ديواني

المؤلف:

صالح الظالمي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٦

١
٢

٣
٤

الإهداء

إلى الذين يضعون الحواجز المثقلة على آذانهم حين يُقرأ الشعر ، وعلى عيونهم حين يتحول الشاعر إلى «ممثّلٍ» ، ثم ينسلّون إلى زأويةٍ هادئةٍ يقرآون فيها الشعر بأنفسهم ، ويشعرون أنّهم قائلوه حين يكونُ قريباً منهم ، أو ، أنّهم رافضوه حين يكون بعيداً عنهم ...

إليهم وحدهم اُقدّم هذا النزيف.

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا خاتم المرسلين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

النص الأدبي كائنٌ حي ، يولد وينشأ في أجواء حيّة ، ويتعاطى ما تتعاطاه الكائناتُ الحيّة ، وجمهورُ المتلقّين لا يحيد عن هذا الاتجاه ، وهو البطلُ الحقيقي الذي تسلّط عليه الأضواء في كلّ عملية شعرية ، أمّا الآخرون ـ بما فيهم النقّاد ـ فهم الخط الثاني على هامش العمل الشعري.

ومن هنا لا نرغب أن تكون هناك قطعيةٌ بين الشاعر وجمهوره ؛ بسبب تحميل نصِّهِ الإبداعي فوق إدراك من يرافقه إلى آخر المطاف.

نعم نحن لا ننكر القيمةَ المضافةَ إلى النصِّ الأدبي من عمليات التداخل المعرفي ، ولكنّها في كثير من الأحيان تجيء على حساب القيمة الأساسية للنصِّ وسلطته ، بل إنّ هذا التداخل هو الذي أدّى إلى هذه الهوّة الكبيرة ، بل إلى القطيعة بين الشاعر والجمهور ، وراج كلّ واحدٍ منهما يعيش

٧

العزلةَ وينغلق على ذاته ، في عالمٍ مشحونٍ بالمتغيّرات والتبدّلات ، والتي من المفروض أن تكون لها دلالةٌ واضحةٌ على الإبداع الثقافي والمعرفي ، والذي هو حالةُ وعيٍ أكيدة يحاكي فيها المبدعُ الأشياء ، وإن كان يعيش في حالة لأوعي أثناء اللّحظة المبدعة.

وهكذا ابتعدنا كثيرا عن هذا العالم ، وصار كلّ واحد منا ـ سواء أكان المبدع أم الجمهور ـ يتّهم الآخر بأنّه هو السبب وراء كلّ هذا التيه الذي نعيشه.

فالشاعر يتّهم الجمهور بعدم الاهتمام بالسموِّ والارتقاء إلى مستوى النص ، وعدم إتعاب نفسه حتى يتسلّح ويتزوّد بأدواة الشاعر وما يرمي إليه حين استعمال هذا الرمز أو هذا التركيب ، ومن خلالهما يتعين عليه التخصّص بأدواة كلّ شاعر ، وإلّا عاش المتيه ، وما من أحدٍ له القدرة على إعادته.

والجمهور ، بما فيهم الناقد الذي هو عادة متلقٍ من نوع خاص ، يأخذ باللائمة على المبدع ، والغريب أن النقد أصبح هو الآخر نصّاً مقابل النصّ الإبداعي الشعري ، ودونك كلام عبد العزيز حمودة عند حديثه عن كمال أبو ديب في (المرايا المحدّبة : ص ١٨) :

«ولكنني ـ والحق يقال ـ توقفت كثيراً عند

٨

لوغارتيماته كلّها ، عند دوائره ومثلثاته ، خطوطه المتقاطعة والمتوازية والمنحرفة ، وزواياه الحادة والمنفرجة ، دون أن أفهم شيئاً ، مرة اُخرى مع كثير من الانبهار، وقليل من الشك في مستوى ذكائي الفطري والمكتسب ، أنحيت باللائمة ـ للمرة الألف في تعاملي المبكّر مع البنيويين العرب ـ على نفسي ، فالقصور لابد أن يكون قصوري أنا ، ولابد من إنارة النص من الداخل أو الخارج أو الاثنين معاً ، حسب الانتماء الإيديولوجي للناقد ، ولكن مع ذلك أراني غير قادر على إبصار تلك الإنارة ، فربّما يكون بريقها معميا ، ونفس الموقف وقفته مع لوغارتيمات هدى وصفي عند محأولتي فهمها في مجلة (فصول)».

