الرّوض المعطار في خبر الأقطار - المقدمة

الرّوض المعطار في خبر الأقطار - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٥

١
٢

مقدمة

ورد ذكر الروض المعطار في طبعة فلوجل من كشف الظنون مرتين (١) : مرة على أن مؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الحميري المتوفى سنة ٩٠٠ ومرة أخرى على أن المؤلف هو أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم الحميري (دون ذكر لسنة الوفاة) ، وقد كان هذا محيّرا للأستاذ ليفي بروفنسال حين أقدم على نشر القسم المتعلق بالأندلس من الروض ، وتعبّر مقدمته التي كتبها للترجمة الفرنسية (La Peninsule Iberique au Moyen - Age) عن هذه الحيرة من ناحيتين : أولاهما لماذا هذا الاختلاف في اسم المؤلف ، والثانية : إذا كان المؤلف قد توفي سنة ٩٠٠ ـ كما يقول حاجي خليفة ـ فهذه قضية تقف في وجهها حقيقتان بارزتان :

١ ـ كيف يمكن أن تتأخر وفاة مؤلف الروض المعطار إلى هذا التاريخ ، ونحن نجد أن القلقشندي صاحب صبح الأعشى المتوفى سنة ٨٢١ والذي انتهى من تأليف كتابه سنة ٨١٤ يعتمد الروض المعطار واحدا من مصادره الجغرافية؟

٢ ـ هنالك كتاب بعنوان «جنى الأزهار من الروض المعطار» يوحي بأنه ملخص من كتاب الروض ، وهو منسوب للمقريزي المتوفى سنة ٨٤٥.

وإلى جانب هاتين الحقيقتين تقف حقيقة ثالثة ، فقد وجد بروفنسال في ختام إحدى النسخ التي اعتمد عليها من نسخ الروض هذه العبارة : «هذا آخر الجزء الثاني من الروض المعطار في خبر الأقطار للشيخ الفقيه العدل أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي محمد عبد الله بن عبد المنعم ابن [عبد المنعم الحمير] ي رحمة الله عليه ، وتتمامه جميع الكتاب في صبح يوم الجمعة السابع عشر من شهر صفر الخير أحد شهور سنة ست وستين وثمان مائة بساحل جدة المعمور ..».

__________________

(١) لاحظ الأستاذ رتزيتانو أن طبعة استانبول من كشف الظنون لم تورد ذكر الروض إلا مرة واحدة ، انظر «منتخبات من كتاب الروض المعطار خاصة بالجزر والبقاع الايطالية». (نشرت بمجلة كلية الآداب ـ جامعة القاهرة ، المجلد ١٨ / ١٩٥٦ ، ص ١٢٩ ـ ١٨١)

٣

وقد فهم بروفنسال من هذه العبارة أن المؤلف قد انتهى من تأليف كتابه سنة ٨٦٦ ، وهذا يقوّي القول بأن يكون تاريخ وفاته سنة ٩٠٠ صحيحا. وهذه الحقائق مجتمعة دفعت بروفنسال إلى افتراض مؤلفين كل منهما ينتسب إلى حمير قام أولهما بكتابة صورة أولى من «الروض المعطار» وقام الثاني بانتحال عمل الأول ، وربما أضاف اليه شيئا ، دون أن يذكر ما للمؤلف الأول من فضل عليه.

وعند مناقشة الحقائق التي واجهت بروفنسال لا تبقى هناك حاجة إلى هذا الفرض الذي وضعه :

١ ـ أما أن صاحب صبح الأعشى ينقل عن الروض المعطار ، فتلك حقيقة لا نستطيع إنكارها ، وهي وحدها تثبت أن المؤلف لا يمكن أن يكون قد عاش حتى سنة ٩٠٠ ، وأنه على هذا لا بد من أن يكون من أبناء القرن الثامن.

٢ ـ وأما أن المقريزي لخّص الروض المعطار في كتاب سمّاه «جنى الأزهار من الروض المعطار» فتلك مسألة ما كان لبروفنسال أن يتمسك بها ، فقد أثبت فولرز (Vollers) سنة ١٨٨٩ ثم بلوشيه (Blochet) سنة ١٩٢٥ أن هذا الكتاب المسمّى «جنى الأزهار» إنما هو تلخيص لنزهة المشتاق (١). وعندما كنت في برلين سنة ١٩٧٠ صوّرت النسخة البرلينية من «جنى الأزهار» (٢) لأستعين بها في تحقيق الروض المعطار ، ولدى عودتي قمت بدراستها ـ قبل أن أطلع على ما كتبه فولرز وبلوشيه ـ ولم يخامرني أدنى شك في أنها تلخيص لنزهة المشتاق ، أما لماذا سميت «جنى الأزهار من الروض المعطار» فربما كان هذا يتطلب إيجاد «روض معطار» آخر غير الموجود في أيدينا.

٣ ـ إن بروفنسال قد سمح لتصحيف الناسخ بأن يسيطر على وهمه ، فالنصّ الذي قرأه في آخر النسخة المشار اليها ، يجب أن يقرأ على النحو الآتي «هذا آخر الجزء الثاني من الروض المعطار ... وبتمامه [تمّ] جميع الكتاب في صبح يوم الجمعة السابع عشر من شهر صفر الخير أحد شهور سنة ست وستين وثمان مائة» ـ وهذا التاريخ هو تاريخ النسخة التي نقل عنها الناسخ الثاني ، وكان نقله سنة ١٠٤٩ ؛ فنحن إزاء تاريخين لنسختين ، ولا يعدّ الأول منهما تاريخا للتأليف بأية حال ؛ وقد تنبّه الأستاذ رتزيتانو إلى ناحية جديرة بالتوقف حين قال : «وحتى اننا لو افترضنا جدلا أن السنة المذكورة تعتبر تاريخا لانتهاء المؤلف من وضع الروض المعطار ، فليس من المعقول أن يصف نفسه بعبارات التفخيم والمديح على الصورة الواردة في هذا النص (يريد قوله : الشيخ الفقيه

__________________

(١) راجع :

K. Vollers, Note sur un\'Manuscrit arabe attribue a Maqrizi, Bull. Soc. Khed. de Geogr. du Caise, iii serie, Num. ٢. ٩٨٨١ pp. ١٣١ ـ ٩٣١ R. Blochet, Catalogue des ms. arabes des nouvelles acquisitions) ٢٨٨١ ـ ٤١٩١ (, Paris, ٥٢٩١ N. ٩١٩٥.

وانظر مقدمة رتزيتانو المشار اليها ص : ١٣١ ، ١٣٢

(٢) في دار الكتب المصرية نسخة أخرى من هذا الكتاب ، رقم : ٤٥٨

٤

العدل ...)». وحسنا فعل الأستاذ رتزيتانو لو أنه استشهد هنا بما جاء في هذه العبارة من قوله «رحمة الله عليه» ، فإنها تشير إلى عمل الناسخ لا إلى عمل المؤلف.

أين نقف بعد ذلك من هذا كله؟ :

١ ـ لدينا كتاب اسمه «الروض المعطار في خبر الأقطار» وتتفق النسخ المتباعدة ـ مكانا وزمانا ـ على أن مؤلفه هو «أبو عبد الله محمد بن أبي عبد الله محمد بن أبي محمد عبد الله بن عبد المنعم بن عبد النور الحميري» ، وعلى هذا الكتاب يعتمد القلقشندي ، فلا بد أن يكون مؤلف هذا الكتاب ممن عاش قبل مطلع القرن التاسع (في أقل تقدير).

٢ ـ إن ذكر حاجي خليفة له مرتين يعني أنه اطلع على نسختين : إحداهما ذكرت اسمه كاملا والأخرى ذكرت اسمه موجزا ، ولما كان حاجي خليفة ـ وهو منسق ببليوغرافي ـ غير مسئول عن تحقيق الفرق بين الاسمين ، فإثباته ما أثبته أمانة دقيقة منه في عمله.

