مناهج اليقين في أصول الدين

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

مناهج اليقين في أصول الدين

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: يعقوب الجعفري المراغي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله منشئ الفطر ، خالق البشر ومميزهم بقوتي العمل والنظر ، تعالى في كبريائه وعظمته وجلّ في جبروته وصمديّته ، وصلّى الله على خير خليقته محمّد النبي وعلى الصفوة من عترته السالكين نهج طريقته.

وبعد ، فإن للعلوم منارا وقدرا فاعظم بها شرفا وفخرا ، ثمّ إنّها متفاوتة في الشرف بحسب تفاوت متعلقاتها ومختلفة في القدر بسبب (١) اختلاف معلوماتها ، ولا شكّ أنّ أشرف الأشياء هو واجب الوجود تعالى وتقدّس فالعلم به يكون أعلى وأنفس ، والعلم المتكفل به هو علم الكلام (٢) الناظر في ذات الله تعالى وصفاته

__________________

(١) ج : بياض هنا.

(٢) وقد عرّف علم الكلام تارة بأنه علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بايراد الحجج ودفع الشبه (شرح المواقف ج ١ ص ١٤) ، فعليه يكون علم الكلام في خدمة اثبات عقائد الاسلام للغير ودفع شبه المخالفين.

وتارة بأنه علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الاسلام (شرح المقاصد ج ١ ص ٣) ، وعليه فيكون علم الكلام مجرد العلم بذات الله وصفاته سواء كان في خدمة الاثبات الى الغير أم لا بل كان معرفة بحتة.

ولهذا سمّى الغربيون علم الكلام تارة ب «ديالكتيك kitkeluiD وهو مناسب للتعريف الاول ، وتارة ب «تئولورى yjoloehT وهو مناسب للتعريف الثاني.

ثم انهم ذكروا وجوها متعدّدة لعلة تسمية علم الكلام بهذا الاسم ، ونحن ننقل هنا كلام العلامة في مقدمة كتابه : نهاية المرام (النسخة الخطية للمكتبة الرضوية ص ٣ ـ ٤) قال العلامة :

«خصص هذا العلم باسم الكلام من وجوه :

الف : العادة قاضية لتسمية البحث في دلائل وجود الصانع وصفاته وافعاله الكلام في الله

٤١

والمعلوم فيه كيفية تأثيراته.

فدعانا ذلك إلى إنشاء مجموع يحتوي على مباحثه الشريفة ودقائقه اللطيفة مع تلخيص المذاهب المنقولة عن القوم الذين سبقونا من المتكلمين والأوائل من الحكماء المدققين والإشارة الى قواعد الفريقين وحجج القبيلين وتحقيق الحق منهما وتمييزه عن الباطل ، معتمدين في ذلك على مبدأ الكل ومفيض (١) العدل ، وقد وسمناه : بمناهج اليقين في اصول الدين ، والله المستعان وعليه التكلان.

وقبل الخوض فلنبدأ أولا بذكر مقدمة تكثر الفائدة بها وهي :

العلم تصور باعتبار حضور المدرك في الذهن وتصديق باعتبار كون الحاضر حكما ، ويطلق الاول على معنى اخصّ ، ويقتسمان الى (٢) الحاضر في الذهن ، وكل منهما ضروريّ ومكتسب ، وما قيل : من أنّ الاول ضروري كله ، فقد

__________________

تعالى وصفاته ويسمى هذا العلم بذلك ، ولا استبعاد في تخصيص بعض الاسماء ببعض المسميات دون بعض.

ب : انكر جماعة البحث في العلوم العقلية والبراهين القطعية ، فاذا سألوا عن مسألة تتعلق بالله تعالى وصفاته وافعاله والنبوة والمعاد ، قالوا : نهينا عن الكلام في هذا العلم فاشتهر هذا العلم بهذا الاسم.

ج : هذا العلم اسبق من غيره في المرتبة ، فالكلام فيه اسبق من الكلام في غيره فكان احق بهذا الاسم.

د : هذا العلم أدق من غيره من العلوم والقوة المميزة للانسان وهي النطق انما تظهر بالوقوف على اسرار هذا العلم ، فكان المتكلم فيه اكمل الاشخاص البشرية فسمي هذا بالكلام لظهور قوة التعقل فيه.

ه ـ : هذا العلم يوقف منه على مبادي سائر العلوم ، فالباحث عنه كالمتكلم في غيره فكان اسمه بعلم الكلام اولى.

