المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-31-0
الصفحات: ٤٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الّذي هدانا إلى الصراط المستقيم ، وعرّفنا المستحقين للتقديم ، بما أنزله في الذكر الحكيم ، على نبيّه الكريم ، اللهمّ! فصلّ عليه وعلى أوصيائه الحفّاظ لشرعه القويم.

وبعد : فلسنا ببالغين من تعريفك ـ أيها القارئ الكريم ـ بالمؤلّف سماحة آية الله العظمى الشيخ علي الصافي الگلبايگاني (أورف الله ظلّه) مبلغ تعريف هذا الكتاب به ، وحسبك منه ـ وأنت تقرؤه في هذا الكتاب ـ أن تعرف به بحرا مواجا ، ويمّا عجّاجا ، واستاذا ماهرا ، وعمادا كابرا ، من كبراء الدّين وعظماء المجتهدين.

نشأ في بيت يرتع في رياض العلم والأخلاق ، فلمّا بلغ مبلغ الشباب الغض اصطلحت عليه عوامل الخير ، وجعلت منه صورة للفضيلة ، ثمّ كان لهذه الصورة التي انتزعها من بيته وبيئته وتربيته أثر واضح في نشأته العلمية ، ثمّ في مكانته الدينية بعدئذ ، فلم يكد يخطو الخطوة الاولى في حياته العلمية حتّى دلّت عليه كفايته ، فعكف عليه طلّابه وتلامذته ، وكان له في منتديات العلم : صوت يدوي ، وشخص يومأ إليه بالبنان.

وكان غالب تلمّذه واشتغاله في المعقول والمنقول ، والفروع والأصول ، على سيّد الفقهاء والمجتهدين الإمام البروجردي قدس‌سره الذي انتهت إليه زعامة المذهب الإمامي بوقته ، واستاذ الاصوليّين النبلاء الفحول ، بل الجامع بين المعقول والمنقول ، المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيّد محمّد الحجة الكوه كمري قدس‌سره ، وغيرهما من

٥

أساتذة الفقه والكلام ، وجهابذة المعرفة بالأحكام ، فصار كأنّه المجسّم من الأفكار الدقيقة ، والمنظّم من الأنظار العميقة ، لا زالت رياض الفضل بنضارة علمه ممرعة ، وحياض الشرع من غزارة فضله مترعة.

وهذا الكتاب الّذي بين يديك ـ أيها القارئ الكريم ـ من تقريرات بحوث استاذه الحجّة الكوه كمري ضبطه من مجلسه المنيف وهو حينئذ ابن احدى وعشرين سنة.

ثمّ إنّ لسماحته من التصنيفات الرائقة ، والتأليفات الفائقة : شرح على «العروة الوثقى» للزعيم الديني الكبير آية الله العظمى السيّد محمّد كاظم اليزدي الطباطبائي قدس‌سره ، على أكمل تفصيل ، وأجود تدليل ، يطفح العلم من جوانبه ، وتتدفق الفضيلة بين دفتيه ، فإذا أسمت فيه سرح اللحظ ، فلا تقف إلّا على خزائن من العلم موصدة أبوابها ، أو مخابئ ورقائق لم يهتد إليها أيّ المعي غير مؤلّفه المبجّل ، ضع يدك على أيّ سفر قيّم من نفثات يراعه تجده حافلا ببرهان هذه الدعوى ، وكافلا لإثباتها بالبيّنات.

وإذ تقوم مؤسّستنا بطبع هذا السفر القيّم ، ترجوا من الله سبحانه التوفيق لنشر الكتب الإسلامية ، وبثّ المعارف الإلهيّة ، وتوعية الجيل الجديد ، وتروية النفوس الظمآنة بالمفاهيم العذبة النقيّة المأخوذة من العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم أجمعين) ، كما وتشكر سماحة آية الله العظمى الشيخ عليّ الصافي الگلبايگاني (دام ظلّه العالي) على تفضّله بالموافقة على طبعه ، لتؤدّي بذلك خدمة كبرى لجمهور الباحثين ، وعلماء المذاهب الاخرى الّذين يفتقرون إلى الغوص في ثنايا المذهب الإمامي ، والوقوف على حقائقه وأسانيده ، وما يتّفق وما يختلف فيه.

