الأنوار البهيّة في القواعد الفقهيّة

السيّد تقي الطباطبائي القمّي

الأنوار البهيّة في القواعد الفقهيّة

المؤلف:

السيّد تقي الطباطبائي القمّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: محلاتي
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ١
ISBN: 964-7455-060-2
الصفحات: ٢١٦

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا صاحب الزمان يا أبا صالح المهدي أغثني

الحمد لله والصلاة على محمّد وآله : وبعد فإن الله تبارك وتعالى وفّقني في شهر رمضان سنة الألف والأربعمائة والتاسع عشر من الهجرة النبوية للبحث حول عدة قواعد فقهية وقد حضر الأبحاث والمحاضرات عدة من الأفاضل والأعلام وكتبت ما خلج ببالي القاصر وأحببت أن أقدّمه للطبع والنشر كي يكون نفعه عاما ويك ون ذخرا ليوم فقري وفاقتي الذي (لا يَنْفَعُ) فيه (مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وعلى الله التوكّل والتكلان هو حسبي (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

تقي الطباطبائي القمي

٣
٤

القاعدة الأولى

قاعدة من ملك

من القواعد الفقهية قاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به وينبغي أن يتكلم حول هذه القاعدة من جهات :

الجهة الأولى : في بيان المراد من هذه الجملة ، فنقول : تارة نلاحظ ما هو المستفاد من الجملة بحسب المتفاهم العرفي واخرى نلاحظ ما يراد منها عند الأصحاب فيقع الكلام في موردين :

أما المورد الأول فالمستفاد من الجملة أن من يكون مالكا لعين كالدّار مثلا أو مالكا لمنفعة كمنفعة الدكان ، مالك لأن يعترف بالنسبة الى تلك العين أو تلك المنفعة بأن يعترف بانتقالهما الى الغير بأحد الأسباب أو بما يكون من هذا القبيل.

والوجه فيما نقول أن ظهور الألفاظ حجة ما دام لم يقم على خلافه دليل ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن الملكية لها معان :

منها الملكية الحقيقة التي يعبّر عنها بالإضافة الإشراقية وهي الملكية المخصوصة بذاته تبارك وتعالى لا مؤثر في الوجود إلّا الله :

أزمّة الأمور طرّا بيده

والكلّ مستمدة من مدده

لِمَنِ الْمُلْكُ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.

ومنها الملكية العرضيّة المقولية التي تعبر عنها بمقولة الجدة وهي الواجدية كهيئة الراكب على المركوب وهذه الملكية من الأعراض ومن الأمور الواقعية.

٥

ومنها الملكية الاعتبارية التي تكون من باب الاعتبار ولا واقع لها الّا الاعتبار.

ومن الظاهر أنّ المراد من الملك في هذه الجملة ليس المعنى الأول ولا الثاني بل المراد منها المعنى الثالث.

ومن الظاهر أيضا أن الملكية الاعتبارية بحسب المتفاهم العرفي عبارة عن ربط اعتباري بين الإنسان أو غيره وبين عين من الأعيان أو منفعة من المنافع وأما إذا لم يكن كذلك فالظاهر عدم صدق عنوان الملكية ولا المالكية ولا المملوكية.

مثلا إذا فرضنا أن زيدا مالك لدار يقال : الدار الفلانية مملوكة لزيد ولكن لا يقال : زيد مالك لبيع الدار الفلانية كما أنه لا دليل من الخارج أن زيدا مالك لبيع الدار وقس عليه بقية الموارد.

وأما لفظ الإقرار فالمستفاد من التبادر وأهل العرف واللغة أنه عبارة عن الاعتراف بشيء ومن الظاهر أنه أشرب في مفهوم الاعتراف أن متعلقه على ضرر المعترف.

وعلى هذا الأساس يستفاد من الجملة أن المالك للعين إذا أقرّ واعترف بكون العين مملوكة للغير ينفذ إقراره وقد استعمل لفظ الملك في قولهم ملك الاقرار به مجازا إذ معنى اللفظ معلوم ومن ناحية أخرى أصالة الحقيقة لا تكون أصلا تعبديا فالنتيجة أن المستفاد من الجملة أن المالك اعترافه نافذ بالنسبة الى مملوكه.

