تراثنا ـ العددان [ 85 و 86 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 85 و 86 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٤

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأطالوا المكث ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرج ، وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومشيت معه ، حتّى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمّ ظن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، حتّى دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يقوموا ، فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورجعت معه ، فإذا هم قد خرجوا ، فضرب بيني وبينه ستراً ، وأُنزل الحجاب» (١).

وروى بإسناده عن أنس بن مالك ، قال : «قال عمر بن الخطّاب : قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو حجبت عن أُمّهات المؤمنين ؛ فإنّه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فنزلت آية الحجاب» (٢).

وروى بإسناده عن عبـد الله ، قال : «أمر عمر نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحجاب ، فقالت زينب : يا بن الخطّاب ، إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله : (وإذَا سَألْتُـمُوهنَّ مَتاعاً فَسْألُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب)» (٣).

وروى بإسناده أنّ الإطعام كان في بيت أُمّ سلمة (٤).

وذكر الطبري في تفسير الآية : «وقوله : (إنَّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ). يقول : إنّ دخولكم بيوت النبيّ من غير أن يؤذن لكم ، وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له ، كان يؤذي النبيّ ، فيستحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد

__________________

(١) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٤٦.

(٢) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٤٦.

(٣) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٤٧.

(٤) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٤٧.

٦١

الفراغ من الطعام ، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيّته لذلك منكم ، والله لا يستحي من الحقّ أن يتبيّن لكم ، وإن استحيى نبيّكم فلم يبين لكم كراهية ذلك ؛ حياءً منكم.

(وَإذَا سَأَلْتُـمُوهنَّ مَتاعاً فَسْألُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب). يقول : وإذا سألتم أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب ؛ يقول : من وراء سـتر بينكم وبينهنّ ، ولا تدخلوا عليهنّ بيوتهنّ.

(ذلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ). يقول تعالى ذكره : سؤالكم إيّاهنّ المتاع ، إذا سألتموهنّ ذلك من وراء حجاب ، أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فيها ، التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء وفي صدور النساء من أمر الرجال ، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهنّ سبيل.

وقد قيل : إنّ سبب أمر الله النساء بالحجاب إنّما كان من أجل أنّ رجلا كان يأكل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل ، فكَرِه ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» (١) ..

وروى ذلك عن مجاهد.

وقال : «وقيل : نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ..

وروى بسنده عن عائشة ، قالت : إنّ أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كنّ يخرجن بالليل إذا تبرّزن إلى المناصـع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول : يا رسول الله! احجب نساءك. فلم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يفعل ، فخرجت

__________________

(١) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٤٨.

٦٢

سودة بنت زمعة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ؛ حرصاً أن ينزل الحجاب. قال : فأنزل الله الحجاب» (١).

وروى بسـنده عن عائشة : «قالت : خرجت سودة لحاجتها بعدما ضرب علينا الحجاب ، وكانت امرأة تفرع النساء طولا ، فأبصرها عمر ، فناداها : يا سودة! إنّك والله ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين ـ أو كيف تصنعين ـ؟

فانكفأت فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّه ليتعشّى ، فأخبرته بما كان وما قال لها وإنّ في يده لعِرقاً ، فأُوحي إليه ثمّ رفع عنه وإنّ العِرق لفي يده ، فقال : لقد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ» (٢) ..

وقد ذكر عدّة طرق لهذه الروايات ، وقد وردت في مصادرهم الحديثية الأُخرى.

وقبل أن نورد بقية أقوالهم ورواياتهم نستخلص جملة أُمور ـ ممّا سبق ـ تؤكّد أنّ هذه الواقعة لنزول الآية هي إحدى الدواهي التي أقدم عليها بعض كبار الصحابة ، ثمّ جعلت منقبة له ؛ تغطيةً للحدث ، كما سيتبيّن أنّ جملة آيات الحجاب واردة ردعاً لسلوكيات عدّة من الأسماء اللامعة في الصحابة :

الأمر الأوّل :

إنّ ما رووه في مصادرهم الحديثية بطرق متعدّدة أنّ : «زينب بنت

__________________

(١) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٤٩.

(٢) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٤٩.

