البرهان في متشابه القرآن

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني

البرهان في متشابه القرآن

المؤلف:

محمود بن حمزة بن نصر الكرماني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

١
٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التحقيق

للحمد لله الذى منّ على عباده بالمنة الكبرى التى أحاط جلالها وجمالها وقدرها بكل منة ؛ إذ أنزل على عبده الكتاب (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١) ؛ قد أحاط بالحقائق فاندرجت فيه كل حقيقة ، وأحاط بسبل الهداية فلم يجد الضلال سبيلا إلى من جعل القرآن منهاجه وطريقه ، وهيمن على الكمالات فكل كمال من خزائنه متدفق ، وخشعت لسطوات جلاله القلوب المصغية للحق ، المقبلة عليه ، فلو ذاب أهل السموات والأرض عند تلاوته عليهم أو صعقوا لحقّ لهم ذلك (مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) (٢).

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) واضحة المعانى ظاهرة الدلالة ، من تمسك بها فقد عصم نفسه من الزيغ ، وهدى إلى الصراط المستقيم (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) يرجع إليها المؤمنون كلما ارتج الأمر عليهم في قضية من قضايا الفكر ، أو أزمة من أزمات المعرفة التى تزخر بها حياة الإنسان (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) يضطرب في بحار معانيها هؤلاء الذين استقلوا في نظرها بعقولهم المنقطعة عن الله تعالى ، وعن المحكم (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣).

لك الحمد ربنا ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضا وزنة العرش على ما أسبغت علينا من نعمك ظاهرة وباطنة ، والصلاة والسلام على من أرسلته رحمة للعالمين ليبين لهم أسرار دقائق التنزيل ، فما ترك صلوات الله وسلامه عليه طريقا إلى الله تبارك وتعالى إلا وقد بيّنه ، وأرشد إليه ، ولا سببا قاطعا عن الله عزوجل إلا وقد حذّر منه ونهى عنه.

جزاه الله تعالى عنا خير ما جازى به نبيا عن أمته ، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد :

__________________

(١) سورة يوسف من الآية : ١١١.

(٢) سورة الزمر من الآية : ٢٣.

(٣) سورة آل عمران من الآية : ٧.

٥

فهذه مقدمة التحقيق لكتاب «البرهان في متشابه القرآن» : وهى مبحثان :

الأول : في التعريف بالمصنّف ـ بكسر النون المشددة ـ نعرف فيها بموطنه ، ونتحدث عن عصره ، ونترجم له ونذكر مصنفاته ، ونبين مكانته بين أنداده.

الثانى : في التعريف بالمصنّف ـ بفتح النون المشددة ـ فنعرّف بموضوع التصنيف ومن صنفوا فيه قبل الكرمانى ، وأثر كتاب (البرهان) فيمن ألفوا في المتشابه بعد الكرمانى ، ثم نذكر الأصول المخطوطة لكتاب (البرهان) ، ونختم المقدمة ببيان المنهج الذى سرنا عليه في التحقيق.

٦

المبحث الأول

التعريف بالمصنّف

التعريف بموطن المؤلف :

ذكر الذهبى في (المشتبه) ثلاثة مواضع تكون النسبة إليها (كرمانى) : وهى :

«نسبة إلى كرمان وهى ولاية كبيرة تشتمل على عدة بلدان منها الشيرجان. ونسب إلى كرمان خلق ... ونسبة إلى محلة بنيسابور يقال لها : «مربعة الكرمانية» منها الحافظ أبو يوسف يعقوب الأخرم الكرمانى النيسابورى. ونسبة إلى كرمانة بنواحى بخارى منها : حفص بن عمرو بن هبيرة البخارى الكرمانى» (١).

ويفرق علماء الأنساب في النسبة إلى هذه المواضع : فمن كان من كرمان قالوا عنه : كرمانى ومن كان من (مربعة الكرمانية) قالوا : الكرمانى النيسابورى. ومن نسبوه إلى الناحية الثالثة قالوا : (الكرمانى البخارى).

وكرمان (٢) ولاية (٣) من ولايات المشرق في العصر العباسى وتقع شرق ولاية فارس. ويفصلها عن خراسان في الشمال مفازة خراسان ـ الصحراء الإيرانية الكبرى حاليا ـ ويفصلها عن سجستان في الشرق صحراء متصلة بمفازة خراسان ويحدها من الجنوب (مكران) ـ تابعة لباكستان حاليا. وتطل من الجنوب الغربى على مدخل الخليج العربى ـ الفارسى سابقا ـ بساحل مقعر ـ مقوس إلى الداخل ـ يقع عليه ميناء هرمز الذى كان يتبعها تارة ، ويتبع ولاية فارس تارة أخرى.

__________________

(١) الحافظ الذهبى : «المشتبه في أسماء الرجال وأنسابهم» ٢ / ٥٥٠.

(٢) ضبطها ياقوت في معجم البلدان بفتح ثم سكون. وربما كسرت والفتح أشهر بالصحة (معجم البلدان ٤ / ٢٦٣) ووافقه على ذلك صفى الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادى في مختصره لمعجم البلدان (مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع : ٣ / ١١٦).

(٣) قسم المقدسى في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ص ٤٦٠ وما بعدها ولاية كرمان إلى خمس كور وناحية :

أ ـ «نردسير» : تقع ناحية ولاية فارس وقصبتها باسمها.

ب ـ «ترماسيد» : تلى السابقة إلى الداخل وقصبتها باسمها.

ج ـ «بم» : وتقع في الوسط وقصبتها باسمها.

د ـ «السيرجان» : تقع شمال بم وقصبتها باسمها ، ثم اتخذت مدينة كرمان عاصمة لها.

ه ـ «جيرفت» : وهى أجمل الولايات وتقع في الجنوب الغربى المطل على الخليج وقصبتها باسمها.

٧

ومن هذه الصورة يتبين أن أقرب العمران إلى كرمان يقع فيما يليها من ناحية ولاية فارس في الغرب ، وفيما عدا ذلك فإنها تكاد تكون محاطة بالجبال والصحارى في الشمال والشرق والجنوب. وتروى أراضيها الأنهار والجداول التى تنبع من سلاسل الجبال التى تخترقها من الشمال الغربى إلى الجنوب الشرقى. وتشتهر كرمان بجودة تمورها حتى شبهت بالبصرة في كثرة التمر وجودته.

