نفس اللفظ ؛ إذ قد فرض أنّ المعنى هو نفس اللفظ لا شيء غيره. والحاجة الماسّة إلى هذا التنزيل وادّعاء العينيّة ، هي الحاجة إلى التعبير عن المعاني والاشارة إليها ولمّا لم تكن آلة إشارة أسهل من اللفظ ، ولا شيء صارف لدلالة اللفظ إلى المعنى سوى التنزيل وادّعاء العينيّة بين اللفظ والمعنى ، احتيج إلى الوضع وتنزيل آحاد الألفاظ بموادّ مختلفة وتراكيب متفاوتة منزلة آحاد المعاني.

فتحصّل أن ليس للوضع معنى سوى التنزيل ، ولا يترتّب الغرض المقصود على سواه ، وأنّ الوضع لا يحدث دلالة في اللفظ لم تكن ، وإنّما يصرف دلالته من جانب إلى جانب.

وليكن هذا مراد المشهور القائلين بأنّ دلالة الألفاظ بوضع الواضع ، يعني انصراف وجهة الدلالة يكون بوضع الواضع ، وإلّا فأصلها ذاتيّة. وبما ذكرناه يحصل الالتئام بين الجانبين ، ويرتفع النزاع من البين.

وقد توهّم بعض المحقّقين ممّن عاصرناه (١) أنّ الوضع عبارة عن البناء والتعهّد القلبي

__________________

(١) هو الآخوند مولى عليّ النهاوندي. راجع تشريح الأصول : ٢٢ ـ ٢٩.

وهو الشيخ علي بن المولى فتح الله النهاوندي النجفي ، علّامة كبير ومحقّق جليل من أكابر العلماء وأجلّاء الفقهاء ، كان من تلاميذ الشيخ مرتضى الأنصاري والميرزا أبي القاسم الكلانتر ، وكان بحثه من أبحاث النجف المعدودة ومن دروسها المحترمة. من تلامذته : الميرزا حبيب الله الرشتي ، والآخوند الخراساني ، والسيد محمّد الخلخالي ، وشيخ الشريعة الأصفهاني. توفّي في ربيع الآخر سنة ١٣٢٢ ه‍ ودفن في وادي السلام. من آثاره كتابا : تشريح الأصول الصغير والكبير. (طبقات أعلام الشيعة ـ نقباء البشر ـ ٤ : ١٤٩٧ بتصرّف).

٩

بعدم ذكر اللفظ إلّا عند إرادة تفهيم المعنى ؛ فإنّه إذا علم من الواضع هذا البناء وأحرز منه ذاك التعهّد والالتزام فبمجرّد أن تلفّظ باللفظ علم أنّه مريد لتفهيم المعنى ؛ لملازمة جعليّة أحدثها بين ذكر اللفظ وإرادة تفهيم المعنى ببنائه وتعهّده ، ومن الواضح دلالة أحد المتلازمين على ملازمه.

وما ذكرناه محصّل إطالات بمقدّمات ومؤخّرات ولعمري قد أتعب نفسه وأجال فكره في حقيقة الوضع وكيفيّة إيراثه الدلالة في اللفظ ، وظفر بما لم تصل إليه أفهام السابقين الأوّلين ، ولكن مع ذلك لم يصل إلى الحقيقة ولم يصب الواقع. وتكفيك في إبطال دعواه كلمة واحدة ، هي أنّ جملة «زيد قائم» حسب ما حقّقه تدلّ على إرادات ثلاث قائمة بنفس المتكلّم : إرادة إحضار صورة زيد في نفس المخاطب ، وإرادة إحضار صورة قائم ، وإرادة إحضار النسبة بينهما. ومن المعلوم أنّ من الإرادات الثلاث لا تتألّف أجزاء جملة «زيد قائم» ، ولا يتحصّل المعنى الجملي ـ وهو ثبوت القيام لذات زيد الخارجي ـ بل يحتاج ثبوت هذه الدلالة إلى علاج آخر وسبب غير التعهّد ، وذاك هو التنزيل الذي ذكرناه. فمعنى «زيد» هو ذات زيد الخارجيّ ، لا أنّ معناه إرادة إحضار صورة زيد.