٦٣

جحش قالت لعمر : إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله تعالى آية الحجاب» شاهد على أنّ نزول آية الحجاب كان قبل اعتراض عمر على نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ وذلك لأنّ نزول آية الحجاب ـ كما في أكثر مروياتهم ـ هو عند بناء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بزينب وعرسـه بها وإطعامه ، وقبل ذلك لم تكن زينب في بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كي تخاطب عمر بأنّ : «الوحي ينزل في بيوتنا» ، كما أنّ لحن قولها هو مواجهته على تطاوله على أمر حجاب نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

الأمر الثاني :

إنّ ما رووه من رواية عائشة أنّ : خروج سودة ليلاً لحاجتها بعدما ضرب عليهنّ الحجاب واعتراض عمر لها ، هو الآخر يشهد بأنّ نزول آية الحجاب لم يكن على وفق مراد عمر ؛ بل ظاهر ذلك هو : كون الآية نزلت رادعة لسلوك عمر مع نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما ستأتي شواهد أُخرى على ذلك.

الأمر الثالث :

إنّ انكفاء سودة بعد قول عمر لها ، وتشهيره بها ، ونزول الوحي بالإذن لنساء النبيّ أن يخرجن لحاجتهنّ ، شاهد على ردع الوحي لسلوك عمر مع نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنّه تشهير باسم زوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام الناس ، وبأعلى صوته ، وجهاره بمعرفته لها ، وأنّها لا تخفى عليه ، فكيف يمكن توجيه ذلك؟!

وهذا بحدّ ذاته شاهد على أنّ سلوكه لم يكن مناسباً ، وخصوصاً

٦٤

بعـدما نزل الوحـي بالإذن لهنّ في الخروج للحاجـة ليلاً على خلاف ما قام به من اعتراض سـودة في الطريق.

الأمر الرابع :

من ذلك يظهر اشتباه ما ادّعوه ؛ تبريراً لفعل وسلوك عمر مع سودة أنّه : «حرصاً على أن ينزل الحجاب ، فنزل الحجاب» (١) ..

وكيف يتصـوّر الحرص على العفاف والسـتر والغيرة على الحجاب مع ندائه بأعلى صـوته باسم سـودة في الطريق ، وجهاره أنّها لا تخفى عليه؟!

هل هذا إلاّ من التشهير بأُمّهات المؤمنين وهتك لخفارتهنّ؟!

بل لعلّ قوله تعالى : (يَا أيُّها الْنَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَلبِيبِهِنَّ ذلِكَ أدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (٢) ، والأمر بإدناء الجلباب لكي لا يؤذين في خروجهنّ هو الوحي الذي نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعـد.

الأمر الخامس :

إنّ ما رووه في سبب نزول الآية : إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تأذّى «من أجل أنّ رجلاً كان يأكل معه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل ، فكره ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» ، يتطابق مع الآيات السابقة الواردة في نفس المضمار من قوله تعالى : (يا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَد مِنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ

__________________

(١) زاد المسير ـ لابن الجوزي ـ ٦ / ٢١٢.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٩.

٦٥

تَخْضَعْنَ بالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (١) ؛ فالآية تُظهر أنّ نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كنّ في معرض التخاطب مع بعض الصحابة من فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ) ..

وهذه الفئة هي من أوائل الّذين اندسّوا في صفوف المسلمين في مكّة ، كما تشير إلى ذلك سورة المدّثّر (٢) ، وسورة المدّثّر رابع سورة نزلت على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوائل البعثة.

وهذه الفئة من الصحابة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ) قد كشف القرآن عن أنّهم سيتقلّدون السلطة وزمام الأُمور بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنّهم من أصحاب الصفوف الخلفية في الحروب والقتال ، كما في سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) (٣) ، وأنّهم ممّن صفتهم ـ كما في سورة الأحزاب (٤) ـ : نعامة

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٢.

(٢) سورة المُدّثّر ٧٤ : ٣١ : (ومَا جَعَلْنَا أصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلاَئِكَةً ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ويَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَاناً ولاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ والْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أرَادَ اللهُ بِهذَا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ).

(٣) سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) ٤٧ : ٢٠ ـ ٢٣ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يَنظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إن تَوَلَّيْتُمْ أن تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).