قال المقدسى : «وربما وجد التمر في مواضع مثل منوقان وما في معناها : مائة منّ (١) بدرهم أو تحمل التمور لبيعها في خراسان فيقصدها كل سنة مائة ألف جمل» (٢).

وتشتهر بعض نواحيها مثل (بم) بصناعة أجود الثياب. وعاصمة الولاية تارة مدينة السّيرجان ، وتارة مدينة كرمان التى تتميز بوقوعها في ملتقى طرق القوافل مما جعلها مركزا تجاريا هاما.

وكانت ناحية كرمان من حيث الإدارة تارة تضاف إلى أعمال خراسان أو إلى أعمال فارس. وتارة تكون ولاية قائمة بذاتها كما حدث في الوقت الذى ندرسه ما بين (٤٥٠ :

٥٥٠ ه‍).

الأحوال السياسية والدينية والثقافية للقسم العجمى

من بلدان الخلافة العباسية خلال القرن الممتد ما بين (٤٥٠ : ٥٥٠ ه‍)

ونعنى بالقسم العجمى : البلدان الإسلامية التى تظلها الخلافة العباسية ، ما بين العراق غربا وبلاد ما وراء النهر شرقا ، وتقطن هذه المنطقة شعوب لغاتها الوطنية ليست عربية.

١ ـ الأحوال السياسية :

كانت سيطرة البويهيين (٣٣٤ ـ ٤٤٧ ه‍) على الخلافة العباسية إيذانا بدخول هذه الخلافة في مرحلتها الثانية من مراحل أفولها : ذلك لأن البويهيين ـ وأصلهم من الديلم (٣) ـ سخّروا الخلافة لخدمة مصالحهم ولم يسخروا الأسباب لخدمة الخلافة. وزاد في وقدة الخلاف بينهم وبين الخلافة أنهم كانوا من الشيعة ولذا ازدهر المذهب الشيعى في عهدهم ، وتحكم أهله في أهل السنة ، كما ازدهر الاعتزال في عصر البويهيين لما بينه وبين المذهب الشيعى من وشائج. ومنذ البداية نجد أن البويهيين يتجهون إلى تجريد الخلفاء من كل سلطة ، بل

__________________

(١) المن الرطل ، وقد حرر الإمام النووى الرطل بمقدار ٤ / ٧ ١٢٨ درهم من دراهم زمانه (ق ٧ ه‍).

(٢) المقدسى : أحسن التقاسيم ص ٤٦٩.

(٣) بلاد الديلم أو جيلان تقع جنوب غرب بحر الخزر (ويسمى أيضا بحر طبرستان أو بحر جرجان) وهو بحر قزوين حاليا. وتمتد بلاد الديلم ما بين طبرستان وأذربيجان وعاصمتها روذبار.

٨

ولم يتورعوا عن التعدى على أشخاصهم كما فعل كبيرهم (معز الدولة بن بويه) (٣٣٤ ـ ٣٥٦ ه‍) حين اختلف مع الخليفة العباسى المستكفى ؛ إذ خلعه (سنة ٣٣٤ ه‍) ، وسمل عينيه (١) وأسند الخلافة إلى المطيع!! وعامله معاملة الخدم ، ورتب له إقطاعات يسيرة يعيش هو وحاشيته على إيرادها ـ وبعد وفاة معز الدولة (سنة ٣٥٦ ه‍) تولى السلطنة من بعده عز الدولة بختيار (٣٥٦ ـ ٣٦٧ ه‍) الذى عزل الخليفة المطيع (سنة ٣٦٣ ه‍) وولى مكانه الطائع (٣٦٣ ـ ٣٨١ ه‍).

ولو لا أن البويهيين كانوا يدكون تمام الإدراك أن ضعف الخلافة العباسية أنفع لهم من القضاء عليها لأطاحوا بها وأسسوا خلافة شيعية.

وقد انعكست آثار هذه الفوضى على الحياة العسكرية ؛ إذ اتجه ولاء الجيش لا إلى الدولة ولكن إلى العصبية ، فتعصّب البعض للديلم وناصروا البويهيين ، وتعصب الآخر للأتراك ورأوا أنهم أحق بالسلطة من الديلم ، وحين رجحت كفة الأتراك عاملوا البويهيين بنفس المعاملة التى عاملوا بها الخلفاء ، ومنذ تدخل الجيش في الشئون الداخلية دخلت الخلافة ومعها الدولة في غرفة الإنعاش ، ولم يخرجا منها إلا لظهور قوتين جديدتين في التاريخ الإسلامى كان لهما أبعد الأثر في الحقلين السياسى والدينى ، بل في التاريخ الإسلامى كله في ذلك الوقت هاتان القوتان هما :

قيام الدولة الغزنوية (٢) (٣٦٦ ـ ٥٨٢ ه‍) :

فقد مهد قيام هذه الدولة للقضاء على البويهيين ؛ إذ قام أقوى سلاطينها الفاتح محمود الغزنوى (٣٨٨ ه‍ ـ ٤٢١ ه‍) بطرد السامانيين من خراسان (سنة ٣٨٩ ه‍) ، ثم قضى على البويهيين في الرى والجبال (٣) ، ولو لا أن فتوحات هذه الدولة الفتية قد اتجهت مشرقة نحو الهند لكان للغزنويين شأن آخر مع البويهيين.

استفادت الخلافة العباسية من الغزنويين في حماية خراسان من غارات الغزّ التركمان الذين لم يكفوا عن الغارة عليها حتى وقعت أخيرا تحت حكم السلاجقة ـ ومن ناحية أخرى قام الغزنويون بتمشيط الولايات الخاضعة لنفوذهم من خصوم الخلافة من أهل الفرق مثل الرافضة والإسماعيلية ، ولم يكتف السلطان محمود الغزنوى بالتنكيل بهؤلاء ، بل وأمر بلعنهم على المنابر.

__________________

(١) أى فقأهما : وهى عقوبة اعتادها التتر ومن والاهم من الشعوب.

(٢) أسسها سبكتكين صهر أمير غزنة وامتد حكمه من (٣٦٦) إلى (٣٨٧ ه‍) ، واتخذ غزنة مقرا للدولة وتقع جنوب كابول عاصمة الأفغان حاليا.

