زبدة الأصول - ج ٣

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-36-5
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٨٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. وافضل صلواته على اشرف الخلائق اجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين لا سيما بقية الله في الارضين الامام المهدي ارواح من سواه فداه ، واللعن على اعدائهم اجمعين.

وبعد فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا زبدة الاصول في طبعته الثانية ، وفقنا الله لطبعه ونشره في حلة جديدة والله وليُّ التوفيق.

٥

المقصد الثاني

من مقاصد علم الأصول

في

النواهي

وفيه فصول :

٦

المقصد الثاني

في النواهي

وفيه فصول : وقبل تنقيح القول في تلكم الفصول.

لا بد من البحث في جهات :

الأولى : المشهور بين الأصحاب (١) إن النهي بمادته وصيغته كالأمر بمادته وصيغته ، في الدلالة على الطلب غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود وفي الآخر العدم

وبعبارة أخرى : انهما مشتركان في المعنى الموضوع له وهو الدلالة على الطلب.

ولذلك قال المحقق الخراساني (ره) (٢) انه يعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلاً ، نعم يختص النهي بخلاف وهو ان متعلق الطلب فيه ، هل هو الكف؟ أو مجرد الترك وان لا يفعل والظاهر هو الثاني.

وتوهم ان الترك ومجرد ان لا يفعل خارج عن تحت الاختيار ، فلا يصح ان

__________________

(١) عدّة من الاعلام ادعوا الشهرة قديما وحديثاً على هذا منهم أية الله العظمى الخوئي في المحاضرات ج ٤ ص ٨١ (المقصد الثاني : مبحث النواهي).

(٢) كفاية الاصول ص ١٤٩ (المقصد الثاني في النواهي).

٧

يتعلق به البعث والطلب.

فاسد ، فان الترك أيضاً مقدور وإلا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالإرادة والاختيار ، انتهى.

وأورد على ذلك جماعة من المحققين (١) ، بان النهي لا ينشأ من مصلحة لزومية في الترك ، ليقال إن مفاده طلبه ، بل هو ناش من مفسدة لزومية في الفعل ، وعليه فلا محالة يكون مفاده الزجر والمنع عنه ، ولذلك ذهبوا إلى أن النهي بما له من المعنى مادة وهيئة ، يباين الأمر كذلك ، فلا اشتراك بينهما في شيء أصلاً ، ولا فرق بينهما من حيث المتعلق ، وفي الموردين المتعلق هو إيجاد الطبيعة ، وإنما الفرق من ناحية الموضوع له.

أقول : ما أفيد في الإيراد ـ من ان الفرق بين الأمر والنهي إنما هو من ناحية الموضوع له ومن ناحية المنشأ وانه لا فرق بينهما من حيث المتعلق ـ تام.

ولكن ما ذكر من ان معنى النهي هو الزجر والمنع عن الفعل ، فهو غير تام.

أما الدعوى الأولى : فهي تتضح ببيان أمر ، وهو انه :

ربما يكون مصلحة في الترك فيأمر المولى به ويصير الترك واجبا كالصوم.

والإيراد عليه بان الترك غير مقدور وخارج عن تحت القدرة فلا يصح تعلق الطلب به.

__________________

(١) حكى القول عن جماعة من المحققين السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات ج ٤ ص ٨٤.

٨

يندفع بما في الكفاية (١) من انه بقاءً مقدور وذلك لا بمعنى تأثير القدرة في العدم ، فان ذلك غير تام ، إذ العدم ليس مستندا إلى القدرة وأثرا لها لتحققه قبلها ، لا يعقل تأثير القدرة التي هي أمر وجودي في العدم ، لعدم السنخية بينهما.

بل بمعنى انه لقدرة العبد على تبديل العدم بالوجود يصح التكليف بهما.

وكيف كان لا يصح النهي عن الفعل في هذا المورد.

بل الترك يصير من الواجبات.