ولا يخفى أن الإقرار بماله من المفهوم العرفي عبارة عن الإخبار ولا يكون إنشاء فالحاصل :

أن المستفاد من الجملة بحسب المتفاهم العرفي أنّ المالك لشيء إذا أخبر وأقرّ بالنسبة الى ذلك الشيء يكون اخباره نافذا فلو أخبر بأن هذه العين انتقلت إلى غيري يكون اخباره نافذا وجائزا.

وأما المورد الثاني : فالمستفاد من كلمات القوم أن من يكون مسلطا على أمر

٦

كعقد أو إيقاع أو غيرهما أصالة أو نيابة أو وكالة أو ولاية إذا أقر بذلك الأمر يكون إقراره نافذا أعم من أن يكون ذلك الإقرار له أو عليه أو لا هذا ولا ذاك.

مثلا لو كان وكيلا لتزويج امرأة لنفسه وأخبر بالتزويج يقبل قوله وهكذا.

ولا يخفى أن استعمال لفظ الإقرار بحسب ما هو المصطلح عند القوم استعمال لفظ الإقرار بحسب ما هو المصطلح عند القوم استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذ الإقرار إخبار على ما يكون ضررا على المخبر والحال أن الإقرار عند القوم أعم من ذلك أي ربما يكون إخبارا بماله نفع للمخبر كما لو كان وكيلا عن المرأة في تزويجها لنفسه فأخبر بالتزويج لنفسه وأيضا يكون استعمال الملك في غير ما وضع له إذ الإنسان مالك للعين مثلا ولا يكون مالكا لبيع العين.

الجهة الثانية : في أن هذه المسألة من المسائل الأصولية أو من القواعد الفقهية؟ والحق أنها من الطائفة الثانية فإن المسألة الأصولية ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلي الفرعي الإلهي كمسألة مقدمة الواجب فإن نتيجة ذلك البحث التلازم بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته فإن هذه الكبرى تقع في طريق الاستنباط فنقول صلاة الظهر واجبة ولها مقدمات وتلك المقدمات مقدمات الواجب وكل واجب يستلزم وجوب مقدمته فتلك المقدمات واجبة.

وأما القاعدة الفقهية فهي بنفسها متكفلة لحكم فرعي للمصاديق التي تحت ذلك الكلي ، وبعبارة أخرى لا فرق بين قوله (الصلاة واجبة) وبين قوله : (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) غاية الأمر دائرة القاعدة الفقهية أوسع وأشمل ولذا نرى قاعدة ضمان الصحيح والفاسد تشمل البيع الفاسد وبقية العقود الفاسدة التي يوجب صحيحها الضمان.

الجهة الثالثة : في الفرق بين هذه المسألة ومسألة إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، والاظهر أن الفارق بين المقامين أن مسألة إقرار العقلاء تختص بمورد اعتراف

٧

المقر بما عليه ويتضرر به.

وأما في المقام فلا فرق بين كون الإقرار ضررا عليه أو لم يكن ضررا بل ربّما يكون نافعا والنسبة بين القاعدتين عموم من وجه فإنّ مادّة الاجتماع ما لو أخبر مالك العين بوقفها فإن الإخبار المذكور إقرار على نفسه فيكون مصداقا لإقرار العقلاء على أنفسهم وأيضا اخبار عن أمر يكون مسلطا عليه ومالكا له وهو الوقف.

وأما مادة الافتراق من ناحية قاعدة إقرار العقلاء ما لو اعترف بإتلاف مال الغير فإن الاعتراف المذكور اعتراف بما يكون ضررا عليه ولا يكون مسلطا على الفعل المقرّ به اذ من الواضح أنه ليس لأحد إتلاف مال غيره.

ومادّة الافتراق من ناحية هذه القاعدة ما لو كان وكيلا عن المرأة في تزويجها لنفسه فأخبر به فإنه إخبار بما يكون نافعا له ولا يكون إقرارا على ما يكون ضررا عليه.