(٣) تقع بلاد الجبال جنوبى أذربيجان (غرب بحر طبرستان) وتشمل ما يسمى بالعراق العجمى في ذلك الوقت ومن مدن هذا الإقليم شهرزور ، همدان ، أصبهان.

٩

ولما أدّاه هذا السلطان من خدمات للخلافة وبلدانها لقّبه الخليفة القادر بالله (٣٨١ ـ ٤٢٢ ه‍) بلقب (يمين الدولة) و (أمين الملّة).

قيام دولة السلاجقة :

ظهر السلاجقة (١) في بلاد ما وراء النهر وأخذوا يوسعون سلطانهم ؛ مما جعل اصطدامهم بالغزنويين أمرا لا مفر منه ، وقد قضى السلطان محمود الغزنوى أواخر حياته بعد سنة ٤١٨ ه‍ في حروب متصلة معهم ، ولما توفى (سنة ٤٢١ ه‍) خلا لهم الجو واستطاع زعيمهم طغرلبك السلجوقى أن يستولى على خراسان (سنة ٤٣١ ه‍) ، وعلى جرجان وطبرستان (٤٣٣ ه‍) ، وعلى أصبهان (٤٤٢ ه‍). وأصبح الطريق أمامه مفتوحا إلى العراق ، وقد سنحت الفرصة حين استدعاه الخليفة العباسى القائم بأمر الله (٤٢٢ ـ ٤٦٧ ه‍) إلى دخول العراق لإنقاد الخلافة من مؤامرة خطيرة كانت ترمى إلى إعلان الخطبة للخلفاء الفاطميين في مصر. وبدخول طغرلبك بغداد قضى على آخر سلاطين آل بويه الملك الرحيم (٤٤٠ ـ ٤٤٧ ه‍) وآل إلى السلاجقة التصرف في الولايات الإسلامية التى يخطب فيها للخليفة العباسى.

ولما كان السلاجقة من أهل السنة المتحمسين لها ولأهلها فقد انتصروا لأهل السنة ضد مناوئيهم من أهل الفرق.

وانقسم السلاجقة إلى خمس بيوتات حاكمة أسست خمس دول وهى :

١ ـ دولة السلاجقة الكبرى (٤٢٩ ـ ٥٢٢ ه‍) وحكمت العراق وخراسان وفارس والرى والجبال والأهواز ، وانسلخت منها خراسان سنة ٥١١ ه‍ في عهد سنجر بن ملكشاه (٥١١ ـ ٥٢٢ ه‍) ـ وقضى على هذه الدولة شاهات خوارزم (٢) ٢ ـ سلاجقة العراق وكردستان (٥١١ ـ ٥٩٠ ه‍).

٣ ـ سلاجقة كرمان (٤٣٢ ـ ٥٨٣ ه‍).

٤ ـ سلاجقة سوريا (٤٨٧ ـ ٥١١ ه‍).

٥ ـ سلاجقة الروم (٤٧٠ ـ ٧٠٠ ه‍).

وكان للحصانة الطبيعية التى تمتعت بها كرمان دور كبير في حمايتها من الحروب المستمرة التى دارت رحاها في الولايات الشمالية الممتدة ما بين بلاد الجبال إلى ما وراء

__________________

(١) ينتمى السلاجقة إلى قبيلة من قبائل الغز التركمانيين الذين كانوا يقطنون سهول تركستان ، وقد نزح كثير منهم إلى بلاد ما وراء النهر وشرعوا في بسط سلطانهم على البلدان التى تلا ما وراء النهر ناحية خراسان ونسبوا إلى أقوى زعمائهم (سلجوق).

(٢) قامت الدولة الخوارزمية ما بين (٤٧٠ ـ ٦٢٨ ه‍) في بلاد ما وراء النهر.

١٠

النهر (١).

وكانت أقرب الولايات العامرة إليها هى ولاية (فارس) ، وعاشت كرمان في عصرها السلجوقى متمتعة بكيانها كولاية مستقلة ، وإلى ذلك يشير ياقوت الرومى بقوله : «وقد كانت أيام السلجوقية والملوك القاروتية (٢) من أعمر البلاد وأطيبها» (٣).

٢ ـ الفرق الدينية في هذه المنطقة وموقفها من أهل السنة :

الشيعة :

شجعت ميول البويهيين الشيعية دعاة المذاهب الشيعية على التغلغل في البلدان الإسلامية الواقعة شرق العراق ، بل وفي العراق نفسه وهو أرض الخلافة. وقد بلغ من هوان الخلافة العباسية وجرأة الشيعة ، أن أحد أمراء الدولة العقيلية في الموصل وهو (قرواش بن المقلّد العقيلى) أعلن الخطبة للفاطميين على منابر الموصل والكوفة والمدائن سنة ٤٠١ ه‍.

وبعد هذا الحادث بنصف قرن ، قام أحد مماليك بهاء الدولة البويهى ويدعى (البساسيرى) بتدبير مؤامرة ترمى إلى خلع الخليفة العباسى وإعلان الخطبة في بغداد والولايات الإسلامية للخليفة الفاطمى ـ وكاتب في هذا الشأن الخليفة الفاطمى المستنصر (٤١١ ـ ٤٨٧ ه‍) يستأذنه في الموافقة على ذلك. وكان ممثل داعى الدعاة الإسماعيلية في (فارس) هو : المؤيد في الدين هبة الله الشيرازى يؤازره في المؤامرة ، وهو من الرجال الذين لهم وزنهم ؛ إذ كان السلطان البويهى (أبو كاليجا) الذى حكم ما بين (٤٣٥ ـ ٤٤٠ ه‍) يستعين به لبث الرعب في قلوب الخلفاء العباسيين.

وكان السلاجقة في ذلك الوقت قد قويت شوكتهم وتغلّبوا على الغزنويين في خراسان ، وتولى زعيمهم طغرلبك حكمها.