٣ ـ ذكر حاجي خليفة سنة ٩٠٠ تاريخا لوفاة المؤلف ، وقد حاول غودفري ـ ديمومبين أن يقول إن هذا خطأ شائع في المخطوطات العربية بين «تسعمائة» و «سبعمائة» ووافقه على ذلك الأستاذ رتزيتانو (١) ؛ ولكن الحقيقة أن عام «سبعمائة» لا يصلح لتقرير سنة وفاة المؤلف ، «إذن» فإن الراجح أن حاجي خليفة اطلع على نسخة من الروض كتبت سنة ٩٠٠ ، ثم اضطرب عليه الأمر فظنها سنة وفاة المؤلف ، وهذا غير عجيب عند حاجي خليفة ، فقد قال عند ذكر الامتاع والمؤانسة إن التوحيدي توفي سنة ٣٨٠ وقال حين ذكر المقابسات «المتوفى بعد سنة أربعمائة تقريبا» ، فأيهما نصدّق؟ إذن فإن الأخذ الحرفيّ بما يقوله حاجي خليفة أمر مضلّل ، دون ريب.

مؤلف الروض المعطار

من هو مؤلف الروض المعطار إذن؟ كل الدلائل ترجح أنه هو الذي وجد بروفنسال نفسه ترجمته في «الاحاطة» ـ ووجدها رتزيتانو في الدرة الكامنة لابن حجر ، وهو ينقل عن الاحاطة ـ وهذا ما يقوله لسان الدين ابن الخطيب عنه (٢) :

١ ـ ترجمة المؤلف

«محمد بن عبد المنعم الصنهاجي الحميري ، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن عبد المنعم ، من أهل سبتة الأستاذ الحافظ.

__________________

(١) انظر مقدمة «صفة جزيرة الأندلس» ـ الترجمة الفرنسية ص : ١٥ ومقدمة رتزيتانو : ١٣٣.

(٢) مقدمة بروفنسال : ٢٧ ـ ٢٨ والاحاطة النسخة الكتانية بالرباط رقم : ٢٧٠٤ ورمزها (ك) ، الصفحة : ٥٤ وانظر الدرر الكامنة ٤ : ١٥١ رقم ٣٩٥٠ (ط. القاهرة) وبغية الوعاة : ٦٩ وكلاهما ينقل عن ابن الخطيب.

٥

حاله : من عائد الصلة (١) : كان رحمه‌الله رجل صدق (٢) ، طيب اللهجة سليم الصدر تام الرجولة ، صالحا عابدا ، كثير القرب والأوراد في آخر حاله ، صادق اللسان. قرأ كبيرا وسنه تنيف على سبع وعشرين ، فشأى (٣) أهل الدءوب (٤) والسابقة ، وكان من صدور الحفّاظ (٥) ، لم يستظهر أحد في زمانه من اللغة (٦) ما استظهره ، فكان (٧) يستظهر كتاب التاج للجوهري وغيره ، آية تتلى ومثالا يضرب (٨) ، قائما على كتاب سيبويه يسرده بلفظه ، اختبره الفاسيون في ذلك غير ما مرة ، طبقة في الشطرنج يلعبها محجوبا (٩) ، مشاركا في الأصول ، آخذا في العلوم العقلية مع الملازمة (١٠) للسنة ، يعرب أبدا كلامه ويزنه (١١).

مشيخته : أخذ (١٢) ببلده عن الأستاذ أبي إسحاق الغافقي ، ولازم [الأستاذ] أبا القاسم ابن الشاط وانتفع به وبغيره من العلماء.

دخوله غرناطة : قدم (١٣) غرناطة مع الوفد [الذين قدموا] من أهل بلده (١٤) [سبتة] عندما صار إلى إيالة (١٥) الملوك من بني نصر لما وصلوا بالبيعة.

وفاته : كان من الوفد الذين استأصلهم الموتان (١٦) ، منصرفهم عن باب السلطان ملك المغرب (١٧) ، باحوازتيزى (١٨) ، حسبما وقع التنبيه على بعضهم (١٩).».

٢ ـ تعليق على هذه الترجمة :

١ ـ تقول هذه الترجمة إن ابن عبد المنعم سبتيّ. غير أنّ المقري صاحب نفح الطيب يقول وهو ينقل عنه : «ولنرجع إلى كلام صاحب الروض المعطار فانه أقعد بتاريخ الأندلس إذ هو منهم ، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه» (٢٠). فهل هو سبتيّ أو أندلسيّ؟ إن اهتمامه بجغرافية

__________________

(١) ك : من العائد.

(٢) ك : رجلا صدوقا.

(٣) ك : ففات.

(٤) بروفنسال : الدرب.

(٥) ك : كان ثم الدحول صالحا حافظا عابدا.

(٦) من اللغة : سقطت من ك.

(٧) ك : يكاد. (٨) ك : آية متلوة ومثل يضرب.

(٩) ك : مجموما. (١٠) ك : ملازمة.

(١١) ويزنه : سقطت من ك.

(١٢) ك : قرأ.

(١٣) ك : دخل.

(١٤) ك : من بلاده.

(١٥) ك : حين صارت لايالة.

(١٦) ك : الموت.

(١٧) ك : عن باب الملك المغربي.

(١٨) ك : تازه.

(١٩) ك : حسبما يقع التنبيه عليه.

(٢٠) النفح ٤ : ٣٦٢ (تحقيق احسان عباس ، ط بيروت ١٩٦٨).

٦

الاندلس وأحداثها ، في كتابه ، يجعل المرء يظن ، ولو كان هو المقري المهاجر البعيد عن الاندلس والمغرب ، أن مؤلف الروض المعطار أندلسي ، فالخطأ هنا ليس خطأ صاحب الروض ، الذي كان سبتيا دخل الأندلس ، وإنما هو خطأ الذين ظنوا أنه أندلسي النسبة لاسرافه في الحديث عن الأندلس. وقد أكّد نسبته إلى سبتة محمد بن القاسم الأنصاري السبتي حين ذكر أنه مقبور بمقبرة المنارة بسبتة وأنه من أهلها في قوله : «قبر الشيخ اللغوي الحافظ الأنبل المتفنن في المعارف ، أوحد زمانه في ذلك ، وإمام عصره ، أبي عبد الله ابن عبد المنعم الصنهاجي من أهل سبتة» (١).

٢ ـ وتمدنا هذه الترجمة بصورة فيها شيء من التفصيل عن مناحي ثقافته وضروب براعته إذ تصوّره متضلّعا في الحديث واللغة والنحو ، مضيفا إلى ذلك كله اطلاعا على العلوم العقلية ، ومهارة خارقة في الشطرنج. ويؤكد ابن القاسم الانصاري ما قاله ابن الخطيب حول تضلعه في القراءة والحفظ واللغة ، وتفرده في هذه الشئون حتى أصبح «أوحد زمانه في ذلك وإمام عصره». ومما يؤكد ذلك طبيعة الاتجاهات التي سار فيها أساتذته الذين درس عليهم ، وقد ذكر منهم ابن الخطيب اثنين وهما : أبو إسحاق ابراهيم بن أحمد بن عيسى الغافقي (ـ ٧١٦) ، شيخ النحاة والقراء بسبتة ، فقد كان يتقن كتاب سيبويه ، ولعلّ ابن عبد المنعم أخذه عنه ، كما صنف كتابا في قراءة نافع وآخر في شرح الجمل (٢) أما أستاذه الثاني فهو أبو القاسم ، القاسم بن عبد الله بن الشاط (ـ ٧٢٣) فقد كان يقرئ الأصول والفرائض بمدرسة سبتة ، وكان حسن المشاركة في العربية ، متقدما في الفقه ريان من الأدب (٣). وقد طبعت هذه الثقافة شخصية ابن عبد المنعم بطابعها ، فقد كان الرجل على جانب غير قليل من التدين ، وفي آخر عمره كان كثير «القرب والأوراد» ، معروفا بالصلاح بين معاصريه ، سليم الصدر ، كما يمكن أن يتصوّره من يقرأ كتاب «الروض المعطار» ، مهتما باعراب كلامه ، وفي هذا من المشقة عليه وعلى معاصريه ما فيه. وفي كتاب الروض ما يشير من بعيد إلى ملامح من شخصيته ، فهو من ناحية التقوى لا يدع أحدا من الصحابة دون أن يقرن اسمه ب «رضي‌الله‌عنه» ، ولو مرّ في الصفحة الواحدة عدة مرات ـ وهذا ليس من صنيع النساخ فيما أعتقد ـ وهو يحب أن يقف عند أمجاد المسلمين الأوائل ، ولهذا تجده مغرما بنقل أخبار الفتوح ؛ وقد أحسّ هو نفسه أنه أسرف في النقل ، حين تحدث عن معركة الزلاقة ، فشفع ذلك بقوله : «قال مؤلف هذا الكتاب [رحمة الله عليه] : قد خالفت بشرح هذه الوقيعة شرط الاختصار لحلاوة الظفر في وقت نزول الهموم ووقوعها في الزمن الخامل ، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء وهو المستعان». ولعلها الملاحظة الوحيدة التي سمح لنفسه بتقييدها تعبيرا عن مشاعره الذاتية.