ثم ان الصور المتصورة لتعلق الأمر بالترك أربع :

الأولى : ان يتعلق الأمر بصرف ترك الطبيعة.

الثانية : ان يتعلق الأمر بجميع تروك أفراد الطبيعة بان تكون المصلحة قائمة بكل واحد من التروك ويأمر المولى بترك الطبيعة وينحل ذلك إلى أحكام عديدة ، يتعلق كل واحد منها بترك فرد من أفراد الطبيعة.

الثالثة : ان يتعلق الأمر بمجموع التروك بحيث لو لم يترك فردا لما امتثل أصلاً.

الرابعة : ان يتعلق الأمر بأمر بسيط حاصل من مجموع التروك.

ولكن الصورة الأولى غير معقولة : إذ ترك فرد من الطبيعة من الأفراد العرضية والطولية متحقق لا محالة ، لان المكلف لا يقدر على إيجاد جميع الأفراد

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٤٩ ، بتصرف.

٩

فالتكليف بترك فرد منها لغو وصدوره من الحكيم محال.

لا يقال انه على هذا لا بد من الالتزام بعدم معقولية الصورتين الأخيرتين بل الثانية أيضاً ، إذ لو لم يكن المكلف قادرا على إيجاد جميع أفراد الطبيعة لم يكن قادرا على ترك جميعها إذ القدرة على أحد النقيضين عين القدرة على الآخر ، فكيف يتعلق الأمر بجميع التروك أو مجموعها أو ما يحصل من المجموع.

فانه يقال ان نقيض جميع التروك عبارة عن عدم الجميع ولو بفعل واحد فكما ان الفعل الواحد مقدور كذلك جميع التروك ، وغير المقدور إنما هو الجمع في الوجود ، لا الجمع في التروك ، فالصور الثلاث الأخيرة معقولة ولا بد في كل مورد من ملاحظة الدليل.

ويترتب على هذا ثمرة في ما إذا شك في صدق الطبيعة التي أمر بتركها على فعل خارجي لشبهة موضوعية.

إذ في الصورة الأولى من الصور المعقولة ، تجرى البراءة عن وجوب ترك ذلك الفعل ، عقلا وشرعا لرجوع الشك فيه ، إلى الشك في جعل حكم مستقل.

وفي الصورة الثانية ، جريان البراءة يبتنى على جريانها في الأقل والأكثر الارتباطيين.

وفي الصورة الثالثة لا يجرى ، لأنه شك في المحصل ، اللهم إلا ان يلتزم بجريانها فيما إذا كان بيان المحصل وظيفة الشارع ، وتمام الكلام في ذلك محرر في مسألة اللباس المشكوك فيه.

١٠

وربما تكون المفسدة في الفعل لا المصلحة في الترك ، وفي هذا المورد لا معنى للأمر بالترك ، بل لا مناص عن النهي عن الفعل ، فما أفيد في الإيراد من ان الأمر بالفعل والنهي عنه يشتركان في المتعلق والاختلاف بينهما إنما هو في الموضوع له وانه في كل منهما شيء يباين الآخر تام.

واما الدعوى الثانية : وهي ان الفرق بينهما ليس ما ذكر من ان الأمر موضوع للطلب والنهي موضوع للزجر والمنع عن الفعل.

بل الفرق بينهما من ناحية أخرى.

أما في الأمر فقد مر في مبحث الأوامر ، ان الطلب الذي بمعنى التصدي نحو المطلوب يكون من العناوين التي تنطبق على الأمر بعد تحققه ويكون الأمر مصداقا له لا انه المعنى الموضوع له والمستعمل فيه.

وان الطلب الإنشائي مما لا نتعقله.

بل حقيقة الأمر اما عبارة عما أفاده الأستاذ (١) من انه عبارة عن اعتبار كون المأمور به في ذمة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرز كصيغة الأمر.

