الرسائل الأربع - ج ١

عدّة من الأفاضل

الرسائل الأربع - ج ١

المؤلف:

عدّة من الأفاضل


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٨

١

٢

٣

مقدّمة المؤلف :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي فضّل الانسان بالعقول والألباب ، ودلّه على ربوبيته بالحجج والبيّنات ، وجازاه على قدر ما آتاه من تلك النعمة الجسيمة ، ورفع بها درجته في الدنيا والآخرة ، وبعث أنبياءه لإكمال العقول.

أمّا بعد : فهذه رسالة وجيزة تبحث عن الملازمة بين الأحكام العقلية والشرعية ، مقرونة بالبحث عن الحسن والقبح العقليين ، وتتضمن إيضاح موقف الشيخ الأنصاري في تلك المسألتين ، أُلقيت في المؤتمر الذي عُقد بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشييخ الأنصاري (رحمه‌الله) في قاعة كلية القضاء في قم المحمية.

جعفر السبحاني

٤

في الملازمة بين حكمي العقل والشرع

اشتهر بين الأُصوليين أنّ ما حكم به العقل ، حكم به الشرع ـ خلافاً للأخباريين ـ ويعبّر عنه بقاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، وبما أنّ للقاعدة ثمرات كلامية وأُصولية وفقهية ، قد أدينا حق الكلام فيها. وقبل الخوض في المقصود نبحث في أُمور :

الأمر الأوّل : في تعريف الدليل العقلي :

عرِّف الدليل العقلي : ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي.

ولا يذهب عليك أنّ الدليل العقلي أوسع ممّا عرّف به ، فإنّ البراهين الكلامية أو الفلسفية أو الرياضية التي تقام على أُمور عقلية بحتة كحدوث العالم ، وحاجة الممكن إلى الواجب ، أو مساواة زوايا المثلث مع زاويتين قائمتين ، كلّها حجج عقلية ، ومع ذلك لا يدخل في التعريف. وما ذاك إلّا لأنّ الأُصولي يطلب من التعريف ما يناسب هدفه ومرماه ، فهو لا يطلب من الدليل العقلي إلّا الوصول إلى الأحكام الشرعيّة ، لا إلى مسائل تكوينيّة أو رياضية وهندسية ، فلأجل ذلك اختصّ الدليل العقلي عنده بما يوصله إلى الحكم الشرعي.

٥

الأمر الثاني : في انقسام الدليل العقلي إلى مستقل وغير مستقل :

إنّ الدليل العقلي بما أنّه يقع ذريعة إلى الحكم الشرعي ، ينقسم إلى عقلي مستقل ، وعقلي غير مستقل ، فلو توقف استنتاج الحكم الشرعي على وجود خطاب شرعي من الشارع بالنسبة إلى الصغرى ، فهو من العقليات غير المستقلّة كما هو الحال في وجوب المقدّمة الشرعية كالوضوء فإنّ المقدمة يدل عليها الخطاب الشرعي أعني قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (المائدة / ٦) وإذا ضُمَّتْ إليه الكبرى ، تنتج وجوبها الشرعي ، وأمّا إذا كانت كلتا المقدّمتين عقليتين والعقل لا يعتمد في الاستدلال إلى مبدأ غيره فهي من المستقلات العقلية كما هو الحال في إدراك العدل والظلم بنحو من الأنحاء أوّلاً ثمّ الحكم عليها بالحسن والقبح ثانياً ، فيقال : تكريم الوالدين ، تقدير للمنعم ، وكلّ ما يعدّ تقديراً للمنعم فهو حسن ، ينتج : تكريم الوالدين حسن ، ولو قلنا بالملازمة تكون النتيجة كون التكريم واجباً شرعاً.