(٤) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٢ ـ ١٩ : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * ... أشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة حِدَاد أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأحْبَطَ اللهُ أعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

٦٦

في الحروب ، وجبن في القتال ، وذوي ألْسِنة حداد في السلم و...

وهذه الفئة هي التي ينهى الله تعالى نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخضوع معهم في القول والتخاطب ؛ ممّا يبيّن أنّ لهم عِشرة قريبة مع أُمّهات المؤمنين.

قال الطبري في تفسـيره : «(ومَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) ، يقول تعالى ذكره : وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله وما يصلح ذلك لكم.

(ولاَ أنْ تَنكِحُوا أزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَداً) يقول : وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ؛ لأنّهن أُمّهاتكم ، ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أُمّـه.

وذكر أنّ ذلك نزل في رجل كان يدخل قبل الحجاب ، قال : لئن مات محمّـد لأتزوّجن امرأة من نسائه. سمّاها ؛ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : (ومَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ولاَ أنْ تَنكِحُوا أزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَداً) ..

ثمّ ذكر رواية مسـندة في ذلك ، عن ابن زيد : قال : ربّما بلغ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الرجل يقول : لو أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) توفّي تزوّجت فلانة من بعده. قال : فكان ذلك يؤذي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فنزل القرآن : (ومَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ...). الآية» (٤٠) ..

الأمر السادس :

قد كنّى الطبري عن هذا الصحابي بـ : «الرجل» دون أن يصرّح

__________________

(١) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٥٠.

٦٧

باسـمه ، ولكنّه وصفه بـ : «كان يدخل قبل الحجاب» ، أي : ممّن يتردّد بالدخـول في بيوت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا الإخفاء لاسمه هو كالتكنية والإخفاء لاسـم الصحابي الذي نزل فيه صدر الآية في قوله المتقدّم : «وقد قيل : إنّ سـبب أمر الله النساء بالحجاب إنّما كان من أجـل أنّ رجلا كان يأكل مع رسول الله وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل ، فكره ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» ؛ فهنا أيضاً أخفوا اسم هذا الصحابي الذي هو أيضاً ممّن يدخل في بيوت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)!

ثمّ قال الطبري في تفسير الآية اللاحقة (١) : «(إِن تُبْدُوا شَيْئاً أوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً) ، يقول تعالى ذكره : إن تظهروا بألسنتكم شيئاً ـ أيّها الناس! ـ من مراقبة النساء ، أو غير ذلك ممّا نهاكم عنه ، أو أذىً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول : لأتزوّجن زوجته بعد وفاته ، (أوْ تُخْفُوهُ) ، يقول : أو تخفوا ذلك في أنفسكم ، (فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً) ، يقول : فإنّ الله بكلّ ذلك ، وبغيره من أُموركم وأُمور غيركم عليم لا يخفى عليه شيء ، وهو يجازيكم على جميع ذلك» (٢).

الأمر السابع :

وفي ذيل آيات الحجاب قوله تعالى : (إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً * إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلوا بُهْتَاناً

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٤.

(٢) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٥٠.

٦٨

وَإِثْماً مُّبِيناً * يَا أَيُّهَا الْنَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَلبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً * لَئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١).

وهذا الذيل يُنزل لعنة الله في الدنيا والآخرة على مَن نزلت آيات الحجاب فيهم من الصحابة الّذين آذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نسائه ، وأنّهم من فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ) ..

قال النحّاس في معاني القرآن : «وقوله عـزّ وجلّ : (ومَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ولاَ أنْ تَنكِحُوا أزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَداً) ، قال قتادة : قال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : إن مات رسـول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم تزوّجت فلانة ؛ قال معمر : قال هذا طلحة لعائشـة» (٢).

وقال النحّاس : «وقوله جلّ وعزّ : (يَا أَيُّهَا الْنَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَلبِيبِهِنَّ) ، قال أبو مالك والحسـن : كان النساء يخرجـن بالليل في حاجاتـهنّ فيؤذيـهنّ المنافـقون ويتوهّمون أنّهنّ إماء ، فأنزل الله جلّ وعزّ : (يَا أَيُّهَا الْنَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ) إلى آخـر الآية» (٣).

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٦ ـ ٦٢.

(٢) معاني القرآن ـ للنحّاس ـ ٥ / ٣٧٣.