نعم ، التلفّظ بلفظ «زيد» يدلّ على تلك الإرادة ، لكن ليست تلك الإرادة هي المقصودة بالإفهام. وإنّما المقصود بالإفهام ذات زيد ، وكذا ذات القيام وذات النسبة ، لكن لا بهذه التفصيليّة ، بل بهيئة إجماليّة تفصيلها وبسطها هي الذوات الثلاث. وتلك الهيئة الإجماليّة عبارة عن زيد بهيئة خاصّة وكيفيّة مخصوصة ، وهي القيام. ولعلّنا نتعرّض للمعاني الجمليّة عن قريب.

والحاصل : أنّ ما ذكره من التعهّد أمر معقول ، لا كما ذكره غيره من المعاني للوضع الذي لا يرجع إلى محصّل. وكذلك إيراثه للدلالة أمر مسلّم ، لكن ليست هذه الدلالة هي تلك الدلالة المقصودة في باب الألفاظ ـ وهي دلالة الألفاظ على ذوات المعاني التي منها تتألّف المعاني الجمليّة ـ إذ قد عرفت أنّ نتيجة الوضع بمعنى التعهّد هي دلالة الألفاظ على قيام إرادات بنفس المتكلّم ، وأين هذا من الدلالة على ثبوت نسب بين ذوات المعاني ولا ثبوتها التي هي المقصود من وضع الألفاظ؟!

فما ذكره لا يسمن ولا يغني ، وكأنّ من قال بدلالة الألفاظ على المعاني المرادة ووضعها

١٠

لها أسّس بناءه على هذا المعنى في الوضع ، وزعم فيه ما زعمه المحقّق المذكور من التعهّد ، وهو وهم في وهم ، فلا الألفاظ تدلّ على المعاني المرادة ، ولا الوضع معناه التعهّد. ومجرّد كونه أمرا معقولا لا يستدعي ثبوته ، لا سيّما مع عدم ترتّب الغرض المقصود عليه.

وممّا ذكرناه في حقيقة الوضع يسهل لك فهم حقيقة الاستعمال فإنّه من رشحاته ؛ إذ الاستعمال ليس إلّا إعمال الوضع وإنفاذه ، وجعله فعليّا منجّزا بأن يذكر اللفظ مشيرا به إلى المعنى ، فما صار وحدث بالوضع هو قوّة محضة ، وفعليّتها تكون بالاستعمال ، فما لم يستعمل اللفظ لم تتحصّل به الإشارة. نعم ، هو آلة إشارة وأداة دلالة ، ومهما كان من استعمال فهو مسبوق بالوضع من شخص المستعمل ، فكلّ مستعمل هو واضع وإن لم يكن مخترعا للوضع بل متّبعا لواضع آخر فليس معنى اختيار لغة إلّا عبارة عن الالتزام بأوضاع تلك اللغة ، ووضع ألفاظها بإزاء المعاني التي وضعها واضع تلك اللغة ، فالتّابع والمتبوع كلّ في عرض واحد في الوضع.

نعم ، ذاك أظهر وضعه بتصريحه وهذا أظهره باختياره لغته ، وأيضا ذاك أسّس الوضع واخترعه وهذا جرى على منواله. هذا في الحقائق ، وسيجيء أنّ مفتاح باب المجازات أيضا هي أوضاع الحقائق.

المعنى الحرفيّ

إذا نظرنا إلى المعاني ـ وهي جميع أجزاء العالم ـ رأينا بسائطها وموادّها العنصريّة لا تشذّ عن ثلاث ، وهي : الذوات ، وحركات الذوات ، والروابط وهي النسب بين تلك الذوات والحركات.

ونعني بالذوات ما يقابل الحركات ، فتشمل الجواهر والأعراض.

ونعني بالحركات المعاني الحدثيّة ، وهي الأفعال اللغويّة المدلول عليها بالمصادر ، وكأنّه المراد من قوله عليه‌السلام : «والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى» (١) مريدا منه الفعل اللغوي دون الاصطلاحي.

__________________

(١) روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما ليس باسم ولا فعل» (معجم الأدباء ١٤ : ٤٩ ؛ كنز العمّال ١٠ : ٢٨٣ ، رقم ٢٩٤٥٦).

١١

وأمّا الروابط ، فهي نسب قائمة بطرفيها ، فكلّ ذات وحركة ففي بطنها ومكمونها نسبة من النسب ، وهذه النسب سريعة التحوّل ، وهي دائما بين الحدوث والزوال. فأنت جالس في صحن دارك وبينك وبين كلّ ما في العالم نسبة ، فإذا تحوّلت من مكانك أو تحوّل شيء من ذرّات العالم من مكانها تحوّلت النسبة ، فقامت نسبة وجلست أخرى ؛ فكأنّ جميع ذرّات العالم مربوطة بعضها ببعض بحبل واصل بينها متحرّكة دائما في ربطها ، تعطي ربطا وتأخذ آخر.