نعم ما لا يتوقف الاستنتاج على حكم عقلي فهو دليل شرعي وإن كان الحكم العقلي موجوداً في مورده أيضاً لفرض عدم تأثير له في الاستنتاج ، فلو دلّ الدليل الشرعي على أنّ من سافر أربعة فراسخ يُقصِّر ودلّ دليل شرعي آخر على الملازمة بين القصر والافطار ، فهذا يكفي في الحكم بوجوب الإفطار لمن سافر أربعة فراسخ من غير حاجة إلى الاستمداد من حكم العقل بامتناع تفكيك المتلازمين وإن كان موجوداً في ظرف الحكم. لأنّ تصريح الشارع بالملازمة بين الحكمين كاف في القول بوجوب الإفطار لهذا الشخص الخاص. (١)

__________________

(١) نعم استنبط الشيخ الأعظم على ما في تقريراته : ٢٣٤ عن عبارة الفاضل التوني في وافيته أنّ لحكم العقل تأثيراً في استنباط الحكم الشرعي في المورد ، ولكن لم يظهر لنا ما نسب إليه من عبارته في الوافية ص ٢١٨. فلاحظ.

٦

الأمر الثالث : في تقسيم الدليل العقلي بنحو آخر :

إنّ الحكم الشرعي المستنتج من الحكم العقلي على قسمين : فتارة لا يتوقّف الاستنتاج على القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، وأُخرى يتوقّف ، ويعدّ القول بهما من مبادئ الأحكام ولولاهما لكان الاستنتاج عقيماً.

أمّا الأوّل : فهو كالقياس (التمثيل حسب اصطلاح المنطقيين) في فقه أهل السنّة ، وتنقيح المناط أو التمسّك بالعلّة المنصوصة في فقه الشيعة ، فالتشابه بين الخمر والنبيذ ربّما يصير سبباً لوحدة الحكم ، والوقوف على مناط الحكم الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدماً ربّما يصير سبباً لتسرية الحكم إلى غير المنصوص من الموارد. وليس الاستدلال في الموردين مبنياً على التحسين والتقبيح العقليين.

وأمّا الثاني : فهو كالحكم بالبراءة في الشبهات البدئية ، استناداً إلى قبح العقاب بلا بيان أو الحكم بالاشتغال ، استناداً إلى عدم قبحه بعد تمامية البيان ، إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية المستنبطة بالعقل عن طريق القول بالتحسين والتقبيح العقليين.

وقد طرح الشيخ القسم الأوّل في رسالة القطع وقال بحجية القطع الحاصل من الأدلّة العقلية بالنسبة إلى الحكم الشرعي وقد بحثنا عنه في ذلك المقام ، والمطروح في المقام هو القسم الثاني.

الأمر الرابع : في تعدد المسألتين :

لا شكّ أنّ هنا مسألتين ، إحداهما : استقلال العقل بالتحسين والتقبيح ، والأُخرى : ملازمة ذلك الادراك مع الحكم الشرعي بالوجوب والحرمة. والدليل على التعدد ، هو أنّ بعض الأخباريين كالفاضل التوني يسلِّم المسألة الأُولى بضرورة

٧

الوجدان والعقل ، دون المسألة الثانية (١). ومع ذلك كلّه فالحقّ أن يقال :

إذا كان النظر في الوحدة والكثرة إلى مقام الإثبات ، فلا شكّ أنّ هنا مسألتين إحداهما مستنبطة من الثانية ، فيكون حكم العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم دليلاً وكاشفاً عن حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة. والدليل على التعدد ، هو كون الثانية في طول الأُولى في مقام الاستكشاف ، مضافاً إلى اختلافهما في المحمول. فهو في الأوّل هو الحسن والقبح وفي الأُخرى الوجوب والحرمة ، مضافاً إلى اختلافهما في النتائج فإنّ ما يترتب على حكم العقل بهما هو المدح والذم ، وما يترتب على حكم الشرع بالوجوب والحرمة هو الثواب والعقاب ، فكل ذلك يصحّح كونهما مسألتين. هذا كلّه إذا ركّزنا النظر على عالم الإثبات ، وأمّا إذا كان النظر مركزاً على عالم الثبوت ، فالحقّ أنّ هنا مسألة واحدة كلّ يتكلم حسب لغته واصطلاحه ، فالعقل إذا يلاحظ بعض الأفعال يحكم عليه بالحسن والقبح ، والشرع إذا يلاحظه ، يحكم عليه بالوجوب والحرمة والحكمان وجهان لعملة واحدة ، ولعلّ هذا التفصيل أولى من الحكم البات بالوحدة أو الكثرة.