__________________

(١) اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار : ٥ (ط. باريز ، ١٩٣٢) تحقيق إ. لافي بروفنسال ؛ وقد فرغ المؤلف من جمع كتابه سنة ٧٦٥

(٢) انظر ترجمته في الدرر الكامنة ١ : ١٣ وبغية الوعاة : ١٧٧ وكلاهما يعتمد على الذهبي ؛ ودرة الحجال ١ : ١٧٦ وغاية النهاية ١ : ١٨.

(٣) الاحاطة : ٣٥٨ (النسخة ك) والديباج المذهب : ٢٢٥

٧

٣ ـ وهذه الثقافة وتلك السمات المحببة في شخصيته كسبت له تقدّما في مدينة سبتة ، ولهذا نجده يشارك في حياتها السياسية مرتين : الأولى عند ما ذهب في الوفد إلى غرناطة ليقرر تبعية سبتة لبني نصر ، وقد عرّفنا لسان الدين إلى اثنين آخرين كانا في ذلك الوفد ، وهما أستاذه أبو القاسم ابن الشاط ، ومحمد بن علي بن هانىء اللخمي السبتي (ـ ٧٣٣) (١) ؛ وقد كان انتماء سبتة إلى حكم بني نصر سنة ٧٠٥ ، وعودتها إلى المرينيين سنة ٧٠٩ (٢) ، وعلى هذا تكون الوفادة قد تمت في أوائل تلك المرحلة بين هاتين السنتين.

٤ ـ وتقول هذه الترجمة إن وفاة ابن عبد المنعم كانت إثر عودته من زيارة لسلطان المغرب ـ باحواز تازه ـ بسبب انتشار موتان. وقد أراد بروفنسال أن يفهم من لفظة «موتان» أنها تعني وبأجارفا ، ولكن الصيغة في النسخة الكتانية من الاحاطة وردت على النحو التالي : «الذين استأصلهم الموت» ؛ غير أن استئصال الموت لوفد كامل يعني أنهم ربما تعرضوا لوبأ جارف ، ولما كان الوبأ الذي اكتسح المشرق والمغرب قد حدث سنة ٧٤٩ ، فهل ذلك مما يجعلنا نقول بوفاة ابن عبد المنعم في حدود ذلك العام؟ كان ذلك ممكنا لولا أنّ ابن حجر ذكر في الدرر الكامنة أن وفاة ابن عبد المنعم كانت سنة ٧٢٧ ، وليس هناك من سبب يجعلنا نردّ هذا التاريخ ، وإن لم تحدثنا المصادر عن «موتان» ألم بالمغرب في ذلك العام.

٥ ـ ومع ذلك كله يبقى سؤال لا بد من الاجابة عليه لتوضيح الموقف : في سنة ٧٢٨ كانت سبتة تشهد قدوم السلطان أبي سعيد المريني اليها لإخضاعها ، وتقويم زيغها عن الطاعة للمرينيين ، وقد استجابت سبتة لإرادة السلطان ، «فاحتلّ بقصبتها وثقف جهاتها ورمّ منثلمها وأصلح خللها واستعمل كبار رجالاته وخواص مجلسه في أعمالها» (٣) فما هي الغاية ـ إذن ـ من الوفد في السنة السابقة؟ أليس من الطبيعي أن يكون ذهاب الوفد بعد هذه الاجراءات التي قام بها أبو سعيد المريني؟ إن القطع بتاريخ وفاة ابن عبد المنعم ليس أمرا سهلا ، ولكن سنظل نقبل ما جاء في الدرر الكامنة ، إلى أن تعيّن المصادر التي سيتكشف عنها المستقبل ، تاريخ ذلك «الموتان» الذي يشير إليه لسان الدين.

٦ ـ ولكن هذه الترجمة لم تقل أي شيء يتعلق بنشاطه في التأليف. هل كان إحسانه لما يحسن قاصرا على رغبة في المعرفة لا تتجاوز الكسب إلى العطاء؟ هل درّس وتخرج على يديه عدد من التلامذة؟ هل ألّف؟ هل كانت ثقافته تشمل شئون الجغرافيا ـ أعني هل نسلم بان معرفته للعلوم العقلية كانت تشمل أيضا اطلاعه على المصادر الجغرافية؟ هل قول ابن القاسم «المتفنن

__________________

(١) الاحاطة : ٦٣ (النسخة ك).

(٢) انظر بروفنسال ، مقدمة الترجمة : ١٨.

(٣) الاستقصاء ٣ : ١١٥ (ط. الدار البيضاء : ١٩٥٤).

٨

في المعارف» يضمّ حرصه على أن يكون عارفا بشئون البلدان ؛ ثم هل يمكن أن يتجاوز ما يتقنه في اللغة والنحو والقراءات فلا يؤلف فيها ، ويكون مؤلفه «الوحيد» كتابا جغرافيا؟ ولماذا ـ وهذا الكتاب من أبرز ما يمثل جهده ـ لم تذكره الكتب التي ترجمت له؟

٧ ـ كل هذه التساؤلات التي أثرناها تضعنا في حيرة إزاء العلاقة بين ابن عبد المنعم و «الروض المعطار». ومما يجعل هذا الموقف أشد عسرا أن كل محاولة لمعرفة مؤلف الروض من خلال كتابه ـ عدا تلك الاشارات الصغيرة العامة التي ألمحت اليها من قبل ـ تبوء بالإخفاق الذريع : لنأخذ الحقيقة الأولى وهي أن المؤلف سبتي : فماذا نجد؟ ليس حديثه عن سبتة إلا من خلال الآخرين ، فإنه ينقل ما يقوله الادريسي وصاحب «الاستبصار» وليس لديه كلمة واحدة ـ من عند نفسه ـ يقولها في سبتة. أما اهتمامه بأبي العباس الينشتي (١) الذي استقل في سبتة في أواخر عصر الموحدين فإنه لا يختلف عن اهتمامه بأحداث القرن السابع جملة ، وهو شيء يرجع الفضل فيه ـ فيما أعتقد ـ إلى المصدر الذي اعتمده لا إلى معرفته الذاتية العيانية.

وهل يعقل أن يقول ابن سبتة المغربي وهو يتحدث عن «سلا» (المدينة الواقعة إلى جانب الرباط) ثم عن «سلى» التي في بلاد السودان : «ولا أدري هل هذه سلا التي ذكر أنها على صفة البحر» ثم يذكر بعد قليل أن هذه «سلى» ـ الثانية ـ «من عمالة التكروري»؟ أقول : هل يعقل أن لا يعرف بأن سلا الواقعة في منطقة الدولة المرينية ليست هي الواقعة في عمالة التكروري؟ ومثل ذلك أن يقول في «الزهراء» : «مدينة في غربي قرطبة ... كذا قالوا ، ولا أدري أهي الزاهرة المتقدمة الذكر أو غيرها». ربما كانت المدينتان في عصره قد اندثرتا ، ولكن أليس يدل هذا على أن معلوماته التاريخية ـ حتى عن الأندلس ـ كانت قاصرة ، وأن المقري كان مخطئا حين تصوّر أن رب البيت أدرى بالذي فيه ، إذ كان قد فصل بين الماضي والحاضر عندئذ مضيق متباعد العبرين ، أوسع بكثير من بحر الزقاق.