هذا في الخارج ، وأمّا في لوح النفس ففي ابتداء ما ننظر إلى الخارج ونرى زيدا تاليا للقرآن ، وعمرا سائرا من البصرة إلى الكوفة ، وبكرا راقيا على السطح ، وخالدا جالسا في الدار ، وهكذا ؛ تحصل مطابق تلك النسب الخارجيّة في النفس ـ بما هي ـ نسب وروابط قائمة بالطرفين.

نعم ، هنا قائمة بين طرفين نفسيّين ، وهناك بين طرفين خارجيّين ، لكن في ربطيّتها لم تتغيّر ، يعني كما هي روابط في الخارج كذلك هي روابط في النفس.

ثمّ بعد هذه النظرة للنفس سلطان تصوّر هذه النسبة استقلالا مخرجة إيّاها عن مصداقيّة النسبة ، مدخلة لها في قطار المعاني المستقلّة بالمفهوميّة غير القائمة بالطرفين وهي في هذا الحال ليست بنسبة بالحمل الشائع ، وإن كانت نسبة بالحمل الذاتي فيتصوّر مفهوم الابتداء والانتهاء والاستعلاء والظرفيّة إلى غير ذلك من مفاهيم النسب والروابط ، وإن كانت هي بأنفسها خارجة عن النسب والروابط ، ومن أجله جاز أن يحكم عليها وبها ، واحتاجت إلى رابط يربطها ، فتقول : ابتدأت من أوّل القرآن ، وانتهيت إلى آخره. فللنسب في النفس طوران من التحصّل : طور على نحو ما لها من التحصّل التبعي الخارجي ، وأخر تحصّل استقلالي يجري عليها في طورها. هذا كلّ ما يجري على سائر المفاهيم المستقلّة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الروابط بما هي روابط لا تقع تحت اللحاظ والتوجّه ، ولا في حيّز الحكم ، ولا توصف بالكليّة والجزئيّة ، ولا تحت الوضع والاستعمال اللذين هما ضربان من الحكم ، وكلّ ما يكون لها ، يكون لها تبع ذوات الربط.

والوجه في ذلك واضح بعد التأمّل فيما قلناه سابقا ، وتميّز المعاني الربطيّة عن المعاني

١٢

المستقلّة التي مصاديقها المعاني الربطيّة. فظهر الحقّ وبطل ما كانوا يعملون ، ولغى النزاع في المعاني الحرفيّة ، وأنّها كليّة أو جزئيّة ، فإنّ الوضع لها غير معقول ، وكيف يوضع اللفظ بإزاء ما هو خارج عن اللحاظ والتوجّه الاستقلالي؟!

وأمّا الوضع للمفاهيم المستقلّة فهو أمر معقول ، لكنّه لا يجدي الوضع لها في تحصّل المعاني الجمليّة وتألّف القضايا التركيبيّة ؛ فإنّ ألف مفهوم مستقل إذا اجتمعت والتفّت لم يحصل بها المعنى الجملي ما لم يكن بينها رابط حرفي يربطها ؛ وقد سمعت أنّ مثل لفظ «ابتدأت» و «انتهيت» أيضا تحتاج إلى الرابط ؛ فإذا فرض وضع الحروف أيضا بإزاء هذه المفاهيم الاسميّة كانت حالها حالها في الاحتياج إلى الروابط ، فكيف يكون هي الرابط؟!

فلا محيص في تحصّل المعاني الجمليّة ـ بعد ما سمعت أنّ المعاني الحرفيّة قاصرة عن قبول الوضع ، وأنّ المعاني الاسميّة لا يجدي وضعها في حصول الربط ـ إلّا من التزام وضع ألفاظ المتعلّقات بهيئاتها الخاصّة ـ الحاصلة لها من تخلّل الحروف أو النسب الحاصلة لها من تقديم وتأخير ـ بإزاء المعاني الجمليّة بعد وضع كلّ من موادّ الجمل بإزاء موادّ معانيها.