صحيح إنّ القول المغلق ـ بلغة علم النفس ـ هو مرأوغةٌ مقصودةٌ ، يريد من خلالها الشاعر أن يترجمَ انفعالاتهِ وما كسبته من اشتعال تلك الأنا الفاعلة لذلك الوعي في اللحظة المتمرّدة على ذلك الواقع لتكون في طريق النقيض للإدراك.

وكذلك أنا أفهم أنّ الشاعر كائنٌ خاص ، تختلف مرآة انفعالاته عن الآخرين ، ويختلف قنديله كذلك عن بقيّة

٩

القناديل ، لأنّ زينَة يحرقُ فتيلَه أولاً ، ولعد ذلك يفكّر في السراج والعتمة.

ولكن في النهاية لابدّ من التعايش ، وأن يُكتب الشعر باتجاه الإنسان ، والشاعر الجيّد هو الّذي يستطيع ان يوائم بين الأمرين ، بأن يولّد نصّاً ينتمي إلى الكائنات ، ومعروفٌ أنّ هذه الكائنات الحيّة تتفاوت في عمرها ومدى استمرارها في الحياة.

ولابدّ للشاعر كذلك من إيجاد مسافةٍ بينه وبين المستوى الّذي يحاول الوصول إليه ، وإن كانت هذه المسافة هي مبعث الحزن والاضطراب لديه ، ولكنّها المحرك الأكيد باتّجاه الخلق والإبداع.

ومن بين تلك المشاكل الضاغطةِ ، الّتي أدّت إلى أن ينزوي الشاعر ويعيش بعيداً عن جمهوره ، بل يعيش العزلة ، هي القضايا السياسية الخانقة التي جعلت من الشاعر لا يلتقي مع الجمهور حتى لا يرتدي جبّة السلطان ، ويكتب له شعرَه المكتسب شرعيتهَ وهويتَهَ من أدوات السلطة القمعية ، وبعد ذلك يتلوّن بألوانه.

وهذا الشاعر هو الّذي يستخدمه السلطان ، ليأتي الخدم في اليوم التالي يكنسونه من الطريق الذي يسير فيه سيدهم

١٠

للفتك بالانسان ، والّذي من المفترض على الشاعر أن يسافر بأحاسيسه ومشاعره باتجاهه.

هذه الحالة المعذّبة وُجِدَتْ في مقطعٍ زمني كان مقياساً ، اختبرت فيه إنسانيةُ الشاعر العربي ، والعراقي على وجه التحديد ، فمن الشعراء من باع نفسه وشعرَه وكل ما يملك للحاكم ارضاءً لهُ وخفاً منه ، وتزلّفاً في أحيانٍ كثيرةٍ للتنعُّم بأوسمته التي كان يقلّدها الحاكمُ الجائرُ عبيده الشعراء حين الانتصار على البؤساء والمحرومين.

ومن الشعراء من تمرّد على السلطة ، وإن كان لا يملك في حربه سوى ثمانية وعشرين حرفاً ، وهي عاجزة ، لا كما يذهب خياله بأنها تستطيع أن تقلب الموازين على السلطة ، وخصوصاً إذا كانت السلطة سلطة صدّام وحزبه ، التي تفتك بمن تظن وتشتبه به.

وبين هذين وجد الخط الثالث من الشعراء الّذين فضّلوا الصمت على الكلام ليحافظوا على سلامة حواسهم ومشاعرهم ، ومن ثم يباركوا السلطان على جميع أموالهم المنقولة وغير المنقولة.

وندري أنّ للصمت في حيان كثيرةٍ دلالاتٍ أوقع من الكلام ، وربّما يكون له تأثير أبلغ في النفوس التي تكفيها

١١

الإشارة ، ومعلوم أنّ الكلام اذا كان من فضة فإنّ السكوت من ذهب.