وتلفت الخليفة العباسى حوله باحثا عن حاكم مسلم واحد من أنصار أهل السنة كى يستنجد به ليقضى على المؤامرة الشيعية التى ترمى إلى خلعه فلم يجد سوى السلطان طغرلبك السلجوقى ، فكتب إليه يطلب منه المبادرة بالحضور إلى بغداد لإنقاذ الخلافة. ورحب طغرلبك بالفرصة ، ودخل بغداد (سنة ٤٤٧ ه‍). وقضى على آخر سلطان بويهى

__________________

(١) تشمل أراضى ما وراء النهر : البلدان الواقعة في حوضى نهر جيحون (أموداريا حاليا) وسيحون (سرداريا حاليا) ويصب هذان النهران في بحيرة خوارزم الواقعة شرق بحر قزوين ، وقامت في هذه البلاد مدن إسلامية تعتبر بحق من مفاخر الحضارة الإسلامية مثل بخارى ، سمرقند ، فاراب ، فرغانة ، الشاش ، نسف ، كش.

(٢) القاروتية الذين ينسب إليهم حكام كرمان : عشيرة سلجوقية تنسب إلى قاروت بن داود بن ميخائيل بن سلجوق أخى ألب أرسلان.

(٣) ياقوت معجم البلدان ٤ / ٢٦٣ ، مراصد الاطلاع ٢ / ٤٩١ ، ٤٩٢.

١١

فيها ، وهرب البساسيرى وزمرته إلى الموصل ليواصل حربا أهلية شرسة ضد السلاجقة الذين سولت لهم أنفسهم حماية الخلافة ، وشد البويهيون أزر البساسيرى طمعا في استرداد ملكهم. وتمكن البساسيرى من دحر السلاجقة ثم الاستيلاء على بغداد سنة ٤٥٠ ه‍ معلنا الخطبة للخليفة الفاطمى المستنصر ، وواصل مسيرته من بغداد متجها نحو الجنوب فاستولى على واسط ثم البصرة. وكانت في هذه الأثناء قد وصلت الإمدادات إلى طغرلبك من سلاجقة فارس وخراسان فأعاد الكرة واستولى على بغداد ، وهاجم البساسيرى الذى هرب قاصدا الشام ، فتعقبه رجال طغرلبك وتمكنوا من أسره ، وأمر السلطان بإعدامه.

الباطنية :

كانت هذه الفرقة من الإسماعيلية أشد الفرق خطرا على الإسلام والمسلمين. وتنبثق خطورتها من قوة تنظيماتها وسيطرتها التامة على أتباعها. ودعوتهم ـ شأن الدعوات السرية والإرهابية ـ لها وجهان : ظاهر وهو أنهم فرقة من الشيعة الإسماعيلية. وباطن وهو يشتمل على تفاصيل عقدية وتشريعية تجعل الباطنية أول مذهب شمولى منظم يلبس قميص المسلمين ليتمكن من تدميرهم ، ولا تختلف كوادره في جوهرها عن كوادر الشموليات الحديثة.

ومن تعاليمهم الشمولية المدمرة :

١ ـ اعتقادهم العصمة في الإمام ، ويطلقون على أنفسهم لقب (التعليميين) منطلقين من مبدأ (لا تعليم بدون معلم) ليبنوا على هذه القاعدة أن كل معلم لا يصلح للتعليم لتعرضه حتما للوقوع في الخطأ ، وينتهون من هذا إلى حتمية الحاجة إلى إمام معصوم يتلقى المتعلم عنه ما يقيه شر الضلال والانحراف. وقد فند أهل السنة آراء التعليميين وانبرى الإمام الغزالى لدحض أباطيلهم ، والكشف عن أسرارهم مبينا ألا معصوم بعد الذى أنزل عليه القرآن صلوات الله وسلامه عليه. (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١).

وينفذون من عقيدة عصمة الإمام إلى أحكام تستلزم خضوع أتباعهم خضوعا كليا ، وأهمها :

١ ـ رفض كل إمامة عدا إمامة المعصوم ، وبذل النفس والمال في سبيله والطاعة المطلقة لمن ينوب عنه.

٢ ـ اتخاذ الإرهاب وسيلة لتحقيق أغراضهم : إذ تسقط الباطنية كل القيم ويستحلّون كل بغى وفساد في سبيل الوصول إلى أهدافهم : فأباحوا الحرابة ، وقطع الطرقات ، والثورة على الحكام ، وسخّروا العصابات للنهب والسلب وإشعال الحروب الداخلية لقلب

__________________

(١) المائدة : ١٦.

١٢

نظم الحكم ، ووضعوا قاعدة ترمى إلى تصفية زعماء المسلمين الأقوياء للتخلص من كل معارض قوى لهم. وقد سجل لهم التاريخ في هذا الصدد ما يندى له الجبين من الاغتيالات الفاجرة.

٣ ـ تغلغلوا داخل الشعوب وأسسوا ما نسميه الآن (الطابور الخامس) لتغذية الثورات وإشعالها ونشر الفوضى في البلدان الإسلامية.

٤ ـ أقاموا تنظيماتهم على كوادر وخلايا في منتهى الدقة ، ولا تفترق كثيرا عن أقوى التنظيمات الإرهابية في العصر الحديث.

٥ ـ اعتمدوا على جهاز للدعوة يضارع أكثر الأجهزة الإيديولوجية الشمولية الحديثة تقدما ؛ ويقوم هذا الجهاز بضم الأنصار ، وإجراء عمليات غسيل المخ الثقافية لخلع العصمة على تصرفات الباطنية ولإثبات فساد النظم القائمة ، ويتولى داعى الدعاة [وزير الإعلام والدعوة] هذه المهام. ويقررون أن داعى الدعاة يستمد العصمة من الإمام لأنه تلقى الدعوة عنه.

