الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

لا إله إلا الله عدة للقائه

الكلام في الإمامة والمفاضلة

قال الفقيه الإمام الأوحد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه : اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع المعتزلة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة ، وأن الأمة فرض واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاشا النجدات (١) من الخوارج فإنهم قالوا : لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم ، وهذه فرقة ما نرى بقي منها أحد ، وهم المنسوبون إلى نجدة بن عامر الحنفي القائم باليمامة.

قال أبو محمد : وقول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه. والقرآن والسنة قد وردا بإيجاب الإمام ، من ذلك قول الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [سورة النساء : ٥٩] مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأمة ، وإيجاب الإمامة. وأيضا فإن الله عزوجل يقول : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [سورة البقرة : ٢٨٦] فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في بنيتهم واحتمالهم ، وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال ، والجنايات ، والدماء ، والنكاح ، والطلاق ، وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم ، وانصاف المظلوم ، وأخذ القصاص على

__________________

(١) النجدات : هم أتباع نجدة بن عامر الحنفي. وقد أقاموا على إمامة نجدة إلى أن اختلفوا عليه في أمور نقموها منه ، فلما اختلفوا عليه صاروا ثلاث فرق : فرقة صارت مع عطية بن الأسود الحنفي إلى سجستان وتبعهم خوارج سجستان ، ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت «عطوية». وفرقة صارت مع أبي فديك حربا على نجدة ، وهم الذين قتلوا نجدة. وفرقة عذروا نجدة في أحداثه وأقاموا على إمامته. ومن بدع نجدة أنه أسقط حدّ الخمر ، ومنها أيضا أنه قال : من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة وأصرّ عليها فهو مشرك ، ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مصرّ عليه فهو مسلم إذا كان من موافقيه على دينه. انظر الفرق بين الفرق (ص ٥٨ ـ ٦٠).

٣

تباعد أقطارهم ، وشواغلهم ، واختلاف آرائهم ، وامتناع من تحرّى في كل ذلك ممتنع غير ممكن ، إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم إنسان ، ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم ، إما لأنها ترى في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء ، وإما خلافا مجردا عليهم. وهذا الذي لا بد منه ضرورة وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم ولا حد حتى قد ذهب الدين في أكثرها فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد ، أو إلى أكثر من واحد ، فإذ لا بد من أحد هذين الوجهين فإن الاثنين فصاعدا بينهما أو بينهم ما ذكرنا فلا يتم أمر البتة ، فلم يبق وجه تتم به الأمور إلا الإسناد إلى واحد ، فاضل ، عالم ، حسن السياسة ، قوي على الإنفاذ ، إلا أنه وإن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا ، وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا من الظلم ما أمكنهم ، إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك ، وإلا فكف ما قدروا على كفه منه ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك.

ثم اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ، ولا يجوز إلا إمامة واحدة ، إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي ، وأصحابهما ، فإنهم أجازوا كون إمامين في وقت وأكثر في وقت واحد.

واحتج هؤلاء بقول الأنصار ، أو من قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين : منا أمير ، ومنكم أمير (١).

__________________

(١) روى البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باب ٥ (حديث ٣٦٦٧ ، ٣٦٦٨) عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات وأبو بكر بالسّنح ، فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالت : وقال عمر : والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ، وليبعثنّه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبّله فقال : بأبي أنت وأمي طبت حيّا وميتا ، والله الذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا. ثم خرج فقال : أيها الحالف على رسلك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال : ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). قالت : فنشج الناس يبكون. قالت : واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير. فذهب إليهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلا أنّي قد هيأت كلاما أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر. ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس ، فقال في كلامه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حباب بن المنذر : لا والله لا نفعل ،

٤

واحتجوا أيضا بأمر علي ، والحسن ، مع معاوية رضي الله عنهم.

قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضي الله عنهم ما ذكرنا لم يكن صوابا بل كان خطأ إذ أداهم إليه الاجتهاد ، وخالفهم فيه المهاجرون ، ولا بد إذا اختلف القائلان على قولين متنافيين من أن يكون أحدهما حقا ، والآخر خطأ ، وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عزوجل الرد إليه عند التنازع ، إذ يقول تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة النساء : ٥٩].

فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما» (١).

وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) [سورة آل عمران : ١٠٥].

وقال تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [سورة الأنفال : ٤٦].

فحرم الله عزوجل التفرق ، والتنازع ، وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم ، فوجد التنازع ، ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا.

وأما من طريق النظر والمصلحة ، فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة ، وأربعة وأكثر. فإن منع من ذلك مانع كان متحكما بلا برهان ، ومدعيا بلا دليل ، وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد.

وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في كل عمل إمام أو في كل مدينة إمام ، أو في كل قرية إمام ، ويكون كل أحد إماما وخليفة في منزله ، وهذا هو الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا ، فصح أن قول الأنصار رضي الله عنهم وهلة وخطأ قد رجعوا عنه إلى الحق ، وعصمهم الله تعالى من التمادي عليه. وأما أمر عليّ والحسن ومعاوية فقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أنذر بخارجة تخرج من طائفتين من أمته يقتلها أولى الطّائفتين بالحقّ (٢) فكان

__________________

منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر : لا ، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء ، هم أوسط العرب دارا وأعربهم نسبا ، فبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح. فقال عمر : بل نبايعك أنت ، فأنت سيّدنا وخيرنا وأحبّنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس. فقال قائل : قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر : قتله الله.