الأمر الخامس : ما هو المراد من قولهم :

كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع؟

إنّ هنا وجوهاً واحتمالات :

الف : إنّ ما حكم به العقل ، حكم بمثله الشرع ، وعلى هذا ففي الموارد التي يستقل فيها العقل ، حكمان ، كما أنّ فيها حاكمين.

ب : كلّ ما حكم به العقل ، حكم بعينه الشرع ، ويصدقه ، وعليه يكون هنا

__________________

(١) الوافية : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، وسيوافيك كلام صاحب الفصول في المسألة الثانية أيضاً.

٨

حكم واحد لحاكمين مستقلّين.

ج : كلّ ما حكم به العقل ، فهو عين ما حكم به الشرع ، بمعنى أنّ العقل رسول الشرع باطناً ، والنبيّ رسول الشرع ظاهراً والعقل لسان الشرع ، وعلى هذا فالحكم والحاكم واحد.

والاحتمال الأخير هو الظاهر من المحقّق القمّي قال : إنّ العقل يدرك أنّ بعض هذه الأفعال ممّا لا يرضى الله بتركه ويريده من عباده بعنوان اللزوم ، وبعضها ممّا لا يرضى بفعله ويريد تركه كذلك ـ إلى أن قال : ـ ولازم ذلك أنّه تعالى طلب منّا الفعل والترك بلسان العقل فكما أنّ الرسول الظاهري يبيّن أحكام الله ومأموراته ومنهياته ، كذلك العقل يبيّن بعضها. (١)

الأمر السادس : في أنّ القاعدة تستعمل في موردين :

الف : إنّ هنا من يرى جواز خلوّ الواقعة من الحكم الشرعي ، فيقال في مقابله : كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ، بمعنى أنّه لا يصحّ أن تخلو الواقعة عن الحكم الشرعي ، والمقصود إثبات أصل الحكم الشرعي في مورد حكم العقل وعدم خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي ، ويكون التطابق بين الحكمين ملحوظاً ضمنياً والمقصود الأصلي وجود نفس الحكم الشرعي لردِّ وهْمِ خلوِّها عنه.

ب : هناك من يزعم إمكان الخلاف بين الحكمين ، مع قبول عدم خلو الواقعة عن الحكم الشرعي أو مع قطع النظر عنه ، فيقال في ردّه : كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فيكون التطابق ملحوظاً أصليّاً ، ووجود أصل الحكم غير ملحوظ أصلاً أو ملحوظاً تبعياً.

__________________

(١) قوانين الأُصول : ٢ / ٢.

٩

الأمر السابع : في أنّ إنكار الملازمة يحتمل وجوهاً :

١ ـ إنكار التحسين والتقبيح العقليين من أصل وأنّ العقل عاجز عن دركهما أي عاجز عن درك حسن الأفعال وقبحها في نفسها أو عاجز عن درك حسنها وقبحها عند الشارع ، بمعنى أنّ العقل بعد درك حسنها وقبحها لنفسه ، غير قادر على الحكم بأنّه كذلك عند الشارع.

٢ ـ إنكار الملازمة بين الحكمين ، مع قبول أصل التحسين والتقبيح كما هو الظاهر من كلام الفاضل التوني والسيد الصدر من الأخباريين.