الجهة الرابعة : في الوجوه التي يمكن أن تذكر في تقريب المدعى:

الوجه الأول : ثبوت الملازمة بين السلطنة على وجود الشيء وثبوته وبين السلطنة على إثباته فإذا كان زيد مسلطا على تزويج المرأة يكون مسلطا على إثباته فلو أخبر به يكون إخباره نافذا.

ويرد عليه أولا بالنقض وثانيا بالحل أما الأول فلو أخبر عن كون العين الفلانية التي لا تكون تحت يده مملوكة له بالإحياء يلزم أن يكون إخباره نافذا اذ له السلطنة على تملكها بالإحياء.

وكذلك لو أخبر بكون العين الفلانية مملوكة له بالحيازة وهل يمكن الالتزام به؟ كلا.

وأيضا لو كان أجيرا في عمل كالصلاة مثلا ثم أخبر بأنّه صلى وبرأت ذمته ولم

٨

يكن ثقة يلزم قبول قوله لأنه مسلط على الإتيان بها فيكون مسلطا على إثباتها والحال أنا نرى الأصحاب يقولون إنما يقبل قوله إذا كان ثقة إلى غيرها من الموارد.

وأما الحل فلعدم دليل على هذه الدعوى وإذا وصلت النوبة إلى الشك يكون مقتضى الأصل الأوّلي عدم الاعتبار فهذا الوجه ليس تحته شيء.

الوجه الثاني : قاعدة : (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) ، بتقريب أن المقام من صغريات تلك القاعدة.

والجواب : أنه قد ظهر مما تقدم أن هذه القاعدة غير تلك القاعدة ولا ربط بين المقامين.

الوجه الثالث : الإجماع وربما يرد في هذا الوجه أن اتفاق الأصحاب في مورد أو موارد لا يستلزم الإجماع على الكلية فلا يمكن الحكم بهذه الكبرى الكلية.

ويمكن أن يجاب عن الإيراد المذكور بأن المدعى ـ كما في كلام الشيخ قدس‌سره ـ الإجماع على القاعدة.

إن قلت : كيف يمكن الإجماع على الكلية والاختلاف في بعض المصاديق والحال أن السالبة الجزئية تناقض الموجبة الكلية؟

قلت : يمكن أن يكون الاختلاف في المصداق مسببا عن عدم انطباق ذلك الكلي على هذا الفرد فلا يضرّ بالإجماع.

لكن هذا الوجه أيضا مخدوش لأن الإجماع المدعى إما محصل أو منقول أو يكون كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام من باب أن اتفاق المرئوسين يكشف عن أن رأي الرئيس كذلك.

وبعبارة أخرى الإجماع المدعى إما دليل بالأصالة في قبال بقية الأدلة الشرعية وإما بالعرض أي باعتبار كونه كاشفا عن رأي المعصوم أرواحنا فداه.

إما المحصل منه فغير حاصل وأما المنقول منه فغير حجة بل قد ثبت في محله أن

٩

الإجماع المحصل غير حجة كالمنقول.

وأما كون الاتفاق كاشفا فيرد عليه أولا : أن الاتفاق محل الكلام والإشكال ومع الشك فيه لا يحصل المطلوب.

وثانيا : أنه كيف يمكن الحكم بكونه كاشفا مع احتمال استناد المجمعين الى وجه من الوجوه المذكور في المقام.

وإن شئت قلت : الاتفاق المذكور محتمل المدرك.

الوجه الرابع : السيرة العقلائية بل سيرة المتشرعة فإنّها جارية على إنفاذ إخبار الأولياء والوكلاء على تحقق موارد ولايتهم ووكالتهم.

والإنصاف أن الجزم بهذه السيرة في موارد الشك وعدم الوثوق بالخبر مشكل وإذا وصلت النوبة الى الشك يبطل الاستدلال كما هو ظاهر ، مضافا الى أن هذا الوجه إن تمّ يكون أخصّ من المدعى إذ ربما يكون الشخص مالكا لأمر ولا يكون وكيلا ولا وليّا كما لو أخبر عن كون العين الفلانية مملوكة له بالحيازة ولكن الظاهر أن الوكيل في أمر أو الولي إذا أخبر بقيامه بمورد الوكالة أو الولاية يقبل قوله.