وهذا هو معنى الوضع للمركّبات ، فلولا الالتزام بالوضع للمركّبات بإزاء مفاهيم ذوات ربط ومعان في بطنها وكمونها الربط لم يجد وضع الأدوات في تحصّل الربط وتحصّل المعاني الجمليّة ؛ فإنّ الأدوات لأيّ معنى وضعت ـ ربطيّا كان على فرض معقوليّته ، أو غير ربطي ـ لا يجدي وضعها في تحصّل معاني الجمل. والمفاهيم غير المرتبطة في ذاتها لا ترتبط برابط خارجي ، وإنّما المرتبط مرتبط في بطن أمّه ومن أوّل يومه.

ولا تتوهّمن أنّ المعاني الجمليّة عبارة عن مفاهيم ثلاث : مفهوم الموضوع ، ومفهوم المحمول ، ومفهوم النسبة ، فاجتمعت فصار معنى الجملة ؛ فإنّك إن تنل السماء أيسر من أن تحصّل معنى جمليّا بذلك.

وإنّما المعنى الجملي مفهوم واحد بسيط ، وهو «زيد» على صفة القيام ، وثابت له القيام ، وهذا إذا انحلّ انحلّ إلى موضوع ومحمول ونسبة. والجملة التركيبيّة ـ بما هي تركيبيّة ـ موضوعة بإزاء هذا المعنى البسيط المنحلّ إلى معان متعدّدة ، وضع بإزاء كلّ منها جزء من أجزاء ألفاظ الجملة ولفظ من ألفاظ المجموع ، عدا الحروف فإنّها محصّلات للهيئة الكلاميّة

١٣

ومولّدات للعناوين الجمليّة.

والحاصل : أنّ لكلّ من موادّ الجملة وضع يخصّها ، وللموادّ بالهيئات المختلفة الحاصلة من تخلّل الحروف وغيره أيضا وضع على حدّه ، فالقول بالوضع للحروف باطل غير مؤدّ لتحصّل المعاني الجمليّة ، وإن قيل بوضعها للروابط بما هي روابط ؛ فإنّها مع ذلك لا توجب ربط الأطراف ، وإن أردفت في الكلام وأتي بها خلال الجملة ، هذا إن تعقّلنا الوضع لها. كيف! وقد عرفت عدم تعقّل الوضع لها.

وخلاصة الكلام هو أنّ وضع أجزاء الكلام لا يغني عن وضع مجموعه ، فإن تعلّق مع ذلك وضع بالمجموع تمّ الكلام وأفاد الغرض المقصود وإلّا لم يتمّ ولم يفد. ف «زيد في الدار» و «زيد على الدار» يختلف معناهما الجملي باعتبار اختلاف هيئة الجملتين واتّحد معاني موادّهما ، يعني أنّ زيدا والدار تحت الهيئة الأولى موضوعان بإزاء زيد الثابت له الكينونة في الدار ، التي هي حالة من حالات زيد ؛ وتحت الهيئة الثانية موضوعان بإزاء. زيد الثابت له الاستعلاء على الدار ، التي هي حالة أخرى من حالات زيد ، فقطعة من «زيد» هي مدلول الجملة الأولى وقطعة منه هي مدلول الجملة الثانية ، وزيد اللابشرط هو مدلول نفس كلمة «زيد» اللابشرط عن كلّ هيئة ، وكأنّ من توهّم الوضع للحروف شاهد اختلاف معنى الجملتين ، فحسب أنّ ذلك مستند إلى وضع الحروف غفلة عن حقيقة الحال ، وأنّ ذلك مستند إلى اختلاف أوضاع الجمل!

إن قيل : فما فائدة الوضع للموادّ ، وما وجه الالتزام بها ولم يقتصر حينئذ على الوضع للمركّبات؟

قلنا : أوضاع المركّبات أوضاع نوعيّة تحتاج إلى سبق أوضاع شخصيّة متعلّقة بالموادّ وبدونها لا تتمّ أوضاع المركّبات ؛ فإنّها تعلّقت بالموادّ متهيّئة بشيء من الهيئات الحاصلة من تخلّل الحروف أو غيره بإزاء معنى تلك الموادّ ـ كائنا ما كان ـ متخصّصا بالربط الخاصّ الظرفي أو الابتدائي أو الاستعلائي وهكذا ، وما هذا شأنه لا يتمّ بلا وضع يخصّ الموادّ ، أو يلتزم بأوضاع شخصيّة للمركّبات إلى ما شاء الله ، وحيث إنّ الثاني باطل تعيّن الأوّل.