(١) رواه مسلم في الإمارة حديث ٦١ من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، ولفظه : «إذا بويع لخليفتين ...».

(٢) رواه مسلم في الزكاة حديث ١٤٩ و ١٥٢ و ١٥٣. وأبو داود في السنة باب ١٢. وأحمد في

٥

قاتل تلك الطائفة علي رضي الله عنه فهو صاحب الحق بلا شك وكذلك أنذر عليه‌السلام بأن عمارا تقتله الفئة الباغيّة (١) فصح أن عليا هو صاحب الحق ، وكان عليّ السابق إلى الإمامة ، فصح بعد أنه صاحبها وأن من نازعه فيها فمخطئ ، فمعاوية رحمه‌الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد ، ولا حجة في خطأ المخطئ فبطل قول هذه الطائفة.

وأيضا فإن قول الأنصار رضي الله عنهم منا أمير ومنكم أمير ، يخرج على أنهم إنما أرادوا أن يلي وال منهم فإذا مات ولي من المهاجرين آخر وهكذا أبدا لا على أن يكون إمامان في وقت ، وهذا هو الأظهر من كلامهم.

وأما علي ومعاوية رضي الله عنهما فما سلّم قط أحدهما للآخر ، بل كل واحد منهما يزعم أنه المحق ، وكذلك كان الحسن رضي الله عنه إلى أن أسلم الأمر إلى معاوية ، فإذ هذا كذلك فقد صح الإجماع على بطلان قول ابن كرام وأبي الصباح ، وبطل أن يكون لهم تعلق في شيء أصلا وبالله تعالى التوفيق.

ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على فرقتين فذهب أهل السنة ، وجميع الشيعة ، وبعض المعتزلة ، وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش خاصة من كان من ولد فهر بن مالك ، وأنها لا تجوز فيمن كان أبوه من غير بني فهر بن مالك ، وإن كانت أمه من قريش ، ولا في حليف ولا في مولى.

وذهبت الخوارج كلها ، وجمهور المعتزلة ، وبعض المرجئة ، إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة ، قرشيا كان أو عربيا ، أو ابن عبد ، وقال ضرار بن عمرو الغطفاني : إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة ، فالواجب أن يقدم الحبشي لأنه أسهل لخلعه ، إذا حاد عن الطريقة.

قال أبو محمد : وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك خاصة نقول بنص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن «الأئمة من قريش» (٢) وعلى أن الإمامة في قريش.

وهذه رواية جاءت مجيء التواتر ، ورواها أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمر بن

__________________

المسند (٥ / ٢٥ ، ٤٢٥).

(١) لفظ الحديث : «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» رواه من طرق : البخاري في الصلاة باب ٦٣. ومسلم في الفتن حديث ٧٠ و ٧٢ و ٧٣. والترمذي في المناقب باب ٣٤. وأحمد في المسند (٢ / ١٦١ ، ١٦٤ ، ٢٠٦ ، ٣ / ٥ ، ٢٢ ، ٢٨ ، ٩١ ، ٤ / ١٩٧ ، ١٩٩ ، ٥ / ٢١٥ ، ٣٠٦ ، ٣٠٧ ، ٦ / ٢٨٩ ، ٣٠٠ ، / ٣١ ، ٣١٥).

(٢) رواه الإمام أحمد في المسند (٣ / ١٢٩ ، ١٨٣ ، ٤ / ٤١٢).

٦

الخطاب ، ومعاوية ، وروى جابر بن عبد الله ، وجابر بن سمرة ، وعبادة بن الصامت ، معناها.

ومما يدل على صحة ذلك إذعان الأنصار رضي الله عنهم يوم السقيفة ، وهم أهل الدار والمنعة ، والعدة والعدد ، والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم. ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لو لا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الحق لغيرهم في ذلك.

فإن قال قائل إن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش» يدخل في ذلك الحليف والمولى ، وابن الأخت ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مولى القوم منهم ومن أنفسهم وابن أخت القوم منهم» (١).

فالجواب وبالله تعالى التوفيق :

إن الإجماع قد تيقن وصح على أن حكم الحليف والمولى وابن الأخت كحكم من ليس له حليف ولا مولى ولا ابن أخت ، فمن أجاز الإمامة في غير هؤلاء جوزها في هؤلاء ، ومن منعها من غير قريش منعها من الحليف والمولى وابن الأخت ، فإذ صح البرهان بأن لا يكون إلا في قريش لا فيمن ليس قرشيا صح بالإجماع أن حليف قريش ومولاهم وابن أختهم لا حق لهم في الخلافة لإجماع الأمة كلها على أن حكمهم كحكم من ليس قرشيا وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وقال قوم إن اسم الإمامة قد يقع على الفقيه العالم وعلى متولي الصلاة بأهل مسجد ما. قلنا : نعم. لا يقع على هؤلاء إلا بالإضافة لا بالإطلاق ، فيقال فلان إمام في الدين ، وإمام بني فلان ، فلا يطلق لأحدهم اسم الإمامة بلا خلاف من أحد من الأمة إلا على المتولي لأمور أهل الإسلام.

فإن قال قائل : فإن اسم الإمارة واقع بلا خلاف على من ولي جهة من جهات المسلمين ، وقد سمي بالإمارة كل من ولاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهة من الجهات ، أو سرية ، أو جيشا ، وهؤلاء مؤمنون ، فما المانع من أن يوقع على كل واحد اسم أمير المؤمنين؟ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق :

__________________

(١) رواه البخاري في المناقب باب ١٤ ، والفرائض باب ٢٤. وأبو داود في الزكاة باب ٢٩. والترمذي في الزكاة باب ٢٥. والنسائي في الزكاة باب ٩٧. والدارمي في السير باب ٨٢. وأحمد في المسند (٣ / ٤٤٨ ، ٤ / ٢٥ ، ٣٤).

