التفسير الوسيط - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير الوسيط - ج ٣

المؤلف:

الدكتور وهبة الزحيلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
1-57547-818-8

الصفحات: ١٠٧١

١
٢

٣
٤

تفسير سورة القصص

مناصرة المستضعفين

إن رسالة الإسلام الخالدة إنما ركزت في مخططها العام على تحقيق العدل ونشره ، ومحاربة الظلم وسدنته ، والحدّ من غطرسة أهل الاستكبار والبغي ، والعمل على مناصرة المستضعفين المظلومين في كل مكان ، وكان هذا التّوجه في العهد المكّي الأول ، لذا افتتحت سورة القصص المكّية بإعلان جانب من قصة موسى مع فرعون ، موسى عليه‌السلام الذي يمثّل الحق والدفاع عن المستضعفين ، وفرعون حاكم مصر الذي استعلى في أرضها ، وأذل بعض طوائفها ، ولكن قدرة الله وإرادته بالمرصاد ، فأراد الله المنّ والإنعام على الذين استضعفوا ، وجعلهم سادة أئمة ، يرثون السلطة والملك ، وأراد تعذيب المستكبرين فرعون وهامان وجنودهما ، لبطشهم بالضعفاء ، قال الله تعالى مبيّنا هذا القانون الإلهي :

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)) (١) (٢) (٣) (٤) [القصص : ٢٨ / ١ ـ ٦].

__________________

(١) تجبر وطغى في مصر.

(٢) أصنافا في الخدمة.

(٣) يبقيهن أحياء للخدمة.

(٤) يخافون من ذهاب ملكهم.

٥

سورة القصص مكّية إلا قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [الآية ٨٥ من السورة] ، نزلت هذه بالجحفة في وقت هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة. افتتحت السورة بالأحرف الأبجدية المقطّعة (طسم) (١) للتنبيه على إعجاز القرآن ، وتحدّي العرب بالإتيان بمثل القرآن الكريم ، ما دام مكوّنا من أحرف لغتهم التي يتفاخرون بأنهم فيها أساطين البيان ، وفرسان الفصاحة والبلاغة ، لذا لا نجد مثل هذه الحروف إلا متبوعة بالكلام عن آي القرآن المجيد. فهذه آيات من الكتاب الواضح الجلي ، الكاشف لحقائق الدين وأحكامه. وعبّر عن الآيات ب (تِلْكَ) وإن كانت إشارة للغائب والبعيد ، وكلمة (هذه) للحاضر والقريب ، فإنها أي (ذلك) في معنى القريب ، بسبب الثقة والتأكد من حصول ما جاء بعدها. إننا نتلو ونذكر لك أيها النّبي خبر موسى وفرعون ، حقّا وصدقا مطابقا للواقع ، كأنك تشاهد الواقعة ، من أجل تعريف قوم يصدّقون برسالتك وبما أنزل إليك من ربّك ، فتطمئن به قلوبهم. وخصّ الله المؤمنين في قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) من حيث إنهم هم المنتفعون بذلك دون غيرهم ، لأنهم يصدّقون بالقرآن ، ويعلمون أنه من عند الله تعالى ، فينتفعون بذلك ، أما من لم يؤمن ، فلا يصدّق أنّه حقّ ، وبالتالي لا ينتفع به.

إن فرعون ملك مصر في عهد الفراعنة استعلى في أرضها واستكبر ، وبغى وطغى وتجبّر ، وقهر أهلها وبطش ، وجعل أهل مصر فرقا وأحزابا مختلفة ، وسخّر كل طائفة في مصلحة عمرانية أو زراعية أو غيرها ، يجعل جماعة منهم أذلّة خدما مقهورين ، وهم بنو إسرائيل ، يستأصل بالذّبح أبناءهم الذكور ، ويبقي إناثهم أحياء ، إهانة لهم واحتقارا ، إنه كان من المفسدين في أرض مصر وملكه ، بالعمل والمعاصي والاستكبار.

وأراد الله تعالى إنصاف الضعيف وعقاب المستكبر ، فأنعم الله على المستضعفين المؤمنين برسالة موسى عليه‌السلام ، وخلّصهم من بأسه ، وأنقذهم من ظلمه ومكره.