وإن شئت توضيح المقام فانظر إلى باب المشتقّات ، وانظر إلى أوضاع الهيئات النوعيّة ،

١٤

وإلى أوضاع موادّها الشخصيّة ، وإلى أنّ الأوّل لا يتمّ بدون الثاني ، بذلك تزداد بصيرة في المقام.

هذا تمام الكلام في مفاهيم الجمل الناقصة.

وأمّا الجمل التامّة ، فجملة «زيد قائم» تدلّ على ثبوت النسبة كدلالة «زيد ليس بقائم» على لا ثبوتها ، وهذه الدلالة على الثبوت واللاثبوت الخارجيّين دلالة خارجة عن وسع وضع الألفاظ ، وليست أثرا للوضع بأيّ معنى فسّرنا الوضع ؛ فإنّ غاية ما تقتضيه الأوضاع الدلالة والإشارة إلى مفاهيم مقيّدة كجملة «غلام زيد» و «خاتم فضّة» دون الدلالة على ثبوت القيد والنسبة في الخارج ولا ثبوتها ، فلا بدّ من التزام وضع وجعل آخر تكون نتيجته هذه الدلالة ، مضافة إلى الدلالة الأولى التي هي أثر الوضع الأوّل.

وذلك الوضع يحتمل أن يكون عبارة عن التعهّد والالتزام الذي ذكره القائل المتقدّم ، على أن يكون البناء حاصلا من الواضع على ألا يتكلّم بجملة تامّة خبريّة مثبتة أو نافية إلّا مع أن يكون البناء حاصلا من الواضع على ألا يتكلّم بجملة تامّة خبريّة مثبتة أو نافية إلّا مع ثبوت النسبة أو لا ثبوتها فتحصل عقيب هذا البناء الملازمة الجعليّة بين التكلّم بالجملة وبين ثبوت النسبة ولا ثبوتها ، فإذا حصلت الملازمة الجعليّة البنائيّة دلّ تحقّق أحد المتلازمين ـ وهو التكلّم بالجملة ـ على تحقّق ملازمه وهو ثبوت النسبة ولا ثبوتها.

ويحتمل أن يكون ذلك الوضع أيضا من سنخ ما ذكرناه من التنزيل ، على أن تكون هيئة الجملة التامّة الخبريّة منزّلة منزلة تحقّق النسبة ، يعني أنّ هيئة «زيد قائم» بحسب الادّعاء ، هو عين ثبوت القيام لزيد في الخارج ، فلأجل ذلك يشار إليه ويحكي بها عنه ، ولا تحكي عنه جملة «زيد القائم» و «قيام زيد» مع اتّحاد معنى الموادّ بل ومعنى الهيئة الدالّة على النسبة ، لكن هذه إشارة إلى المفهوم المتضمّن للنسبة والمفهوم المنتسب ، كانت في الخارج نسبة أو لم تكن ، وتلك إشارة إلى النسبة الخارجيّة والنسبة المتحقّقة في وعاء الخارج.

أقسام الوضع والموضوع له

الوضع والموضوع له إمّا خاصّان أو عامّان ، ولا ثالث ورابع يختلف فيهما الوضع والموضوع له عموما وخصوصا ، فيكون الوضع عاما والموضوع له خاصّا وبالعكس ؛ فإنّ

١٥

سعة كلّ من الوضع والموضوع له لا يتجاوز عن سعة الآخر ، ولا يتخطّى كلّ منهما صاحبه. فالمعنى الملحوظ حال الوضع لا بدّ أن يكون هو الموضوع له دون غيره غير الملحوظ حاله ، فإن كان الملحوظ عامّا كان الوضع والموضوع له عامّين ، وإن كان خاصّا وجزئيّا حقيقيّا كان الوضع والموضوع له خاصّين.

وما قيل في تصوير الوضع العام والموضوع له الخاصّ من أنّ العامّ حدّ من حدود الخاصّ ووجه من وجوهه ـ حيث إنّ الخاصّ عبارة عن ذاك العام مع الخصوصيّة الزائدة ، فهو مشتمل على العامّ والعامّ وجه من وجوهه ـ وتصوّر وجه الشيء تصوّر للشيء بوجه ، وهذا المقدار من التصوّر كاف في وضع اللفظ ، ولا يفتقر الوضع إلى تصوّر الموضوع له بكافّة خصوصيّاته وعامّة حدوده وجهاته (١).