٧

أن الكذب محرم بلا خلاف ، وكل من ذكرنا فإنما هو أمير لبعض المؤمنين لا لكلهم ، فلو سمي أمير المؤمنين لكان مسميه بذلك كاذبا لأن هذه اللفظة تقتضي عموم المؤمنين ، وهو ليس كذلك وإنما هو أمير بعض المؤمنين فصح أن ليس يجوز البتة أن يوقع اسم الإمامة مطلقا ، ولا اسم أمير المؤمنين إلا على القرشي المتولي لجميع أمور المؤمنين كلهم ، أو الواجب له ذلك ، وإن عصاه كثير من المؤمنين ، وخرجوا عن الواجب عليهم ، من طاعته والمفترض عليهم من بيعته ، فكانوا بذلك فئة باغية ، حلالا قتالهم وحربهم ، وكذلك اسم الخلافة بإطلاق لا يجوز أيضا إلا لمن هذه صفته ، وبالله التوفيق.

واختلف القائلون بأن الإمامة لا تجوز إلا في صلبة (١) قريش ، فقالت طائفة : هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط. وهذا قول أهل السنة ، وجمهور المرجئة ، وبعض المعتزلة. وقالت طائفة : لا تجوز الخلافة إلا في ولد العبّاس بن عبد المطلب وهو قول الراوندية. وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد علي بن أبي طالب.

وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد جعفر بن أبي طالب ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان يقول : لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب ، وأبو لهب ، والحارث ، والعباس.

وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول : لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس ، وكان له في ذلك تأليف مجموع ، وروينا كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا لولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

قال أبو محمد : فأما هذه الفرق الأربع فما وجدنا لهم شبهة يستحق أن يشتغل بها إلا دعاوى كاذبة لا وجه لها.

وأما الكلام فمع الذين يرون الأمر لولد العباس أو لولد علي فقط لكثرة عددهم.

قال أبو محمد : احتج من ذهب إلى أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد العباس فقط على أن الخلفاء من ولده ، وكل من له حظ من علم من غير الخلفاء منهم لا

__________________

(١) الصلبة والصليبة والصلب : الذرية (المعجم الوسيط : ص ٥١٩).

٨

يرضون بهذا ولا يقولون به لكن تلك الطائفة قالت كان العباس عاصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووارثه ، فإذا كان ذلك كذلك فقد ورث مكانه.

قال أبو محمد : وهذا ليس بشيء ، لأن ميراث العباس رضي الله عنه لو وجب له لكان ذلك في المال خاصة ، وأما المرتبة فما جاء قط في الديانات أنها تورث.

فبطل هذا التمويه جملة ولله الحمد.

ولو جاز أن تورث المراتب لكان من ولاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكانا ما إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ، ووارثه ، وهذا ما لا يقولونه فكيف وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة حاشا الروافض أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال : «لا نورث ما تركناه صدقة» (١) ...؟

فإن اعترض معترض بقول الله عزوجل (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [سورة النمل : ١٦] وبقوله تعالى حاكيا عن زكريا عليه‌السلام أنه قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [سورة مريم : ٥ ، ٦].

قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه لأن الرواة وحملة الأخبار وجميع التواريخ القديمة كلها وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلا يوجب العلم أن داود عليه‌السلام كان له بنون جماعة غير سليمان عليه‌السلام فصح أنه ورث النبوة.

وبرهان ذلك أنهم كلهم مجمعون على أنه عليه‌السلام ولي مكان أبيه عليهما‌السلام وليس له إلا اثنتي عشرة سنة ، ولداود أربعة وعشرون ابنا كبارا وصغارا ، وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا عليهما‌السلام.

وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قوله عليه‌السلام (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وهم مئو ألوف لكل سبط من أسباطهم عصاب عظيمة فصح أنه إنما رغب ولدا يرث عنه النبوة فقط.

__________________

(١) رواه من طرق : البخاري في الخمس باب ١ ، وفضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باب ١٢ ، والمغازي باب ١٤ و ٣٨ ، والنفقات باب ٣ ، والفرائض باب ٣ ، والاعتصام بالكتاب والسنّة باب ٥. ومسلم في الجهاد حديث ٤٩ و ٥٠ و ٥١ و ٥٢ و ٥٤ و ٥٦. وأبو داود في الإمارة باب ١٩. والترمذي في السير باب ٤٤. والنسائي في الفيء باب ٩ و ١٦. ومالك في الكلام حديث ٢٧. وأحمد في المسند (١ / ٤ ، ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ٢٥ ، ٤٧ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٦٠ ، ١٦٢ ، ١٦٤ ، ١٧٩ ، ١٩١ ، ٢ / ٤٦٣ ، ٦ / ١٤٥ ، ٢٦٢).

٩

وأيضا فمن المحال أن يرغب زكريا عليه‌السلام في ولد يحجب عصبته عن ميراثه إذ إنما يرغب في هذه الخطة ذو الحرص على الدنيا وحطامها ، وقد نزه الله عزوجل عن ذلك أنبياءه عليهم الصلاة والسلام وبرهان ذلك أنه عليه‌السلام إنما طلب الولد إذ يرى أن ما آتاه الله عزوجل مريم عليها‌السلام التي كانت في كفالته من المعجزات ، قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) إلى قوله : (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [سورة آل عمران : ٣٨].