سائلين المولى جلّ وعلا أن يمدّ في عمره الشريف المبارك لخدمة العلم والدين ، إنّه سميع مجيب.

مؤسسة السيّدة المعصومة عليها‌السلام

٨ / شوال المعظم / ١٤١٩ ه‍. ق

٦

لمحة من حياة

آية الله العظمى السيد محمد الحجة الكوه كمره اى (رحمه‌الله)

نشأته وتحصيله العلمي :

ولد المرحوم آية الله الحجة في شهر شعبان عام ١٣١٠ ه‍ ق في مدينة تبريز في اسرة اشتهرت بالعلم والفضيلة.

أكمل دراسة المقدمات والعلوم الادبية على يد علماء تبريز بما فيهم أبوه الذي كان من كبار علماء تبريز.

وما أن بلغ العشرين من عمره حتى هاجر الى النجف الأشرف لإكمال تحصيله العلمي وذلك في عام ١٣٣٠

وفى النجف الأشرف حضر درس الفقه عند آية الله السيد محمد كاظم اليزدي ، وفي الرجال والحديث أفاد من المرحوم آية الله السيد ابو تراب الخوانساري ، وشارك في دروس كبار العلماء من أمثال المرحوم شيخ الشريعة الأصفهاني ، والمرحوم الميرزا النائيني ، والمرحوم السيد محمد الفيروزآبادي ، والمرحوم آقا ضياء الدين العراقي ، والمرحوم الشيخ على القوجاني ، والمرحوم الشيخ علي الكنابادي ، واستطاع ان يحصل على درجة الاجتهاد خلال فترة وجيزة.

وفي هذه الأثناء مرض السيد حجت وأثر ذلك اضطر الى ترك النجف بناء على

٧

توصية جده. فرجع الى تبريز عام ١٣٣٥ ه‍ ق.

وبعد وفاة استاذيه المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني شد الرحال الى النجف ثانية ، وحضر دروس كبار العلماء آنذاك.

ولكن ما هي إلّا فترة حتى عاوده المرض ثانية مما اضطره الى ترك النجف الأشرف.

المجيء الى قم :

لم تسفر المعالجات المتكررة التي خضع لها السيد حجت عن تحسن في وضعه الصحي ، فآثر الرجوع الى ايران.

وفي عام ١٣٤٩ استقر به المقام في قم. وهناك شرع بتدريس الخارج في الفقه والأصول وتخرج على يديه أعداد كبيرة من طلبة العلوم الدينية ، والى جانب ذلك واظب على الحضور الرمزي في درس المرحوم آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم ، احتراما للشيخ الحائري.

وكان يحظى باحترام وتقدير الشيخ عبد الكريم الحائري بدرجة أن الأخير أوكل اليه إمامة الجماعة في حرم السيد المعصومية عليه‌السلام والتي كان الشيخ يقيمها بنفسه. وعند ما حضرته الوفاة جعل السيد حجت احد وصييه.

التصدي :

بعد وفاة مؤسس الحوزة العلمية بقم انبرى السيد الحجة (بمعية اثنين من زملائه) الى تحمل مهام الحوزة الجديدة وإدارة شئونها. وانطلاقا من موقع المسئولية رأى لزاما على نفسه ان يتصدى للمشاريع والمخططات المناهضة للشرع المقدس ولمصالح الاسلام والمسلمين ، والتي كان يقوم بها النظام الحاكم آنذاك ، ويحذر الجميع ويدق أجراس الخطر تحسبا لما يجري من مؤامرات.

وكنموذج من المواقف التي سجلها هذا السيد نذكر نص التلغراف الذي أرسله

٨

الى المرحوم آية الله البهبهانى في طهران ، لمقاومة قانون رضا خان بمنع الحجاب الشرعي للنساء.

بسم الله الرحمن الرحيم

اعرض لسماحتكم انه من المناسب جدا ان تقوم حضرتك بتنبيه أولي الامر الى انه من المستحيل في البلاد الاسلامية تنفيذ وتطبيق أمر من الأمور مخالف قطعيا للشريعة المقدسة. وأن إصرارهم على تطبيق أمر من هذا القبيل سيؤدي الى مفاسد كبيرة.

واخيرا نشكر لكم مساعيكم الجميلة.