٦

وجعل الله أولئك الضعاف الأذلة ولاة الأمور ، ووارثين لملك فرعون وأرضه وما في سلطانه ، وجعل لهم السلطة والنفوذ في أرض فرعون. وأرى الله فرعون الطاغية ، وهامان وزيره الماكر ، وأتباعهما ما كانوا يخافون منه ، من ذهاب ملكهم ، وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل ، وقد أنفذ الله أمره ، وحقّق حكمه ، بأن جعل تدمير فرعون وقومه على يد من تربّى في قصره ، بعد أن صيّره الله رسولا ونبيا ، وأنزل عليه التوراة ، ليعلم أن الله وحده هو القاهر الغالب على أمره ، ويتم أمر الله فيما أوقعه بفرعون وقومه وجنده فيما خافوه وحذروه من جهة بني إسرائيل وتغلبهم.

إرضاع موسى عليه‌السلام من أمّه

خشي فرعون حاكم مصر هلاك ملكه على يد بني إسرائيل ، فكان يقتّل الأبناء ، ويبقى البنات أحياء للخدمة ، وشاء الله تعالى أن ينجو من القتل موسى عليه‌السلام بعد ولادته وإلقائه في البحر ، فالتقطه آل فرعون لتربيته ، وإعداده في النهاية لتدمير ملك فرعون من حيث لا يشعرون ، ولم تتضرر أم موسى على رمي وليدها في البحر ، فمنعه من قبول ثدي أي امرأة أخرى غير ثدي أمّه ، فأرشدت أخته حاشية فرعون إلى من يرضعه ، وأعاده الله تعالى لأمّه سالما آمنا ، وهذه فصول قصة رضاعه ، قال الله تعالى :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ (١)

__________________

(١) متعمّدين الخطأ الموجب للإثم.

٧

قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) [القصص : ٢٨ / ٧ ـ ١٣].

كان إقدام فرعون على تذبيح صبيان بني إسرائيل ، لأنه ـ كما قال قتادة ـ قال له كهنته وعلماؤه : إن غلاما لبني إسرائيل يفسد ملكك ، فرأى أن يقطع نسلهم ، فصار يذبح عاما ، ويستحيي عاما ، فولد هارون عليه‌السلام في عام الاستحياء ، وولد موسى عليه‌السلام في عام الذّبح ، أي إن فرعون ـ كما قال ابن عطية ـ طمع بجهله أن يردّ القدر.

وابتدأت القصة ، بذكر نعمة الله على موسى عليه‌السلام ، فيما معناه : وألهمنا أمّ موسى إرضاعه فترة زمنية ، فأرضعته ثلاثة أو أربعة أشهر. كما يقال ، فإذا خفت عليه من القتل ، فألقيه في بحر النّيل ، ولا تخافي عليه من الغرق والضياع ، ولا تحزني على فراقه ، إنّا سنردّه عليك لتكوني أنت مرضعته ، وسنجعله نبيّا مرسلا إلى قومه بني إسرائيل.

فلما ألقي موسى في نيل مصر ، مرّ أمام قصر فرعون ، فالتقطه آل فرعون (أهله) من أجل معرفة ما في التابوت ، وآثروا تبنّيه وتربيته ، دون أن يدروا بمصيره ، فكانت عاقبة أمره والتقاطه أن يصير موسى عليه‌السلام بعد النّبوة والكهولة عدوّا لهم ،

__________________

(١) مسرة وفرح.

(٢) خاليا من كل شيء عدا موسى.

(٣) لتصرّح ببنوّته.

(٤) أي ثبّتناها.

(٥) تتبّعي أثره وخبره.

(٦) مكان بعيد.

(٧) يربّونه.

(٨) تسرّ وتفرح بولدها.