وعلى هذا المعنى دعا فقال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [سورة مريم : ٥ ، ٦].

وأما من اغتر بقوله تعالى حاكيا عنه عليه‌السلام أنه قال : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) [سورة مريم : ٥].

قيل له : بطلان هذا الظن أن الله تعالى له يعطه ولدا يكون له عقب فيتصل الميراث لهم بل أعطاه ولدا حصورا لا يقرب النساء قال تعالى : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة آل عمران : ٣٩].

فصح ضرورة أنه عليه‌السلام إنما طلب ولدا نبيا لا ولدا يرث المال ، وأيضا فلم يكن العباس محيطا بميراث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما كان يكون له ثلاثة أثمان فقط وأما ميراث المكانة فقد كان العباس رضي الله عنه حيا قائما إذ مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما ادعى العباس لنفسه قط في ذلك حقا ، لا حينئذ ولا بعد ذلك ، وجاءت الشورى فما ذكر فيها ولا أنكر هو ولا غيره ترك ذكره فيها ، فصح أنه رأي محدث فاسد لا وجه للاشتغال به ، والخلفاء من ولده والأفاضل منهم من غير الخلفاء لا يرضون لأنفسهم بهذه الدعوى ترفعا عن سقوطها ووهنها ، وبالله تعالى التوفيق.

وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي رضي الله عنه فإنهم انقسموا قسمين :

فطائفة قالت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على علي بن أبي طالب أنه الخليفة بعده ، وأن الصحابة بعده عليه‌السلام اتفقوا على ظلمه ، وعلى كتمان نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهؤلاء المسلمون الروافض. وطائفة قالت لم ينص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عليّ لكنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحقهم بالأمر ، وهؤلاء هم الزيدية نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

١٠

ثم اختلفت الزيدية فرقا ، فقالت طائفة : إن الصحابة ظلموه ، وكفروا من خالفه من الصحابة ، وهم الجارودية. وقالت أخرى : إن الصحابة رضي الله عنهم لم يظلموه لكنه طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، وإنهما إماما هدى. ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم ، وذكرت طائفة أنّ هذا كان مذهب الفقيه الحسن بن صالح بن حي الهمذاني.

قال أبو محمد : وهذا خطأ وقد رأيت لهشام بن الحكم الرافضي الكوفي في كتابه المعروف بالميزان ، وقد ذكر الحسن بن حي ، أن (١) مذهبه كان أن الإمامة في جميع ولد فهر بن مالك.

قال أبو محمد : وهذا الذي لا يليق بالحسن بن حي غيره ، فإنه كان أحد أئمة الدين ، وهشام بن الحكم أعلم به ممن نسب إليه غير ذلك ، لأن هشاما كان جاره بالكوفة وأعرف الناس به وأدركه وشاهده ، والحسن بن حي رحمه‌الله يحتج بمعاوية رضي الله عنه وبابن الزبير رضي الله عنهما ، وهذا مشهور عنه في كتبه ، وروايات من روى عنه. وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع ولد علي بن أبي طالب ، من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة وجب سل السيف معه.

وقالت الروافض : الإمامة في علي وحده بالنص عليه ثم في الحسن ثم في الحسين ، وادّعوا نصا آخر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهما بعد أبيهما ثم علي بن الحسين لقول الله عزوجل : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [سورة الأنفال : ٧٥].

قالوا : فولد الحسين أحق من أخيه ، ثم محمد بن علي بن الحسين ، ثم جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ـ وهذا مذهب جميع متكلميهم كهشام بن الحكم ، وهشام الجواليقي ، وداود الحواري ، وداود الرقي ، وعلي بن منصور ، وعلي بن هيثم ، وأبي علي السكاك تلميذ هشام بن الحكم ، ومحمد بن جعفر بن النعمان شيطان الطاق ، وأبي مالك (٢) الحضرمي وغيرهم. ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد.

فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر.

وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر وهم قليل.

وقالت طائفة : جعفر حي لم يمت.

__________________

(١) كانت في الأصل المطبوع «وأن» والصواب حذف الواو.

(٢) تحرفت في الأصل المطبوع إلى «ملك».

١١

وقال جمهور الرافضة بإمامة ابنه موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي بن موسى ، ثم علي بن محمد بن علي بن موسى ، ثم الحسن بن علي ، ثم مات الحسن من غير عقب فافترقوا فرقا وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن بن علي ولد فأخفاه ، وقيل بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل وهو الأشهر ، وقال بعضهم بل من جارية له اسمها نرجس ، وقال بعضهم بل من جارية له اسمها سوسن والأظهر عندهم أنها اسمها صقيل ، لأن صقيل هذه ادعت الحمل بعد موت الحسن بن علي سيدها فوقف ميراثه لذلك سبع سنين ونازعها في ذلك أخوه جعفر بن علي وتعصب لها جماعة من أرباب الدولة ، وتعصب لجعفر آخرون ، ثم انفشّ (١) ذلك الحمل وبطل وأخذ الميراث جعفر أخوه ، وكان موت الحسن هذا سنة ستين ومائتين ، وزادت فتنة الروافض بصقيل هذه ودعواها إلى أن حبسها المعتضد بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها ، وقد عير عمر بها أنها في منزل الحسن بن جعفر النوبختي الكاتب فوجدت فيه ، وحملت إلى قصر المعتضد فبقيت هنالك إلى أن ماتت في القصر ، في أيام المقتدر ، فهم إلى اليوم ينتظرون ضالة منذ مائة عام وثمانين عاما.