ومن بين هؤلاء الشعراء الذين رفضوا السلطة ولم يرتدوا لباسها ويتلوّنوا بألوانها ، بل تمرّدوا عليها بصمتهم الذي دام طويلا ، هو الشاعر المبدع الاُستاذ صالح الظالمي ، فقد أصر على مقارعة النظام السابق بذلك الصمت على الرغم من محاولات النظام المتكررةِ بالترغيب والترهيب اللّين استخدمهما معه ، وحاول عبثاً طوال ثلاثين سنة استمالته ، ليحرز بذلك انتصاراً على الشعر والشعراء ، ولكنه فضّل الصمت ، ورفض إلّا أن يكون كما هو ، وإن كان ذلك على حساب كمية شعره.

غير أنّا نتأمل ـ بعد انقشاع الغُمَّة وزوال الكابوس الجاثم على الصدور ـ عودة الاُستاذ الظالمي ليزرع في رحم الحرية قصائده الجديدة والتي حلم بها عاشقوه ومريدوه.

والمكتبة الأدبيّة المختصّة ـ والّتي ما زالت حريصة على تكريم المبدعين ـ تضع بين يدي جمهورها الكريم (ديواني) للاُستاذ الظالمي ، وتجد بذلك سلوةً على ما فقدته المدرسةُ النجفيّة الأدبيّة في تلك السنوات العجاف من نهاية الستينات حتى الساعة الأخيرة لسقوط صنم بغداد.

١٢

واليوم إذ تعود تلك الذبالة المتوهجة عند أمير البلاغة والكلمة الصادقة ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، تتمنّى المكتبة على روّادها والمؤمنين بها ، والنقاد ، أن يتناولوا هذا الديوان بالبحث في طبقاته والسبر في مكنوناته ، والارتقاء إلى مرتفعاته ، والنزول إلى منخفضاته ، إن وجدت ، سائلين المولى القدير أن يكون ما قدّمناه خالصاً لوجهه الكريم.

المكتبة الأدبيّة المختصّة

مهنّد جمال الدين

١٣

الشاعر المجدد الأُستاذ الظالمي

وبعد ، فلست أدري كيف وصلتني قصائدك «دروب الضباب» ، وكيف تووارت فجأة قبل أن أقرأ شيئاً منها ، ثم ظهرت فجأة بين مجاميع صغيرة كنت قد احتجزتها في دولاب الملابس ؛ لئلا تضيع في ركام الكتب ، وشاء تعب الغبوق أن يظهر بلا نشدان ، وهو مليء بالعسل والخمر ، يتهادى كما تتهادى النسمات الشفيفة بين ظلال النخيل على شواطئ الفرات.

إنّ هذه المجموعة صوتٌ متموج من أصوات الشعر العربي ، الذي لم تؤثر فيه عوامل الزيغ والانحراف ، التي جرفت الصبيان من أعداء التراث الأصيل.

أيها الشاعر المجدّد ، معذرة إذا لم أستوف ما ينبغي استيفاؤه من الحديث عن جوانب الأصالة في هذا العمل الذي قدمته لقراء الشعر العربي ، فإنّ ذلك ممّا يحتاج إلى وقت غير قصير ، وإلى هدوء وفكر ، وإلى جسم بلا مرضٍ ولا شيخوخة.

مجموعتك هذه هدية ثمينة ، هي في المكان اللائق بين الهدايا التي تعتزّ بها مكتبتي ، وقد قرأتُ قصائدها الرائعة

١٤

أكثر من مرة وأُعجبت بما فيها من صور وأخيلة وما تخلّل صفحاتها من ثورة واطمئنان ، وعنف ورقة ، وبأس ورجاء ، وواقع مرٍّ مؤلم ، وتهأويم تسبح مع الخيال.

هذه هي عاطفة الشاعر المبدع ، ترضى وتسخط ، وتهدأ وتثور ، وتلين وتقسو ، إنّها مرآة تعكس ما في الحياة من صخب وعناء وما فيها من نقائض وأضداد ، والشاعر الأصيل هو الذي ينبع من أعماق الحياة والواقع ويصارع التيار المصطخب بكل عنف.

المجموعة التي هي نبعٌ ثرٌّ من عطاء الشعر العربي الأصيل ، وعسى أن تطلّ بشاعرنا الظالمي على «دروب الفجر» و «أغاريد الضحى» ويتحفنا بالمزيد من هذه الأناشيد والأغاني التي تداعب أمواج الفرات الأزلي ، وتخفق بأجنحتها الشفافة على تلك المواسم الثرّة في مدينة النجف الشامخة.