يدفعه : أنّ الخارج من التصوّر خارج من الوضع ، فعند ما تصوّرنا العامّ كمفهوم الإنسان مثلا ، فإمّا أن نضع اللفظ بإزاء هذا الذي تصوّرناه فلا إشكال ، وإمّا أن نضع بإزاء جزئيّاته ومصاديقه ، وحينئذ لا يخلو إمّا أن يراد من الجزئي والمصداق مفهوم الجزئي والمصداق ، فلا ريب أنّ مفهوم الجزئي والمصداق أيضا مفهوم عامّ قد حصل تصوّره ، فيكون الوضع والموضوع له عامّين ؛ أو يراد من الجزئي والمصداق مصداقهما ، ولا ريب أنّ المصداق غير متصوّر ، ومع ذلك كيف يتصوّر وضع اللفظ له؟

وظنّي أنّ الاشتباه وحسبان تحقّق الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ نشأ من هذا ، فاختلط مفهوم المصداق ومفهوم الجزئي بمصداقهما.

والحاصل : أنّ كلّ ما حصل تصوّره وكلّ ما حضرت صورته في النفس جاز الوضع له ، وكلّ ما لم يحصل لم يجز. فالجزئيّات الحقيقيّة إن حصلت صورتها بما هي جزئيّات جاز الوضع لها ، وإن لم يحصل سوى صورة عنوان كونها جزئيّا ـ وهو أيضا غير كلّي ـ لم يجز الوضع إلّا لهذا العنوان الحاصل دون المعنونات غير الحاصلة صورها في الذهن. فالعامّ وإن كان وجها من وجوه الخاصّ لكن تصوّره لا يجدي في الوضع للخاصّ غير المتصوّر.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٢ ؛ كفاية الأصول : ١٠ ؛ بدائع الأفكار : ٣٩ ـ ٤٠.

١٦

نعم ، يجدي وينفع في الوضع لنفس هذا الوجه المتصوّر ، فالوضع والموضوع له الخاصّ باطل.

ونظيره في البطلان الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ؛ فإنّا إن تصوّرنا زيدا فلا يخلو إمّا ألا نتصوّر شيئا وراء زيد فلا يعقل أن نضع لفظا له بعد أن لم نتصوّره ، أو نتصوّره ولو بعنوان ما هو جنس زيد ونوعه ، وإن لم نعلم حقيقة ذلك الجنس والنوع تفصيلا بل لم نعرفه إلّا بعنوان جنس زيد ونوعه ، فلا يخرج الوضع عن الوضع العامّ والموضوع له العامّ ؛ إذا الفرض أنّا تصوّرنا عنوان جنس زيد ونوعه الذي هو عنوان عامّ ، وإن لم نتصوّره بهويّته وحقيقته. فكان الوضع عامّا كالموضوع له.

الألفاظ موضوعة لذوات المعاني

ذوات المعاني معان للألفاظ دون وجوداتها الخارجيّة ودون صورها العلميّة ، فمعنى «زيد» تلك الماهيّة الشخصيّة التي يحكم عليها بالوجود الخارجي تارة وبالوجود الذهني أخرى ، وهي في ذاتها خالية عن كلا الوجودين ولا بشرط عن نحوي التحقّقين.

ويشهد لما ذكرناه ـ مع وضوحه ـ جواز الحكم عليه بالوجود الخارجي تارة ، وبالوجود الذهني أخرى ، وبالعدم ثالثة ، فلو لا أنّه في ذاته خلو عن كلّ ذلك لم يجز الحكم عليه بكلّ ذلك. وأيضا لو كان معنى «زيد» هو زيد الموجود كان لفظ «زيد» جملة تامّة خبريّة مرادفا ل «زيد موجود» ، وهو باطل بالقطع ، وأيضا أنّ الوضع حكم قائم بالنفس فلا يعقل أن يكون متعلّقا بموضوع خارجي ، وسيجيء أنّ القضيّة من أيّ عالم كانت لزم أن يكون طرفاها في ذلك العالم. هذا في مصداق الموجود.

وأمّا أخذ مفهوم الوجود في مداليل الألفاظ بنحو التقييد على أن يكون «زيد» مرادفا لزيد الموجود ، فذلك ممّا لا مانع منه عقلا ، لكنّه باطل غير واقع خارجا ، وإلّا لزم أن يكون القيد في زيد الموجود مستدركا وفي زيد غير الموجود تناقضا.