٨

بمخالفة دينهم ، وإغراقهم في البحر وزوال ملكهم ، لتكذيبهم برسالة موسى عليه‌السلام. فتكون لام (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) لام العاقبة أو الصيرورة ، لا أن القصد بالالتقاط من أجل أن يكون لهم عدوّا. ولقد كان فرعون ووزيره وأكبر رجاله هامان وجنودهما متعمدين الخطأ ، مصرّين على تكذيب موسى. وبهذا يعلم أن (الخاطئ) متعمّد الخطأ ، و (المخطئ) : الذي لا يتعمّده ، فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم عندهم ، وكان هو سبب هلاكهم.

وقالت زوجة فرعون له : هذا الطفل قرّة عين لي ، أي سلوة لي ، تقرّ به عيني ، وتفرح به نفسي ، فلا تقتلوه ، وذلك الإلهام لامرأة فرعون لأن الله تعالى ألقى عليه المحبة ، فكان يحبّه كل من شاهده ، ولعله يكون سببا للخير والنفع ، أو نتخذه ولدا ونتبنّاه ، لما يتمتع به من الوسامة والجمال ، ولكن لم يشعر قوم فرعون أن هلاكهم بسبب هذا الطفل وعلى يده.

وأصبح قلب أم موسى بعد إلقاء صندوقه في البحر فارغا من كل شيء من شواغل الدنيا ، إلا من ذكر موسى ، وكادت من شدّة حزنها وأسفها إظهار أمر ابنها وأنه ذهب لها ولد ، وأنها أمّه ، لو لا أن ثبّت الله قلبها وصبّرها ، لتكون من المصدّقين الواثقين بوعد الله لها ، بردّه إليها.

وقالت أمّ موسى لأخته ابنتها الكبرى : تتبّعي أثره واعرفي خبره ، فخرجت لذلك ، فعثرت عليه في بيت فرعون ، وأبصرته عن بعد ، والقوم لا يشعرون بها وبمهمّتها ، ولا بأنه الذي يفسد الملك على يديه.

ومنع الله موسى من قبول ثدي المراضع غير ثدي أمّه ، من قبل ، أي من أول أمره ، فقالت أخته لمن حول بيت فرعون : ألا أدلّكم على أهل بيت يتكفّلون بشأنه وإرضاعه وحضانته ، وهم حافظون له ، ناصحون للملك ، بخدمته والمحافظة عليه؟!

٩

فأعاد الله الطفل موسى إلى أمه بعد التقاط آل فرعون له ، لتقرّ عينها وتسرّ بوجوده لديها وسلامته عندها ، ولا تحزن عليه بفراقه ، ولتتيقّن أن وعد الله بردّه إليها حقّ لا شكّ فيه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكم الله في أفعاله ، أي حكمته وتدبيره.

خطأ موسى عليه‌السلام

قضى موسى عليه‌السلام عهد الشباب في مصر ، مع قومه الإسرائيليين ، وتعايشه مع فرعون وأتباعه ، ولكنه كان ضجرا متألما لما عليه سوء الحال في مصر ، رافضا ألوهية فرعون ، قلقا من استكباره واستعلائه ، وإذلاله بني إسرائيل ، وينتظر الفرج القريب ، بما آتاه الله من العلم والحكمة والبصيرة في إدراك وحدانية الله تعالى ، وهو بهذا يصارع الآلام النفسية ، من تألّه فرعون وجبروته ومظالمه ، وهذا ما وصفه لنا القرآن الكريم ، للعبرة والعظة في الآيات الآتية :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)) (١) (٢) (٣) (٤) [القصص : ٢٨ / ١٤ ـ ١٧].

كان تكوين موسى عليه‌السلام وإعداده للنّبوة وتربيته يشبه إعداد جميع الأنبياء ، إنهم كانوا قبل النّبوة على ملّة التوحيد : ملّة إبراهيم الحنيفية عليه‌السلام ، فلما نضج

__________________

(١) قوة البدن والنّمو.

(٢) أي تكامل عقله وحزمه ،

(٣) ضربه على صدره بيده.

(٤) معينا لهم.