تقبل أيها الشاعر المبدع تحيات المخلص

إبراهيم الوائلي

١٢ / ٦ / ١٩٨٦ م

١٥

النجف والشعر

النجف الأشرف ... هذه الأرض ذات الكبرياء العلوي ، إذا أخذتكَ فوق أديمها المبارك إلى الجانب الغربي فستجدها آخذة بالصعود وكأنّها معانقة النجوم ، وفي بداية مسيرتك كانت ثلاث رواب حالمة تغتسل مساء بضوء الثمر حتى ابيضت حصاها ، وسميت قديما بالذكوات البيض ، وتكاد تختفي ملامحها الآن ولم يبق منها إلا القليل القليل.

الأرض هذه ـ منذ البداية ـ ارض قاحلة ، لا تعمّد قدميها ينابيع الفرات الهادر ، ولا تركن لاهبة إلى حدّ القسوة ، وحين تبتعد عنها شتاء تكون باردة وكأنّها تلتصق بجبل جليديّ لا يرحم ، وفي هذين الحالين يتقلب في أجوائها أُناس يعشقون بقايا أسوارها المتآكلة ، وكأنّها مباهج فردوس تفيض سحرا وبهجة لم يمرّ بجانبها ، ثم يزداد تعلقهم بها كلما صهرتهم حرارة الشمس ، ووخزت جلودهم لذعة الشتاء ، ما دامت نفحات سيدهم أبي الحسن عليه السلام تغمرهم في الحالين.

وعلى هذه الأرض اللاهبة تنفتح عبقريات وتبنى عقول ، ثم تنطلق نحو الريادة ، فالعلوم الإسلامية بكل مستلزماتها منذ

١٦

عهد الشيخ الطوسي ـ تتجذر هنا ، وتتعاقب عليها أجيال ، ويزدحم حواليها نفرٌ من كلّ طائفة يريد أن يتفقّه في الدين ، .. يقلّب صفحات المُنزّل ، وينفض ما بقي من غبار عن مباهج السنّة ، ثم يأخذ طريقه نحو الاجتهاد بكل ثقة واطمئنان ، فمرةً يميل نحو هذا الرأي ومرة أُخرى يقيم رأياً جديداً على حطام ما أصاب معول الهدم ، ومن وراء ذلك كله كانت حصيلة ما جاء بها الإسلام آخذةً نحو التجديد على وفق ما تتطلبه الحياة الجديدة وحتى عصرنا الحاضر.

فرجل الدين لا يبتعد أثناء مسيرته عما يتصل بالأدب العربي شعراً أو نثراً شاء أم أبى ، فالشواهد الشعرية عند قراءة علم النحو وعلم البلاغة ، قد تكون السّبب الأول لميوله نحو هذا الفن ، وحين يتصل بالشعر ويألفه ، فقد يكون ذا موهبة توصله إلى مرحلة الإبداع ، وقد يكون عابرَ سبيل لا ينظر إلى الشعر إلّا الالتزام بالموسيقى في الشطرين ، فهو بالتالي يجيد النظم لا الشعر، وفي هذا المنطلق كان أكثر رجال الدين يزاولون الشعر أو النظم تبعاً لما تفرضه عليهم قابلياتهم.

فالنجف بكل ما فيها تكاد تنطق بالشعر ، فكثرة المحافل والمناسبات الدينية لا تقوم إلّا على الشعر ، وحين يقع في أيدينا كتاب (شعراء الغري) ـ وعدد أجزائه اثنا عشر جزءً ـ

١٧

فإنّنا سنكون على ثقةٍ بأن الأكثرية من رجال الدين وممّن يرتبط بهم ، شعراء يزاولون كتابة الشعر أو النظم ، ومثّل كتاب (شعراء الغري) ما كان يدور بين الشعراء من مساجلات أو معارك (كمعركة الخميس) و (معركة الشباب والشيوخ) و (معركة الغدير) ، وكانت جميعها على عدد كثير من القصائد ، ولعلها لا تزال ضمن مجموعات يحتفظ بها أصحابها لحدّ الآن.