٨ ـ وليس في كتاب الروض ما يشارف مطالع القرن الثامن ـ أو يتعداها قليلا ـ إلا حادثتان : الأولى في مادة «أيلة» حيث جاء «ثم أصلحها السلطان [الأشرف قانصوه الغوري آخر ملوك الجراكسة من جملة ما أصلح في طريق الحجاج في أواخر عمره قبل العشرين والسبعمائة] والثانية في مادة «لوجارة» حين تحدث عمن بقي من المسلمين بها ثم قال : «وآل أمرهم في هذا العهد القريب إلى أن أجلاهم عنها صاحب صقلية الآن». وقد بين الأستاذ رتزيتانو أن ذلك الاجلاء قد تمّ على يد الملك شارل الثاني سنة ٧٠٠.

وحين نقف عند هاتين الروايتين نجد أن العبارة الأولى وردت مبتورة في نسخة بيرم باشا ، كاملة في نسخة الشيخ محمد نصيف ؛ وهي إلى ذلك قد تضمنت هفوة جسيمة : إذ كيف يكون قانصوه

__________________

(١) انظر مادة «ينشته» في الكتاب.

٩

الغوري آخر ملوك الجراكسة في حدود سنة ٧٢٠ ونحن نعلم أنه توفي سنة ٩٢٢؟ إذن هنا يجب أن نقف عند الخطأ التقليدي للنساخ حين يضعون سبعمائة بدل تسعمائة (أو العكس) ونقول : الصواب «قبل سنة ٩٢٠» وإما أن نعتقد أن اسم قانصوه الغوري وقع سهوا في موضع الناصر محمد الذي أصلح طريق العقبة فعلا قبل سنة ٧٢٠ (كان ذلك سنة ٧١٩) ؛ قال ابن تغري بردي : «وفي هذه السنة (أي ٧١٩) مهد السلطان ما كان في عقبة أيلة من الصخور ووسّع طريقها حتى أمكن سلوكها بغير مشقة ، وأنفق على ذلك جملا مستكثرة» (١). وأي الفرضين اخترنا وجدنا أن الاشارة إلى هذه الحادثة لا يمكن أن تكون من عمل المؤلف ، فلو قلنا ان قانصوه الغوري وقع سهوا بدلا من الناصر محمد لكانت هذه الهفوة من عمل إنسان آخر عاش حتى عرف من هو قانصوه الغوري ؛ ولو قلنا إن التاريخ الصحيح هو سنة ٩٢٠ لكان ذلك تجاوزا لأقصى تاريخ حددته المصادر لوفاة ابن عبد المنعم ، وهو سنة ٩٠٠ كما جاء عند حاجي خليفة ، وعلى كلتا الحالين نجد أنفسنا إزاء عبارة مقحمة لا دخل لابن عبد المنعم بها ، وهي تتعارض من حيث الزمن مع كون الروض المعطار مصدرا للقلقشندي المتوفى سنة ٨٢١ ـ كما تقدم القول ـ وسيزداد رفضنا لها عند ما نناقش العبارة الثانية التي تدور حول إجلاء المسلمين من لوجارة :

فهذه العبارة الثانية أقوى من سابقتها بكثير ، وليس من المستبعد أن تكون الاشارة فيها إلى تلك الحادثة من صنيع المؤلف نفسه ، وكان الذي حدا بالأستاذ رتزيتانو إلى ربطها بعام ٧٠٠ شيئان : وقوع الحادثة حسب المصادر الأخرى سنة ٧٠٠ وورود عبارة «هذا العهد القريب» ولفظة «الآن» فيها ، (وما دام ابن حجر في الدرر يحدّد وفاة المؤلف بعام ٧٢٧ فلا مانع إذن من هذا الربط) وما دامت المصادر الموثوقة قد تحدثت عن حدوث ذلك الجلاء عام ٧٠٠ ، فمن المغالاة أن نحيطها بالشك ، خصوصا وأن التاريخ المذكور ، يمكن أن يشير اليه مؤلف طعن في القرن الثامن بعدة سنوات. ولكني أحب أن أشير إلى أن لفظة «الآن» لا تعني المعاصرة أبدا لدى صاحب الروض ، فإنه إذا وجدها عند مؤلف سابق أبقاها على حالها ، فإذا لم يتنبه القارئ لهذه الحقيقة جاءت مضللة.

مثال ذلك قوله في مادة (طيبة) : وهي الآن عليها سور حصين منيع من التراب بناه قسيم الدولة الغزي ...» وهذا كلام الادريسي حرفيا ؛ وذلك يكفي في تبيين نقل المؤلف عمن سبقه دون تصرّف ، فقد ورد هذا في غير موضع من كتابه ؛ فإذا كانت عبارة «هذا العهد القريب» ذات معنى ، فإنها تعني القرب من أوائل القرن الثامن ، وهي بذلك تنفي الحديث الذي جاء في العبارة الأولى عن قانصوه الغوري وإصلاحه طريق العقبة قبل سنة ٩٢٠ ٩ ـ إذن ، ليس هناك من الناحية الزمنية ، ما يعطل نسبة الروض المعطار إلى ابن عبد المنعم الحميري ، وإن لم يحاول فيه أن يبرز موقفه ، من ناحية الأحداث ، أو منتماه السبتي (أو المغربي

__________________

(١) انظر النجوم الزاهرة ٩ : ٦٠ أما عن صلة قانصوه الغوري بإصلاح طريق العقبة فانظر بدائع الزهور لابن اياس ٤ : ١٣٣ ، ١٥٢ ؛ ٥ : ٩٥ (ط. القاهرة : ١٩٦١)

١٠

بعامة) ، أو مشاهداته الخاصة لبلد ما ، ولو كان هذا البلد هو سبتة نفسها ، أو علاقاته الشخصية ببعض الناس المقاربين لعصره أو المعاصرين له. إننا لن نجد إنسانا شديد الحرص على إنكار ذاته ، كما نجد الحميري ، وكأنه يقول بلسان الحال : أريد أن أرتب معجما جغرافيا ، معتمدا في ذلك على الانتقاء من عدد معين من المصادر ، دون أن يكون لي أي رأي ذاتي أو عرض لتجربة خاصة.

كتاب الروض المعطار

١ ـ اسم الكتاب :

ورد اسمه في المخطوطتين المعتمدتين : «الروض المعطار في خبر الأقطار» وكذلك ذكرته المخطوطات التي راجعها بروفنسال ، وذكر في طبعة فلوجل من كشف الظنون مرة باسم «الروض المعطار في أخبار الأقطار» (١) ومرة أخرى باسم «روض المعطار في خبر الأقطار». وحين نقل عنه صاحب نفح الطيب جعل اسمه «الروض المعطار في ذكر الأقطار» ؛ وواضح أن التسمية التي اتفقت عليها المخطوطات هي الوجه الأرجح.

٢ ـ خطة المؤلف في كتابه :

بيّن المؤلف في مقدمة كتابه حدود الخطة التي التزمها في تأليفه ، فقد أراد أن يصنع معجما جغرافيا مرتبا على حروف المعجم ليسهل على الطالب كشف اسم الموضع الذي يريده ؛ ولما كان استقصاء المواضع جميعا أمرا عسيرا ، فقد وضع نصب عينيه :

(١) أن يكون المكان مشهورا.

(٢) أن يكون مما اتصل به «قصة أو حكمة أو خبر طريف أو معنى مستملح مستغرب».

ولهذا فهو يعدل عن ذكر الأمكنة الغريبة التي لا تتعلق بذكرها فائدة أو خبر يحسن إيراده.

ومعنى ذلك أنه يريد من كتابه أن يكون معجما جغرافيا تاريخيا ـ جغرافيا يصف الأقطار وما تتميز به ، وتاريخيا بذكر الأخبار والوقائع المتصلة بتلك البلدان. وقد قاس كتابه إلى كتاب «نزهة المشتاق» فوجده أكثر فائدة ، لأن نزهة المشتاق يوجز حتى في وصف البلدان ، ويكثر القول في ذكر المسافات ، ولا يهتم كثيرا بالأحداث التاريخية ، وليس فيه إيراد لما يستملح أو يستغرب إلا في مواطن قليلة.