١٠

موسى عليه‌السلام وتكامل عقله وحزمه ، أي استوى ، وذلك ـ عند الجمهور ـ مع سنّ الأربعين ، وقيل : ثلاثين ، آتاه الله الحكم ، أي الحكمة ، والعلم : المعرفة بشرع إبراهيم عليه‌السلام ، وكما فعل الله ذلك بموسى فعل بسائر الأنبياء ، ليجزي المحسنين على إحسانهم ، وقد رجح الإمام الفخر الرازي : أن المراد بالحكم هنا : الحكمة والعلم لا النّبوة ، والحكمة والعلم مقدّمات لنبوة موسى عليه‌السلام. والأشد : شدة البدن واستحكام أمره وقوته. واستوى : معناه تكامل عقله وحزمه.

وحدث في هذه المرحلة من العمر : أن دخل موسى عليه‌السلام مدينة عين شمس ، على بعد فرسخين من مصر القديمة ، في وقت القائلة أو القيلولة ، وقت الغفلة ، والناس نيام ، فوجد فيها رجلين يتخاصمان ، أحدهما إسرائيلي من قومه أو شيعته وحزبه ، والآخر مصري فرعوني ، هو طبّاخ فرعون ، وكان قد طلب من الإسرائيلي أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى ، فطلب الإسرائيلي المساعدة والعون على عدوه الفرعوني ، فضربه موسى بيده على لحيته ، فقضى عليه ، أي قتله ، أي كان الضرب الخطأ مفضيا خطأ إلى الموت ، فإن موسى لم يرد قتل القبطي ، لكن وافقت وكزته الأجل ، ونشأ عنها موته ، فندم موسى ، ورأى أن ذلك من نزغ الشيطان في يده ، وأن الغضب الذي اقترنت به تلك الوكزة ، كان من الشيطان ومن همزه ، فنسب إلى عمله ، وقد اقترنت قوته الكبيرة بوقت غضبه ، بأكثر مما يقصد ، وكان الحادث قبل النّبوة. فندم موسى على ما فعل ، وقال : إن هذا العمل من تزيين الشيطان وإغرائه ، إن الشيطان عدوّ للإنسان ، موقع له في الضلال والخطأ.

ثم تاب موسى عليه‌السلام من فعله هذا فقال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) أي يا ربّ إني أوقعت نفسي في الظلم والإثم بهذا الفعل ، وهو قتل نفس بريئة ، فاستر لي ذنبي ، ولا تؤاخذني بجناية نفسي ، وإني نادم على ما فعلت ، وأتوب إليك

١١

وأستغفرك ، فغفر الله له ، وقبل توبته ، إنه سبحانه وتعالى الغفور : السّتّار لذنوب عباده التائبين المخلصين في توبتهم ، الرّحيم بهم : المنعم عليهم بفيض رحمته ، فلا يعاقبهم بعد التوبة المخلصة.

وعاهد موسى ربّه عزوجل قائلا : يا ربّ ، اعصمني من الخطأ ، بسبب ما أنعمت علي ، من الحكمة والمعرفة بالملّة القويمة وبتوحيدك وتمجيدك ، يا ربّ ، بنعمتك علي ، وبسبب إحسانك إلي وفضلك ، فأنا ملتزم ألّا أكون معينا للمجرمين ، أي المنحرفين الخارجين عن دائرة الحق والاستقامة. قال القشيري : ولم يقل : لما أنعمت علي من المغفرة ، لأن هذا كان قبل الوحي ، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل. وأراد بترك مظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته ، وتكثير سواده ، حيث كان يركب بركوبه ، كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون ، وإما بمظاهرة من أدّت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله.

وظلّ موسى عليه‌السلام يتحسس ويتألم من حادثة القتل ، مع علمه بأنه قد غفر له ، حتى في يوم القيامة ، كما صحّ في حديث الشفاعة.

قلق موسى عليه‌السلام وخوفه وخروجه من مصر

إن النفوس المؤمنة ، والسّامية العالية ، ينتابها الخوف الدائم والقلق والضجر إذا بدر منها الخطأ ، وعكّر السّوء صفاءها ، وجعلها لا تقرّ ولا ترتاح ، وهكذا كان شأن موسى عليه‌السلام بعد أن وقعت بسببه حادثة قتل خطأ ، قبل أن يكون رسولا نبيّا ، ومما زاده ألما وضيقا أن الذي نصره من الإسرائيليين يستنجد به مرة أخرى ، لضرب رجل آخر ، فأبى موسى مناصرته ، ثم جاءه رجل يحذّره من التآمر على قتله من آل

١٢

فرعون ، فكان ذلك سببا لخروجه من مصر ، واتّجاهه نحو أرض مدين ، وصف الله تعالى هذه الأحداث في الآيات التالية :

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) [القصص : ٢٨ / ١٨ ـ ٢١].