أو ما يشبهها فالصيغة أو ما شابهها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني ، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف ، أو ما اختاره المشهور وهو انه عبارة عن إبراز الشوق النفساني بالفعل ، فالصيغة أو ما

__________________

(١) محاضرات في الاصول ج ٤ ص ٨٥ ، وأيضا تعرض لذلك ص ١١٦ عند قوله : ونتيجة ذلك.

١١

شاكلها وضعت للدلالة على إبراز شوق المتكلم بصدور الفعل عن المأمور.

واما في النهي فإذا حللنا النهي المتعلق بشيء ، لا نرى شيئا غير شيئين.

أحدهما : اعتبار كون المكلف محروما عن ذلك الشيء باعتبار اشتماله على مفسدة ملزمة وبعده عنه ، أو كراهة الناهي للفعل.

ثانيهما : إبراز ذلك الأمر النفساني في الخارج بمبرز كصيغة النهي أو ما شاكلها ، فالصيغة أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز ذلك الأمر النفساني لا للزجر والمنع ، نعم هي مصداق لهما.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الأمر والنهي ، مختلفان بحسب المعنى ، ومتحدان بحسب المتعلق ، فما اخترناه هو عكس ما ذهب إليه المشهور ، من انهما متحدان بحسب المعنى ، مختلفان بحسب المتعلق.

اقتضاء النهي ترك جميع الأفراد

الجهة الثانية : انه بعد ما لا كلام في ان النهي كالأمر ، لا يدل على الدوام والتكرار ، وأيضاً لا كلام في ان الأمر المتعلق بالطبيعة إنما يكون امتثاله بإتيان فرد منها ، واما النهي المتعلق فلا يمتثل إلا بترك جميع الأفراد.

وقع الكلام في وجه ذلك.

١٢

وقد ذكر القوم في وجه ذلك (١) : ان الأمر إنما يكون متعلقا بصرف إيجاد الطبيعة في الخارج ، فهو لا يقتضي إلا إيجادها في ضمن فرد ما ضرورة ان صرف الوجود يتحقق بأول وجودها وبه يتحقق الامتثال ويحصل الغرض ، ومعه لا مجال لإيجادها في ضمن فرد آخر ، واما في طرف النهي فبما انه صرف ترك الطبيعة ، فلا محالة لا يمكن تركها إلا بترك جميع أفرادها في الخارج العرضية والطولية ولا تنعدم إلا بانعدام جميع الأفراد.

وقد أورد على ذلك بعض أساتيذنا المحققين (ره) (٢) بان الطبيعة توجد بوجودات عديدة ، ولكل وجود عدم ، وهو بديله ونقيضه ، ولا يكون نقيض الوجود الخاص إلا العدم الخاص ، لا عدم الأفراد الأخر.

وحينئذٍ إذا لوحظت الطبيعة في مقام الحكم أمراً أو نهيا بنحو تسرى إلى جميع الأفراد ، فكما ان النهي عنها يقتضي طلب ترك جميع الأفراد ولا يتحقق الامتثال ، إلا بترك الجميع ، كذلك الأمر لا يمتثل إلا بإيجاد جميع الأفراد ، واما إذا لوحظت في مقام الحكم بنحو صرف الوجود ، فكما ان الأمر لا يقتضي إلا وجودا واحدا ، كذلك النهي لا يقتضي إلا ترك فرد ما ، فالمغالطة إنما تكون من جهة انه يؤخذ الطبيعة في مقام تعلق الأمر بنحو صرف الوجود وفي مقام تعلق النهي بنحو مطلق الوجود.

__________________

(١) ذكر هذه المسألة غير واحد من الأعلام واعتبروها فرقا مهما بين الأمر والنهي ، منهم آية الله الخوئي في المحاضرات ج ٤ ص ١٠٦ (واما المقام الثاني).

(٢) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٥٠٧ عند قوله : لا يخفى عليك ان الطبيعة توجد بوجودات متعددة ... الخ.