وبعبارة أخرى : يرى العقلاء الوكيل والولي مقام الموكل والمولّى عليه فكأن الموكل أو المولّى عليه يخبر عن الوقوع ولكن هذا المقدار لا يكفي لإثبات الكبرى الكلية وصفوة القول أن القاعدة المدعاة تامة في الجملة لا بالجملة.

الوجه الخامس : النصوص الدالة على قبول قول الأمين والظاهر أن الوجه المذكور أوهن الوجوه بحيث لا يمكن تقريبه ومقتضى الدليل عدم كونه ضامنا الّا مع التعدي أو التفريط.

الجهة الخامسة : في أن هذه القاعدة على تقدير تماميتها هل تختص بزمان وظرف يكون المخبر مالكا ومسلطا على ذلك الأمر أو تعم حتى ما بعد انقضاء ذلك الزمان؟ فلو أخبر الولي بتزويج الصغيرة بعد بلوغها ينفذ إخباره على القول بعدم

١٠

الاختصاص ولا ينفذ على القول به.

ربما يقال : إن دليل القاعدة إذا كان هو الإجماع لا بد من القول بالاختصاص للزوم الاقتصار على القدر المعلوم منه.

وبعبارة أخرى : لا يكون فيه الإطلاق ولا مجال لإسراء الحكم الى ما بعد زوال ذلك الزمان بالاستصحاب لانتفاء الموضوع وتغيّره واشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب فإن الموضوع هو المالك والمفروض زوال العنوان ، مضافا الى أن استصحاب الحكم الكلي معارض باستصحاب عدم الجعل الزائد.

ويمكن أن يجاب عن التقريب المذكور بأن المدعى تحقق الإجماع على العنوان أي قام الإجماع على «جملة من ملك شيئا ملك الإقرار به».

ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين إقرار المالك في زمان كونه مالكا وبين زمان عدم كونه كذلك.

إلا أن يقال أن الحكم مترتب على المالك ومع عدم كونه مالكا لا يكون الموضوع صادقا ومع عدم صدق الموضوع لا يترتب الحكم والذي يهون الخطب أن القاعدة لا أصل لها فلاحظ.

١١

القاعدة الثانية

قاعدة الإعانة على الإثم

ومن القواعد المذكورة «قاعدة الإعانة على الإثم» ويتكلّم فيها من جهات :

الجهة الأولى : في تفسير هذه الكلمة وبيان ما يستفاد منها.

قال في المنجد : أعانه على الشيء ساعده.

والظاهر أن معنى اللفظ واضح ظاهر وهل يشترط في صدق الإعانة أن يكون المعين ذا شعور وعلى فرض الاشتراط المذكور هل يشترط أن يكون بداعي تحقق المعان عليه أم لا؟

الحق هو الثاني ويتضح المدعى بموارد الاستعمالات لاحظ قول القائل : (أعانتني هذه العصا على المشي) ، ولاحظ قوله تعالى : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وقوله عليه‌السلام : (وأعانني عليها شقوتي) ، وقوله : (من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه) إلى بقية الموارد.

ومن الظاهر أن صحة الاستعمال بلا عناية وصحة الحمل علامة الحقيقة كما أن عدم صحة السلب علامة الحقيقة أيضا والعرف ببابك.

وهل يشترط في صحة الاستعمال وتحقق الإعانة حصول المعان عليه أم لا؟ الحق هو الثاني لاحظ قول القائل : (أعان جمع على أن يمشي زيد الى الحج والزيارة لكن زيد لم يمش) فإن الإعانة تصدق بما لها من المفهوم فلا يشترط صدق العنوان على تحقق المعان عليه.

١٢

الجهة الثانية : في حكم الإعانة على الإثم وما يمكن أن يذكر في مستند القول بحرمتها وجوه :

الوجه الأول : قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(١).

بتقريب أن المستفاد من الآية الشريفة النهي عن الإعانة على الإثم.

ويرد عليه أن التعاون غير الإعانة وهذا العرف ببابك والمنهي عنه في الآية هو الأول لا الثاني.