(٣) معاني القرآن ـ للنحاس ـ ٥ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

٦٩

الأمر الثامن :

قولهم : إنّ الأمر بإدناء الجلباب نزل لكون نساء النبيّ والمؤمنين يؤذَيْن في خروجهن ليلاً لقضاء حاجتهنّ ، وقد روت عائشة (١) أنّ عمر قد تعرّض لسودة بنت زمعة في خروجها ليلاً لقضاء حاجتها وأنّها انكفأت راجعة شاكية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما آذاها به عمر ، فأوحى الله تعالى لنبيّه الإذن بأن يخرجن أي بجلباب فلا يؤذين.

وقال الجصّاص في أحكام القرآن : «قوله تعالى : (وَإذَا سَألْتُـمُوهنَّ مَتاعاً فَسْألُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب) قد تضمّن حظر رؤية أزواج النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، وبيّن به أنّ ذلك (أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ) ؛ لأنّ نظر بعضهم إلى بعض ربّما حدث عنه الميل والشهوة فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب ..

قوله تعالى : (ومَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) ، يعني بما بيّن في هذه الآية من إيجاب الاستئذان وترك الإطالة للحديث عنده والحجاب بينهم وبين نسائه» (٢).

وقال ابن الجوزي في زاد المسير ، في أسباب نزول آيات الحجاب : «والثالث : إنّ عمر بن الخطّاب قال : قلت : يا رسول الله! إنّ نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر ، فلو أمرتهنّ أن يحتجبْن. فنزلت آية الحجاب ..

أخرجه البخاري من حديث أنس ، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر ، كلاهما عن عمر.

__________________

(١) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٢٢ / ٤٩.

(٢) أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٣ / ٤٨٣.

٧٠

والرابع : إنّ عمر أمر نساء رسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم] بالحجاب ، فقالت زينب : يا بن الخطّاب! إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا. فنزلت الآية ..

قاله ابن مسعود.

والخامس : إنّ عمر كان يقول لرسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم] : احجب نساءك. فلا يفعل ، فخرجت سودة ليلة فقال عمر : قد عرفناك يا سودة. حرصاً على أن ينزل الحجاب ، فنزل الحجاب ..

رواه عكرمة ، عن عائشة.

والسادس : إنّ رسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم] كان يطعم معه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم ، فكره النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ذلك ، فنزلت آية الحجاب ..

قاله مجاهد ...

قوله تعالى : (ومَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) ، أي : ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء. قال أبو عبيدة : (كان) من حروف الزوائد. والمعنى : ما لكم أن تؤذوا رسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم] ..

(ولاَ أنْ تَنكِحُوا أزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَداً) ، روى عطاء عن ابن عبّـاس ، قال : كان رجل من أصحاب رسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم] قال : لو توفّي رسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم] تزوّجت عائشة. فأنزل الله [تعالى] ما أنزل ..

وزعم مقاتل : إنّ ذلك الرجل : طلحة بن عبيد الله (١).

__________________

(١) زاد المسير ـ لابن الجوزي ـ ٦ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

٧١

وقال الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية : «فإذا سألتم أزواج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم شيئاً تحتاجون إليه ، فاسألوهنّ من وراء الستر ..

قال مقاتل : أمر الله المؤمنين ألاّ يكلّموا نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ من وراء حجاب.

وروى مجاهد ، عن عائشة ، قالت : كنت آكل مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حيساً في قعب ، فمرّ بنا عمر ، فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي ، فقال : (حس! لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين) فنزل الحجاب» (٤٩).

الأمر التاسع :

تُبـيّن رواية مجاهـد أنّ الصحابـي الذي أصابـت يده يد زوج

__________________

(١) مجمع البيان ـ للطبرسي ـ ٨ / ١٧٧.

وانظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري ٨ / ٤٠٨ ، تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير ـ ٣ / ٥١٣ ، مجمع الزوائد ـ للهيثمي ـ ٧ / ٩٣ ، السُـنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٦ / ٤٣٥ ح ١١٤١٩ ، المعجم الأوسط ٣ / ٢١٢ ، المعجم الصغير ١ / ٨٤.