الاحقر محمد الحسيني الكوه كمري

مشايخه في الاجتهاد والرواية :

حاز المرحوم آية الله حجت الاجازة في الاجتهاد والفتوى من قبل كبار مراجع الدين وعلى راسهم : المرحوم شيخ الشريعة الاصفهاني (ت ١٣٣٩ ه‍. ق) والشيخ الميرزا النائيني (ت ١٣٥٥ ه‍ ق) وآقا ضياء الدين العراقي (ت ١٣٦١) والسيد محمد الفيروزآبادي (ت ١٣٤٥) وآخرون.

كما حصل على الاجازة في الرواية من قبل كل من المرحوم شيخ الشريعة والسيد حسن الصدر والشيخ عبد الله المامقاني (ت ١٣٥١) والسيد ابو تراب الخوانساري (ت ١٣٤٦ ه‍ ق) والشيخ محمد باقر البيرجندي (ت ١٣٥٢) ووالده (ت ١٣٦٠ ه‍ ق)

تلامذته :

وله تلاميذ كثيرة بينهم الأعلام وليس هنا مجال ذكرهم.

تأليفاته :

خلف المرحوم السيد حجت تراثا قيما وآثارا جليله تعبر عن رفعة مقامه

٩

العلمي ونبوغه الفكري ، نذكر هنا بعض آثاره :

١ ـ رسالة الاستصحاب

٢ ـ رسالة البيع

٣ ـ رسالة تنقيح المطالب المبهمة في عمل الصور المجسمة

٤ ـ جامع الأحاديث أو مجمع الاحاديث.

٥ ـ حاشية الكفاية

٦ ـ رسالة الصلاة

٧ ـ لوامع الانوار الغروية في مراسلات الآثار النبوية.

٨ ـ مستدرك المستدرك في استدراك ما فات عن صاحب المستدرك.

٩ ـ رسالة الوقت. (١)

مشاريعه الخالدة :

من جملة المشاريع التي قام بها المرحوم حجت هي بناء مدرسة الحجتية (٢) ومسجد ومكتبة الحجتية (٣).

حبه للمطالعة :

عرف عن السيد حجت ولعه الكبير في المطالعة الكتب العلمية والفقهية. فلم يكن يمل ولا يكل عن المطالعة ، وكان حبه للقراءة بدرجة انه لم يترك القراءة لعدة ساعات في كل ليالي عمره الشريف. وكان من دأبه ان يعيد قراءته للكتب الدراسية الحوزوية (من المقدمات وحتى الكفاية) كل ثلاث او اربع سنوات بدقة.

__________________

(١) ـ ريحانة الادب ، ج ٢ ، ص ٢٥ ـ ٢٤.

(٢) ـ هذه المدرسة بمساحة ١٣ الف متر مربع وتشتمل على ١٢٦ غرفة.

(٣) ـ اسست هذه المكتبة ص حياة السيد حجت وتضم في الوقت الحاضر اكثر من عشرة آلاف كتابا نفيس في شتى مجالات المعرفة ويرتادها الباحثون والطلبة.

١٠

بعض مزاياه وصفاته :

من جملة مزاياه الشخصية أنه كان لا يحبّ الظهور والبروز ، بل يتهرب من ذلك وكان يوصي أصدقاءه ومريديه بعدم الترويج له ، ولم يكن يسمح للمجلات والصحف أن تطبع صوره ويقول للخطباء ، وأصحاب المنابر «انا لا ارضى ان تذكروا اسمي على المنابر».

ومن مزاياه ايضا انه كان قد زين علمه بالحلم ، وأنه كان قوي الارادة.

وهذه القصة عن المرحوم حجت تعبر عن قوة إرادته ومدى قدرته في ترك بعض العادات التي درج عليها فيقول :

كان المرحوم آية الله حجت أعلى مقامه يمارس التدخين بشكل لم أر له نظيرا في بعض المرات كان يدخن السيجارة تلو السيجارة بلا انقطاع ، وحتى عند ما يتوقف عن التدخين فان توقفه يكون لمدة قصيرة جدا ، اذ سرعان ما يشعل سيجارة اخرى لاستئناف التدخين مرة اخرى.