ثمّ الظاهر رجوع البحث في أنّ الألفاظ موضوع لذوات المعاني أو للمعاني بما هي مرادة إلى ما ذكرناه ، على أن يكون المراد من كلمة «مرادة» المتصوّرة. ويحتمل عدم الرجوع

١٧

ويكون المراد من كلمة «مرادة» ما أريد إحضاره في ذهن المخاطب ، فيكون إشارة إلى ما سبق في معنى الوضع من أنّ لازم تعريف الوضع بالتعهّد ـ بعدم ذكر اللفظ إلّا عند إرادة تفهيم المعنى ـ هو أن تكون مداليل الألفاظ ومعانيها هي الإرادات دون ذوات المعاني ، فكان معنى «زيد» هو إرادة إحضار صورة زيد في ذهن المخاطب. لكن سبق بطلان المبنى ، وأنّ الوضع ليس إلّا التنزيل بين الألفاظ وذوات المعاني ، وأثر هذا الوضع أن يشار بلفظ «زيد» إلى ذات زيد.

نعم ، اختيار التلفّظ بلفظ «زيد» كاشف عن أنّ المتلفّظ داعيه إلى التلفّظ إحضار صورة المعنى في ذهن المخاطب ، ويريد أن يفهمه ذلك ، كما هو الشأن في الإشارة بالجوارح ، لا أنّ هذه الإرادة مدلول اللفظ وقد أشير باللفظ إليها. والدلالة التي هي تابعة للإرادة هي هذه الدلالة ـ إذ كانت مدلولها الإرادة ـ دون تلك الدلالة الأولى التي هي نتيجة الوضع ، فإنّها دلالة وإشارة إلى ذات المعنى بلا مدخليّة للإرادة.

بطلان تقسيم الوضع إلى تعييني وتعيّني

من الأغلاط تقسيم الوضع إلى تعييني وتعيّني ، بل كلّ وضع هو تعييني ولا وضع حاصل بالقهر ولأجل كثرة الاستعمال ؛ فإنّ الوضع من الأمور القلبيّة لا من الأمور الخارجيّة ليقبل القهر. فإن حصل ذاك التعيين القلبي والجعل النفساني جاز الاستعمال وحصل التعيّن ، وإلّا لم يجز بل احتاج الاستعمال إلى رعاية علاقة وإقامة قرينة وإن بلغ من كثرة الاستعمال ما بلغ ، ولا تكون كثرة الاستعمال موجبا لتعيّن اللفظ فيما كثر استعماله فيه.

نعم ، لا نأبى أن تكون كثرة الاستعمال كاشفة عن البناء والجعل النفساني ، ويكون سبب تعيّن اللفظ هو ذاك دون هذا الكاشف. فسبب التعيّن لا زال هو التعيين القلبي ، والكاشف عن ذاك التعيين يختلف ، فتارة قول : «وضعت» وأخرى كثرة الاستعمال ، كما قد يكون ثالثة استعمال واحد كاشفا عنه ، كما إذا قامت قرينة على أن المستعمل باستعماله هذا أراد إظهار وضعه.

وعلى ما ذكرناه فكثرة الاستعمال ـ وإن بلغت ما بلغت ـ لم توجب الوضع والتعيّن ما

١٨

لم تكشف عن الجعل والتعيين ، ومع الكشف فالعبرة به لا بها. ولعلّ من قسّم الوضع إلى تعييني وتعيّني اشتبه عليه الأمر ، وحسب أنّ منشأ العلقة هو هذا الكاشف مع وضوح أنّه المنكشف ، أو أراد التقسيم بلحاظ الكاشف عن الوضع لا بلحاظ نفس الوضع.

الاستعمالات المجازيّة

مفتاح الاستعمالات المجازيّة هي الأوضاع الحقيقيّة ، فالأوضاع الحقيقيّة كما تفتح باب الاستعمالات الحقيقيّة كذلك تفتح باب الاستعمالات المجازيّة. نعم ، هذه مع الواسطة وتلك بلا واسطة ، يعني أنّ الوضع بنفسه كاف في صحّة الاستعمالات الحقيقيّة.

وأمّا في صحّة الاستعمالات المجازيّة فتحتاج إلى ادّعاء آخر وتنزيل ثانوي يضمّ إلى التنزيل الأوّل الحاصل بين اللفظ والمعنى ، وهذا التنزيل الآخر تنزيل حاصل بين معنيين ـ أعني المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ـ لا بين اللفظ والمعنى كما هو شأن التنزيل الأوّل. فهناك ادّعى أنّ كلمة «أسد» عبارة عن ذاك الحيوان الخارجي بعينه ، وهنا ادّعى أنّ «الرجل الشجاع» عبارة عن ذاك الحيوان الخارجي المفترس ؛ وبما أنّ المتّحد مع المتّحد مع الشيء متّحد مع ذاك الشيء ، تكون النتيجة أنّ «الرجل الشجاع» وكلمة «أسد» متّحدان.