و : ان العارفين فيه بالله تعالى يتميزون عن غيرهم من بني نوعهم بما شاهدوه من ملكوت الله واحاطوا بما عرفوه من صفاته ، فطالت ألسنتهم على غيرهم فكان علمهم اولى باسم الكلام.»

(١) ج : مفيض الخير والعدل.

(٢) ساقطة من الف وج.

٤٢

ابطلناه في كتبنا المنطقية (١) ، والمكتسب يكتسب بالأول بطريق مثله فلا دور ولا تسلسل.

والكاسب في الأول الحدّ او الرسم (٢) ، وضابط الحدّ ان المركبات تحدّ ويحدّ بها ان كانت جزءا لغيرها والبسائط لا تحدّ ويحدّ بها ان كانت اجزاء (٣) ، والحدّ منه تام يشتمل على مجموع المقدمات وناقص يذكر فيه المساوي الذاتي ، والرسم منه تام يذكر فيه الذاتي الأعم والعرضي المساوي وناقص يذكر فيه الاخير.

ومغلطات الحدّ والرسم ان لا يعرف بالمساوي في العموم وان يعرف بالمساوي في المفهوم وبالأخفى وبما يتوقف عليه معرفته بمراتب او بمرتبة واحدة ، وفي الثاني القياس وهو ما يشتمل على مقدمتين يتوصل بهما الى علم او ظنّ.

قاعدة : التصديق الضروري قد يتوقف على تصور مكتسب ، اذ المراد بالضروري هو الذي اذا حصل تصور الطرفين كفى في الجزم بالنسبة بينهما وسواء كان التصور نظريا أو ضروريا ، ومن هاهنا وقع الشك لبعض الناس في الضروريات.

__________________

(١) انظر : الجوهر النضيد.

(٢) التعريف ان كان بالفصل فهو حد وان كان بالعرض فهو رسم.

(٣) ج : جزءا.

٤٣
٤٤

المنهج الاوّل

في تقسيم المعلومات

وذلك على نوعين

٤٥
٤٦

الأول :

كل معلوم فإما أن يكون واجبا أو ممكنا أو ممتنعا.

وهذا النوع من القسمة يشتمل على مسائل :

مسألة : نسبة كل محمول الى موضوع لا تخرج عن هذه الكيفيات الثلاث في نفس الأمر ، ثم التصور الذهني قد يطابق الامر نفسه فيسمى علما وقد يخالفه فيكون جهلا ، فالكيفية من حيث هي هي مادة ومن حيث التصور جهة ، ونظرنا الآن في الأول.

مسألة : ذهب قوم الى أنّ هذه الكيفيات تفتقر الى التعريف ، والحق يأباه (١) ، فإن ذكر شيء على سبيل التعريف اللفظي لم يكن فيه إحالة.

فالواجب هو الذي يستغني في وجوده عن المؤثر ، والممكن هو الذي يفتقر.

فالواجب أن (٢) يوجد بذاته والممكن أن (٣) لا يوجد بذاته بل بغيره لست أقول إنّ استحقاق العدم بذاته فإنه حينئذ يدخل في حيّز الامتناع ، بل ليس

__________________

(١) فهذه الكيفيات الثلاث تشبه «الوجود» و «الشيء» في انه لا يمكن تعريفهما ، قال الشيخ الرئيس : «ان الموجود والشيء والضروري معانيها ترتسم في النفس ارتساما اوليا ليس ذلك الارتسام بما يحتاج الى ان يجلب باشياء اعرف منها» (إلهيات الشفا ص ٢٩). وقال أيضا : «وقد يعسر علينا ان نعرف حال الواجب والممكن والممتنع بالتعريف المحقق أيضا بل بوجه العلامة ، وجميع ما قيل في تعريف هذه مما بلغك عن الاولين قد يكاد يقتضي دورا» (نفس المصدر ص ٣٥) ، والاشراقيون سلكوا هذا المسلك في «النور» قال شيخ الاشراق : «ولا شيء اظهر من النور فلا شيء اغنى منه عن التعريف» (شرح حكمة الاشراق للشهر زوري ص ٢٨٤).

(٢) ج : أنه.

(٣) ج : أنه.

٤٧

استحقاق الوجود من ذاته ، والفرق ظاهر.