وعند ما يمرض فانه كان يمضى اكثر اوقاته بالتدخين. وفي مرضه الذي نقل على اثره الى طهران للعلاج ، قال له الاطباء في طهران : أنت مصابون بمرض رئوي ولذا يجب ان تترك التدخين. فاجابهم المرحوم مازحا : انا اريد هذا الصدر لتدخين السيجارة ، فاذا لم تكن هناك سيجارة فما ذا اعمل بالصدر؟.

قالوا له : على كل حال التدخين يشكل خطرا عليك ويضربك.

قال : هو مضر؟ قالوا : نعم هو كذلك.

قال : اذن سوف لا أدخن (١).

كلمة واحدة قالها كانت كافية لترك هذا العمل. كلمة واحدة وارادة صيّرت هذا الرجل مهاجرا هجر العادة.

__________________

(١) ـ گفتارهاى معنوى ، ص ٢٥٥ ـ مقالة الهجرة والجهاد [بالفارسية].

١١

ومن خصائصه حبه الوافر وارتباطه الشديد بسيد الشهداء ابي عبد الله الحسين عليه‌السلام.

وفاته :

في اليوم الاخير من أيام مرضه استخار الله في كسر خاتمه فخرجت الآية : «له دعوة الحق» (١) تبشره بلقاه الله وقد كتب على قبره :

«وبعد ما استخار بكلام الحق في كسر خاتمه واجيب بقوله تعالى «له دعوة الحق» امر به ثم تناول التربة الحسينية وقال : آخر زادي من الدنيا التربة فلبى دعوة ربه ظهر يوم الاثنين ثالث جمادي الاولى من سنة ١٣٧٢ ه‍. ق).

نعم في ذلك التاريخ رحل السيد حجت الرفيق الاعلى عن عمر ناهز الثانية والستين. وبرحيله عم المصاب ارجاء العلم والفضيلة بحيث عند ما سمع المرحوم آية الله البروجردي نبأ وفاته قال : انكسر ظهري.

وبمجرد انتشار نبأ وفاة مثال العلم والتقوى السيد حجت ، اعلن العزاء العام في كثير من مدن ايران ، وشيع الجثمان الطاهر لهذا العالم الكبير تشييعا مهيبا ومنقطع النظير ، وصلى على آية الله البروجردي (ره) ووري الثرى في المدرسة الحجتية.

تغمده الله برحمته الواسعة وحشره مع أجداده الطاهرين

__________________

(١) ـ سورة الرعد آية ١٤.

١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ، واللعن على أعدائهم من الآن الى يوم الدين.

وبعد فيقول العبد علي الصافي الگلپايگاني ابن العلّامة آية الله الآخوند ملّا محمّد جواد الصافي الگلپايگاني دامت بركاته : إنّ هذه السطور في اصول الفقه نبذة ممّا استفدته من تحقيقات سيدنا الاستاذ حجة الاسلام وآية الله العظمى السيد محمد حجّت دامت بركاته في درسه بقدر وسعي ، وإلّا فإنّي لم أكن قادرا على ضبط تمام تحقيقاته ، ولكن مع ذلك نكتب شمّة منها ، فأنا بحمد الله قادر على ضبط لبّ مطالبه وأصل مقاصده ، وعلى الله الاتكال والاعتماد ، والحمد لله أوّلا وآخرا.

واعلم أنّ الكلام يقع في طي مقدمة ومقاصد.

أمّا المقدمة ففي بيان جهات :

١٣
١٤

المقدمة

١٥
١٦

الجهة الاولى :

أنّ علم الاصول علم مستقل أصلا ، أو لا يكون علما مستقلا ،

في أنّ علم الاصول علم مستقل أصلا ، أو لا يكون علما مستقلا ، بل لا يكون إلّا جمع متفرقات غير مربوط كل من مسائله بالآخر ، قد جمعت المتفرقات لأجل توقّف الاستنباط بها مع عدم كونها علما خاصا في مقابل العلوم.