لقد استبدّ الخوف والقلق في نفس موسى عليه‌السلام ، فأصبح في المدينة : عين شمس ، دائم الخوف في كل أوقاته ، فصار يترقّب مباغتا يقتله ، ويتحسس ويتألم من الناس بسبب القتل ، فمرّ وهو بهذه الحالة القلقة في طريق متخفّيا مستترا ، فإذا ذلك الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على المصري ، يطلب منه العون والمساعدة على مصري آخر ، فقال له موسى معاتبا ومؤنّبا : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر الغواية ، كثير الفساد والشّر والضّلال.

ولما أراد موسى زجر عدوّهما القبطي : عدو الإسرائيلي وعدوه ، قال له مستنكرا مستهجنا لعلمه بحادثة القتل بالأمس : أتريد الإقدام على قتلي ، كما قتلت نفسا البارحة ، ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة ، والجبابرة شأنهم قتل الناس بغير حق؟! فلذلك جعله جبّارا ونفى عنه الصلاح ، أي إنك لا تريد إلا أن تكون سفّاحا بطّاشا ، كثير الأذى في الأرض ، دون أن تتدبّر في عواقب الأمور ، ولا تريد

__________________

(١) يتوقع مكروها.

(٢) يستغيثه.

(٣) ضال عن الرشد.

(٤) يأخذ بقوة.

(٥) يسرع.

(٦) وجوه القوم.

(٧) يتشاورون في شأنك.

١٣

أن تكون من أهل الصلاح والإصلاح الذين يفصلون في خصومات الناس بالحسنى والحكمة ، والموضوعية ، والرّوية ، حتى ولو كان أحد الخصوم من ذوي القربى أو العشيرة.

فأنفذ فرعون إلى موسى من يطلبه من جنده ، ويأتي به للقتل ، فخرج موسى إلى الطريق الأعظم ، أي الشارع العام ، فجاءه رجل ، يسرع في مشيه ، يقال : إنه مؤمن آل فرعون ، ويقال : إنه غيره ، في إحدى الطرق الصغيرة ، المتشعبة من الطرق الكبيرة ، ليصل بسرعة إلى موسى عليه‌السلام ، وليخفي أمره ، حتى لا يعرف أحد أنه يريد إبلاغ موسى بالخبر ، وقد جاء هذا الرجل الناصح من أبعد مكان في المدينة ، فقال : يا موسى ، إن فرعون وملأه : أشراف دولته وكبار حاشيته ، يتآمرون ويتشاورون في أمرك ، وتدبير مكيدة أو مؤامرة قتلك ، فاخرج بسرعة من البلد ، إني لك ناصح أمين.

فخرج موسى عليه‌السلام من مدينة فرعون خائفا على نفسه ، يتلفّت ويترقّب متابعة أحد له ، وأفلت من القوم ، فلم يجدوه ، وخرج في حال فزعه إلى طريق مدين ، وهي مدينة قوم شعيب عليه‌السلام ، وكان موسى عليه‌السلام لا يعرف ذلك الطريق ، ولم يصحب أحدا ، فسار واثقا بالله تعالى ، ومتوكّلا عليه ، وقال في هذه المحنة العصيبة : يا ربّ ، نجني من هؤلاء القوم الظالمين : فرعون وملئه ، واحمني من شرّهم وسوئهم ، فاستجاب الله دعاءه ونجاه ؛ ووصل إلى مدين آمنا على نفسه ، بفضل الله وإحسانه ، كما جاء في آية أخرى : (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) [طه : ٢٠ / ٤٠].

وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام ، وكان ملك مدين لغير فرعون ، قال السّدّي ومقاتل : روي أن الله تعالى بعث إلى موسى جبريل عليه‌السلام ، وقيل : ملكا غيره ،

١٤

فسدّده إلى الطريق. وكل ذلك رعاية وعناية ، وحماية وعصمة من الله لموسى ، ليعدّه لتحمل عبء الرسالة ، ومنصب النبوة ، وأخذ التوراة.

زواج موسى عليه‌السلام

بدأت مرحلة جديدة في حياة موسى عليه‌السلام ، بعد توجّهه إلى أرض مدين بفلسطين ، تميّزت بالاستقرار لمدة عشر سنوات ، حين تزوج بابنة شعيب عليه‌السلام ، ورعيه غنمه تلك المدة ، وبعد انتهائها وعزمه العودة إلى مصر ، حدثت النعمة الكبرى على موسى وهي إيتاؤه الرّسالة والنّبوة وتلقّي التوراة. وكان هذا الزواج لما تمتع به موسى عليه‌السلام من قوة الرّجولة ، وعظمة الأمانة ، وهاتان صفتان هما مطمح المرأة وأملها في الرجل الذي تريده زوجا لها ، وليس هناك أجمل ولا أجلى مما صوره القرآن الكريم من قصة هذا الزواج المبارك ، قال الله تعالى :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧)

__________________

(١) جهة مدين.

(٢) جماعة كثيرة.

(٣) أي تمنعان غنمهما عن الماء خوفا من السّقاة الأقوياء.

(٤) ما شأنكما؟

(٥) ينصرف الرّعاة عن مورد الماء.

(٦) تكون لي أجيرا في رعي الغنم.

(٧) أي ثماني سنوات.

١٥

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)) [القصص : ٢٨ / ٢٢ ـ ٢٨].

حينما اتّجه موسى عليه‌السلام جهة مدين ، تاركا فرعون وبلاده ، ومن أجل معرفته الطريق ، قال داعيا ربّه : ربّي اهدني الطريق الأقوم ، فامتن الله عليه ، وهداه إلى السبيل الصحيح ، المؤدي به إلى بلاد مدين ، وكان بحكم العادة يسأل الناس عن الطريق ، فيدلّونه.

ومدين : شمال خليج العقبة في فلسطين. وسبب هذا التّوجه : وجود قرابة بين موسى وأهل مدين ، فهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، وموسى من بني إسرائيل ، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام.

وفصول قصة مدين أولها : أن موسى عليه‌السلام لما وصل إلى مدين ، وورد ماءها ، وجد رعاة الماشية يسقون أنعامهم ومواشيهم من بئر فيها ، ووجد جماعة من الناس حولهم ، ووجد في مكان ناء امرأتين تمنعان غنمهما من ورود الماء مع الرّعاة الآخرين ، لئلا تختلط مع أغنام غيرهما ، فسألهما : لماذا لا تسقيان ، ما شأنكما وخبركما ، لا تردان الماء مع هؤلاء؟ قالتا : لا نسقي غنمنا إلا بعد أن ينصرف الرّعاة (يصدر) ويبتعدوا من السّقي ، وأبونا شيخ كبير هرم ، لا يستطيع الرّعي والسّقي بنفسه.

فبادر موسى عليه‌السلام لسقي غنم هاتين المرأتين ، من بئر مغطاة بصخرة ، لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، ثم أعادها إلى موضعها على البئر ، ثم انزوى إلى ظلّ شجرة للراحة ، مناجيا ربّه قائلا : إنّي لمحتاج إلى الخير من ربّي ، وهو الطّعام ، لدفع غائلة الجوع.

وبعد رجوع المرأتين سريعا بالغنم إلى أبيهما شعيب عليه‌السلام ، سألهما عن

١٦

الخبر والسبب ، فقصّتا عليه ما فعل موسى عليه‌السلام ، فبحث إحداهما إليه ، لتدعوه إلى أبيها ، فجاءت إحداهما تمشي مستحيية مشي الحرائر الأباة ، فقالت له في أدب وحزم : إن أبي يطلبك ليكافئك على إحسانك لنا. فلما جاء موسى إلى شعيب الشيخ ، وقصّ عليه قصّته مع فرعون وقومه ، قال له : لا تخف واطمئن ، لقد نجوت من سطوة القوم الظالمين.