كذلك فإن الحميري جعل الايجاز ـ أو حاول أن يجعله ـ أساس خطته في ذلك الكتاب.

__________________

(١) في طبعة استانبول من كشف الظنون : ٩٢٠ (الروض المعطار في أخبار الأقطار «الأمصار») على أن تحل احدى اللفظتين الأخيرتين محلّ الأخرى.

١١

وقد كان الحميري وفيا لجانب كبير من هذه الخطة ، فهو حقا قد صنف معجما جغرافيا تاريخيا ، (أو إن شئت فقل معجما تاريخيا جعلت الجغرافيا مدخلا اليه) مرتبا عل حروف المعجم ، حسب ترتيبها المشرقي ، ولا ندري لم اتبع هذا الترتيب مع أنه في داخل الحرف الواحد ، حاول أن يتمشى على الترتيب المغربي ، (هل يمكن أن نفترض أن النساخ المشارقة أعادوا ترتيبه على النحو الذي يألفونه؟) ثم هو قد أضرب عن ذكر عدد كبير جدا من البلدان ، وحاول في الأغلب أن يكون ما يذكره مشهورا متصلا بحادثة أو قصة أو معنى مستملح مستغرب ولكنه إلى جانب ذلك ذكر أماكن لا شهرة لها. ولا يتعلق ذكرها بخبر طريف أو غريب ؛ وربما لم يزد التعريف بها عن سطر أو سطرين ، وكثيرا ما خرج من حيز الخبر المستطرف إلى الخبر العجيب ، وغلبت عليه الروح «العجائبية» التي ظلت ترافق كثيرا من الجغرافيين في شتى العصور ؛ أما مقايسته كتابه بنزهة المشتاق فإنها مقايسة في غير موضعها ، لأن الادريسي اقتصر إلى حد كبير على «المفهوم الجغرافي» وحاول أن يقلل ما استطاع من الشئون العجائبية ، ولذا فإن الحميري حاول أن يفرض مفهوما جديدا هو مفهوم «المتعة والعبرة» ، وذلك ربما كان في أكثره خارجا عن مفهوم مؤلف مثل الاصطخري والحوقلي والادريسي.

أما قضية الايجاز فربما كان فرضها خطأ منذ البداية لأن من شاء أن «يمتع» القراء بالأخبار لا يستطيع دائما أن يتحكم في إيرادها ، وفي مرات أحسّ ابن عبد المنعم أنه تجاوز حدود الايجاز فاعتذر عن ذلك (كما فعل في مادة الزلاقة والأندلس) ؛ ولكنه لم يحاول أن يوجز حين تحدث عن إرم والأهرام وسرد قصة بعض الفتوحات في صدر الاسلام أو حين تحدث عن حرب البسوس ومعركة ذي قار. كما أن قاعدة الإيجاز اختلت لديه لأسباب أخرى منها :

١ ـ عدم سبكه المادة المنقولة من مصادر جغرافية مختلفة ، وإنما هو يوردها تباعا ، وقد يكون المنقول عن البكري مثلا تكرارا ـ بأسلوب آخر ـ لما سبق أن نقله عن الادريسي أو عن الاستبصار.

٢ ـ تكراره المعلومات الواحدة في مادتين مختلفتين ، فما يصلح أن يكتب في مادة «الدامغان» قد يعاد نصّا في مادة «قومس» وما يذكر في مادة «الزرادة» يجيء تكرارا لبعض ما ذكر في مادة «جنابا».

٣ ـ تكراره ذكر الموضع الواحد لأن اسم البلد ورد في شكلين مختلفين مثل : لياج ـ الياج ، طرابنش ـ أطرابنش ؛ وشقة ـ وشكة ، وهكذا.

ثم إن تأليف معجم جغرافي مرتب على حروف المعجم لم يكن بالنسبة لابن عبد المنعم الذي لم يرحل ولم يكتب عن مشاهدة ـ أو حتى عن سماع ـ محوطا بكثير من التوفيق ، فقد ضخم الترتيب الهجائي من أخطائه ـ وهي أخطاء لا يمكن أن تظهر بهذا الوضوح في مؤلف جغرافي عام ، لأنها تحمل على الناسخ في الأغلب لا على المؤلف ، غير أنها تظهر واضحة في معجم مرتب على حروف الهجاء ، وقد كان الحميري يعتمد في تصنيفه على الكتب ، وكان يقرأ اسم البلد حسبما

١٢

يراه في المخطوط الذي لديه ، دون أن يستطيع تمييز الخطأ من الصواب ؛ فلم تضعف لديه الدقة الجغرافية لهذا وحده ، بل لأنه أيضا كان يحاول أن يتجنب في السياق ذكر أسماء الأماكن والأنهار لئلا يقع في الخطأ ، وكثيرا ما نجده إذا أعياه قراءة اسم شخص أو اسم بلدة وضع بدله «فلان» و «فلانة» ولا أظن أن هذا كان من عمل النساخ.

٣ ـ مصادر الكتاب :

لا يصرّح الحميري باسم المصدر الذي ينقل عنه إلا في القليل النادر ، وإذا انتقل من اقتباس إلى آخر ، ابتدأ بلفظة تعميمية هي : «قالوا» ؛ ومصادره متنوعة وإن لم تكن كثيرة ، فهي جغرافية وتاريخية وأدبية.

ويبدو أنه كان يجهل المصادر الجغرافية المشرقية ، وكلّ ما عنده من نقول عن كتاب البلدان لليعقوبي ربما كان بالواسطة ؛ إلا أنه لا يعرف ـ قطعا ـ ابن حوقل والاصطخري والمقدسي ومعجم ياقوت ؛ ولهذا اقتصر في باب المعلومات الجغرافية على المصادر المغربية ، ورغم تهوينه من شأن نزهة المشتاق للادريسي ، سيطر هذا الكتاب على معجمه سيطرة بالغة ، حتى ان كثيرا من الموادّ لا تعدو أن تكون إعادة لما قاله الادريسي. ومثل هذا موقفه من البكري ، فقد اعتمد بإسراف على كتابيه «معجم ما استعجم» و «المسالك والممالك» ، غير أنه في كثير من الأحيان يرتاح إلى كتاب «الاستبصار في عجائب الأمصار» إذا وجده يلتقي مع البكري في الحديث عن بلد واحد ، وكثيرا ما ينقل عن الكتابين في المادة الواحدة ، وبعد هذه المؤلفات الأربعة تجيء رحلة ابن جبير ، غير أن الحميري لم يذكر مؤلف هذه الرحلة أبدا ، وإنما أشار إليه مرة بقوله : قال بعضهم ، ومرة ثانية بأنه أحد الأدباء.

أما المصادر التاريخية فلم تقتصر على مؤلفات المغاربة ، وإن كانت هذه كلما تيسرت الافادة منها أقرب إلى الحميري ، فقد أبدى في كثير من موادّ كتابه اطلاعا على سيرة ابن اسحاق كما هذّبها ابن هشام ، وقد يلتقي في أخبار الفتوح مع تاريخ الطبري ـ على نحو حرفي أحيانا ـ ، وكذلك مع كتاب فتوح الشام لمحمد بن عبد الله الأزدي البصري ولكني أعتقد أن مصدره المباشر هو كتاب المغازي لعبد الرحمن بن حبيش (ـ ٥٨٤) (١) ، كما أن مصدره عن تباشير البعثة النبوية وعن حروب الردة لمؤلف مغربي أيضا ، وهو كتاب الاكتفاء في مغازي الرسول والثلاثة الخلفاء» لأبي الربيع الكلاعي. وهو مغرم بأخبار القرن السابع ، وعلى وجه الخصوص بأخبار

__________________

(١) ترجمته في التكملة لابن الابار (رقم : ١٦١٧) والعبر للذهبي ٤ : ٢٥٢ وشذرات الذهب ٤ : ٢٨٠ وكتابه في المغازي وصف بأنه عدة مجلدات ، وأن الناس كتبوه وتداولوه ؛ ولم اطلع على هذا الكتاب ولكني وجدت لدى مقارنة نقول الروض بالطبري أنها أقرب إلى ما يرمز إليه محققو تاريخ الطبري ب (I.H). وعند الاستقراء وجدت أن هذا الرمز يعني ، نسخة ليدن من تاريخ ابن حبيش ، ورقمها ٣٤٣.