وكانت طائفة قديمة قد بادت كان رئيسهم المختار بن أبي عبيد وكيسان أبا عمرة وغيرهما يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين ، محمد أخوه المعروف بابن الحنفية ، ومن هذه الطائفة كان السيد الحميري وكثير عزة الشاعران. وكانوا يقولون : إن محمدا ابن الحنفية حي بجبل رضوى ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف.

قال أبو محمد : وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء.

قال أبو محمد : لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونها ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقها ، وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجة به سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه ، لأن من صدق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري فيصير حينئذ مكابرا منقطعا إن ثبت على ما كان عليه إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها ، منها قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي الله عنه : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي» (٢).

__________________

(١) انفشّ : زال (المعجم الوسيط : ص ٦٨٩).

(٢) رواه من طرق : البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والترمذي في المناقب باب ٢٠. وابن

١٢

قال أبو محمد : وهذا لا يوجب له فضلا على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه‌السلام ، لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما‌السلام ، وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه‌السلام يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما‌السلام ، كما ولي الأمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة.

وإذا لم يكن علي نبيا كما كان هارون نبيا ، ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل ، فصح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط ، وأيضا فإنما قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك ، فقال المنافقون استقله فخلّفه فلحق علي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكى ذلك إليه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» يريد عليه‌السلام أنه استخلفه على المدينة مختارا لاستخلافه كما استخلف موسى عليه‌السلام هارون عليه‌السلام أيضا مختارا لاستخلافه ، ثم قد استخلف عليه‌السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالا سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلا على غيره ، ولا ولاية الأمر بعده ، كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين.

قال أبو محمد : وعمدة ما احتجت به الإمامية أن قالوا : لا بد من أن يكون إمام معصوم ، عنده جميع علم الشريعة ، يرجع الناس إليه في أحكام الدين ، ليكونوا مما تعبدوا به على يقين.

قال أبو محمد : هذا لا شك فيه ، وذلك (١) معروف ببراهينه الواضحة ، وأعلامه المعجزة ، وآياته الباهرة ، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا تبيان دينه الذي ألزمناه إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كلامه وعهوده وما بلغ من كلام الله تعالى حجة نافذة معصومة من كل آفة ، إلى من بحضرته وإلى من كان في حياته غائبا عن حضرته ، وإلى كل من يأتي بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى يوم القيامة من جن وإنس.

قال الله عزوجل : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ)

__________________

ماجة في المقدمة باب ١١. وأحمد في المسند (١ / ١٧٠ ، ١٧٧ ، ١٧٩ ، ١٨٢ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ٣ / ٣٢).

(١) أي الإمام المعصوم.

١٣

[سورة الأعراف : ٣] فهذا نص ما قلنا ، وإبطال اتباع أحد دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة لينفذ الإمام عهود الله تعالى الواردة إلينا على من عنده فقط لا لأن يأتي الناس بما لا يشاءونه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجدنا عليا رضي الله عنه إذ دعي إلى التحاكم إلى القرآن أجاب ، وأخبر بأن التحاكم إلى القرآن حق فإن كان علي أصاب في ذلك فهو قولنا ، وإن كان أجاب إلى الباطل فهذه غير صفته رضي الله عنه ، ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجوز بحضرة الإمام لقال علي حينئذ كيف تطلبون تحكيم القرآن ، وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

فإن قالوا : إذ مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا بد من إمام يبلغ الدين. قلنا : هذا باطل ودعوى بلا برهان ، وقول لا دليل على صحته ، وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانه وتبليغه فقط ، سواء في ذلك من كان بحضرته ، ومن غاب عنه ، ومن جاء بعده ، إذ ليس في شخصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لم يتكلم بيان عن شيء من الدين فالمراد منه عليه‌السلام كلام باق أبدا مبلغ إلى كل من في الأرض ، وأيضا فلو كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبدا لا ننقض ذلك عليهم بمن كان غائبا عن حضرة الإمام في أقطار الأرض ، إذ لا سبيل إلى أن يشاهد الإمام جميع أهل الأرض الذين في المشرق والمغرب من فقير وضعيف وامرأة ومريض ومشغول بمعاشه الذي يضيع إن أغفله ، فلا بد من التبليغ ، فإذ لا بد من التبليغ عن الإمام فالتبليغ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بالاتباع من التبليغ عمن هو دونه ، وهذا ما لا انفكاك لهم منه.

قال أبو محمد : لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ما أمروا قط في غير منازل سكناهم ، ولا حكموا على قرية فما فوقها بحكم ، فما الحاجة إليهم ..؟ لا سيما مذ مائة عام وثمانين عاما فإنهم يدعون إماما ضالة لم يخلق كعنقاء مغرب ، وهم أولو فحش ، وقحة ، وبهتان ، ودعوى كاذبة لا يعجز عن مثلها أحد ، وأيضا فطن الإمام المعصوم لا يعرف أنه معصوم إلا بمعجزة ظاهرة عليه ، أو بنص ينقله من يوجب نقله العلم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على كل إمام بعينه ، واسمه ، ونسبه ، وإلا فهي دعوى لا يعجز عن مثلها أحد لنفسه أو لمن شاء ، ولقد يلزم كل ذي عقل سليم أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الجهل ، الغث ، البارد ، السخيف ، الذي ترتفع عقول الصبيان عنه ، وما توفيقنا إلا بالله عزوجل.

