قلت : المتبادر من سبب نزولها ومن قوله : (ما أَنْزَلْنا) : إما القسم أو النداء ، فالقسم على أن ذلك من أسماء الله ، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل ، أو من أسمائه صلىاللهعليهوسلم. وأمّا غير ذلك فبعيد ، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافا بعد الوقف على (طه). قاله فى الحاشية.
و (إِلَّا تَذْكِرَةً) : مفعول لأجله. والاستثناء منقطع ، أي : ما أنزلناه لتتعب به ، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ ، و (تَنْزِيلاً) : مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله ، أي : أنزل تنزيلا ، والأصح : أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له ، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه ، وفيه معنى التأكيد لما قبله ، أو هو نص فى معناه ، وإنما تلون الكلام بالالتفات ، أو منصوب على المدح والاختصاص ، أو مفعول بيخشى ، أو حال من (الْقُرْآنَ) ، و (الرَّحْمنُ) : رفع على المدح ، وقد عرفت أن المرفوع مدحا ، فى حكم الصفة الجارية على ما قبلها ، وإن لم يكن تابعا له فى الإعراب ، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ ؛ ليكون فى صورة متعلق من متعلقاته. وقرئ بالجر ؛ صفة للموصول ، وما قيل من أن الموصولات لا توصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفى ، أو (الرَّحْمنُ) : مبتدأ ، و (عَلَى الْعَرْشِ) : خبره. و (عَلَى) : متعلقة باستوى ، قدمت للفواصل. و (إِنْ تَجْهَرْ) : شرط ، والجواب محذوف دل عليه (فَإِنَّهُ ...) إلخ ، أي : فالله غنى عن جهرك ، فإنه ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله ؛ تسلية لرسوله صلىاللهعليهوسلم ، أو ترويحا له من التعب : يا محمد (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) أي : لتتعب نفسك بالمجاهدة فى العبادة.
روى أنه صلىاللهعليهوسلم كان يقوم باللّيل حتّى تورّمت قدماه ، فقال له جبريل عليهالسلام : «أبق على نفسك ، فانّ لها عليك حقا». أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك (١) وحملها على الرياضات الشاقة ، والشدائد الفادحة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة. أو : ما أنزلناه لتتعب نفسك فى تبليغه بمكابدة الشدائد فى مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة ، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم ، كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٢) ، بل للتبليغ ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء فى هذا المعنى شائع ، ومنه قولهم : أشقى من رائض مهر ، وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول صلىاللهعليهوسلم : إنك شقى ، حيث تركت دين آباءك ، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى ، فردّ الله ذلك عليهم. والأول أظهر ، والعموم أحسن ، فإنه نفى عنه جميع الشقاء فى الدنيا والآخرة.
(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي : ما أنزلناه لتتعب ، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله ـ عزوجل ـ ؛ ليتأثر بالإنذار ، لرقة قلبه ولين عريكته ، أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف ، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ ؛ لأنهم المنتفعون بها.
__________________
(١) أي : إجهاد نفسك.
(٢) الآية ٣ من سورة الشعراء.