١٣

الموحدين في المغرب والأندلس ، وأخبار الغزو التتري لمدن المشرق. ولا ريب أن مصدر النوع الأول من الأخبار مغربي ، وإن لم تسمح مصادرنا بتعيينه ، وكذلك لم أستطع تعيين المصدر الذي استمد منه أخباره عن التتر. ولديه اهتمام بارز أيضا بغزوات محمود الغزنوي في الهند ، أما مصدره عنها فغير معروف أيضا. ومن السهل أن يقطع المرء بأن لقاءه بالعذري إنما تمّ عن طريق البكري ، ولكن ليس من السهل أن نؤكد إن كانت كلّ مقتبساته عن مؤلفات المسعودي (مروج الذهب والتنبيه والاشراف وأخبار الزمان) قد جاءت أيضا عن تلك الطريق ـ أعني من خلال البكري ، وإن كانت نقوله عن مروج الذهب ـ في الأخبار التاريخية لا في الحديث عن البحار والجزر وما فيها من عجائب ـ توحي لدى المقارنة بأنها مأخوذة رأسا ـ لا بالواسطة ـ عن ذلك الكتاب ـ فأما فيما يتعلق بالحديث عن عجائب البحار وعن بعض الجزر وما إلى ذلك ، فإنها مأخوذة عن المسالك والممالك للبكري الذي يعتمد كثيرا على أخبار الزمان ومروج الذهب.

وأما مصادره الأدبية والمتعلقة بالتراجم فتشمل الأغاني وكتابا لابن سعيد الأندلسي لعلّه «المشرق في حلى المشرق» وبعض الدواوين الشعرية ، وبخاصة ديوان أبي العلاء المعري مشروحا ، وديوان الأعمى التطيلي أو على الأقل قصيدته التي مطلعها «قفا حدثاني عن فل وفلان» ، ومقصورة ابن دريد (مشروحة) ، فأما معرفته بشعر بعض شعراء القرن السابع كابن الابار وابن عربية وابن مجبر أو برسائل بعض أدباء ذلك القرن مثل أبي المطرف ابن عميرة ، فإنها تعتمد في أغلب الظن على المصدر التاريخي ـ أو المصادر التاريخية التي ينقل عنها ـ أكثر من الاعتماد على دواوين هؤلاء الشعراء أو مجموعات رسائلهم.

وقد كشف في مادة «صفّين» عن نوع آخر من المصادر لا ينتمي إلى الأنواع الثلاثة السابقة ، فهو ينقل عن كتاب الامامة لعبد القاهر البغدادي ، وعن القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني ، وربما عن غير هذين أيضا ، كما أشار إلى «الرياض النضرة» للمحب الطبري إشارة عارف به.

ومن الممكن أن يتساءل المرء : هل ظهرت ثقافة ابن عبد المنعم الامام في الحديث واللغة والنحو في هذا الكتاب ؛ والجواب على هذا أنها لم تظهر مستقلة ، أي أن المؤلف لم يحاول أن يؤكد لنفسه دورا واضحا في هذه الثقافات ، وإنما ظهرت في بعض المواقف وجاءت من طبيعة المناسبة ، فهو ينقل عن صحيح مسلم والبخاري وسنن النسائي وكتاب الطبراني ، أو يشير اليها ، ولكن في كثير من الأحيان نجد إشارته إلى الحديث أو إيراده له اتباعا للبكري ، مع ميله للاختصار الشديد في الاسناد ، وكثيرا ما يكون الضبط اللغوي أو القاعدة النحوية نقلا عن مصدر جغرافي سابق بل ربما قلنا ان ابن عبد المنعم يحاول أن يقلل من الضبط قدر المستطاع ، طلبا للايجاز ، أو ضيقا بالتدقيق في التفصيلات.

٤ ـ أثر الكتاب وقيمته :

لا أعرف أحدا اعتمد الروض المعطار مصدرا قبل القلقشندي (ـ ٨٢١) في كتابه

١٤

«صبح الأعشى» ، وكان أكثر اعتماده عليه في التعريف بالبلاد الشامية وبلدان الجزيرة العربية ومصر ، ولم يعتمد عليه كثيرا في المغرب (اقتصر على ذكر : تونس ، فاس ، سبتة ، مراكش) وافريقية وراء الصحراء (دنقله ـ غانة ـ كوكو ـ تكرور) وأقلّ من ذلك البلاد الاوروبية (القسطنطينية ، رومة ، اقريطش) وأقل الجميع الأندلس ، حيث أشار إشارة عابرة إلى طرطوشة ، وتحدث عن ملوك الاباريين نقلا عما ورد في مادة «أندلس» من الروض. ولا ندري سببا لذلك ، فان جعل الروض المعطار ـ ومؤلفه مغربي ـ أساسا في المعلومات الجغرافية عن مناطق المشرق (الجزيرة العربية ـ الشام ـ مصر) وعدم الاهتمام بمعلوماته عن بلدان المغرب والاندلس يعد عكسا للوضع الصحيح. هل كان القلقشندي يعدّ الحميري مشرقيا؟ ان نسبة «الصنهاجي» لا توجد في مخطوطات الروض المعطار ، ولعلّ القلقشندي ذهب بسبب ذلك إلى هذا التصوّر فظنه مشرقيا. ومن بعده توقف عنده السمهودي (ـ ٩١١) صاحب «وفاء الوفا» في كتابه الموجز الذي لخص فيه مؤلفه الكبير ، فنقل عنه ، مع أنه ليس لدى صاحب الروض ـ فيما يتصل بالمدينة ـ مادة يستقل بها ، وأكثرها مأخوذ عن البكري ، وقد كان البكري من مصادر السمهودي ، بحيث يغنيه عن الروض المعطار. وفي القرن الحادي عشر ظلّ الكتاب موضع اهتمام ، فنجد المقري يعرفه وينقل عنه خبر وقعة الزلاقة (١) ؛ ثم نجد محمد بن عبد السلام الناصري الدرعي (ـ ١٢٣٩) ينقل عنه كثيرا في رحلته ، مع إدراكه تمام الإدراك بأن الحميري «لم يكن معه تحقيق في أخبار الأقطار وإنما [ينقل] من غيره ، ولم يجل في الأمصار» (٢) ، وآخر من نجده يعرف الروض المعطار معرفة وثيقة هو صاحب الترجمانة الكبرى ، أبو القاسم الزياني المتوفى سنة ١٢٤٩.

ويبدو أن التوجه إلى النقل عن الروض إنما تمّ لسهولة الحصول على نسخ منه ، ولما فيه من الترتيب المعجمي الذي لا يتوفر في كتاب مؤلف على الأقاليم ؛ وإلا فإن بعض ما أخذ عليه إنما كان نقلا عن المصادر المبكرة ، وخاصة ما أخذه عن البكري ؛ والبكري ممن وقع في أخطاء عديدة في كتابيه معجم ما استعجم والمسالك ؛ ورغم الاحترام الوافر الذي يكنّه العبدري له فإنه تعقب بعض أخطائه في رحلته ، كقول البكري ان ايليا تحيط بها الجبال وأنها هي في نشز من الأرض ؛ وأن قصر لجم (الأجم في الروض) في دوره نحو من ميل ، بينما هو أصغر من ذلك بكثير ، وقوله في سرت انها مدينة كبيرة على ساحل البحر بها حمام وأسواق ولها بساتين ونخل ، وإنما هي قصيّر صغير لا نخل حوله أبدا ؛ وقوله في نفيس انها مدينة في المغرب بينها وبين البحر مسيرة يوم ، وإنما نفيس اسم نهر ؛ وقوله في تادمكة أن تاد تعني الهيئة ، وليس الأمر كذلك بل إن «تاد» تعني

__________________

(١) من أطرف ضروب الاهتمام بالروض المعطار في عصر المقري ما صنعه أحمد بابا التنبكتي صاحب نيل الابتهاج بتطريز الديباج ، فقد استعار نسخة منه مكتوبة بخط مشرقي عتيق صحيح كانت في حوزة الفقيه محمد بن ابراهيم التمجروتي الدرعي سنة ١٠١٦ ، وغادر المغرب إلى تنبكت ، وظلت النسخة معه خمسة عشر عاما ، وصاحبها يكاتبه مطالبا بردها ، وأخيرا أرسل اليه سنة ١٠٣١ نسخة منقولة عنها (انظر مقدمة بروفنسال : ١١).