٣ ـ إنكار وجوب إطاعة الحكم الشرعي المستكشف من طريق الفعل بعد قبول المرحلتين السابقتين ، ويرجع ذلك إلى عدم حجية العلم الحاصل من غير طريق الكتاب والسنّة.

ونحن نبحث عن المسائل الثلاثة بهذا الترتيب :

١٠

المسألة الأُولى :

هل التحسين والتقبيح

عقليان أو شرعيان؟

قد عرفت أنّ إدراك العقل حسن الأفعال وقبحها يتصوّر على وجهين : تارة يبحث عن إدراك العقل حسن الأفعال وقبحها لنفسه ، واخرى عن إدراكه أنّ ما هو حسن أو قبيح عنده ، حسن وقبيح عند الشارع أيضاً ، ولعلّ هناك من يفرّق بين الإدراكين ، وإن كان اللائح من كلام المفكرين هو الأوّل.

قال علاء الدين القوشجي : «لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها وليس الحسن والقبح عائداً إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشارع ، بل انّ ما حسّنه الشارع فهو حسن أو ما قبّحه الشارع فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضية فحسَّن ما قبّحه ، وقبّح ما حسَّنه لم يكن ممتنعاً وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، ومثّلوا لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن

١١

الوجوب إلى الحرمة. (١)

ثمّ إنّ القائلين بالحسن والقبح العقليين يقسّمون الأفعال من حيث الاتصاف بهما إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : ما يكون الفعل بنفسه علّة تامّة للحسن والقبح : وهذا ما يسمّى بالحسن والقبح الذاتيين ، مثل العدل والظلم. فالعدل بما هو عدل ، لا يكون إلّا حسناً أبداً ، ومتى ما وجد ، يمدّح فاعله ويعد محسناً. وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلّا قبيحاً. ومتى ما وجد ، يُذمّ فاعله. ويستحيل أن يكون العدل قبيحاً والظلم حسناً.

الثاني : ما لا يكون الفعل علّة تامّة لأحدهما ، بل يكون مقتضياً للاتّصاف بهما ، بحيث لو خُلِّي الفعل ونفسه ، فإمّا أن يكون حسناً كتعظيم الصديق بما هو هو أو يكون قبيحاً كتحقيره. ولكنّه لا يمتنع أن يكون التعظيم مذموماً لعروض عنوان عليه كما إذا كان سبباً لظلم ثالث ، أو يكون التحقير ممدوحاً لعروض عنوان عليه كما إذا صار سبباً لنجاته.

ولا ينحصر المثال بهما بل الصدق والكذب أيضاً من هذا القبيل. فالصدق الذي فيه ضرر على النفس قبيح ، كما أنّ الكذب الذي فيه نجاة الإنسان البريء حسن. وهذا بخلاف العدل والظلم فلا يجوز أن يتسم العدل ـ بما هو عدل ـ بالقبح ، والظلم ـ بما هو ظلم ـ بالحسن.

الثالث : ما لا علّية له ولا اقتضاء فيه في نفسه للاتّصاف بأحدهما ، وإنّما

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي : عزب عن الشارح أنّ النسخ لا يتعلّق بما يكون حسنه أو قبحه ذاتيّين بل مورده ما إذا كانا ناشئين عن الوجوه والاعتبارات ، كعدّة المرأة حيث كانت في صدر الشريعة سنة فنسخت إلى أربعة أشهر وعشراً ، وقس عليه سائر ما توهّم فيه النسخ أو ثبت فيه.

١٢

يتبع الجهات الطارئة والعناوين المنطبقة عليه ، وهذا كالضرب فإنّه حسن للتأديب ، وقبيح للإيذاء.

هذا هو التقسيم الرائج بينهم. والغرض المطلوب في هذا البحث هو تبيين أنّ هناك أفعالاً يدرك العقل إذا طالعها ، مع قطع النظر عن كل الجهات الطارئة عليها ، أنّها حسنة يجب أن يمدح فاعلها ، أو قبيحة يجب أن يذم. ولا نقول : إنّ كل فعل من الأفعال داخل في هذا الإطار.