الوجه الثاني : النصوص ، منها عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من أعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله (٢).

وفيه أولا : أن السند مخدوش فإن عنوان غير واحد لا يستلزم التواتر بل أعم منه.

وثانيا : أن الحكم المذكور وارد في إطار خاص ودائرة مخصوصة ولا وجه لإسرائه الى غيره من الموارد.

وإن شئت فقل : لا وجه للقياس بين مورد الحديث وبقية الموارد.

ومنها ما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه (٣).

وفيه أولا : أن السند مخدوش وثانيا : أن الحديث وارد في واقعة خاصة ولا مجال لإسراء الحكم إلى غير مورده بلا دليل وإلّا يلزم التشريع.

ومنها الأحاديث الواردة في أعوان الظلمة.

لاحظ ما رواه أبو حمزة عن علي بن الحسين عليه‌السلام في حديث قال : إيّاكم

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) الوسائل : الباب ٢ من أبواب القصاص في النفس ، الحديث ٤.

(٣) فروع الكافى : ج ٦ ص ٢٦٦ ، الحديث ٨.

١٣

وصحبة العاصين ومعونة الظالمين (١) إلى غيره من الروايات.

وفيه أنّها واردة في إعانة خاصة ولا دليل على عموم الحكم.

ومنها ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها (٢).

بتقريب أن المستفاد من الحديث أن الإعانة على الإثم حرام ولذا قد استحق اللعن الجماعة المشار إليهم في الرواية لكونهم أعوانا عليه.

وفيه أولا : الإشكال في السند وثانيا : أن الموجبة الجزئية لا تكون دليلا على الكلية ومن الظاهر أن الجزم بالحكم الشرعي يتوقف على الدليل ، ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما يكون متحدا مع هذه الرواية في المفاد.

الوجه الثالث : إن رفع المنكر واجب لوجوب النهي عن المنكر.

وفيه أولا : أن لازمه وجوب الترك لا حرمة الفعل.

وثانيا : أنّه لا دليل على وجوب دفع المنكر وملاكات الأحكام الشرعية لا تنالها عقولنا.

الوجه الرابع : الإجماع المنقول ، وفيه أن الإجماع المنقول غير حجة بل المحصل منه كذلك وأما الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام فلا يمكن تحصيله إذ على فرض تحققه محتمل المدرك.

الوجه الخامس : حكم العقل ، بتقريب : أن العقل حاكم بقبح المعصية لكونها مبغوضة للمولى وحيث أن الإثم مبغوض للمولى فالمعين للآثم مبغوض عمله ويلزم بحكم العقل تركه.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

١٤

ويرد عليه : أن العقل إنما يحكم ويدرك لزوم الإطاعة دفعا للضرر المحتمل وأما كون شيء مبغوضا للمولى فلا يكون الزام من قبل العقل بتركه ما دام لم يتعلق به نهي من قبل الناهي.

مضافا إلى أن كون شيء مبغوضا لا يستلزم مبغوضية مقدماته وقد حقق في الأصول عدم كون مقدمة الحرام حراما وهذا الوجه أوهن الوجوه المذكورة في المقام ولا يرجع الى محصل.

فانقدح بما ذكرنا عدم قيام دليل على المدّعى ويضاف الى ذلك كله أن هناك نصوص تدل على جواز الإعانة منها ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن فقال : لو باع ثمرته ممن يعلم أنه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس فأما إذا كان عصيرا فلا يباع الّا بالنقد (١).

ومنها ما رواه أبو بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا قال : إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو حلال فلا بأس (٢) ومنها ما رواه محمد الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بيع عصير العنب ممّن يجعله حراما فقال : لا بأس به تبيعه حلالا ليجعله حراما فأبعده الله وأسحقه (٣).

ومنها ما رواه عمر بن أذينة قال : كتبت الى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمرا أو سكرا ، فقال : إنما باعه

__________________

(١) الوسائل : الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٢) نفس المصدر الحديث ٢.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٤.

١٥

حلالا في الابان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه (١).