واشتدت شوكتهم في عهد داعيتهم (أحمد بن عبد الملك بن عطّاش ت ٥٠٠ ه‍) الذى تخرج على يديه أكبر زعيم للباطنية من بعده وهو (الحسن بن الصباح (١) ٤٢٨ ـ ٥١٨ ه‍) الذى اتخذ من قلعة (الموت) شمال العراق قاعدة له. وقد توطدت أقدام الباطنية في فارس وخراسان وكرمان كما تغلغلوا في أحشاء المدن والقرى وأنشئوا مراكز وثوب يثبون منها على ما جاورهم من البلاد وزودوها بالأسلحة والعتاد مما جعلها في غاية المنعة والحصانة. هذا ولم تقو شوكتهم في بلد إسلامى إلا وعمه الخراب وساده الفساد واختل فيه الأمن وانتشرت فيه الفوضى ، وكثرت فيه الاغتيالات بقصد إرهاب كل من تحدثه نفسه بمقاومتهم ، يرومون من وراء ذلك التخلص من رءوس الأمة الذين لا تصلح الأمة إلا بوجودهم ، فإذا ما تخلصوا منهم لم يجسر أحد على مناوأتهم أو الوقوف في مواجهتهم ، وكانت أشد ضربة من ضربات التصفية التى وجهوها للعالم الإسلامى في ذلك الوقت : هى اغتيالهم سنة ٤٨٥ ه‍ لأقوى شخصية حاكمة وقتئذ ألا وهو (نظام الملك) وهو من الحكام الذين خلّد التاريخ حكمهم بحروف من نور.

وتدخلوا في العدالة ومارسوا الضغط على القضاة باغتيال أشهرهم حتى يطلق القضاة سراح مجرميهم ولا يتجاسروا على الحكم عليهم ، ومارسوا نفس الضغوط على الأئمة حتى

__________________

(١) هو مؤسس الفرقة النزارية ويطلق الأوربيون على أتباعه المغتالون Assassinsو قد يطلقون هذا الاسم على جميع فرق الإسماعيلية ، وقد خصهم المستشرق برجشتال بمؤلف عنوان (Hist oiredesassassins) أو «تاريخ الحشاشين» وقد يكون الاسم الأوربى محرفا عن الاسم الذى أطلقه العرب عليهم وهو (الحشاشون).

١٣

لا يتجاسروا على الإفتاء بمقاومتهم ـ وكان قاضى أصبهان (عبد الله بن على الخطيبى) يلبس باستمرار درعا تحت ثيابه خشية من فتكهم به على غرة منه ، ومع ذلك فإنهم في عام ٥٠٢ ه‍ تمكنوا من اغتيال ثلاثة كان هو من بينهم والثانى هو قاضى نيسابور : صاعد بن محمد بن عبد الرحمن (٤٤٨ ـ ٥٠٢ ه‍) والثالث الإمام الرويانيّ عبد الواحد بن إسماعيل الشافعى (٤١٥ ـ ٥٠٢ ه‍) وكان يلقب بفخر الإسلام ، وقد بلغ من تمكنه في المذهب أنه قال : «لو احترقت كتب الإمام الشافعى لأمليتها من حفظى» ولم يشفع له علمه ولا كبر سنه.

واشتد خطرهم واستفحل أمرهم في العراق وفارس وكرمان وقطعوا طريق القوافل ما بين كرمان والشمال والغرب ، وأرهبوا القرى ، وفرضوا على الأهالى المكوس فدفعوها لهم اتقاء لشرهم ودفعا لأذاهم. فمن عاداهم بات غير آمن منهم ، ومن سالمهم اتهمه الناس بالارتكاس في عقيدتهم وموالاتهم.

ولما وقف ملك كرمان (تيرانشاه بن تورانشاه السلجوقى) منهم موقفا سلبيا خشية بأسهم ، اتهمه الناس بالميل إليهم والدخول فيهم ، وثاروا عليه وخلعوه ، وولوا مكانه أرسلانشاه بن كرمانشاه ليخلصهم من شر الباطنية ـ ولكن هؤلاء كانوا قد تغلغلوا حتى أصبح السلطان لا يثق بخواصه ، واستغل ضعاف النفوس هذه المصيبة لينتقم بعضهم من بعض ويشى بعضهم ببعض (١).

واشتعلت الحرب بينهم وبين سلطان دولة السلاجقة الكبرى في العراق (ركن الدين بركيارق ٤٨٧ ـ ٤٩٨ ه‍) فلم يظفر منهم بطائل ، وقام من بعده أخوه السلطان محمد بن ملكشاه ففرغ نفسه للقضاء عليهم ، وسلك معهم طريقة الحوار وأرسل إليهم العلماء لمحاورتهم فما زادهم ذلك إلا رسوخا في عقيدتهم ، بل استغلوا الحوار كى يفضّوا الناس من حول السلطان باتهامه أنه يستحل محاربة قوم من المسلمين وهذا كفر صريح!! ولما رأى منهم السلطان هذا الإصرار هاجمهم في قلعتهم بأصبهان وهدمها وقضى على زعيمهم (أحمد بن عبد الملك بن عطاش) ، ثم يمم شطر الحسن بن الصباح وحاصره في قلعة [الموت] ولكن وفاة السلطان (سنة ٥١١ ه‍) حالت دون الاستيلاء عليها ، فعادت شوكة ابن الصباح إلى أقوى مما كانت عليه حتى توفى (سنة ٥١٨ ه‍) فكانت هذه الفرقة أشد على المسلمين من ألد خصومهم.

__________________

(١) لم ينج من الاتهام باعتناق تعاليم الباطنية خفية حتى كبار الأئمة المشهورين مثل الإمام الكيا الهراسى حتى وجد السلطان محمد نفسه مضطرا للقبض عليه خشية اتهامه بممالأته ، ولم يخلصه سوى شهادة الخليفة العباسى المستظهر الذى شهد بصحة عقيدة الكيا الهراسى وعلو درجته العلمية وبراءته مما نسب إليه وأرسل إلى السلطان بهذه الشهادة فأطلقه.

وطريقة تلفيق التهم للأبرياء من أخبث الوسائل التى تتبعها الشموليات الحديثة للتخلص من خصومهم.

١٤

المعتزلة :

حيثما ظهر التشيع ظهر الاعتزال بوجه عام ؛ ولذا نجد أن الاعتزال قد ازدهر في العصر البويهى ، فاشتدت شوكة أنصاره كما غزرت وكثرت مصنفات أئمته.

ومن أشهر مفسرى المعتزلة في المدة ما بين (٤٥٠ ـ ٥٥٠ ه‍) :

* المفسر النحوى الأديب محمد بن على بن محمد أبو مسلم الأصبهانى (٣٦٦ ـ ٤٥٩ ه‍) صنف تفسيره في عشرين مجلدا.