وبرهان آخر ضروري وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين ، فما منهم أحد أشار إلى

١٤

علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص عليه ، ولا ادعى ذلك عليّ قط لا في ذلك الوقت ولا بعده ، ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت ، ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم ، والنيات ، والأنساب ، أكثرهم موتور من صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهد عهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، وما وجدنا قط رواية عن أحد في النص المدعى إلا رواية واهية عن مجهولين إلى مجهول يكنى أبا الحمراء لا يعرف من هو في الخلق. ووجدنا عليا رضي الله عنه قد توقف عن البيعة لأبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر ، فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعا ، مراجعا ، غير مكره ، فكيف حل لعلي رضي الله عنه عند هؤلاء النوكى (١) أن يبايع طائعا رجلا إما كافرا ، وإما فاسقا جاحدا ، لنص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعينه على أمره ويجالسه في مجالسه ويواليه إلى أن مات ..؟. ثم بايع بعده عمر بن الخطاب مبادرا غير متردد ساعة فما فوقها غير مكره بل طائعا ، وصحبه وأعانه على أمره وأنكحه من ابنته فاطمة رضي الله عنها ، ثم قبل إدخاله في الشورى أحد ستة رجال ، فكيف حل لعلي عند هؤلاء الجهال أن يشارك بنفسه في شورى ضالة ، وكفر ، ويغر الأمة هذا الغرور؟ وهذا الأمر أدى أبا كامل إلى تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لأنه في زعمه أعان الكفار على كفرهم ، وأيديهم على كتمان الديانة ، وعلى ما لا يتم الدين إلا به.

قال أبو محمد : ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت ، وهو الأسد شجاعة ، قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرات ثم يوم الجمل ، وصفين ، فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين؟ وما الذي ألف بين بصائر الناس على كتمان حق علي ، ومنعه ما هو أحق به مذ مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه؟ ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه ، إذ دعا إلى نفسه فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة ، وبذلوا دماءهم دونه ، ورأوه حينئذ صاحب الأمر ، والأولى بالحق ممن نازعه؟ فما الذي منعه ومنعهم من الكلام وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه ، وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام أو يوم السقيفة؟ وأظرف من هذا كله بقاؤه ممسكا عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر ، فما سألها ولا أجبر عليها ولا كلفها ، وهو متصرف بينهم في أموره

__________________

(١) النوكى : جمع أنوك ، وهو الأحمق (المعجم الوسيط : ص ٩٦٤).

١٥

فلو لا أنه رأى الحق فيها واستدارك أمره فبايع طالبا حظ نفسه في دينه راجعا إلى الحق لما بايع.

فإن قالت الروافض : إنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع إلى الباطل فهذا هو الباطل حقا ، لا ما فعل علي رضي الله عنه ، ثم ولى علي رضي الله عنه فما غير حكما من أحكام أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ولا أبطل عهدا من عهودهم ، ولو كان ذلك عنده باطلا لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه ، وقد ارتفعت التقية عنه. وأيضا فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة رضي الله عنه ، ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عن جميعهم ، وقعد علي رضي الله عنه في بيته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ليس معه أحد غير الزبير بن العوام ثم استبان الحق للزبير رضي الله عنه فبايع سريعا ، وبقي علي وحده لا يرقب عليه ولا يمنع من لقاء الناس ولا يمنع أحد من لقائه ، فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر من أن يكون عن غلبة أو عن ظهور حقه إليهم فأوجب ذلك الانقياد لبيعته ، أو فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى ولا سبيل إلى قسم رابع بوجه من الوجوه.

فإن قالوا بايعوه بغلبة كذبوا لأنه لم يكن هنالك قتال ولا تضارب ولا سباب ولا تهديد ولا وقت طويل ينفع للوعيد ولا سلاح مأخوذ ، ومحال أن يترك أزيد من ألفي فارس أمجاد أبطال كلهم عشيرة واحدة ، قد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه ، وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم موطنين على الموت متعرضين مع ذلك لحرب قيصر والروم بمؤتة وغيرها ولكسرى والفرس تنصرهم من يخاطبهم يدعو لهم ويدعوه إلى اتباعه وأن يكون كأحد من بين يديه ، هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب فمن المحال الممتنع أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا معه فقط ، لا يرجع إلى عشيرة كثيرة ، ولا إلى موال ، ولا إلى عصبة ولا مال ، فرجعوا إليه ، وهو عندهم مبطل ، وبايعوه بلا تردد ولا تطويل ، وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم ، وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم ، وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا خوف يضطرهم إلى ذلك ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه ، بل فيما فيه ترك العز والدنيا والرئاسة وتسليم كل ذلك إلى رجل أجنبي لا عشيرة له ولا منعة ، ولا حاجب ولا حرس على بابه ، ولا قصر ممتنع فيه ، ولا موالي ولا مال ، فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في الشجاعة ومعه جماعة بني هاشم ، وبني المطلب ، من قتل هذا الشيخ لا دافع دونه ، لو كان عنده ظالما وعن منعه وزجره؟ بل قد علم والله علي رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق وأن من خالفه على الباطل ،

١٦

فأذعن للحق بعد أن عرضت له فيه كبوة كذلك الانصار رضي الله عنهم ، وإذ قد بطل كل هذا فلم يبق إلا أن عليا والأنصار رضي الله عنهم إما رجعوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا لاجتهاد كاجتهادهم ، ولا لظن كظنونهم ، فإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار وزالت الرئاسة عنهم فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إمامة علي؟ ومن المحال أن تتفق آراؤهم كلهم على معونة من ظلمهم وغصبهم حقهم ، إلا أن تدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد ، فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة ثم لو أمكنت لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان ، وأن الناس كلهم نسوه ، وفي هذا إبطال الحقائق كلها. وأيضا فإن كان جميع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه أو اتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فمن أين وقع إلى الروافض أمره ومن بلغه إليهم ..؟

وكل هذا هوس ومحال ، فبطل أمر النص على عليّ رضي الله عنه بيقين لا إشكال فيه ، والحمد لله رب العالمين.