ومنها ما رواه أبو كهمس قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن العصير فقال : لي كرم وأنا أعصره كل سنة وأجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي قال : لا بأس به وإن غلا فلا يحل بيعه (٢).

ومنها ما رواه رفاعة بن موسى قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر عن بيع العصير ممّن يخمره ، قال : حلال ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا (٣).

ومنها ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمرا فقال :

بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب إليّ ولا أرى بالأول بأسا (٤).

ومنها ما رواه يزيد بن خليفة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأله رجل وأنا حاضر قال : إن لي الكرم قال : تبيعه عنبا قال فإنه يشتريه من يجعله خمرا قال : فبعه إذا عصيرا قال فإنه يشتريه مني عصيرا فيجعله خمرا في قربتي قال : بعته حلالا فجعله حراما فأبعده الله ثم سكت هنيهة ثم قال :

لا تذرن ثمنه عليه حتى يصير خمرا فتكون تأخذ ثمن الخمر (٥).

ويضاف إلى جميع ما ذكر أن الإعانة على الاثم لو كانت حراما لكان سقي الناصب حراما لأن الماء ينفعل بملاقاة شفته فيكون شرب الماء حراما عليه فإن الكافر مكلف بالفروع كما يكون مكلفا بالأصول على ما حقّقناه.

__________________

(١) نفس المصدر : الحديث ٥.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٦.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٨.

(٤) نفس المصدر : الحديث ٩.

(٥) نفس المصدر : الحديث ١٠.

١٦

ثم إنه على القول بالحرمة هل يكون إعانة المكلف على الإثم الذي يصدر عن نفسه حراما أم لا؟

الظاهر هو الثاني فإن الظاهر من الجملة المذكورة أن المعين غير المعان.

مضافا الى أن القول بالتعميم يستلزم القول بحرمة مقدمة الحرام وقد حقق في محله أنّ مقدمة الحرام لا تكون حراما.

أضف إلى ذلك : أن القول بالتعميم يستلزم القول بأنّه لو كان عشرون مقدمة يكون المرتكب لذلك الحرام معاقبا بعدد تلك المقدمات وهل يمكن الالتزام به؟

ثم إنه لو لم نقل بالحرمة ـ كما لا نقول ـ فهل يستحق العقاب من يكون معينا إذا كان قاصدا لتحقق ذلك الحرام أي يعينه لأن يشرب الخمر ويكون تحقق الحرام غاية للإعانة؟

الظاهر أنه لا دليل على الحرمة في هذه الصورة أيضا نعم إذا كان الغرض من الإعانة هتك مقام المولى ـ نستجير بالله ـ الظاهر عدم إمكان التشكيك في الحرمة بل لو ادعى أحد أنه يوجب عنوان النصب وصيرورة المعين ناصبيا ويصير بذلك أنجس من الكلب والخنزير لعله لا يكون مجازفا في القول.

١٧

القاعدة الثالثة

قاعدتا الفراغ والتجاوز

يقع الكلام في المقام من جهات :

الجهة الأولى : في أنهما قاعدتان إذ تارة يكون مورد الشك مفروض الوجود غاية الأمر يشك في صحته وفساده كما لو فرغ من الصلاة وشك في أنها صحيحة أو فاسدة وأخرى يشك في أصل الوجود كما لو شك في أنه ركع أم لا أو سجد أم لا إلى غير ذلك من الموارد فإن كان الشك في صحة الموجود يكون مورد قاعدة الفراغ وإن كان الشك في أصل الوجود يكون مورد قاعدة التجاوز.

الجهة الثانية : إنه ربما يقال مورد قاعدة التجاوز الشك في مفاد كان التّامة ومورد قاعدة الفراغ الشك في مفاد كان النّاقصة ولا يمكن الجمع بين الأمرين في استعمال واحد ولا يرتفع الإشكال باستعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد إذ مرجعه إلى التعدد والكلام في الاستعمال الواحد.

وربما يذبّ الإشكال بأن الجامع بين الأمرين الحكم بالوجود الصحيح.

وأورد عليه بأنه يستلزم القول باعتبار المثبت الذي لا نقول به.