مسألة : الواجب هل هو ثبوتي أم لا؟ الأولى انّه لاحق بالنسب ، فإن قلنا بوجودها فهو موجود وإلّا فلا ، وقيل : لو كان ثابتا لكان واجبا والّا لكان ممكنا فيكون الواجب أولى بالإمكان وحينئذ يتسلسل ، وأيضا فإنّه صفة للواجب ، فلو كان ثبوتيا لكان مفتقرا الى الموصوف فيكون ممكنا وهذان قويّان.

تقسيم : الوجوب قد يكون بالذات وهو الذي يكون ذاته مقتضية لوجوده إن قلنا بزيادة الوجود مستغنية عن كل ما عداها ، وقد يكون بالغير وهو الذي إنّما وجوده له لغيره فهو من حيث ذاته لا يستحق الوجود ومن حيث علته واجب ومن حيث عدمها ممتنع (١).

قاعدة : لا يمكن أن يكون موجود واجبا بذاته ولغيره ، لأنه بالنظر الى ذاته واجب غير مستحق للوجود هذا خلف ، مخلص (٢) ظهر من هذا أن الواجب لا يتركب عن غيره والّا لوجب به ، وانه واجب من جميع جهاته والّا لكان من بعض الجهات ممكنا.

مسألة : الإمكان ليس بثبوتي والّا لزم التسلسل او وجوب الممكن ، اما الاستعدادي ففيه خلاف وأثبته الأوائل والّا لما وقع الفرق بين نفي الإمكان وبين الإمكان المنفي لاستحالة التمايز في العدميات ، والحق أنه كالأول لما مرّ ، والأوائل جوّزوا تسلسل الاستعدادات ، ويعارضون في حجتهم بالامتناع (٣).

مسألة : الإمكان لفظ مشترك بين معان أربعة :

__________________

(١) فالوجوب قد يكون ذاتيا وهو المستند الى نفس الماهية من غير التفات الى غيرها ، وقد يكون بالغير وهو الذي يحصل باعتبار حصول الغير والنظر إليه (كشف المراد ص ٥١).

(٢) كذا في النسخ والظاهر كون العبارة هكذا : مخلص ما ظهر.

(٣) انظر عن تفصيل البحث في الامكان الذاتي والامكان الاستعدادي الى : الاسفار الاربعة لصدر المتالهين الشيرازي ج ١ ص ٢٣٠ فبعد.

٤٨

أحدها : الإمكان العام وهو الذي سلب فيه الوجوب عن احد طرفي الوجود والعدم.

الثاني : الخاص وهو ما ذكرناه أعني الذي سلب فيه الضرورتان معا.

الثالث : الإمكان الأخص أعني الذي سلب فيه الضرورات (١) المشروطة والذاتية.

الرابع : الإمكان الاستقبالي وهو الذي اعتبر فيه ما ذكرناه نظرا الى الاستقبال. والأول يشمل الواجب والبواقي إن نظر الى طرف الوجود ويشمل الممتنع والبواقي ان نظر الى طرف العدم.

قاعدة : لا يمكن ان تكون الأولوية كافية في أحد طرفي الممكن ما لم تنته الى الوجوب ، خلافا لمحمود لانّه معها يمكن المرجوح فيطلب العقل العلّة ويتسلسل ، فإذن لهذا الممكن وجوبان : أحدهما هذا ، والثاني وجوبه اللاحق له ، فإنّ كلّ موجود على الإطلاق فإنه بالضرورة موجود ما دام موجودا ، ويسمّى هذا الوجوب الضرورة بحسب المحمول.

مسألة : الإمكان للممكن واجب والّا لزال عنه فصار واجبا او ممتنعا ، قيل :

لو كان واجبا لكان الممكن الذي هو شرط الإمكان واجبا ، والحق أن يقال : إن عني بثبوت الإمكان للممكن الثبوت العيني كان فرعا على ثبوت الإمكان ونحن قد أسلفنا بطلانه ، وإن عني الثبوت الذهني لم يكن واجبا لوقوع الشك في بعض الأشياء هل هو ممكن أم لا ، الّا ان نعني (٢) به أن العقل اذا حكم بثبوت الإمكان لشيء فإنه يكون واجب الثبوت له وهذا حقّ ، لكن الوجوب هنا وجوب بحسب المحمول فلا يلزم وجوب الممكن ، والخلاف في الإمكان الأوّل امّا الاستعدادي

__________________

(١) ب : الضروريات.

(٢) ب وج : يعني.