١٣

وفيه : انه بناء على ان يكون النهي عبارة عن طلب ترك الطبيعة ، يتم ما ذكره القوم ، ولا يرد عليهم هذا الإيراد.

وهو يتضح بعد بيان مقدمتين :

الأولى : ان الوجود الخارجي كما انه وجود لماهية شخصية ، وجود للطبيعة أيضاً. وبعبارة أخرى : كلي الطبيعي موجود في الخارج.

الثانية : ان الإطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم دخل شيء منها في الحكم لا الجمع بين القيود ودخل جميع الخصوصيات.

فعلى هذا يتم ما ذكره القوم.

وإيراده (قدِّس سره) (١) مبني على اخذ الخصوصيات في الحكم ـ وإلا ـ فإذا لوحظت الطبيعة وطلب إيجادها فهي توجد بوجود فرد واحد ، لما عرفت في المقدمة الأولى ، وإذا طلب تركها فهو لا يكون إلا بعدم جميع أفرادها ، ومن هنا قالوا ، ان نقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية.

ولكن الصحيح ان يورد عليهم بضعف المبنى كما تقدم ، وان النهي عبارة عن إبراز الكراهة عن الفعل لا طلب الترك وان متعلق الأمر والنهي شيء واحد ، وعليه ، فيقع الكلام في بيان الفارق.

وتنقيح القول في المقام يقتضي البحث في موارد :

الأول : في الأفراد العرضية.

__________________

(١) أي ايراد المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية / راجع الحاشية السابقة.

١٤

الثاني : في الأفراد الطولية.

الثالث : انه إذا عصى النهي في زمان وتحقق الفعل فبأي شيء يحكم بوجوب ترك الباقي بعد ذلك.

اما المورد الأول : وهو انه لما ذا يقتضي النهي ترك جميع الأفراد العرضية.

فالحق فيه ان يقال : انه لا يخلو الأمر من ان تكون المفسدة في جميع الأفراد ، ويكون في كل وجود مفسدة خاصة ، أو تكون في مجموع الوجودات مفسدة واحدة ، أو تكون المفسدة في قسم خاص من الطبيعة كالكذب لغير الإصلاح ، أو تكون في أول الوجودات مفسدة ، فبإطلاق الدليل ينفى الاحتمال الثالث ، واما الاحتمال الثاني فمضافا إلى انه ، يدفع بالإطلاق إذ لو كان كذلك وكان نهى واحد متعلقا بالمجموع لزم تقييد متعلقه بانضمام بعض الوجودات إلى بعض : ان مثل هذا التكليف لغو : إذ لا يوجد مكلف يوجد جميع الأفراد فلا محالة يترك بعضها ، فيبقى الاحتمال الأول والأخير ، وعلى كل تقدير يجب ترك جميع الوجودات اما على الأول فواضح ، واما على الأخير ، فلان كل فرد وجد فهو أول الوجودات.

واما المورد الثاني : وهو انه لما ذا يقال باقتضاء النهي لترك جميع الأفراد الطولية؟.

فقد ظهر وجهه مما ذكرناه ، بضميمة ان مقتضى إطلاق النهي عدم اختصاصه بزمان خاص ، بل لا يكون للزمان دخل في هذا الحكم : إذ على ذلك بعد فرض عدم كون المفسدة في مجموع الوجودات ولا في قسم خاص من الطبيعة ، كانت المفسدة في جميع الوجودات ، أم في أول ما يوجد ، كان اللازم

١٥

ترك جميع الأفراد كما لا يخفى.

واما المورد الثالث : وهو انه إذا خولف النهي ، وتحقق أول الوجودات ، لما ذا يجب الترك في الأزمنة المتأخرة؟.