* وشيخ المعتزلة أبو يوسف عبد السلام بن محمد بن يوسف القزوينى (٣٩٣ ـ ٤٨٨ ه‍) قال السمعانى : له التفسير الكبير في ثلاثمائة مجلد سبعة منها في تفسير الفاتحة. وقال ابن النجار : إنه في خمسمائة مجلد ، قال : «رأيت منه مجلدا في آية واحدة (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) (١).

وقد أدرك القزوينى القاضى عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (ت ٤١٥ ه‍) وتلقى العلم عنه ، والقاضى عبد الجبار هو صاحب التصانيف العديدة في علوم القرآن العظيم ، ويعتبر شيخ المعتزلة في عصره.

* الحاكم أبو سعيد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمى البيهقى المعتزلى (٤١٣ ـ ٤٩٤ ه‍) له مؤلفات في التفسير وعلوم القرآن ، وتفسيره هو الأصل (٢) الذى بنى عليه الزمخشرى تفسيره (الكشاف).

* الزمخشرى : محمود بن عمر بن محمد الخوارزمى (٤٦٧ ـ ٥٣٨ ه‍) : المفسر النحوى اللغوى المتكلم الأديب الملقب بجار الله لمجاورته زمانا بمكة. قال ابن خلكان : كان إمام عصره وكان داعيا إلى الاعتزال له تفسير (الكشاف) وألف في الحديث والبلاغة والأدب واللغة.

فتنة الوزير الكندرى المعتزلى الرافضى :

كان أبو نصر عميد الملك الكندرى ـ وزير السلطان طغرلبك ـ معتزليا رافضيا. بينما كان السلطان حنفيا سنيا. وقد استطاع هذا الوزير بدهائه أن يستغل السلطان نفسه في محاربة أهل السنة : إذ تمكن من استصدار مرسوم سلطانى بلعن المبتدعة على المنابر ، ولم يفطن السلطان لما بيّته هذا الداهية الذى أدخل فيمن لعنهم أئمة أهل السنة!! على أنهم مبتدعة! ثم تمادى ـ حين مرت هذه الخدعة ـ فحال بين كبار أئمة أهل السنة الذين يخشى بأسهم وبين أى نشاط دينى ، ونشط المعتزلة والشيعة إلى تأييده ومؤازرته للتخلص من خصومهم.

__________________

(١) البقرة : ١٠٢.

(٢) د. عدنان زرزور : الحاكم الجشمى ومنهجه في تفسير القرآن : ٩٣ ، ٩٤.

١٥

واستطالت الفتنة وطار شررها حتى عمت خراسان وفارس والحجاز والعراق والشام.

وأغرى هذا النجاح الوزير (الكندرى) على استصدار مرسوم آخر بالقبض على زعماء الفتنة ، واستغل المرسوم في القبض على أئمة أهل السنة! ومنهم الإمام القشيرى (ت ٤٦٥ ه‍) وإمام الحرمين الجوينى أبو المعالى عبد الملك (٤١٩ ـ ٤٧٨ ه‍) وأبو سهل بن الموفق ولم يكن في درجتهم العلمية ولكنه كان من الوجهاء مسموعى الكلمة في خراسان.

ونقل خبر القبض على الأئمة إلى أبى سهل بن الموفق وكان متغيبا من حسن حظه ، فعزم على الالتجاء إلى القوة لإيقاف الوزير عند حده وجمع حشدا من أنصاره وتبعهم خلق متذمرون من العامة ، وهاجم بهم أمير خراسان وكسره وأطلق العلماء من السجن. وعقد مجلسا معهم اجتمعت فيه كلمتهم على وجوب الهجرة خشية إعادة الكرة عليهم ، فهاجر منهم جماعة إلى مكة بلغ عددهم الأربعمائة ومنهم الحافظ البيهقى وإمام الحرمين. أما القشيرى فقد قصد بغداد حيث أكرم الخليفة وفادته ـ وكان إذ ذاك القائم بأمر الله (١) (٤٢٢ ـ ٤٦٧ ه‍) وكان عالما ورعا زاهدا ذا دين وخلق ـ ولما هدأت الأمور عمد الكندرى إلى أبى سهل فقبض عليه وصادر أملاكه وأمواله واستمر في ملاحقة جميع أنصاره.

وبعد وفاة السلطان طغرلبك السلجوقى خلفه على العرش ابنه السلطان ألب أرسلان (٤٥٥ ـ ٤٦٥ ه‍) فكان أول أعماله هو القبض على الكندرى وإعدامه ، واستوزر أحد جهابذة القرن الخامس الهجرى ألا وهو الوزير (نظام الملك) الذى ذهب فيما بعد ضحية هوس الفرق الدينية.

تسامح أهل السنة :

لم يسجل التاريخ أى تعصب مقيت لأهل السنة ، وبالرغم من أنهم يمثلون الأغلبية إلا أنهم لم يسعوا في يوم ما لإشعال نار الفتن الدينية ، هذا بينما سجل التاريخ لخصومهم ـ وهم أقلية ـ التعصّب الذى ذهب إلى حد الهوس الذى دفع بعض الفرق المتطرفة إلى مهاجمة أهل السنة بضراوة فاقت كل أذى لحق المسلمين من خصومهم.

وقد رأينا من أدلة تسامح أهل السنة أن السلطان طغرلبك اتخذ وزيرا معتزليا رافضيا ، حاول أن يسخّر ثقة السلطان فيه للتخلص من أهل السنة.

ورأينا استبداد البويهيين بالسلطة التى كانت للخلفاء العباسيين مع أن البويهيين كانوا من الشيعة. كما تولى المعتزلة أرقى المناصب ، كما كانوا يحضرون مجالس العلم ومجالس الأمراء ويقومون بالتدريس.

ويذكر لنا المقدسى أن إقليم كرمان كان يغلب عليه المذهب الشافعى عدا جيرفت ،

__________________

(١) ابن تغرى بردى : النجوم الزاهرة ٥ / ٩٨.

١٦

وكان ينتشر الاعتزال في السيرجان من كور كرمان (١).

٣ ـ الأحوال الثقافية في هذه المنطقة :

تعدد مراكز الثقافة في المشرق العجمى العباسى :

أدى ضعف الخلافة العباسية إلى قيام دول إسلامية متعددة في هذه المنطقة تعترف بالخلافة ولكنها مستقلة تماما ، والدولة منها تصغر وتكبر بحسب قوة جيرانها ، وقد رأينا أن إحداها قد بلغت من القوة مبلغا استطاعت معه غزو الهند.