وذكره السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول : ١٧٨ ، وفي الدرّ المنثور ٥ / ٢١٣ ؛ وفيه : «وأخرج النسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن عائشة ، قالت : ...

وأخرج ابن سـعد عن ابن عبّـاس ، قال : نزل حجاب رسول الله في عمر ؛ أكل مع النبيّ طعاماً فأصاب يده بعض أيدي نساء النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فأمر بالحجاب».

حس : كلمة يقولها الإنسان عند التوجّع ممّا آذاه ، مثل : «أوه». والحِيس : الطعام المتّخذ من التمر والأقط ـ أي : اللبن المحمض المجمّد ـ والسمن. والقعب : القدح الضخم ؛ انظر : معجم مقاييس اللغة ٢ / ٩ ـ ١٠ ، لسان العرب ٦ / ٦١ مادّة «حيس» ، ونهاية ابن الأثير ١ / ٤٧٦.

٧٢

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فكره (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك هو : عمر ، وقد تقدّم أنّ كراهته (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك كانت سبب نزول آية الحجاب ، فآية الحجاب نزلت للنهي عن ما ابتدر من عمر ، لا ما ادّعاه هو لنفسه من كونه أغير من سيّد الأنبياء وأشرف المرسلين حبيب إله العالمين ، الذي وصفه ربّ العزّة : (وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِـيم) (١) و : (مَا ضَـلَّ صَاحِـبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) (٢) ، وقد قال تعالى في وسط آيات الحجاب : (إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ..

فانظر هذه المحبّة الإلهية إلى خُلُق نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمّ وعيد الإله تعالى بلعن وتعذيب الّذين يؤذون نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبعد كلّ ذلك يأتي عمر مدّعياً أنّه أكثر غيرة وعفّة من سـيّد الرسل؟! ، والحال أنّه الذي نزلت فيه هذه الآيات.

وقال الشيخ الطوسي في التبيان في ذيل الآية : «(فإذَا طَعِمْتُمْ فانتَشِروا ولاَ مُسْتَأنِسينَ لِحَدِيث) ، أي : تفرّقوا ولا تقيموا ولا تستأنسوا بطول الحديث ؛ وإنّما مُنعوا من الاستئناس من أجل طول الحديث ؛ لأنّ الجلوس يقتضي ذلك ، والاستئناس هو ضدّ الاستيحاش ، والأُنس ضدّ الوحشة. وبيّن تعالى فقال : لأنّ ذلك الاستئناس بطول الجلوس (كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنكُمْ) ، أي : من الحاضرين ، فيسكت على مضض ومشقّة ، (وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ) ..

ثمّ قال : (وَإذَا سَألْتُـمُوهنَّ مَتاعاً) يعني : إذا سألتم أزواج النبيّ

__________________

(١) سورة القلم ٦٨ : ٤.

(٢) سورة النجم ٥٣ : ٢ و ٣.

٧٣

شيئاً تحتاجوه إليه (فَسْألُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب) وستر (ذلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ) من الميل إلى الفجـور.

ثمّ قال : (ومَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) ، قال أبو عبيدة : (كان) زائدة ، والمعنى : ليس لكم أن تؤذوا رسول الله بطول الجلوس عنده ومكالمة نسائه ، و (لاَ) يحلّ لكم أيضاً (أنْ تَنكِحُوا أزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَداً) ؛ لأنّهنّ صرن بمنزلة أُمّهاتكم في التحريم.

وقال السدي : لمّا نزل الحجاب قال رجل من بني تيم : أنُحجـب من بنات عمّنا؟! إن مات عرّسنا بهنّ. فنزل قوله : (ولاَ أنْ تَنكِحُوا أزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَداً إنَّ ذلِكُمْ) إن فعلتموه (كانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً).

ثمّ قال لهم : (إن تُبْدُوا شَيْئاً) أي : إن أظهرتموه من مواقعة النساء (أوْ تُخْفُوهُ فَإنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم لا ظاهرة ولا باطنة» (١).

وقال الطبرسي : «ونزل قوله : (ومَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) إلى آخر الآية في رجل من الصحابة قال : لئن قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر ، عن ابن عباس ؛ قال مقاتل : وهو طلحة بن عبيد الله ..