٤٩

فلا شك في زواله.

تذنيب : الامكان العام ليس بثابت لأنه لا شيء من جزئياته (١) بثابت ولا وجود للكلّي الّا في جزئياته ولأنه يلزم التسلسل.

مسألة : علة الحاجة الى المؤثر هي الإمكان لا الحدوث خلافا لقوم (٢). لنا : انّا متى عقلنا كون الشيء ممكنا جزمنا بانّ وجوده له بغيره ، ولو شككنا في جواز وجوب الحادث لذاته لشككنا في احتياجه ، ولأنّ الحدوث صفة الوجود المتأخر عن تأثير القادر المتأخر عن احتياجه إليه ، فلو كان علة الحاجة هي الحدوث تأخر الشيء عن نفسه بمراتب (٣).

قيل عليه : يجوز أن يكون الحدوث علة غائية فجاز تأخيرها ، وفيه ضعف (٤).

__________________

(١) ب : الضروريات.

(٢) الخلاف هنا مع جمع من المتكلمين حيث جعلوا علة حاجة العالم الى واجب الوجود حدوثه ، لانهم منعوا من ان يكون غير واجب الوجود قديما ، قال القاضي عبد الجبار المعتزلي :

«واذ قد عرفت حدوثها فالذي يدل على انها تحتاج الى محدث وفاعل ، فهو ما قد ثبت ان تصرفاتنا في الشاهد محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وانما احتاجت إلينا لحدوثها فكل ما شاركها في الحدوث وجب ان يشاركها في الاحتياج الى محدث وفاعل» (شرح الاصول الخمسة ص ٩٤) ، وقال قريبا منه الغزالي في : قواعد العقائد ص ١٥٢.

وقد سماهم صدر المتالهين قوما من الجدليين المتسمين باهل النظر واولياء التمييز العارين عن كسوة العلم والتحصيل ... (الاسفار ج ١ ص ٢٠٦).

ولكن الحكماء ومتأخري المتكلمين جعلوا علة الحاجة هي الامكان كما جاء في المتن انظر أيضا : فخر الدين الرازي ، المباحث المشرقية ج ١ ص ١٣٤.

(٣) ولصدر المتالهين هنا كلام لطيف وهو : «ان الحدوث كيفية نسبة الوجود المتاخرة عنها المتاخرة عن الوجود المتاخر عن الحاجة المتاخرة عن الامكان ، فاذا كان الحدوث هو علة الحاجة باحد الوجهين كان سابقا على نفسه بدرجات (الاسفار الاربعة ج ١ ص ٧٠٢).

(٤) لانهم لم يجعلوا الحدوث علة غائية بل جعلوها دليلا على الحاجة الى العلة الفاعلية.

٥٠

ولأن الأثر إنما يحتاج الى المؤثر حالة العدم عندهم ، لأن حالة الوجود حالة الاستغناء وحالة الحدوث هي حالة الوجود ، فلو كان الحدوث علة الحاجة لزم تقدم الحكم على العلة وأنه محال.

احتج مشايخ المتكلمين بوجهين :

احدهما : أن متعلق قصدنا ودواعينا من الفعل هو حدوثه ، حتى أن الشيء اذا لم يصح حدوثه بأن يكون مستحيلا او ماضيا او قديما لم تتعلق قدرتنا به ، فقد تعلق الحدوث بقدرتنا بحسب الدواعي وانتفى بحسب الصوارف ، فعلم أنه العلة المحوجة للأثر إلينا دون باق الصفات.

الثاني : أن للأثر ثلاثة احوال : حالة عدم وحالة بقاء وحالة حدوث ، فحالة العدم لا يحتاج فيها الى الفاعل وكذلك حالة البقاء لانها حالة الاستغناء فبقيت حالة الحدوث.

والجواب عن الأوّل : أن متعلق القدرة هو الوجود الجائز ، واما كون الوجود مسبوقا بعدم فهو امر واجب لذات الوجود الحادث فيستغنى عن المؤثر ، سلمنا أن متعلق القدرة هو الحدوث ، لكنّه لا يدل على انه العلّة في التعلق.

والجواب عن الثاني : أن الأثر عند خصمكم لا ينحصر أحواله فيما ذكرتم بل في الحادثات ، ولئن سلّم ذلك لكنّه لا نقول إن الباقي مستغن عن المؤثر فإنه حالة البقاء ممكن.