(٢) رحلة الناصري ، الورقة : ٢١٥

١٥

لفظ الاشارة «هذه» (١). ومن يراجع الروض المعطار يجد أن بعض هذه الأمور قد رددها الحميري أيضا نقلا عن البكري ، فليس الخطأ من عنده ، وإنما مصدره ثقته فيما يقرؤه لغيره. ولكن الخطأ يشيع بالنقل ، وتصبح أخطاء الحميري نفسه مظنة قبول عند من ينقلون عنه مضافة إلى أخطاء غيره ؛ فقد ذكر مثلا «حبرون» في «جيرون» ، فلما نقل عنه القلقشندي أثبت «حبرون» وضبطها ، ثم قال : وفي كلام صاحب الروض المعطار ما يدل على إبدال الحاء بجيم والباء الموحدة بمثناة تحت ، فإنه ذكرها في حرف الجيم في سياقه الكلام على تسمية دمشق جيرون (٢).

على أية حال ليس من الضروري أن نغالي في تقييم الروض المعطار ، فإنّ مهمته لا تتعدّى شيئين : أنه يشبه أن يكون نسخة ثانية من كل مصدر نقل عنه ، وهو في هذه الحالة يصحح أحيانا بعض النصوص في تلك المصادر ، كما أنه احتفظ بمادة غزيرة تدور حول أحداث القرن السابع ، ربما طال بنا الزمن قبل العثور على مصادرها ، وبمادة مما لا يزال مفقودا من مسالك البكري ، وخاصة فيما يتصل بجغرافية القارة الأوروبية والأندلس.

٥ ـ هل وصلنا كتاب الروض كاملا؟ :

أورد القلقشندي في صبح الأعشى التعريف ببلدين ، وصرّح بأنه ينقل عن الروض المعطار ، فقال عند التصدي لذكر مرمرا (٣) : «قال في الروض المعطار : والروم تسمي الرخام مرمرا فسميت بذلك».

ونقل عن الروض المعطار وصفا لمدينة تعز جاء فيه (٤) : «قال في الروض المعطار : ولم تزل حصنا للملوك ؛ قال : وهو بلد كثير الماء بارد الهواء كثير الفاكهة ؛ قال : ولسلطانهم بستان يعرف بالينعات فيه قبة ملوكية ومقعد سلطاني ، فرشهما وأزرهما من الرخام الملوّن ، وبهما عمد قليلة المثل يجري فيها الماء من نفثات تملأ العين حسنا والأذن طربا ، بصفاء نميرها وطيب خريرها ، وترمي شبابيكهما على أشجار قد نقلت إليه من كل مكان ؛ يجمع بين فواكه الشام والهند ولا يقف ناظر على بستان أحسن منه جمعا ، ولا أجمع منه حسنا ، ولا أتم صورة ولا معنى.

ولم ترد هاتان المادتان في نسختي الروض اللتين اعتمدت عليهما ، كما أن وصف تعز ـ على هذا النحو الأدبي ـ ليس مألوفا عند الحميري إلا حين ينقل عن ابن جبير ؛ ولكن ربما كانت نسخ الكتاب متفاوتة ، فقد احتفظت النسختان المعتمدتان بقطعة كبيرة عن «بحانة» إحدى مدن الأندلس أخلت بها النسخ الأربع التي اعتمد عليها بروفنسال ، أو ربما سها القلقشندي في نسبته هاتين القطعتين إلى الروض المعطار.

__________________

(١) رحلة العبدري ، تحقيق محمد الفاسي (١٥٨ ـ ١٥٩) ظ. المغرب ١٩٦٨ ، وليس العبدري محقا في كلّ مآخذه ، فانه لا يراعي تطور الزمن وما يصيب الأماكن من تغير ، ولكنا نأخذ نقده نموذجا وحسب.

(٢) صبح الأعشى ٤ : ١٠٢.

(٣) صبح الأعشى ٥ : ٣٤٤.

(٤) صبح الأعشى ٥ : ٩.

١٦

تحقيق الكتاب

اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على نسختين (١) نسخة مكتبة بيرم باشا التابعة لنور عثمانية ، ورقم المخطوطة فيها (٤٤) وقد رمزت لها بالحرف (ع). وتقع في ٤٠٩ ورقات ، مسطرتها (٢٢* ٣٢ سم) وعدد السطور في الصفحة الواحدة ٣١ سطرا ، ومعدل الكلمات في السطر التامّ : ١٢ كلمة ، وهي مكتوبة بخط نسخي شديد الوضوح ، وفيها قلة عناية بالاعجام ، وتصحيف كثير في أسماء الأعلام عل وجه الخصوص ، ويكثر فيها سقوط عبارات كاملة ، والناسخ يضرب على ما يريد حذفه بالقلم غير متقيد بالطريقة التقليدية في الترميج.

وقد ورد في آخرها أن ناسخها هو محمد بن زين الدين الجيزي الشافعي ، وأن الفراغ من تعليقها تمّ في «عصر اليوم الثاني ، ثاني الثاني من ثامن أول تاسع العاشر من الهجرة النبوية» ، وهذا اللغز إذا رددناه إلى الأرقام كان يعني أن نسخها قد تمّ في الثاني من شهر صفر سنة ٩٨١.

(٢) نسخة حديثة رمزت لها بالحرف (ص) ، كانت في ملك المرحوم الشيخ محمد نصيف بجدة ، وقد نقلت عن نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنوّرة (وكان الانتهاء من نقل نسخة المدينة ٩٧١) فجاءت في ٦٤٣ صفحة مكتوبة بخط رقعة حديث في الأكثر ومسطرتها ٥ ، ٢٦* ٣٤ سم وعدد السطور في الصفحة ٢٤ سطرا ومعدل الكلمات في السطر الواحد ١٨ كلمة وقد جاء في آخرها تاريخان مختلفان : إذ ذكر أن الفراغ من نسخها في مكتبة شيخ الاسلام عارف حكمت قد تم في ١١ شعبان سنة ١٣٦٠ وبعده يذكر الناسخ مصطفى بن عمر بصرى قاروت أن الفراغ من نسخ الكتاب تمّ على يده في ١٥ رجب الفرد سنة ١٣٦٤ ، وهو أيضا تاريخ دخول هذه النسخة في ملك الشيخ محمد نصيف بن حسين بن عمر أفندي نصيف ، بحدة ، وقد اطلع الأستاذ عبد الرزاق آل حمزة على هذه النسخة وقابلها على أصلها المنقولة عنه ، «وهو كثير التحريف والغلط والتصحيف» فاجتهد بقدر الطاقة في معرفة ما هو أقرب إلى الصحة ، وكتب بازائه حرف (ظ) مختصر «الظاهر» أو «المظنون» ؛ وفرغ من ذلك ضحوة ٢٤ شعبان ١٣٦٤ بقبة الساعات بالمسجد الحرام ، بمكة المكرمة. وإذا كان الأصل الذي نقلت عنه النسخة «كثير التحريف والغلط والتصحيف» فإن هذه الصورة المنسوخة عنه لم نخفف مما فيه من أخطاء ؛ ورغم بعض التنبيهات المفيدة التي ذكرها الأستاذ آل حمزة في بعض حواشي النسخة ، فإنها ما تزال نسخة سقيمة ، لا يمكن الاعتماد عليها وحدها بأية حال ، غير أنها سلمت من السقط الذي يكثر في النسخة السابقة ، ومن هنا كانت ذات فائدة غير قليلة ، أما في قراءة النصّ نفسه فلم يكن الاعتماد عليها إلا للوقوف على مدى اطراد ذلك النص وانسجامه في النسخة (ع).

١٧

على أن النسختين تتقاربان بعد ذلك كثيرا ، وخاصة في الهفوات المشتركة بينهما ، كما قال الأستاذ أمبرتور تزيتانو (١) ، وهذا قد يشير إلى أنهما اعتمدتا على أصل واحد.