وبتعدد العواصم الإسلامية تعددت المراكز والعواصم الثقافية أيضا ، وظهرت في كل منها معالم حضارية لها كيانها الثقافى المتميز. فما حدث على الصعيد الثقافى كان هو عكس المنتظر من اللامركزية الإدارية أو السياسية التى كان ينتظر أن تفرض نوعا من العزلة الثقافية على البلاد التى تهيمن عليها الدولة. والسر في انهيار الحواجز الثقافية أن طبيعة الثقافة الإسلامية هى طبيعة عالمية تستلزم التبادل والتعاون بصفة دائمة في هذه الميادين بين المشتغلين والمهتمين بالعلوم والثقافة ؛ لذا كانت الرحلة في طلب العلم من مقومات الحياة الدراسية في جميع أنحاء العالم الإسلامى. يقول ابن خلدون : «ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنية ... لا بد له من الرحلة (٢) ـ فى طلبه ـ إلى الأمصار المستبحرة في شأن الصنائع كلها. واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لما كثر عمرانها في صدر الإسلام ، واستقرت فيها الحضارة كيف زخرت فيها بحار العلم وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون ... ولما تناقص عمرانها وانذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة ، وفقد بها العلم والتعليم وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام» (٣).

فكانت المرحلة الأولى من مراحل طلب العلم تبدأ داخل حدود الوطن ، فإذا ما فرغ الدارس من استقصاء المادة العلمية في بلده ووطنه بدأ المرحلة الثانية على مستوى أرفع وهى المرحلة في طلب العلم وتلقيه عن كبار الأئمة في العالم الإسلامى كلّ في تخصصه. وبعد إجازته من كل إمام أنهى دراسته على يديه ، يعود إلى وطنه حاملا إجازات أستاذيته من عشرات أو مئات الأئمة في جميع البلدان التى زارها ، وحينئذ يبدأ هو دوره في تخريج جيل من العلماء في تخصصه في الوطن الذى استقر فيه.

__________________

(١) المقدسى : أحسن التقاسيم : ٤٦٤.

(٢) قد يوهم هذا أن طلب الرحلة قاصر على من كان من القرى أو الأمصار غير المتمدنية ، مع أن السبب في الرحلة هو طلب المتبحرين فى العلوم والفنون فتساوى في طلب الرحلة من كان من مصر متمدن أو غير متمدن.

(٣) ابن خلدون : المقدمة : ٣٨٠.

١٧

وبمضى الزمن أصبحت الإجازات العلمية ونظم الدارسين ورحلات الوافدين تسير وفقا لتقاليد علمية ملزمة ، لها صفة الاستقلال عن السياسة وقوة الإلزام بالنسبة للمشتغلين بالعلم تحصيلا وتدريسا وتصنيفا ، ونعتقد أن السرّ في نجاحها أنها لم تخضع في يوم ما لإشراف حكومى. هذا هو الحال في الحقبة المعاصرة لعمالقة الثقافة والعلوم الإسلامية ، وهو نظام صارم لم تعرفه أية جامعة حتى يومنا هذا ، ويكفى أنه أغلق الباب أمام كل مدع للعلم.

ومن متابعة مراكز الثقافة الإسلامية في المشرق العباسى ، نلاحظ تعدد هذه المراكز مع غزارة إنتاج بعضها إلى درجة دفعت المؤرخين المتخصصين في تاريخ البلدان إلى إفراد علماء وأدباء هذه المراكز بالترجمة.

ومن أهم المراكز الثقافية في هذه المنطقة ـ مع مراعاة توزيعها الإقليمى ـ :

* ما وراء النهر : ويشمل نواحى خوارزم والصغد وفرغانة وطخارستان. ومن المدن ذات الشهرة العلمية في هذا القسم :

بخارى وسمرقند والشاش وكش ونسف وفاراب.

* خراسان : ومن المدن ذات الشهرة العلمية في هذا القسم :

نيسابور ، مرو ، طوس ، سرخس ، أبيورد ، نسا ، بلخ ، هراة.

* بلاد الجبال : ومن المدن ذات الشهرة العلمية في هذا القسم :

الرى ، قزوين ، أبهر ، زنجان ، شهرزور ، أصفهان ، دينور.

* طبرستان : وتقع جنوبى بحر طبرستان (قزوين) ما بين جرجان شرقا وأذربيجان غربا (وهى الآن إقليم مازندران الإيرانى).

ومن مراكزها : آمل (عامل) ، الدامغان.

* فارس : ومن المدن ذات الشهرة العلمية :

شيراز ، كازرون.

هذا ولم تكن كرمان بارزة بين هذه المراكز ، ولاحظ المقدسى عند زيارته لها : ضآلة علم (مذكّريها) يعنى بذلك الوعاظ والمرشدين الدينيين.

فكان على طلاب العلم في كرمان أن يقصدوا فارس ثم خراسان أو العراق أو هما معا.

دور العلم :

لا يمكن فصل تاريخ التربية والتعليم عند الشعوب الإسلامية عن الجوامع والمساجد التى كانت العمود الفقرى للحياة العلمية والثقافية حتى بعد تأسيس المدارس بزمن طويل.

١٨

وكانوا يطلقون على كل مجموعة من الطلاب تتلقى العلم عن أستاذ داخل المسجد أو غيره (حلقة) وتنسب الحلقة إلى الأستاذ فيقال : (حلقة فلان).

ولم تقتصر حلقات التدريس على المساجد ، بل تعدتها إلى الرباطات والمستشفيات ثم ظهرت في هذه المنطقة المدارس المرتبطة بالمساجد ، وكان ذلك في القرن الخامس الهجرى فكان في نيسابور عدة مدارس منها : البيهقية والسعدية التى بناها الأمير (نصر بن سبكتكين) شقيق السلطان (محمود الغزنوى) حينما ولاه أخوه أميرا على خراسان.