وأجيب عن الإشكال المذكور : بأن القاعدة من الأمارات ولوازم الأمارة تثبت وبعبارة واضحة : إنه تارة يشكّ في صحّة الركوع ـ مثلا ـ واخرى في أصل وجوده والقاعدة تحكم بتحقّق الوجود الصحيح ولازمه تحقق الرّكوع وحيث أن لازم الإمارة حجة يثبت أن الركوع تحقق.

١٨

ولقائل أن يقول يمكن أن يتكفل دليل واحد لبيان حكم كلتا القاعدتين أما على القول بجواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى فارد فواضح وظاهر وأمّا إرادة الجامع بين الأمرين فالظاهر إمكانه في مقام الثبوت والتصوّر وذلك بأنّ المولى يلاحظ كلا الموردين ويرى المصلحة في اعتبار الصحة فيقول إذا شككت في شيء أعم من أن يكون الشك في صحة الموجود أو الشك في أصل الوجود فابن عليه ولا إشكال فيه أصلا.

ولعمري أن هذا أوضح من أن يخفى فتحصل ممّا تقدم أمران : أحدهما أن قاعدة التجاوز غير قاعدة الفراغ ، ثانيهما أنه يمكن تصوير الجامع بين القاعدتين في مقام الثبوت والتصور.

الجهة الثالثة : في بيان الأدلة التي تدل على الاعتبار والعمدة النصوص الواردة في هذا المجال بل الدليل منحصر فيها إذ السيرة والإجماع على فرض تسلمهما لا تكونان دليلين في قبال النصوص.

وبعبارة أخرى : النصوص منشأ الإجماع والسيرة فلا بدّ من ملاحظة كل واحد من هذه النصوص ومقدار دلالته بعد تمامية سنده.

فنقول : من تلك النصوص ما رواه زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل شك في الأذان وقد دخل في الاقامة قال : يمضي قلت : رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبّر قال : يمضي قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ قال : يمضي قلت : شك في القراءة وقد ركع قال : يمضي قلت : شك في الركوع وقد سجد قال : يمضي على صلاته ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء (١).

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

١٩

وهذه الرواية تامة سندا وأما من حيث الدلالة فهل تكون دليلا على قاعدة التجاوز أو ناظرة الى قاعدة الفراغ أو ناظرة الى كلتا القاعدتين؟

الظاهر أنها ناظرة الى قاعدة الفراغ إذ الميزان في استفادة المراد من الكلام ما يكون ضابطا كليا ونرى أنه عليه‌السلام بعد جواب أسئلة السائل أعطى في الذيل ميزانا كليّا وحكما عاما بقوله : «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء».

ومن الواضح أن الخروج من الشيء يتوقف على تحققه وحصوله فلا يشمل الشك في أصل الوجود وحمل كلامه على الخروج عن المحل خلاف صريح كلامه روحي فداه لا يصار إليه.

إن قلت : الخروج عن الشيء لا يجتمع مع الشك فيه قلت : إذا كان الشك في صحّة ما خرج منه ، يصدق الخروج مع الشك فيه.

وصفوة القول : إن الميزان بذيل كلامه حيث إنّه عليه‌السلام تصدّى من تلقاء نفسه بلا سبق سؤال لإعطاء قاعدة كلية تجري في جميع الموارد فلا بد من الأخذ وإن أبيت وقلت : الصدر يشمل الشك في أصل الوجود وفي صحة الموجود.

قلت : الذيل بصراحته في إرادة قاعدة الفراغ يقيد الصدر.

إن قلت : الظاهر من الصدر الشك في أصل الوجود فيقع التعارض بين الصدر والذيل ولا وجه لتقديم الذيل على الصدر.

قلت : أولا : مقتضى الإطلاق شمول الصدر لكلا الأمرين.

وثانيا : لا بد من رفع اليد عن ظهور الصدر في الشك في أصل الوجود على فرض تسليمه وهذا العرف ببابك فإن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من اللواحق ما دام متشاغلا بالكلام ويرى العرف أنّ الميزان بحسب سوق الكلام بالذيل.

٢٠