فالنجف ـ اذاً ـ بلدةٌ تلتصق بالشعر التصاقاً وثيقاً ، ولا يمكنك فصل أحدهما عن الآخر ، فأنت قد ترى في محفل يُقرأ فيه الشعر انّ بعض الحاضرين هم من أصحاب الحرف والأعمال ، فالعمل له وقته الخاص عندهم ، وللشعر وقته الآخر ، ومنهم كذلك من يقول الشعر برغبة قد تصرفه عن كثيرٍ من أعماله.

والنجف كذلك ميدان فسيح للشعر والشعراء في كلّ آن ، ما دام رجل الدين يسايره جنبا إلى جنب ، وما دامت اللُّغة العربية لا تنفكّ عنه.

يحدثنا (الشيخ اليعقوبي) ـ رحمه الله ـ عن الشاعر (عباس الملا علي) فهو شاعر ، وهو الذي يحسن قراءة الشعر بطريقة محبّبة فيها كثير من الإثارة من حيث الرقة والانتشاء ،

١٨

وبقيت بعده حتى زمن الشيخ اليعقوبي الذي طالما سمعنا منه ترديدها في المحافل.

يقول الشيخ اليعقوبي : إنّ (الملا علي) مع نخبة من الشعراء ، ومنهم السيد إبراهيم الطباطبائي ، يرحلون وينزلون بين مضارب الربيع الاخضر في المنطقة الجنوبية من بادية النجف ، حيث المناظر الساحرة والأجواء المعطرة والابتعاد عن صخب المارّة ، وقد تمتدّ رحلتهم إلى الشهر ، وأجمل ما فيها انّ هؤلاء النخبة تكون مهمتهم جمع الزهور عند إشراقة الشمس في كلّ يوم ، عند ذلك يستلقي صاحبنا (الملا علي) وتتكدس فوقه كوم الزهور فلا يتبين منها إلّا وجهه ، ثم يبدأ بقراءة الشعر المختار وأكثره حجازيات (الشريف الرضي) ، ويترنح من كان حوله ويستعيد حتى يدركهم الوقت.

الصورة بما فيها تبدو رائعة ورائعة جدا ، ربوة صغيرة مبرقعة بألوان الزهور ، ينطلق منها صوت رخيم يحمل بعفويته كلّ ما يسكر النفوس ، ثم يبعدك مرغما عن كلّ ما تحمله المادة من ثقل مقيت ، هذا الصنيع المترف لا يخطر على بال أحد ، بل هو قريب من عالم الخيال.

النجف ـ اذاً ـ بلد يعشق الشعر ، ويعشقه الشعر كذلك ، كانت تقام حفلات الشعر في مناسبات الزواج ، وكان من

١٩

بعض الحاضرين رجال دين يقيمون الصلاة (جماعة) في الصحن الشريف وتستمر قراءة الشعر في الحفل حتى غياب الشمس ، وقد نسب للشيخ كاشف الغطاء قولته بعد أن طلب منه أن يستعد للصلاة قال : (وهذه هي صلاة أيضاً) ويقصد بذلك قراءة الشعر ، وقد نقل عن السيد الحبوبي الكبير ما يشبه هذا ، ويبقى كلّ منهما يسمع الشعر ويستعيد ، وللصلاة وقت آخر.

على هذه الأرض المعطاء وبين ملاعبها السمراء ، كان جيلنا يتطلع بشوق إلى ما يميل إليه بشغف إلى ممارسة الشعر مع كتب الفقه وكتب الأصول ، الجميع هنا من طلاب (الحوزة) ولا يحق لهم مزاولة الشعر والأدب إلّا في ليلة الخميس وليلة الجمعة ، فكل منهما عطلة رسمية لطلاب الحوزة ، ويكون بيت المرحوم الحجة الشيخ سلمان الخاقاني مقرّاً آمناً .. ومن الحضور سماحة الحجة شيخنا المرحوم محمد أمين زين الدين ، وهذا الأخير كان المرشد الأول ، والأداة المحفّزة لتنمية قابلياتنا نحو مسيرة الشعر ، فالقصيدة التي نطرحها أمامه قد لا ينجو منها إلّا بيت واحد أو بيتان ، وما بقي فهو خاضع للهدم وترميم ما يمكن ترميمه كي يعود بيده في حلة جديدة ، بعدها يشعرنا من خلال كلماته الدافئة

٢٠