ومنها الأسترآباذية نسبة إلى بانيها (أبو سعد إسماعيل بن على الأسترآباذي) والأسفرايينية نسبة إلى الإمام (أبى إسحاق الإسفرايينى) ومدرسة الإمام ابن فورك والمدرسة الصابونية نسبة إلى شيخ الإسلام (الصابونى ت ٤٤٩ ه‍) ، والصيفية وتسمى مدرسة دار السنة (لأبى بكر الصيفى) (١) ، والمدرسة الناصرية (١) ومدرسة النسوى (١) وكانت في مرو مدرسة لأصحاب (الإمام الشافعى) رحمهم‌الله تعالى (٤).

وليتفرغ الطلاب للعلم ظهرت المدارس المزودة بالمساكن ، وأجريت الرواتب على الطلاب فكان ذلك أساس ما يسمى الآن بالمدن الجامعية.

دور نظام الملك في النهضة العلمية في الشرق الإسلامى :

نعنى بذلك الوزير المصلح (قوام الدين نظام الملك الحسن بن على بن إسحاق الطوسى) الذى تولى الوزارة لاثنين من أعظم سلاطين الدولة الإسلامية : أولهما : السلطان (ألب أرسلان) الذى أسند إليه الوزارة سنة ٤٥٦ ه‍ فكانت هذه أعظم منقبة لهذا السلطان ، ولما توفى (ألب أرسلان سنة ٤٦٥ ه‍) ، استمر في الوزارة في عهد السلطان (ملكشاه السلجوقى) (٥).

كان هذا الوزير حكيما سياسيا جسورا صالحا عادلا ، تمكن بحسن تدبيره من إخماد الفتن في الولايات ، كما ضرب على أيدى العابثين ، وفتح أبوابه للمظلومين ، ليخيف كل ظالم ، واحتفى بالعلماء وقرّبهم منه ؛ فكان مجلسه حافلا بهم ، وبأهل القدوة في الدولة ، ومن مآثره الخالدة في ميادين الإصلاح التعليمى إنشاء ما يعرف (بالمدارس النظامية) فى سائر عواصم الولايات : مثل بغداد ، والبصرة ، والموصل ، ونيسابور ، ومرو ، وهرات ، وبلخ بخراسان ، وأصبهان في بلاد الجبال.

__________________

(١_٣) الإمام السبكى : طبقات الشافعية الكبرى ٤ / ١٥٩ ، ١٦٨ ، ١٧٥ على التوالى.

(٤) نفس المرجع السابق ٥ / ٤٣٣.

(٥) هو ابن ألب أرسلان وكان من خيرة سلاطين العالم الإسلامى ، وقد اتسع ملكه حتى خطب له من حدود الصين إلى ساحل الشام ، ومن أقصى البلدان الإسلامية في الشمال إلى آخر بلاد اليمن جنوبا. ودفع له ملوك الروم الجزية.

١٩

واختار للتدريس في هذه المدارس الأئمة الجهابذة من رجال العلم والفكر فقام بالتدريس فى نظامية بغداد الإمام (أبو إسحاق الشيرازى ت ٤٧٥ ه‍) و (أبو نصر الصباغ سنة ٤٧٧ ه‍) و (الدبوسى سنة ٤٨٢ ه‍). هذا في حياة هذا الوزير ودرس فيها بعد وفاته من الأئمة مثل (أبى عبد الله الطبرى) و (الخطيب التبريزى) و (الكيا الهراسى) و (أبو حامد الغزالى).

ومن أساتذة نظامية نيسابور إمام الحرمين (الجوينى ت ٤٧٨ ه‍) ، كما درس فيها الإمام (الغزالى). ومن أساتذة نظامية هرات : (أبو بكر الشاشى ت ٤٨٥ ه‍) ، وفي نظامية أصبهان : (أبو بكر الخجندى ت ٤٨٣ ه‍).

المكتبات :

كانت هناك المكتبات الخاصة بدور الخلافة والسلاطين والعلماء والأفراد والوزارات ففي بخارى مكتبة (نوح بن نصر السامانى) (١) التى قال عنها ابن خلكان (٢) : إنها عديمة المثال.

وكان بيت الكتب في بلاط الصاحب بن عباد (٣) بالرى يحوى من الكتب ما يحتاج نقله إلى أربعمائة بعير ، وكانت فهرستها تقع في عشر مجلدات (٤).

وأسس السلطان محمود الغزنوى دارا للعلم في غزنة وألحقها بجامع غزنة. وكانت مكتبة المدرسة النظامية في بغداد تحتوى على زهاء ستة آلاف مجلد (٥). وأسس سابور بن أردشير وزيهر بهاء الدولة البويهى (سنة ٣٨٣ ه‍) دار للعلم (٦) فى الكرخ كان بها زهاء عشرة آلاف وأربعمائة مجلد وقفها على العلماء.

أما مكتبات باقى العالم الإسلامى في الحواضر والعواصم فتفوق الحصر ، وتدل دلالة واضحة على ما قدم المسلمون للعالم من تراث لا يقدر بثمن ، فقد قدر ما حوته مكتبات القاهرة وخزائن كتب القصور بنحو من مليون مجلد. ومكتبة دار الحكمة وحدها التى أنشأها الخليفة الفاطمى الحاكم (سنة ٣٩٥ ه‍) قد حوت زهاء مائة ألف مجلد. وبلغ تعداد أسفار مكتبة قرطبة التى أنشأها الحكم بن الناصر في الأندلس ـ على ما ذكره ابن خلدون ـ

__________________

(١) نوح بن نصر السامانى هو خامس أمراء الدولة السامانية : وكانت الدولة في عهده تشمل بلاد ما وراء النهر وخراسان ومدة حكمه تقع ما بين (٣٣١ ـ ٣٤٣ ه‍) ـ ذكر ابن سينا أنه رأى في مكتبة مدينة بخارى حاضرة الدولة السامانية من طرائف الكتب ما لم يسمع بمثله من قبل.

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان : ١٥٢ ط. بولاق.

(٣) الصاحب إسماعيل بن عباد : ولى الوزارة للبويهيين. قلده إياها مؤيد الدولة وبعد وفاته سنة ٣٧٣ أمره عليها أخوه فخر الدولة حتى توفى الصاحب سنة ٣٨٥ ه‍.

(٤) ياقوت : معجم الأدباء ٢ / ٣١٥.

(٥) ابن كثير : البداية والنهاية ١٣ / ١٦٦.

(٦) ابن الأثير : الكامل في التاريخ ٧ / ٣٢٤.

٢٠