واعلم ان سبب غلط هؤلاء القوم هو أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ، فإن الحادث مفتقر الى المؤثر لا لحدوثه بل لوجوب مقارنته بالجواز (١).

تذنيب : ظهر من هذا أن الباقي مفتقر ، خلافا لقوم (٢) احتجّوا بوجهين :

__________________

(١) ب : سقط هنا قريبا من سطر واحد.

(٢) خلاف أخر بين الحكماء ومتقدمي المتكلمين ، وهو ان العالم كما كان في اصل وجوده محتاجا

٥١

الأوّل : أن الباقي لو افتقر فإما في وجوده الاوّل أو في وجود ثان أو في أمر آخر ، والكل باطل ، امّا الأول فلأنه يستحيل أن يكون الشيء في ثاني الحال مفتقرا الى الوجود السابق لأنه يكون تحصيلا للحاصل ، وامّا الثاني فلاستحالة اتصاف الماهية بالوجود مرتين ، وأمّا الثالث فليس كلامنا فيه لأن كلامنا في احتياج الشيء لأجل وجوده لا لأجل ماهيته.

الثاني : أن الباقي بعد اتصافه بالوجود يكون الوجود به أرجح ، فيخرج من حدّ التساوي الصرف المحوج الى المؤثّر.

والجواب عن الأوّل : أن الباقي مفتقر الى المؤثّر في استمرار الوجود وحفظه حالة بقائه ، فإن الممكن لا يستحق من ذاته الوجود ، فاذا وجد فقد ترجّح الوجود لمرجح ، فإذا فرض زوال المرجح زال الرّجحان ومع زواله يبقى الذات على مقتضاها من الجواز.

وعن الثاني : أن الماهية وان ترجح وجودها في الزمن الاوّل بسبب الفاعل لكنّه لا يخرج الذات عن مقتضاها وهو التساوي في الزمن المستقبل والّا لوجب ان يكون الذوات باقية ابدا لان الذات مقتضية للرجحان في الزمن الأوّل ، فلو كان هذا كافيا في استمرارها لما جاز العدم عليها.

__________________

الى العلة فهل هو كذلك في بقائه ودوامه أيضا؟ قال المتكلمون : لا ، وقال الحكماء : هو كذلك.

٥٢

النوع الثاني من القسمة

اعلم أن كل معلوم فإمّا (١) أن يكون موجودا أو معدوما.

فههنا ابحاث :

الأوّل في الحصر :

انّ العقل الصريح حاكم بصدق هذه المنفصلة الحقيقية فلا يفتقر فيه الى برهان ، وجماعة من المتكلمين ظنّوا أن هاهنا قسم (٢) آخر غير موجود ولا معدوم سمّوه الحال (٣) ، وتحقيق القول في الحال أن نقول :

اذا علمنا امرا من الأمور فإما أن يكون ذلك الأمر راجعا الى الإثبات أو

__________________

(١) ج : اما.

(٢) ب وج : قسما.

(٣) اوّل من جاء بنظرية الأحوال هو أبو هاشم الجبائي أحد كبار متفكري المعتزلة ، وتبعه في ذلك من الاشاعرة القاضي ابو بكر الباقلاني وابو المعالي الجويني (المواقف ص ٥٧) ، وردّه اكثر المتكلمين واشنعوا في ذلك على ابي هاشم ، وقد جعل البغدادي في كتابه القول بالاحوال فضيحة سادسة من فضائح ابي هاشم (الفرق بين الفرق ص ١٩٥) ، وقال شيخنا المفيد رحمه‌الله : ان أبا هاشم خالف فيه جميع الموحدين (اوائل المقالات ص ٢٢) ، وحكى عنه الشريف المرتضى قوله : «ان ثلاثة اشياء لا تعقل : ... اتحاد النصرانية وكسب النجارية واحوال البهشمية» (الفصول المختارة ج ١ ص ١٢٨).

وقال الايجي : ان بطلانه ضروري لان الموجود ماله تحقق والمعدوم ما ليس كذلك ولا واسطة بين النفي والاثبات ضرورة واتفاقا. (المواقف ص ٥٧ وشرحه ج ٣ ص ٢).

لكن بعض اهل التوحيد من العرفاء قد قبلوا نظرية الاحوال وجعلوها واسطة بين الوجود والعدم ، قال ابن العربي : «فالاحوال لا موجودة ولا معدومة» ، وقال القيصري في شرحه على تلك العبارة : «فالاحوال والاحكام كلها لا موجودة في الاعيان بمعنى ان لها اعيانا في الخارج ولا معدومة بمعنى انها معدومة الاثر في الخارج» (شرح فصوص الحكم ص ٨. ٤).