فقالت إحدى ابنتي الشيخ الكبير : يا أبت استأجره لرعي هذه الغنم ، فإن خير مستأجر لها هو ، لأنه الرجل الأبي القوي ، المؤتمن الذي لا يخون.

قال شعيب : يا موسى ، إني أريد مصاهرتك وتزويجك إحدى هاتين البنتين ، فاختر ما تشاء ، على أن يكون المهر خدمة من المنافع : وهي رعاية غنمي ثماني سنين ، فإن تبرعت بزيادة سنتين ، فهو إليك ، وما أريد إيقاعك في شيء من المشقة والحرج ، وستجدني إن شاء الله من الصالحين ، المحسنين المعاملة ، ولين الكلام أو الخطاب ، والفعل.

فقال موسى لعمّه الصّهر : الأمر على ما قلت في اختيار إحدى البنتين ، والوفاء بإحدى المدّتين : ثماني أو عشر سنين ، ولا مجاوزة للحدّ ، ولا حرج من اختيار إحدى المدّتين ، أو لا تبعة علي من قول ولا فعل ، والاتّفاق موثق بيني وبينك في ثماني سنوات ، والله على ما نقول شاهد قائم بالأمور ، وبعد إتمام عقد الزواج أمر شعيب موسى أن يسير إلى بيت فيه عصي ، فيأخذ منه عصا لرعيه الغنم في مدين.

إيتاء موسى عليه‌السلام النّبوة في جبل الطّور

أتم موسى عليه‌السلام أكمل المدّتين عشر سنوات ، في رعي غنم شعيب عليه‌السلام في مدين ، ثم عزم على العودة إلى مصر ، لزيارة أقاربه ، مصحوبا بزوجته ، ولكنه في طريق العودة ، حدث التحول الجديد الأعظم في حياته ، حين كلّمه ربّه في

١٧

جبل الطّور ، وآتاه الله النّبوة والتّوراة ، وجعله رسولا إلى فرعون وقومه ، بني إسرائيل ، وكانت معجزته الدّالة على نبوّته انقلاب العصا حيّة عظيمة ، وإضاءة يده كالشمس المشرقة ، وكلفه الله بتبليغ رسالته إلى فرعون وملئه : القوم الفاسقين ، وتلك مهمة شاقّة وعسيرة.

قال الله تعالى واصفا هذه المرحلة الجديدة في حياة موسى كليم الله : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)) (١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) (٨) (٩) [القصص : ٢٨ / ٢٩ ـ ٣٢].

لما أتم موسى عليه‌السلام أكمل المدّتين برعي غنم شعيب عليه‌السلام عشر سنين ، أراد أن يسير بأهله إلى مصر وقومه ، وقد أحسّ لا محالة بالترشيح للنّبوة ، وكان رجلا غيورا لا يصحب الرفاق ، فسار في ليلة مظلمة باردة ، فأخطأ الطريق ، واشتدّ عليه وعلى زوجته البرد ، فبينا هو كذلك إذ رأى نارا ، وكان ذلك نورا ، من نور الله تعالى قد التبس بشجرة ، من العلّيق أو الزعرور أو السمرة ، فقال لأهله : ابقوا في مكانكم أو أقيموا ، إني رأيت نارا ، لعلي آتيكم منها بخبر عن الطريق ، أين

__________________

(١) آنس : أحسّ بالبصر ، وأبصر بوضوح.

(٢) عود فيه نار.

(٣) تستدفئون.

(٤) تتحرك بشدة.

(٥) حيّة خفيفة في السرعة.

(٦) لم يرجع على عقبه ولم يلتفت.

(٧) أي داء برص ونحوه.

(٨) ضم إلى صدرك.

(٩) ضمّ يدك إلى صدرك يذهب عنك الخوف من الحية.

١٨

هو؟ أو بقطعة من النار في عود كبيرة لا لهب لها ، أي إنها جمرة ، لعلكم تستدفئون من البرد.