وقيل : إنّ رجلين قالا : أينكح محمّـد نساءنا ولا ننكح نساءه؟! والله لئن مات لنكحنا نساءه. وكان أحدهما يريد عائشة والآخر يريد أُمّ سلمة ، عن أبي حمزة الثمالي» (٢).

__________________

(١) التبيان ـ للشيخ الطوسي ـ ٨ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

(٢) مجمع البيان ـ للطبرسي ـ ٨ / ١٧٤.

٧٤

الأمر العاشر :

يظهر من مجموع الروايات الواردة عندهم أنّ سبب نزول آيات الحجاب كان بشأن ما صدر من فعل مجموعة من الصحابة البارزين ، الّذين يكثر دخولهم بيوت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانوا يدخلون دون استئذان ، ويطيلون الحديث مع أُمّهات المؤمنين ؛ كما ذكر ذلك عدّة من مفسّـري أهل سُـنّة الجماعة ، ممّن تقدّم نقل كلماتهم ..

وأنّ الرجل الآخر ينتمي إلى بني أُمية والعاص ؛ لأنّ مقتضى كلامه في أُمّ سلمة ؛ إذ كانت ذا نسب بهم.

روى الطبري بسـنده عن أنس بن مالك ، قال : «أنا أعلم الناس بهذه الآية ، آية الحجاب : لمّا أُهديت زينب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صنع طعاماً ودعا القوم ، فجاؤوا فدخلوا وزينب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البيت ، وجعلوا يتحدّثون ، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج ثمّ يدخل وهم قعود. قال : فنزلت هذه الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... إلى : فَسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب). قال : فقام القوم وضُرب الحجاب» (١).

فالتعبير في هذه الرواية بـ «القوم» دالّ على «عدّة» هي مورد الخطاب لنزول الآيات : (لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ).

ومن الظاهر كونهم ممّن يكثِر الاختلاط بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والدخول في بيوته ؛ فهم من مبرّزي الصحابة.

__________________

(١) جامع البيان ـ ابن جرير الطبري ٢٢ / ٤٧.

٧٥

وكانوا ممّن يعتاد جلوسـه على الطعام في بيوت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد مرّ في رواية مجاهد مرور عمر بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت عائشة ، وقد قال تعالى في الآية : (وَلكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيث إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنكُمْ وَالله لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ) ، كما أنّ قوله تعالى : (وَإِذَا سَأَلْتُـمُوهنَّ مَتَاعاً فَسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب) ؛ ممّا يدلّ على كثرة خلطتهم للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيوته ، وقد مرّ في الروايات مخاطبة عمر لزينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وعائشـة.

وأنّ هذه السلوكيات من هذه الفئة من الصحابة الملتصقين كان يؤذي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما في قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ الله) ..

بل الآيات صعّدت لهجة النكير مع هؤلاء الصحابة ؛ إذ تجاسروا على ذلك وعلى القول بنكاح أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى في ذيل تلك الآيات : (إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) ..

بل شدّدت النذير : (لَئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

وهذه الفئة والجماعة من الصحابة هم الّذين قد ورد الخطاب عنهم : (يا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَد مِنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، وقد تقدّمت رواياتهم أنّ رجلين من هؤلاء قد تجاسروا مسقطين رداء الحياء والعِفّة والأدب معلنين إرادة نكاح أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته.

٧٦

الأمر الحادي عشر :

رغم كلّ هذه التوصيات القرآنية وقوله تعالى باتّحاد الحجاب في الحديث مع نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (١) ...

رغم كلّ ذلك فكيف يفسّر خروج عائشة للحرب على إمام زمانها في صخب الجيش ومعترك الرجال وإخراج طلحة والزبير لها في هذا المسير؟!

للبحث صلة ...