فالأوضاع الحقيقيّة والتنزيلات الأوّليّة هي أوضاع مجازيّة في المراتب النازلة ، وبالنسبة ذوات العلائق مع المعاني الحقيقيّة ، فتنحلّ الأوضاع الحقيقيّة إلى الأوضاع المجازيّة ، وفي بطن تلك الأوضاع هذه الأوضاع.

فصحّ لنا أن نقول : إنّ الاستعمالات المجازيّة تكون بالوضع ، مريدا عنه عين أوضاع الحقائق لا أوضاع أخر في عرضها. فإذا كان تنزيل اللفظ منزلة المعنى وادّعاء أنّه هو هو مصحّحا لاستعمال اللفظ فيه والإشارة باللفظ إليه ـ حسبما فصّلنا القول فيه عند ذكر حقيقة الوضع ـ كان تنزيل معنى آخر منزلة هذا المعنى الموضوع له لرابطة بينهما موجبا لاستعمال اللفظ في ذاك المعنى الآخر والإشارة باللفظ إليه كما يشار به إلى المعنى الموضوع له ؛ لأنّ المفروض عينيّتهما واتّحادهما ، فكان استعمال اللفظ فيه استعمالا له في عين الموضوع له لا في شيء غيره.

١٩

فكلّ وضع حقيقي فهو متضمّن على نحو اللّف أوضاعا لا تحصى ـ بإزاء المعاني المناسبة للمعنى الحقيقي عرضا وطولا ، مناسبة جازت معها دعوى الاتّحاد والهوهويّة ـ فيسري هذا الوضع إلى المناسبات بلا حاجة إلى الالتفات إلى التناسب ، بل إن التفت أو لم يلتفت أو اعتقد عدمه ومن أجله منع من الاستعمال ، كان الوضع ساريا وأثره في الأعقاب باقيا من غير أن يصغى إلى منع الواضع. بل يقال له : إنّك مشتبه ومخطئ في الصغرى وفي اعتقاد عدم المناسبة ، وأنّ المناسبة موجودة لعلاقة حاصلة ، وهذا داخل تحت وضعك وجعلك.

نعم ، لا يحمل اللفظ على المعنى المجازي إلّا بعد قيام الصارف عن المعنى الحقيقي ؛ وذلك لاحتياج المجاز إلى بذل عناية من المستعمل في استعماله ، وأنّه قد أطلق اللفظ بلحاظ العلاقة وتنفيذا للتنزيل والادّعاء الثانوي ، فلو لا القرينة على ذلك اتّجه اللفظ إلى معناه الحقيقي بمقتضى التنزيل الأوّل.

وهكذا كلّ مجاز بعيد طولا وعرضا لا يصار إليه ، ولا يحمل اللفظ عليه إلّا مع سدّ باب احتمال المجاز الأقرب منه فالأقرب ، واختلاف المجازات العرضيّة قربا وبعدا يكون باختلاف العلائق والروابط شدّة وضعفا ، واختلاف المجازات الطوليّة بكثرة الوسائط وقلّتها ، فالمشابه أقرب من مشابه المشابه ، وهكذا.

هذا إن جوّزنا سبل المجاز من المجاز ، وإلّا فلا يتصوّر القرب والبعد الطولي ، وانحصر القرب والبعد في قوّة العلاقة وضعفها.

استعمال اللفظ في شخصه

لا بدّ لكلّ قضيّة من قوائم ثلاث : موضوع ، ومحمول ، ونسبة. وفي أيّ وعاء كانت القضيّة كانت قوائمها الثلاث في ذلك الوعاء ، يعني أنّ القضيّة الخارجيّة لا بدّ وأن تكون أطرافها جميعا في وعاء الخارج ، فإذا ارتقت إلى النفس واستقرّت في كرسيّ النفس كان مقرّ الأطراف جميعا في النفس ، ثمّ إذا هبطت من النفس إلى اللفظ كانت قوائمها الثلاث ـ موضوعا ومحمولا ونسبة ـ في اللفظ.

٢٠