فلما أتى موسى ذلك الضوء الذي رآه ، وهو في تلك الليلة ابن أربعين سنة ، نبّئ بالنّبوة ، حيث نودي في مكان النور من بعيد ، من جانب الوادي التي هي عن يمين موسى من ناحية الغرب ، أو أن الوادي وصف باليمن ، في البقعة المباركة ، وابتداء النداء من جهة الشجرة (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) وهذا تعريف بالمنادي المتكلم ، وهو الله ربّ جميع العوالم من الإنس والجنّ.

ونودي بأن ألق عصاك التي في يدك ، فألقاها فصارت حيّة عظيمة تسعى ، فتحقق أن الذي يكلمه هو الله تعالى ، فلما رأى العصا تتحرك ، كأنها جانّ من الحيّات (وهي صغير الحيّات) فجمعت هول الثعبان ونشاط الجانّ ، ولّى موسى هاربا ، ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه ، خوفا منها ، بحكم الطبيعة البشرية ، فقال الله تعالى له : يا موسى ارجع إلى مكانك أو مقامك الأول ، ولا تخف من هذه الحية ، فأنت آمن من كل سوء. وهذا من تأمين الله تعالى إياه ، ثم أمره بأن يدخل يده في جيبه ، وهو فتحة الجبّة من حيث يخرج رأس الإنسان. ومعنى (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أدخل يدك في فتحة قميصك العليا من جهة الرأس ، ثم أخرجها ، تخرج بيضاء تتلألأ ، ولها شعاع ، كأنها قطعة قمر (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير عيب ولا مرض ولا برص فيها.

وزيادة في التأمين ، وإزالة لكثرة الخوف والفزع الذي ألمّ بموسى ، وإعدادا له لتحمّل عبء الرسالة بعزم وحزم وهمة عالية ، أمره الله بوضع يده على صدره ، لإذهاب الخوف كما هي العادة المتّبعة ، فهاتان آيتان أو معجزتان : وهما إلقاء العصا وانقلابها حية تسعى ، وإدخال يدك في جيبك ، فتخرج بيضاء مشعّة من غير سوء ولا مرض ، هما دائما دليلان قاطعان واضحان من ربّك ، دالان على قدرة الله وصحّة

١٩

نبوّتك ، يؤيّد انك في رسالتك إلى فرعون وقومه من الأكابر والرؤساء والأتباع ، إنهم كانوا قوما خارجين عن حدود طاعة الله ، مخالفين لأمره ودينه ، فكانوا بأمسّ الحاجة إلى إرسالك إليهم ، مؤيّدا بهاتين المعجزتين.

وكانت هذه المكالمة التي أهّلت موسى عليه‌السلام لوصفه بأنه كليم الله هي بداية التكليف بالنّبوة والرسالة الإلهية ، في أشقّ مهمة وأعسرها ، وهي محاولة هداية فرعون المتألّه الجبّار ، وإرشاده إلى الإقرار بوجود الإله الحقّ الواحد الذي لا إله غيره ولا شريك له.

نبوّة هارون وتكذيب فرعون

حينما أصبح موسى عليه‌السلام رسولا من عند ربّه إلى فرعون وملئه ، أحسّ بمخاوف أخرى ، ومحاذير قديمة ، بمفاجأته بأنه قتل في شبابه قبطيّا من قوم فرعون ، فطلب من ربّه تأييده وإعانته بجعل أخيه هارون نبيّا ورسولا معه ، يؤازره ويصدّقه خشية تكذيبه ، فأجاب الله تعالى طلبه ، فسار الاثنان في مظلة الرعاية والحماية الإلهية إلى فرعون وملئه ، وكانت النتيجة متوقعة ، حيث بادر أولئك الفاسقون إلى وصف رسالة موسى وهارون بالسحر المفترى ، وبالأسطورة المختلقة ، وكان ردّ موسى واضحا بأن الذي أرسله هو الله تعالى ، وأنه يعتمد على تأييده ونصره ، قال الله سبحانه واصفا هذا اللقاء المثير :

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ (١)

__________________

(١) سنقويك.

٢٠