ولم يكن في الإمكان إقامة نصّ سليم في معظمه اعتمادا على هاتين النسختين وحدهما ، فإن غلبة التصحيف على الأعلام من قبل الناسخين والمؤلف قد كان يجعل كلّ محاولة من هذا القبيل مخفقة لولا اعتمادي على المصادر الجغرافية التي نقل عنها المؤلف نفسه ، كذلك فإن ما قام به الاستاذان بروفنسال ورتزيتانو في تحقيق الأماكن الأندلسية والصقلية ، قد سهّل جانبا من العمل فيما يتعلق بأسماء تلك الأماكن ، على أن العالمين المذكورين قد توقفا عند بعض الاعلام التي أوردها المؤلف مصحفة ، فلم يستطيعا أن يبتا في أمرها بشيء حاسم.

وقد سرت في تقييد الملاحظات والحواشي على خطة الايجاز والاقتصاد ، وهاهنا أمر يحسن تنبيه القارئ اليه ؛ فحين أقول في الحاشية ـ مثلا ـ نزهة المشتاق : ١٢٠ أو السيرة ٢ : ٣٦ ، أعني أن المؤلف ينقل مادّته من هذا المصدر (مباشرة أو بالواسطة) ، حتى إذا انتهى النقل بدأت فقرة جديدة ، على هذا جرى تقسيم الفقرات في المادة الواحدة ، إلا أن أشير منذ البداية إلى أن المادة كلها منقولة عن المصدر الفلاني ، وإلا المادة التي نشرها بروفنسال من قبل ، فان تقسيمها إلى فقرات ينظر في الأكثر إلى الوحدات المتوالية. أما إذا صدّرت العبارة في الحاشية بقولي : انظر أو قارن فمعنى ذلك أنني أحاول أن أربط ما ورد في الروض بما ورد في المصادر الأخرى دون أن يكون هناك نقل ، إذ المقارنة أو الاحالة هنا إلى مصدر آخر تكون غايتها توثيق التسمية أو ضبط الاسم ، أو وجود شبه قويّ بين المادتين ، أو وجود فرق واضح بينهما. ولم يكن همّي في هذا اللون من الحواشي أن أقيم لكل مادة دراسة تطورية حتى أضعها في ضوء المعلومات الجغرافية الحديثة ـ فذلك ربما كان أمرا معجزا ـ وإنما حرصت دائما أن أضع مادة الروض المعطار بين موضحين :

بين المصادر التي نقل المؤلف عنها ، وبين المصادر التي نقلت عنه ؛ كل ذلك رغبة في ضبط النصّ على وجه يرضى عنه المحققون والدارسون. على أني وقفت إزاء بعض الأسماء عاجزا عن استبانة الوجه الصحيح فيها ، فاما أشرت إلى ذلك ، في الحاشية ، معلنا أني لم أجد شيئا عنها في المصادر ، وإما تركتها عابرا دون إشارة وفي النفس منها شيء.

وحيث وقع المؤلف في التصحيف فكتب «خجنده» في حرف الجيم (جخندة) ووضع «علوة» في باب الغين (غلوة) وجعل «باب» و «بابة» في مادة الياء «ياب» و «يابة» ... الخ ما وقع فيه من تصحيفات ، فقد أبقيت هذه الأعلام حيث وضعها وأشرت إلى خطأه ، ولكني أعتزم ـ إن شاء الله ـ أن أجعل الفهرست كفيلا بردّها إلى وجه الصواب إذ أثبت هنالك مثلا (غلوة : صوابها علوة فانظره ، وهكذا) ؛ أما إذا كان التصحيف في الباب نفسه مثل : وبدار

__________________

(١) مجلة كلية الآداب : ١٣٦

١٨

(التي أوردها بعد وبار) ظنا منه أن ما بعد الواو باء موحدة ، وصحتها وندار أو الزيدان (التي أوردها في باب الزاي المشفوعة بالياء وهي الزبداني) فقد كنت أصححه في المتن ، لأن المادة لا تستدعي نقلا من حرف إلى حرف.

أما الفروق في القراءات فلم أثبت منها إلا ما وجدته ضروريا أو هاما ، وأضربت عما كان وهما خالصا من الناسخين ، وكذلك صنعت في عرض الكتاب على مصادره ، إذ كان المؤلف في كثير من الأحيان يوجز بالحذف أو التلخيص ، كذلك فإني أفدت من الزيادات التي أوردها الأستاذ بروفنسال إذ اعتبرت نشرته بمثابة نسخة أخرى في هذا الصدد وحده ولم أشر إلى ما صوّبته في نصه من قراءات أو ما استدركته عليه لنقص في النسخ التي اعتمدها ، فذلك يثقل الحواشي بما لا ضرورة له. وليس بين ما نشره الأستاذ رتزيتانو وبين القراءات التي اعتمدتها إلا فروق يسيرة جدا لأنه إنما كان اعتماده على مخطوطة بيرم باشا وعلى أصل النسخة (ص). وربما كان الاطلاع على مزيد من النسخ كفيلا بإبراز فروق أخرى ، ولكن ذلك مما لم تتضحه لي الظروف التي عملت أثناءها في تحقيق هذا الكتاب.

وفي ختام هذه الكلمة أود أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي العلامة الحجة الأستاذ الشيخ حمد الجاسر ، فقد كان له الفضل في تنبيهي إلى اعتماد كل من الناصري في رحلته والسمهودي في ملخص وفاء الوفا على الروض المعطار ، كما تلطف ـ حفظه الله ـ بمراجعة قسم من موادّ الكتاب ، وزودني بتعليقاته العلمية المفيدة ؛ وجزيل شكري لصديقي العالم الكبير الأستاذ زهير شاويش الذي أذن بتصوير نسخة (ص) حين كانت في حوزته بموافقة الشيخ محمد نصيف رحمه‌الله ، فإنه كان أسخى الناس في تشجيع الأعمال العلمية ، وكلّ ما أتمناه أن يكون ما بذلته من جهد في إخراج هذا الكتاب وفاء بفضل كبير تلقيته من هذين الصديقين العزيزين ومن سائر أصدقائي الذين كانوا يتطلعون إلى رؤية الكتاب مشمولا بهذه العناية المتواضعة ، والله الموفق.

بيروت في شهر أيار (مايو) ١٩٧٤

احسان عباس

١٩

بيان بالرموز المستعملة في هذا الكتاب

ع نسخة بيرم باشا الملحقة بمكتبة نور عثمانية.

ص نسخة المرحوم الشيخ محمد نصيف بجدة.

نزهة المشتاق : نسخة كوبريللي رقم ٩٥٥ تمثل الكتاب كله ، ونسخة طوبقبو رقم ٣٥٠٢ وهي نصف الكتاب.

الادريسي (د) : صفة المغرب وأرض السودان والأندلس من نزهة المشتاق تحقيق دوزي ودي خويه (أمستردام ١٩٦٩).

الادريسي (ب) : وصف افريقيا الشمالية والصحراوية من نزهة المشتاق تحقيق هنري بيريس (الجزائر : ١٩٥٧).

الادريسي (م) : صفة البلاد التي هي الآن المملكة الايطالية ، من نزهة المشتاق ، تحقيق أماري وسكياباريللي (رومة ١٨٧٨).

الادريسي (ق) : وصف الهند وما يجاورها من البلاد ، من نزهة المشتاق ، تحقيق السيد مقبول أحمد (الهند ١٩٥٤).

OG (Opus Geographicum) وهو الطبعة الجديدة من نزهة المشتاق (روما ـ نابلي ١٩٧٠) وقد ظهر منها فصلتان تشملان الاقليم الأول والثاني.

البكري : المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب وهو جزء من المسالك والممالك ، تحقيق دي سلان (الجزائر ١٨٥٧) البكري (ح) : جغرافية الأندلس وأوروبا من كتاب المسالك والممالك ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن الحجي (بيروت ١٩٦٨).

البكري (مخ) : كتاب المسالك والممالك ، نسخة خطية في لاله لي رقم ٢١٤٤.

٢٠