وبعبارة أُخرى : انّ النزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلي ، فالعدلية يقولون بالأوّل والأشاعرة بالثاني.

إطلاقات الحسن والقبح :

إنّ هناك أُموراً ثلاثة ، متقاربة المفهوم وهي :

١ ـ إطلاقات الحسن والقبح ومعانيها.

٢ ـ ملاكات الحسن والقبح.

٣ ـ ما هو محلّ النزاع بين المثبتين والنافين؟

ونبحث عن الجميع جملة واحدة لأنّها متقاربة المعنى ، والمقصود ، فنقول :

إنّ للحسن أو القبح معنى واحداً ولكل واحد في جميع اللغات معادلا يعبّر بهما عنهما و ـ مع ذلك ـ فله اطلاقات باعتبار ملاكات متفاوتة فلا بأس بالإشارة إلى تلك الملاكات ، وبتعيينها يتعيّن محلّ النزاع :

١ ـ ملاءمة الطبع ومنافرته ، فالصوت الناعم والطعام اللذيذ يلائمان طبيعة الإنسان ، والدواء المرّ ونهيق الحمار ينافرانها ، فيوصف الأوّلان بالحسن ، دون

١٣

الأخيرين ولعلّهما يوصفان بالسوء لا بالقبح. والحسن والقبح بهذا الملاك خارج عن محطّ البحث ، لاختلاف الطبائع إذ ربّ غذاء لا يلائم طبع طائفة وهو بالنسبة إلى الطائفة الأُخرى لذيذ حسن ، وهكذا الأصوات والروائح.

٢ ـ موافقة الأغراض الشخصية أو النوعية ومخالفتهما ، فكلّ عمل يؤمِّن الغرض الشخصي فهو حسن ، وخلافه ما يقابله وعندئذ يُصبح الحسن والقبح من الأُمور النسبية وهو بمعزل من التحقيق بخلاف ما إذا كان الملاك تأمين الأغراض النوعية ، فكلّ عمل يؤمّن مصالح النوع الإنساني كالعدل فهو حسن ، ويقابله ما يهدّد مصالحه ويسوقه إلى دار البوار فهو قبيح كالظلم ، فالعدل حافظ للنظام والظلم هادم له ، ومع ذلك كله فهو أيضاً خارج عن محطّ البحث وذلك بوجهين :

الف : إنّ القائلين بالحسن والقبح ذهبوا إلى أنّهما من الصفات الذاتية لبعض الأفعال ولا ينفكان عنها أبداً في حال من الأحوال ، وما هو كذلك لا يمكن أن يعتمد على ملاك خارج عن ذاته ، ككونه مؤمِّناً لمصالح النوع أو مهدّداً لها. فإنّ المقصود من الذاتي هناك ما يكفي وضع الموضوع في وضع المحمول ، أو يلازم تصوّر الموضوع تصوّره ، فجزاء الإحسان بالإحسان ، حسن ، وجزاؤه بالسوء ، قبيح مطلقاً من دون حاجة إلى ملاحظة كونه مدعماً لبقاء النظام أو هادماً له ، والعقل يحكم بهما بملاحظة تصوّر نفس الموضوع بما هو هو ، وما هو كذلك ، يتضمّن بنفسه الملاك ويكون موجوداً في صميمه ، ولا يستمد من ملاك خارج.

ب : إنّ نطاق البحث أعم من فعل الإنسان ، بل الغاية القصوى للمتكلّمين الذين هم الأُسس لطرح هذه المسألة هو معرفة أفعاله سبحانه ، وما يجوز له وما لا يجوز في الدنيا والآخرة ، وما هو كذلك يكون أرفع من أن يكون ملاك اتّصاف فعله بهما ، تأمين المصالح النوعية أو تدميرها.