فالظاهر : ان الحكم في هذا المورد ، يدور مدار كون المفسدة في جميع الوجودات ، وكونها في أول الوجودات ، إذ على الأول يجب الترك ، وعلى الثاني لا يجب ، والمدعى ان الظاهر من دليل النواهي كون المفسدة من قبيل الأول ، خلاف ما هو ظاهر دليل الأمر : فان ظاهره كون المصلحة في صرف الوجود لا في جميع الوجودات.

ولنا في إثبات الفرق وكون النهي من قبيل الأول طريقان :

الأول : الغلبة الموافقة للارتكاز والفهم العرفي ، فان الغالب ترتب المصلحة على صرف الوجود ، والمفسدة القائمة بالطبيعة التي لم يؤخذ فيها قيد من القيود بجميع الوجودات ، وان شئت فاختبر ذلك من حال نفسك فيما إذا رأيت مصلحة في فعل من عبدك ومفسدة فيه بالنسبة إلى الآخر وهذه الغلبة قرينة عامة على ان النهي متعلق بكل فرد بحيث لو كان متعلقا بصرف الوجود كان محتاجا إلى نصب قرينة عليه ، والأمر بعكس ذلك ، وهذا الفرق إنما نشأ من قبل المصلحة والمفسدة لا من قبل الأمر والنهي ، ولا من قبل متعلقهما.

الثاني : ان التقييد بأول الوجودات مخالف للإطلاق في كلا الموردين ، بل مقتضى الإطلاق ثبوت الحكم إيجابيا كان أم تحريميا في جميع الأفراد ولكن في الأمر قامت قرينة عامة على ان المتعلق صرف الوجود لملاحظة المصالح القائمة بالطبائع.

١٦

وبعبارة أخرى : حيث ان إيجاد جميع الأفراد الطولية والعرضية غير مطلوب ، اما لعدم القدرة ، أو لغيره فلا محالة يكون المتعلق صرف الوجود.

واما ما ذكره الأستاذ الأعظم (١) في مقام الفرق بين الأمر والنهي : بأنه بما ان الانزجار عن بعض الأفراد حاصل فيستحيل الزجر عنه فلا بد من تعلقه بكل واحد مستقلا ليترتب عليه انزجار المكلف عن ارتكابه ، وهذا بعكس الأمر ، حيث ان العبد لا يتمكن من إتيان جميع الأفراد ، فلا محالة يكون الطلب متعلقا ببعض أفراده ، وبما انه غير مقيد بحصة خاصة ، يكون مقتضى الإطلاق جواز الامتثال بكل فرد أراد المكلف إيجاده.

فيرد عليه ان ما ذكر من البرهان في النهي إنما يقتضي نفى احتمال كون المتعلق فردا واحدا من الأفراد مرددا بينها ، واما احتمال كون المتعلق خصوص أول الوجودات فلا ينفى بذلك.

العموم المستفاد من النهي استغراقي

الجهة الثالثة : قد مر سابقا ان مقتضى إطلاق دليل النهي هو العموم بالإضافة إلى الأفراد الطولية كاقتضائه العموم بالنسبة إلى الأفراد العرضية ، والبحث في هذه الجهة ان إطلاق دليل الأمر المستفاد منه العموم إنما يكون

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢٨ ـ ٣٢٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٢٠ ـ ١٢١.

١٧

مقتضيا لكون العموم في متعلق الأمر بدليا ، وقد يكون مجموعيا ، كما انه في طرف الحكم الوضعي يكون مجموعيا.

والأول كما في (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)(١) ، فان المستفاد عرفا من إطلاق الآية الكريمة وان كان هو العموم الاستغراقي بالإضافة إلى الأفراد العرضية والطولية للعقد ، ولكن المستفاد منه بالإضافة إلى الوفاء الذي تعلق به الأمر هو العموم المجموعي لوضوح ان الوجوب الثابت للوفاء بكل فرد من العقد في جميع الآنات والازمنة ، وجوب واحد مستمر وليس الثابت في كل آن وزمان وجوبا غير الوجوب الثابت له في زمان آخر.