قد يقال بعدم كون علم الاصول علما مستقلا في مقابل سائر العلوم يعني فنّا في قبال سائر الفنون ؛ لأنّ مرادنا من العلم في تعبيراتنا هنا هو العلم بمعنى الفن ووجه عدم كونه علما وفنا مستقلا هو أنّ المسائل المختلفة والمتشتتة لا تصير علما واحدا ومن مسائل علم واحد إلّا بعد كون الوحدة ذاتية بين هذه المسائل ، ولا تكفي الوحدة الاعتبارية ؛ لأنّه لو كانت الوحدة الاعتبارية كافية في صيرورة مسائل مختلفة علما واحدا فيمكن أن يعتبر كلّ أحد بين مسألتين أو مسائل حيث وحدة ويسمي هاتين المسألتين أو تلك المسائل علما واحدا ، ولازم ذلك تكثّر العلوم باعتبار ذلك ، والحال أنّ ذلك مستهجن ولا يمكن الالتزام به ، وكيف يحسب الناس العلم الذي جعله الشخص بنظره باعتبار الوحدة التي اعتبرها هذا الشخص علما ، إيجاد الوحدة الاعتبارية بين مسائل لا تصيّر هذه المسائل علما على حدة ، بل لا بدّ من وحدة ذاتية ، وحيث اعتبر في صيرورة مسائل مختلفة علما مستقلا كون وحدة

١٧

ذاتية بين هذه المسائل فيقال بأنّ في مسائل اصول الفقه حيث لم تكن هذه الوحدة ـ أعني الوحدة الذاتية ـ موجودة فلم يكن علم الأصول علما مستقلا وفنّا خاصا ؛ لأنّك ترى أنّ مسائله مختلفة ، فبعضها من النحو ، وبعضها من المعقول ، وغير ذلك ممّا لم يكن بينها وحدة ذاتية.

هذا حاصل ما يمكن أن يقال في عدم كون علم الاصول علما مستقلا ، ولذا ترى أنّ بعضا من العلماء المتعرضين لمسائل الاصول تعرضوا لذكرها في مقدمة الفقه ولم يدونوها مستقلة ، كما ترى في معالم الاصول وكذلك معتبر المحقّق ، غاية الأمر أنّ بعضهم أيضا تعرّض لها مستقلة.

وأوّل من كتب في الاصول من العامّة هو محمد بن حسن الشيباني وأبو يوسف القاضي ، وهما من تلامذة أبي حنيفة ، فما قيل ـ والقائل السيوطي ـ بأنّ أوّل من صنّفه هو الشافعي ، وكان اسم كتابه حجّة الحجج لا وجه له ؛ لما قلنا من أنّ أوّل من دوّن هو الشيباني وأبو يوسف من العامّة وليس كتاب الشافعي مسمّى بحجّة الحجج ، بل كان اسمه الرسالة.

وأوّل من صنّف في الاصول من الامامية هو الشيخ المفيد وكتابه طبع ضمن كتاب كنز العرفان للكراجكي ، كما قال السيّد الاستاذ ، ويظهر ذلك من كلمات الشيخ هادي الطهراني.

إذا عرفت ذلك فنقول : أمّا ما قيل من عدم كفاية الوحدة الاعتبارية في صيرورة مسائل مختلفة علما واحدا مستقلا ففي محلّه. وأمّا كون بين مسائل الاصول وحدة حقيقية ذاتية حتى تكون من مسائل علم واحد ـ يعني من مسائل علم الاصول ـ أو عدم كون وحدة ذاتية بينها حتى لا يكون علم الاصول علما مستقلا فلا بدّ أوّلا من فهم الحيث الذي يجيء من ناحيته الوحدة الحقيقية ، أعني الوحدة الذاتية. وثانيا ندقق حتى نرى أنّ هذا الحيث الذي يأتي من قبله الوحدة الذاتية يكون في مسائل

١٨

اصول الفقه حتى يكون علما واحدا ، أو لا يكون حتى لا يكون علما واحدا مستقلا ، فنقول :

أمّا الكلام في ما يمكن أن يأتي من قبله الوحدة فهو لا يكون خارجا عن أحد الامور الثلاثة فهي إمّا موضوعات المسائل ، وإمّا المحمولات ، وإمّا الأغراض.