١٤

٣ ـ كون الشيء كمالاً أو نقصاً للنفس كالعلم والجهل والأوّل زين لها والثاني شين وتحسين الفعل أو تقبيحه بهذا الملاك وإن كان صحيحاً ، ولا يشك أحد في أنّ العلم والشجاعة والفصاحة بما أنّها كمال للإنسان متصف بالحسن ، والجهل والجبن والسفاهة ، نقص وقبح ، لكن نطاق النزاع كما عرفت في نقد الوجه الثاني أعم من هذا وما ذكرناه من الوجهين فيه يأتي في الثالث أيضاً.

٤ ـ الحسن ما استحق الثواب عند الله. والقبيح ما استحق العقاب عنده. (١)

يلاحظ عليه بوجهين :

الف : أنّ نطاق البحث أوسع من أفعال العباد ، بل الغاية من طرح المسألة هو معرفة أفعاله سبحانه ووصفه بما يجوز له وما لا يجوز ومعه كيف يكون استحقاق الثواب والعقاب ملاكاً للحكم بالحسن والقبح.

ب : أنّ البحث عن المسألة ، لا يختص بالإلهيين وهناك جماعة لا عهد لهم بما وراء الطبيعة ، ولا يدينون بشريعة ، فأخذوا يبحثون عنها في كتبهم ولعلّ القائل ، يريد منه ما نذكره تالياً.

٥ ـ كون الفعل بنفسه محكوماً بالحسن أو القبح :

إنّ الملاك عند القائلين بالحسن والقبح الذاتيين ، ليس أمراً منضماً إلى الفعل وخارجاً عن ذاته ، بل الملاك وجود خصوصيّة في الفعل تجعله بنفسه موضوعاً لأحد الوصفين. والقائل يدّعيها والنافي ينكرها.

وعلى ضوء هذا لا تصح تسمية ذلك الملاك بالملائمة للطبع أو منافرته ، أو

__________________

(١) گوهر مراد : ٣٤٥ للمحقّق اللاهيجي. وسيوافيك نظره السامي في كتابه الآخر.

١٥

دعمه للأغراض ومخالفتها ، أو كونه كمالاً للنفس أو نقصاً لها ، أو موجباً لاستحقاق الثواب أو العقاب ، لأنّ تلك الملاكات ، أُمور خارجة عن ذات الفعل وصحيحه.

وبالجملة : الإثبات والنفي من القائل والمنكر يتوجّهان إلى ادّعاء وجود خصوصية في ذات الفعل تجعله صالحاً للاتّصاف بهما وعدم وجودها ، بحيث يكون الموضوع عند الطرفين ملاحظة نفس الشيء بما هو هو مغسولاً عن أي سبب وعلّة ، أو أيّ ضميمة ووصلة ، فالقائل يقول إنّ هنا أفعالاً تكفي ملاحظتها بنفسها مجردة عن كلّ شيء في الحكم بالتحسين والتقبيح ، والمنكر ينكرها.

وإذا وقفت على ما هو الملاك في ذاك الباب تقدر على تحرير محلّ النزاع فإنّ تحريره ، من ثمرات تعيين الملاك.

وأوّل من حرّر محل النزاع على هذا النحو المحقّق اللاهيجي في كتابيه (١) وبيانه في الرسالة الثانية أوضح وأجلى وبذلك تستغني عن كثير من المباحث الطويلة التي ملأت الكتب الكلامية ، حيث جعلوا الملاك أحد الأُمور الأربعة وحرّروا محلّ النزاع على غير ما ذكرناه فحشّدوا في رسائلهم مباحث لا تمت بالموضوع بصلة.

فتلخّص من هذا البحث الضافي أنّه كلّما ذكر التحسين والتقبيح العقلي قائماً يراد منه الإطلاق الأخير الذي يُكْمَن ملاكهما في نفس الفعل لا في أمر خارج ، وليس شيء من الإطلاقات الخمسة داخلاً في محلّ النزاع إلّا ما ذكر أخيراً.