والثاني كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) فان المستفاد منه بالإضافة إلى الأفراد العرضية والطولية للبيع هو العموم الاستغراقي إلا ان الحلية الثابتة لكل فرد من أفراد البيع في جميع الأزمنة حلية واحدة مستمرة.

واما في طرف النهي فلا يلتزمون بذلك بل بنائهم على ان العموم المستفاد من إطلاق دليله إنما يكون استغراقيا ويكون ثبوت الحرمة له في كل زمان غير الحرمة الثابتة في زمان آخر.

ولذلك تصدى المحقق النائيني (ره) لبيان الفرق ، وإليك نصه :

واما انحلال النهي بالنسبة إلى الأفراد الطولية وبقائه في الآن الثاني بعد امتثاله في الآن الأول بأحد وجهين الأول ان يؤخذ الزمان في ناحية المتعلق بان

__________________

(١) الآية ١ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٢٧٥ من سورة البقرة.

١٨

يكون شرب الخمر في كل زمان مثلا محكوما بالحرمة فيكون الشرب في الآن الثاني حراما وان امتثل النهي في الآن الأول بترك تمام أفراد الطبيعة الثاني ان يؤخذ الزمان في ناحية الحكم بان يكون الحكم المتعلق بترك الطبيعة باقيا في الأزمنة اللاحقة وبما انه لا دليل على اخذ الزمان في ناحية المتعلق ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آنا ما كان دليل الحكمة مقتضيا لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضاً (١) انتهى.

ويرد عليه : أولا : ما عرفت من ان استفادة العموم بالإضافة إلى الأفراد الطولية أيضاً بالإطلاق.

فما أفاده من ان انحلال النهي بالإضافة إلى الأفراد الطولية يتوقف على أحد أمرين ، اما اخذ الزمان في ناحية المتعلق ، أو أخذه في ناحية الحكم.

غير سديد : لما مر من عدم توقفه على شيء منهما.

وثانيا : انه لو سلم انه لا بد من اخذ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم : ان دليل الحكمة يعين أخذه في المتعلق لان إطلاق المتعلق وعدم تقييده بزمان مخصوص يقتضي ثبوت الحكم له في كل زمان على نحو العموم الاستغراقي.

والحق : ان الفارق هو الفهم العرفي كما تقدم ، وكيف كان فتنقيح القول في هذا المقصد بالبحث في فصلين :

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٣٣٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٢٢ ـ ١٢٣.

١٩

الفصل الأول

في اجتماع الأمر والنهي

وقبل الشروع في البحث في المقصود يقدم أمور :

الامر الأول : انه حيث يعنون المسألة هكذا :

هل يجوز اجتماع الأمر والنهي أم لا؟.

فلذلك توهم ان النزاع في المقام كبروي بمعنى ان موضوع المسألة اجتماع الأمر والنهي في واحد ومحمولها الجواز أو الامتناع.

والتحقيق ان النزاع ليس في ذلك فان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد محال حتى عند من يجوز التكليف بالمحال كالأشعري ، فان اجتماعهما في نفسه محال لأنه مستلزم لاجتماع المحبوبية والمبغوضية في واحد وهو ممتنع ، لا انه تكليف بالمحال.

بل النزاع إنما يكون صغرويا ، وانه لو تعلق الأمر بطبيعة كالصلاة مثلا وتعلق النهي بطبيعة أخرى كالغصب واتفق انطباق الطبيعتين على شيء واحد ، وهو الصلاة في الدار المغصوبة ، فيقع الكلام في انه ، هل يسرى النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه الطبيعة المأمور بها ، نظرا إلى كون المجمع موجودا بوجود واحد ، أم لا يسرى لتعدد المجمع وكونه موجودا بوجودين.

وبعبارة أخرى : محل الكلام ان التركيب بين الطبيعتين في محل الاجتماع ،

٢٠