ولا يخفى عليك أنّ المراد بالغرض في المقام يعني في مقام تمايز العلوم هو الأثر المترتّب على الموضوعات والمحمولات ذاتا لا الغرض المدوّن ؛ لأنّ هذا ليس مورد الكلام ، بل مورد الكلام ومراد من يقول بكون تمايز العلوم بالأغراض وكذا من أراد ذلك هو الأغراض المترتّبة بنفسها يعني الأثر المترتّب على الموضوعات والمحمولات ذاتا مع قطع النظر عن أنّ المدوّن هو الغرض ، فمن توهّم بأنّ المراد من الغرض هو الغرض الذي كان في نظر المدوّن وبعبارة اخرى العلّة الغائية لا مجال لتوهمه وليس في محلّه ؛ لأنّ للموضوعات والمحمولات أثر وغرض ذاتا مع قطع النظر عن الغرض الذي دوّن المدوّن لأجله العلم ، فافهم.

أمّا المحمولات فليست الوجه الذي به يمتاز بعض العلوم عن البعض ، فليست الحيث الذي يجيء من ناحيته وحدة ذاتية ، وإلّا فيصير كلّ مسألة علما على حدة باختلاف محمولاتها فيما كان المحمول في كلّ مسألة مختلفا مع محمول مسألة اخرى ، أو يلزم كون كلّ باب علما لكون محموله غير محمول باب آخر ، مثلا يصير علم الفقه علوما ؛ لأنّ محمول بعض مسائله الوجوب ، ومحمول بعض مسائله الحرمة ، وبعضها الاستحباب ، وبعضها الكراهة وبعضها الاباحة. والارتكاز شاهد على عدم كون الأمر كذلك ، وأنّه ليس كل باب من علم علما على حدة ، وكيف يمكن الالتزام بكون علم النحو علوما باعتبار تعدّد المحمولات ، ففي بعضها يكون المحمول الرفع فتقول : الفاعل مرفوع ، وفي بعضها النصب فتقول : المفعول منصوب ، وفي بعضها الجر فتقول : المضاف إليه مجرور؟! وكذلك في علم الحكمة كيف تقول بكونه علمين باعتبار الجوهر

١٩

والعرض؟! وهكذا سائر العلوم.

وأمّا الأغراض فحيث إنّ الغرض مترتّب على الموضوعات والمحمولات ويكون في طول الموضوع فلا يكون به امتياز العلوم ولا يجيء من ناحيته الوحدة ؛ لأنّ مع الموضوعات لا تصل النوبة للغرض ، لتقدمها على الأغراض رتبة ، وخصوصا على مذاق المحقّق الخراساني رحمه‌الله من التزامه بأنّ وحدة الأثر كاشفة عن وحدة المؤثّر ، فلو فرض حيث وحدة في المسائل باعتبار الغرض فتكون هذه الوحدة في الموضوعات أيضا ؛ لأنّ الغرض مترتّب على هذه الموضوعات وأثرها ، فنكشف من وحدة الغرض ـ الذي هو الأثر ـ وحدة الموضوع. فنكشف من وحدة الغرض وحدة الموضوع فجعل التمايز من ناحية الأغراض والتزامه بعدم كون التمايز بالموضوعات لا وجه له.

نعم يفيد ذلك يعني جعل التمايز بالأغراض على هذا في مورد وهو ما اذا لم يكن الموضوع بيّنا ، فبوحدة الغرض بين المسائل يكشف كونها من مسائل علم واحد ، ولو لم يكشف الموضوع وكان رحمه‌الله تصدّى لإثبات كون التمايز بالأغراض لأجل ذلك أصلا ، فهو حيث لم يتمكّن من كشف موضوع معيّن لعلم الاصول فقال بأنّ تمايز العلوم كان بالأغراض ، فلو لم يكشف الموضوع يكون العلم ممتازا من غيره ، فعلم الأصول ممتاز عن غيره من العلوم باعتبار الغرض وهو استنباط الأحكام مثلا ، ولو لم يكن موضوعه معلوما فعدم معلومية موضوع العلم ليس مضرّا في امتياز العلم عن غيره من العلوم ، فعلم الاصول على هذا ممتاز من سائر العلوم باعتبار غرضه ، وإن لم يكن موضوعه مبينا كاملا ، فالتزامه رحمه‌الله في هذا المقام بذلك يعني بأن تمايز العلوم بالأغراض كان لأجل ما قلنا.

ثم إنّ ما قاله هذا المحقق رحمه‌الله من أنّ تمايز العلوم إن كان بالموضوعات فيلزم أن يكون كل باب بل كلّ مسألة من كلّ علم علما على حدة ، لاختلاف الموضوعات في

٢٠