__________________

(١) گوهر مراد : ٣٤٥ ؛ سرمايه ايمان : ٣٥ الطبعة الأُولى.

١٦

التحسين والتقبيح العقليّان من البديهيات في مجال العقل العملي :

قد وقفت على أنّ محلّ النزاع هو كون الفعل بنفسه موضوعاً للتحسين والتقبيح فعندئذ يطرح السؤال بأنّه كيف يصحّ للعقل القضاء البات على أحد الوصفين بملاحظة نفس الفعل ، وما هو السبب لقضائه؟ ولإيضاح هذا الجانب نقول : إنّ هنا وجهين لتقريب ذلك وإليك تقريرهما :

١ ـ لزوم انتهاء المجهولات إلى المعلوم بالذات في العقل النظري والعملي :

إنّ الحكماء قسّموا العقل إلى عقل نظريّ وعقل عمليّ ، فقال المعلّم الثاني : «إنّ النظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما ليس من شأنه أن يعمله إنسان ، والعملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته».

وقال الحكيم السبزواري في توضيحه : «إنّ العقل النظري والعقل العملي من شأنهما التعقّل ، لكن النظري شأنه العلوم الصرفة غير المتعلّقة بالعمل مثل : الله موجود واحد ، وانّ صفاته عين ذاته ، ونحو ذلك.

والعملي شأنه العلوم المتعلّقة بالعمل مثل : «التوكّل حسن» و «الرضا والتسليم والصبر محمود» وهذا العقل هو المستقل في علم الأخلاق ، فليس العقلان كقوتين متباينتين أو كضميمتين ، بل هما كجهتين لشيء واحد وهو الناطقة». (١)

إذا عرفت ذلك نقول : كما أنّ في الحكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية ، ولو لا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة ، فهكذا في الحكمة العملية ، قضايا غير معلومة لا تُعرف إلّا بالانتهاء إلى قضايا ضرورية ،

__________________

(١) تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة : ٣١٠.

١٧

وإلّا لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية ، فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظرية من صميم ذاته فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاته بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.

مثلاً : لا يصح تصديق أيّ قضية من القضايا إلّا إذا انتهت إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التصديق بها لما أمكن التصديق بشيء من القضايا ، ولذا تسمى ب ـ «أُمّ القضايا» وذلك كاليقين بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين ، فانّه لا يحصل اليقين إلّا إذا حصل قبله التصديق بامتناع صدق نقيض تلك القضية ، أي عدم مساواتها لهما. وإلّا فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالتساوي. ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ اقامة البرهان على المسائل النظرية إنّما تتم إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا التي قد عرفت.

وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما انّ بين مدركات العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوّلية تنتهي إليها القضايا النظرية في ذلك المجال ، فهكذا بين مدركات العقل العملي ، قضايا أوّلية وواضحة يبرهن بها على سائر مسائله غير الواضحة بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صحّ التصديق بقضية من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي ، مسألة التحسين والتقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا بوضوح ، مثل قولنا : «العدل حسن» و «الظلم قبيح» و «جزاء الإحسان بالإحسان حسن» و «جزاؤه بالإساءة قبيح».

فهذه القضايا ، قضايا أوّلية في الحكمة العملية ، والعقل العملي يدركها من صميم ذاته ، ومن ملاحظة تلك القضايا بنفسها. وفي ضوء التصديق بها يسهل عليه التصديق بما يبتنى عليها في مجال العقل العملي من الأحكام غير البديهيّة ، سواء أكانت مربوطة بالأخلاق أو تدبير المنزل ، أو سياسة المدن ، التي يبحث عنها

١٨

في الحكمة العملية. فإنّ ما يستقل به العقل في مجال العمل إمّا له صلة بالحياة الفردية وهي ما يبحث عنه في علم الأخلاق ، أو بالحياة الاجتماعية المحدودة وهي ما يبحث عنه في نظام الأُسرة وتدبير المنزل ، أو الواسعة المترامية الأطراف وهو ما يبحث عنه في سياسة المدن وإدارة المجتمع.