٥٣

راجعا الى النفي ، والذي يكون راجعا الى الإثبات فلا يخلو إمّا ان لا يضاف الى غيره أو يضاف ، فإن كان لا يضاف الى غيره فهو الذات ويحدّ بأنه الثابت الذي يعلم غير مضاف الى غيره ويخرج عنه الصفة لأنها تعلم مضافة إلى غيرها ، وأما إن كان يضاف الى غيره فإما أن يكون مقصورا على ما يضاف إليه مثل كون المحل أو يكون منفصلا عنه كالفعل بالنسبة الى الفاعل ، فإن كان مقصورا عليه فهو الحال ويحدّ بأنّه الذي يثبت للذات مقصورا عليه.

فبقولنا يثبت خرج النفي ، وبقولنا للذات خرجت الذات فانها لا تثبت لغيرها ، وبقولنا مقصورا عليه خرجت الأشياء المنفصلة التي تضاف الى غيرها كالأفعال والآثار الصادرة من العلل في غير محالّها فإنها لا تكون أحوالا لمحالّ العلل.

والفرق بين الصفة والحال فرق ما بين العام والخاصّ ، فإن الصفة أعمّ لأنها تطلق على كل أمر يضاف إلى غيره سواء كان (١) إثباتا او نفيا (٢) ومقصورا عليه او غير مقصور ، وامّا الحكم (٣) فهو ما كان صادرا عن غيره سواء كان ذاتا او صفة.

واذا تحقق هذا فنقول : لا مقدمة تستعمل في إبطال الحال اظهر من قولنا : المعلوم إما موجود وإما (٤) معدوم.

واحتج المثبتون : بأن الوجود مشترك فيكون مغايرا للماهية ، ثم هو امّا موجود فيتسلسل او معدوم فيكون الشيء عين نقيضه وهو محال ، وأيضا الأعراض تشترك في عرض هو جنس كاللون ، فهو إما موجود فيلزم قيام العرض

__________________

(١) ج : كان كذلك.

(٢) ب : منفيا.

(٣) كذا في النسخ ، والظاهر انه الحال.

(٤) ج : أو.

٥٤

بالعرض أو معدوم فيكون جزء الموجود معدوما هذا خلف فتثبت الواسطة.

والجواب عن الأوّل : أن الوجود المشترك ذهني واما الخاص بكل موجود فإنه في الخارج نفس الماهية وفي المعقولية زائد.

وعن الثاني : أنه موجود وقيام العرض بالعرض جائز كالبطء والحركة.

٥٥

البحث الثاني في الوجود :

وهو بديهي التصوّر ولا حاجة فيه الى الاستدلال ، قال فخر الدين : التصديق بأن الشيء إمّا موجود وإما معدوم يتوقف على تصور الوجود ، والتصديق البديهي إذا توقف على تصور بديهي كان أولى بالبداهة ، وأيضا فإن تصور وجودي بديهي والوجود المطلق جزء منه وجزء البديهي بديهي.

وهذان فاسدان ، أما الأوّل : فلأنّه يبتني (١) على أن تصورات التصديق البديهي بديهية وهي مقدمة كذّبناها في القاعدة السابقة ، وأمّا الثاني : فلأن استلزام تصور الوجود الخاصّ للوجود المطلق يتوقف على اشتراك الوجود وهي مقدمة نظرية.

مسألة : الحق عندنا أن الوجود مقول بالاشتراك المعنوي بين الموجودات ، وهذا مذهب الأوائل ومذهب أبي هاشم وأصحابه ، غير أن الأوائل زعموا أنه مقول بالتشكيك على الموجودات بمعنى أنه في بعضها أوّل (٢) وأقدم وأشدّ من الباقي ، وذهب أبو الحسين البصري وأبو الحسن الأشعري ومن تابعهما الى أنّه غير مشترك بالمعنى بل باللفظ اشتراك لفظ العين في مفهوماتها (٣).

والدليل على ما اخترناه وجوه :

__________________

(١) ب : مبنيّ.

(٢) ج : أولى.