فإن قال قائل : إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب من بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة فلذلك انحرفوا عنه.

قيل لهم : هذا تمويه ضعيف كاذب ، لأنه إن ساغ لكم ذلك في بني عبد شمس وبني مخزوم ، وبني عبد الدار ، وبني عامر ، لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلا أو رجالا ، فقتل من بني عامر بن لؤي رجلا واحدا وهو عمرو بن عبد ود ، وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالا ، وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عتبة والعاص بن سعيد بن العاص بلا شك وشارك في قتل عتبة بن ربيعة ، وقيل قتل عقبة بن أبي معيط وقيل قتله غيره وهو عاصم بن ثابت الأنصاري ولا مزيد فقد علم كل من له أقل علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل ولا لأحد منها يوم السقيفة حل ولا عقد ، ولا رأي ولا أمر ، اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلا إلى علي في ذلك الوقت عصبيا للقرابة لا تدينا ، وكان ابنه يزيد وخالد بن سعيد بن العاص والحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي مائلين إلى الأنصار تدينا ، والأنصار قتلوا أبا جهل بن هشام أخاه ، وقد كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي حين قصة عثمان وبعدها حتى قتله معاوية على ذلك. فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة أو من بني عدي بن كعب ، حتى يظن أهل القحة أنهما حقدا عليه؟

١٧

ثم أخبرونا من قتل من الأنصار؟ أو من جرح منهم؟ أو من أوذي منهم؟ ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها بعضهم متقدم وبعضهم مساو له وبعضهم متأخر عنه؟ فأي حقد كان له في قلوب الأنصار حتى يتفقوا كلهم على جحد النص عليه وعلى إبطال حقه وعلى ترك ذكر اسمه جملة وإيثار سعد بن عبادة عليه ثم على إيثار أبي بكر وعمر عليه والمسارعة إلى بيعتهما بالخلافة دونه وهو معهم وبين أظهرهم يرونه غدوا وعشيا لا يحول بينهم وبينه أحد؟ ثم أخبرونا من قتل علي من أقارب أولاد المهاجرين من العرب من مضر ، وربيعة ، واليمن ، وقضاعة ، حتى يصفقوا كلهم على كراهية ولايته ، ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه؟

إن هذه عجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلا.

ولقد كان لطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، من القتل في المشركين كالذي كان لعلي ، فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له دونهم لو كان للروافض حياء أو عقل؟

ولقد كان لأبي بكر رحمه‌الله ورضي عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي ، فما منعهم ذلك من بيعته وهو أسوأ الناس أثرا عند كفارهم.

ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من مغالبة كفار قريش وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي رضي الله عنه ، فليت شعري ما الذي أوجب أن ينسى آثار هؤلاء كلهم ، ويعادوا عليا من بينهم كلهم ..؟ لو لا قلة حياء الروافض وصفاقة وجوههم ، حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورافع بن خديج الأنصاري ، ومحمد بن مسلمة الأنصاري وزيد بن ثابت الأنصاري وأبي هريرة وأبي الدرداء وجماعة غير هؤلاء المهاجرين أنهم لم يبايعوا عليا إذ ولي الخلافة ثم بايعوا معاوية ويزيد ابنه من أدركه منهم وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك.

قال أبو محمد : حمق الرافضة ، وشدة ظلمة جهلهم ، وقلة حيائهم ، هو رهم في الدمار ، والبوار ، والعار ، والنار وقلة المبالاة بالفضائح ، وليت شعري أي حماسة وأي كلمة حسنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو أحد منهم؟ وإنما كان هؤلاء ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة فلما أصفق المسلمون على ما أصفقوا عليه كائنا من كان دخلوا في الجماعة ، وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير رضي الله عنه ومروان فإنهم قعدوا عنهما فلما انفرد عبد الملك بن مروان بايعه من أدركه منهم لا رضا عنه ولا عداوة لابن الزبير ولا تفضيلا لعبد الملك على ابن الزبير ، لكن لما ذكرنا.

١٨

وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية ولا مزيد فلاحت نوكة هؤلاء المجانين ، والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : وهذا زيد بن حارثة قتل يوم بدر حنظلة بن أبي سفيان وهذا الزبير بن العوام قتل يوم بدر أيضا عبيدة بن سعيد بن العاص وهذا عمر بن الخطاب قتل يومئذ العاص بن هشام بن المغيرة فهلا عاداهم أهل هؤلاء المقتولين ، وما الذي خص عليا بعداوة أولياء من قتل دون سائر من ذكرنا لو لا جنون الرافضة وعدم الحياء من وجوههم.