ولنمثل على ذلك : إنّ العالم الأخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين والمعلّمين وأُولي النعمة ، وذلك لأنّ التكريم من شئون جزاء الإحسان بالإحسان ، وهو حسن بالذات ، والإهانة لهم من شئون جزاء الإحسان بالإساءة وهو قبيح بالذات.

والباحث عن أحكام تدبير المنزل يحكم بلزوم القيام بوظائف الزوجية من الطرفين وقبح التخلّف عنها ، ذلك لأنّ القيام بها عمل بالميثاق ، والتخلّف عنها تخلّف عنه ، والأوّل حسن بالذات والثاني قبيح بالذات.

والعالم الاجتماعي الذي يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأنّه يجب أن تكون الضرائب معادلة لمنافع الأفراد ، وذلك لأنّ الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعية وهو قبيح بالذات.

وقس على ذلك كل ما يرد عليك من الأبحاث في الحكمة العملية ، سواء أكانت راجعة إلى الفرد (الأخلاق) أو إلى المجتمع الصغير (البيت) ، أو إلى المجتمع الكبير (السياسة) ، فكل ما يرد فيها ويبحث عنه الباحثون ، بما أنّه من شئون العقل العملي ، يجب أن ينتهي الحكم فيه إيجاباً وسلباً ، صحّة وبطلاناً إلى القضايا الواضحة البديهية في مجال ذلك العقل.

إلى هنا انتهينا إلى أنّه يجب انتهاء الأحكام غير الواضحة ابتداء في مجال العقلين (النظري والعملي) إلى أحكام بديهية مدركة ابتداءً بلا مئونة شيء وذلك دفعاً للدور والتسلسل الذي استند إليه علماء المنطق والحكمة في القسم الأوّل ، أي الحكمة النظرية. والدليل واحد سار في الجميع.

١٩

والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية ، وإلّا عقمت الأقيسة ولزم التسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن الاعتماد على ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسموا القضايا العملية إلى أوّلية وثانوية ، أو نظرية وضرورية. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا غير الواضحة ، الواردة في مجال العقل العملي ، لا يتم إلّا إذا انتهى حكم العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال. وقد عرفت أنّ المسائل المطروحة في الأخلاق ، الباحثة عن المحاسن والمساوئ ، أي ما يجب الاتصاف به أو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتية والعائلية التي يعبّر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب. فلا ينال العقل الجزم بكل القضايا العملية إلّا إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العملية حتّى يحصل الجزم بها ويُرتَفع الابهام عن وجهها.

ومن هنا تبيّن الأُمور التالية :

١ ـ أنّ المدّعي للحسن والقبح الذاتيين في غنى عن البرهنة لما بيّناه ، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك لما عرفت من أنّ الحكم بهما في الجملة من الأُمور البديهية.

٢ ـ أنّ حسن الأفعال أو قبحها على قسمين : قسم منها يُعدّ من المعلومات الأوّلية لكل إنسان تجرّد عن أيّ رأي مسبق يحكم بهما عقله بالبداهة بلا تروّ وفكر. وقسم منها تعلَم حاله بالانتهاء إلى تلك المعلومات الضرورية.

٣ ـ أنّ لفظ البديهي والنظري وإن كانا يستعملان في المعقول النظري دون العملي ، لكن لا محيص عن تعميم الاستعمال إلى قضايا العقل العملي أيضاً أو استخدام لفظ آخر في ذينك المجالين ، كقولنا :

المعلومات الأوّلية والواضحة ، والمعلومات الثانوية أو غير الواضحة.

٢٠