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

٧٧

تاريخ النظرية الفقهية

في المدرسة الإمامية

(١)

السـيّد زهير الأعرجي

بسـم الله الرحمن الرحـيم

الفقه وعصر النصوص الشرعية :

لا نستطيع فصل الفقه فصلاً زمنيّاً عن عصر التشريع. فإذا كان الفقه يعبّر عن جملة من الإلزامات الشرعية في الأوامر والنواهي ، فإنّه يعكس أيضاً المبنى العقلي لرسالة السماء. بمعنى أنّ الدين السماوي جاء بقوانين اجتماعية مطابقة لمباني العقلاء تخصّ الفرد والجماعة ، وبنظام اخلاقي لتنظيم العلاقات بين الأفراد ، وبنظام روحي يربط الإنسان بربّه عزّ وجلّ. وتلك القوانين الدينية لتنظيم حياة الإنسان غلب عليها تسمية «الفقه» او «الأحكام الشرعية». وبكلمة ، فإنّ «التشريع» يضمّ كلَّ القوانين المنظِّمة لشؤون الإنسان عبر مفاهيم الحلال والحرام. وإذا آمنّا بأنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة هما مصدرا التشريع الإسلامي ، فلا بدّ لنا من الإيمان بتضافرهما في توضيح مراد الشارع من أجل تحقيق أهداف الدين في بناء علاقة المكلّف مع ربّه ، وفي بناء العلاقات الاجتماعية بين المكلّفين

٧٨

أنفسهم.

إذن ، فالأحكام الشرعية تستنبط من دليلين أساسيّين هما : القرآن المجيد ، والسنّة الشريفة.

الدليل القرآني :

وهو الدليل الأوّل المحفوظ بين الدفّتين ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد نزل القرآن الكريم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكُتب في حياته. وقد حفل هذا الكتاب المجيد بما يؤيّد ذلك : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (١) ، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ) (٢) ، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (٣) ، (رَسُولٌ مِنَ الله يَتْلُوا صُحُفاً مُّطَهَّرَةً) (٤) ، (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُف مُكَرَّمَة * مَرْفُوعَة مُطَهَّرَة * بِأَيْدِي سَفَرَة * كِرَام بَرَرَة) (٥). فالصحف المطهّرة ، واللّوح المحفوظ ، والكتاب المكنون كلّها صفات تدلّ على كون الموصوف كتاباً محفوظاً بين الدفّتين.

وكان أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام على أوثق اتصال بكتاب الله. فقد كانوا القرآن الناطق الذي يعبّر عن روح الكتاب المجيد الصامت ومفاهيمه السماوية. فلا عجب أنْ نقرأ في الخبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال عن

__________________

(١) سورة الحجر ١٥ : ٩.

(٢) سورة البروج ٨٥ : ٢١ ـ ٢٢.

(٣) سورة الواقعة ٥٦ : ٧٧ ـ ٧٩.

(٤) سورة البينة ٩٨ : ٢.

(٥) سورة عبس ٨٠ : ١١ ـ ١٦.

٧٩

تدوين القرآن : «... فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية من القرآن الاّ أقرأنيها وأملاها علىّ فكتبتها بخطّي وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيتُ من كتاب الله ، ولا علماً أملاه علىَّ وكتبته منذ دعا لي بما دعا» (١).

وقد وصلنا القرآن الكريم كاملاً يداً بيد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتّى أئمّة الهدى عليهم‌السلام إلى يومنا هذا ، ولم تمسّه يدُ الباطل والتحريف مطلقاً. وإلى ذلك أشار المولى عزّ وجلّ : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد) (٢).

والحقيقة الجديرة بالالتفات : إنّ القرآن المجيد لمّا كان كتاب هداية سماوية ، فإنّه تعامل مع قضايا التشريع تعامل الكلّيّات. وتُركت تفصيلات الشريعة إلى السنّة النبوّية الشريفة ، فكان بيت النبوّة متصدّياً لتوضيح أحكام الإسلام التي جاء بها القرآن الكريم.

والمشهور بين الفقهاء : إنّ الآيات القرآنية التي لها علاقة مباشرة بأحكام الفقه لا تتجاوز خمسمائة آية من مجموع (٦٣٢٦) آية. فتكون نسبة آيات الأحكام إلى كلّ آيات القرآن الكريم في حدود ثمانية بالمائة (٨ %).

فقد «اشتهر بين القوم أنّ الآيات المبحوث عنها نحو من خمسمائة آية ، وذلك إنّما هو بالمتكرّر والمتداخل ، وإلاّ فهي لا تبلغ ذلك» (٣).

__________________

(١) الكافي ١ / ٦٢ ح ١.

(٢) سورة فصلّت ٤١ : ٤١ ـ ٤٢.

(٣) كنز العرفان ١ / ٥.

٨٠