(٣) حيث ان البصري والأشعري وجماعة ممن تبعهما قالوا : بأنّ وجود كل ماهية نفس تلك الماهية ولازم ذلك هو عدم التشكيك في الوجود ، ولكن الحق عند اكثر المتكلمين والحكماء هو ان وجود كل ماهية مغاير لها الا واجب الوجود فيلزم التشكيك (انظر : كشف المراد ص ٢٥) ، ثم ان هذا التشكيك اما في الاولوية او الاولية او الاقدمية او الاشدية ، ولم يذكر المصنف هنا التشكيك بالاولوية وقد ذكرها آنفا في بحث الامكان.

٥٦

الأوّل : أنا نقسم الوجود الى الواجب والممكن ومورد التقسيم مشترك بين القسمين.

الثاني : مفهوم السلب واحد فنقيضه كذلك وإلّا تعدد فلا حصر للنقيضين.

الثالث : أنا إذا اعتقدنا وجود ممكن جزمنا بوجود سببه وتشككنا في كون السبب واجبا او ممكنا لا يخرج جزمنا بالوجود فدل على أنه مشترك بينهما.

احتج الخصم : بأن الوجود نفس الماهية على ما يأتي فلا يكون مشتركا.

والجواب : سيأتي تكذيبهم في أن الوجود نفس الماهية.

تذنيب : لما ظهر أن الوجود مشترك ، ظهر أنه زائد والّا لكان جنسا لجميع الموجودات ويتسلسل العلل والمعلولات.

ولأنا نفهم الماهية ونشك في الوجود.

ولأن الممكن من حيث هو موجود غير ممكن العدم ، ولأنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا : السواد سواد ، والسواد موجود.

احتجّ الخصم (١) بانه لو كان زائدا فمحله اما ان يكون موجودا بهذا الوجود فيكون الشيء مشروطا بنفسه او بغيره فيلزم التسلسل ، واما ان يكون معدوما فتكون الصفة الوجودية حالّة في المحل المعدوم وهو سفسطة ، وإلّا لجاز (٢) أن يقال : إن السواد والسطوح المشاهدة قائمة بأجسام معدومة وهي (٣) دخول في الجهالات.

والجواب : أن الماهية من حيث هي هي مغايرة لقيدي الوجود والعدم ، فجاز حلول الوجود فيها من حيث هي هي لا باعتبار أحد القيدين.

__________________

(١) القائل بان الوجود نفس الماهية وليس زائدا عليها هو ابو الحسين البصري وابو الحسن الاشعري كما مر في التعليقة السابقة.

(٢) ب : جاز.

(٣) ج : هو.

٥٧

سؤال : لا يلزم من المغايرة الخلو عن أحد القيدين.

الجواب (١) : عدم الخلو عن أحد القيدين لا يوجب اشتراط أحدهما في الحلول (٢) ، ونحن نذكر هاهنا ما هو أشد تحقيقا من هذا فنقول :

إن عني بزيادة الوجود أنه في الأعيان صفة زائدة على الماهية حالّ فيها والماهية محلّ له وقابلة له كحلول السواد في الجسم وقبوله له فهو خطأ ، وإلّا لكان الوجود (٣) موجودا فيتسلسل. وإن عني به أنهما في الأعيان شيء واحد لكن العقل يستفصل كل واحد منهما عن الآخر كاستفصاله الماهية النوعية الى الجنس والفصل فهو حق ، وبراهينهم لا تعطي أكثر من هذا ، فهذا تحقيق ما عندي في هذا الموضع.

تذنيب : أخطأ من زعم أن الوجود نفس الوحدة ، فإن الكثير من حيث هو كثير موجود وليس بواحد ، نعم الكثرة باعتبار آخر يعرض لها الوحدة.

مسألة : الوجود لا يتصف بالشدة والضعف ، لأنه عند الاشتداد ان وجد أمر مقوم لم يكن هو الموجود أوّلا أو عارض فلا يكون الاشتداد في ذاته بل في الصفة ، وهذا برهان دال على أنه لا شيء من الموجودات بقابل لهما ، وهو خلاف لما عليه الأوائل وسيأتي.

قاعدة : الوجود ينقسم الى العيني والى الذهني (٤) والمطلق الشامل لهما هو

__________________

(١) ج : جواب.

(٢) ج : الخلوّ.

(٣) الف : الموجود.