ثم لو كان ما ذكروه حقا فما الذي كان دعا عمر إلى إدخاله في الشورى مع من أدخله فيها ، ولو أخرجه منها كما أخرج سعيد بن زيد ، أو قصد إلى رجل غيره فولاه ما اعترض عليه أحد في ذلك بكلمة ، فصح ضرورة بكل ما ذكرنا أن القوم أنزلوه منزلته غير عالين ولا مقصرين رضي الله عنهم أجمعين ، وأنهم قدموا الأحق ، فالأحق ، والأفضل ، فالأفضل وساووه بنظرائه منهم. ثم أوضح برهان وأبين بيان في بطلان أكاذيب الرافضة أن عليا رضي الله عنه إذ دعا إلى نفسه بعد قتل عثمان رضي الله عنه سارعت طوائف من المهاجرين والأنصار إلى بيعته ، فهل ذكر أحد من الناس أن أحدا منهم اعتذر إليه مما سلف من بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان؟ أو هل تاب أحد منهم من جحدهم للنص على إمامته ، أو قال أحد منهم : لقد ذكرت هذا النص الذي كنت أنسيته في أمر هذا الرجل؟ إنّ عقولا خفي عليها هذا الظاهر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أن يهديها. ثم مات عمر رضي الله عنه وترك الأمر شورى بين ستة من الصحابة ، عليّ أحدهم ، ولم يكن في تلك الأيام الثلاثة سلطان يخاف ولا رئيس يتوقى ولا مخافة من أحد ، ولا جند معد للتغلب ، افترى لو كان لعلي رضي الله عنه حق ظاهر يختص به من نص عليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من فضل بائن على من معه ينفرد به عنهم أما كان الواجب على علي أن يقول أيّها الناس كم هذا الظلم لي وكم هذا الكتمان لحقّي؟ وكم هذا الجحد لنص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..؟ وكم هذا الإعراض عن فضلي البائن على هؤلاء المقرونين لي؟ فإذ لم يفعل لا ندري لما ذا ..؟ أما كان في بني هاشم أحد له دين يقول هذا الكلام ..؟ إما العباس عمه وجميع العاملين على توقيره وتعظيمه حتى إن عمر توسل به إلى الله تعالى بحضرة الناس في الاستسقاء. وإما أحد بنيه ، وإما عقيل أخوه ، وإما أحد بني جعفر أخيه ، أو غيرهم. فإذ لم يكن في بني هاشم أحد يتقي الله عزوجل ، ولا يأخذه في قول الحق مداهنة ، أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين ، والأنصار وغيرهم واحد يقول : يا معشر المسلمين قد زالت الرقبة وهذا عليّ له حق واجب بالنص بائن ظاهر لا يمترى فيه فبايعوه. فأمره بين أن

١٩

إصفاق جميع الأمة أولها عن آخرها من برقة إلى أول خراسان ، ومن الجزيرة إلى أقصى اليمن ، إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل ، واتفاقهم على ظلمه ومنعه من حقه ، وليس هناك شيء يخافونه لإحدى عجائب المحال الممتنع ، وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك ، إذ صار الحق حقه ، وقتلوا أنفسهم دونه ، فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال؟ ثم العجب إذ كان غيظهم عليه هذا الغيظ ، واتفاقهم على جحده حقه هذا الاتفاق ، كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه؟ أم كيف أكرموه وبروه وأدخلوه في الشورى ..؟

وقال هشام بن الحكم : كيف يحسن الظن بالصحابة أن لا يكتموا النصّ على عليّ وهم قد اقتتلوا وقتل بعضهم بعضا فهل يحسن بهم الظن في هذا؟

قال أبو محمد : لو علم الفاسق أن هذا القول منه أعظم حجة عليه لم ينطق بهذا السخف ، لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من قاتل حيث افترق الناس ، فكل ما لحق المقتتلين منهم من حسن الظن بهم أو من سوء الظن بهم فهو لاحق بعلي في قتاله ، ولا فرق بينه وبين سائر الصحابة في ذلك كله ـ وبالله تعالى التوفيق.

فإن خصّه متحكما كان كمن خص غيره منهم متحكما ولا فرق.

وأيضا فإن قتالهم رضي الله عنهم أوكد برهان على أنهم لم يغاروا على ما رأوه باطلا ، بل قاتل كل فريق منهم على ما رآه حقا ، ورضي بالموت دون الصبر على خلاف ما عنده ، وطائفة منهم قعدت إذ لم تر الحق في القتال فدل ذلك على أنه لو كان عندهم نص على عليّ أو عند واحد منهم لأظهروه ، أو لأظهره كما أظهروا ما رأوا أن يبذلوا أنفسهم للقتال والموت دونه.

فإن قالوا : قد أقررتم أنه لا بد من إمام فبأي شيء يعرف الإمام ..؟ لا سيما وأنتم خاصة معشر أهل الظاهر الذين لا يقولون إلا بنص قرآن ، أو خبر صحيح ، وهذا أيضا مما سألنا عنه أصحاب القياس والرأي.

قال أبو محمد : فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على وجوب الإمامة ، وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة ، وافترض علينا بنص قوله الطّاعة للقرشي إماما واحدا لا ينازع إذا قادنا بكتاب الله عزوجل.

فصح من هذه النصوص النص على صفة الإمام الواجب طاعته ، كما صح النص على صفة الشهود في الأحكام ، وصفة المساكين والفقراء الواجب لهم الزكاة ، وصفة من يؤم في الصلاة ، وصفة من يجوز نكاحها من النساء ، وكذلك سائر الشريعة كلها ،

٢٠