(٤) البحث عن الوجود الذهني بصورة مستقلة بحث جديد بالنسبة وان كان في كلام الفلاسفة المتقدمين اشارة إليه كما جاء في : إلهيات الشفا ، ص ٣٣ و ٣٤ ، ولكن اوّل من اورد البحث عن الوجود الذهني رأسا فيما رأيت الفخر الرازي في : المباحث المشرقية ج ١ ص ٤١.

انظر عن تفصيل البحث عن الوجود الذهني وادلة اثباته ودفع شبهات المخالفين وبحوث شريفة انيقة حول الموضوع الى : الاسفار الاربعة ج ١ ص ٢٦٣ فبعد.

٥٨

الشيئية ، وأنكر جماعة من المتكلمين والأوائل الذهني ، وأثبته محققوا الأوائل وهو الحق ، فإن بعض المعدومات العينية قد يحكم عليه بالأحكام الثبوتية فيكون ثابتا وليس في الأعيان فهو في الذهن.

احتج المنكرون : بأنه لو حصل في الذهن ماهية الحرارة كان الذهن حارا ، ولأنا نعلم المتضادات ، فلو حصلت في الذهن لزم اجتماع المتضادات ، وكذلك الحال في المتماثلة.

والجواب : إن الحرارة انّما يفعل (١) أثرها في محل قابل مع عدم معاوق واستحالة اجتماع الضدين إنما هو في الأمور العينية ، وأما اجتماع الأمثال فلا يحصل في الذهن من حيث إن المماثلة المتشاركة في الحقيقة ، فالذي يحصل من أحد المثلين الى العلم السابق هو الذي يحصل من المثل الثاني فلا يتعدّد الصور.

مسألة : كون الماهية موجودة ليس لأجل صفة قائمة بها ، لأن ثبوت الصفة للماهية يتوقف على وجودها في نفسها ، فلو علل وجودها به لزم الدور.

__________________

(١) ب : يعقل.

٥٩

البحث الثالث في العدم :

وهو بديهي التصور ، ومن استدل على بداهته بتوقف التصديق عليه لم يصب لما اسلفناه ، هذا في العدم المضاف ، وأما في العدم المطلق ففيه شك من حيث إن العدم المطلق لا تميز له ولا تعين فكيف يمكن توجه الإشارة العقلية نحوه.

وأيضا فإن العدم المطلق لو كانت (١) له ثبوت ذهني لكان داخلا تحت مقابله ، وأيضا لو كان له ثبوت ذهني لا مكننا رفعه الذي هو أخص منه فيكون الجزءين مقابلا.

مسألة : المعدوم إما أن يكون ممتنع الثبوت وقد وقع الاتفاق على نفيه وإما أن يكون ممكن الثبوت ، فالمحققون على أنه نفي محض لا ثبوت له عينا وهو ثابت في الذهن ، وأما أبو هاشم وابو علي وأتباعهما فزعموا أنه ثبات خارج الذهن ، وهؤلاء قد جعلوا الثبوت أعم من الوجود (٢).

لنا : أن معنى الوجود والثبوت هو الكون في الأعيان فلو كان المعدوم كائنا

__________________

(١) ب : كان.

(٢) القائلون بكون الثبوت واسطة بين الوجود والعدم وشيئية المعدوم هم جمع من اكابر المعتزلة نقله الشهرستاني عن غير واحد منهم ومن جملتهم ابو علي وابو هاشم الجبائيان وقال ان الخياط منهم غال في ذلك (الملل والنحل ج ١ ص ٧٧ و ٨٣) ، ونقل الرازي القول بشيئية المعدوم عن ابي يعقوب الشحام وابي علي الجبائي وابي هاشم وابي الحسين الخياط وابي عبد الله البصري وابي اسحاق بن عياش والقاضي عبد الجبار وتلامذته (محصل افكار المتقدمين والمتاخرين ص ٨٣).

وقد نفى الحكماء الواسطة بين الوجود والعدم وجعلوا الشيء مساوقا للوجود وتبعهم على ذلك متكلمي الشيعة والاشاعرة (راجع : العلامة الحلي ، كشف المراد ص ٣٥ والايجي ، المواقف ص ٥٦ ، وشرحه للجرجاني ج ٢ ص ١٨٩ ، والتفتازاني ، شرح المقاصد ج ١ ص ٣٥٥) ، وقد كشف العلامة هنا ـ مناهج اليقين ـ عن علة خطأ القائلين بشيئية المعدوم وهو انهم لم يعترفوا بالوجود الذهني ـ كما يأتي في المتن ـ.

٦٠