مناهج اليقين في أصول الدين

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

مناهج اليقين في أصول الدين

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: يعقوب الجعفري المراغي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

المنهج السابع

في النبوة

وفيه مباحث

٤٠١
٤٠٢

الأول

النبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر ، فلا يصدق هذا الحد على الملك ولا على المخبر عن غير الله ولا على العالم.

والمعجز أمر (١) خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة ، فالأمر قد يكون فعلا للخارق وقد يكون منعا عن المعتاد ، وكلا قسميه يصدق عليه المعجز ، والخرق للعادة لا بد منه ليقع التميز به بين النّبي والمدعي ، والاقتران بالتحدي ذكر ليخرج عنه الكاذب المدعي معجزة غيره وليتميّز عن الإرهاص (٢) والكرامات ، وعدم المعارضة قيد لا بد منه ليخرج عنه السحر والشعبذة.

والتحدي المماراة والمنازعة ، يقال : تحدّيت فلانا اي (٣) ماريته ونازعته في الغلبة.

والإرهاص احداث معجز يدل على بعثة نبيّ قبل بعثته كأنه تمهيد لقاعدته.

__________________

(١) ب : هوامر.

(٢) الارهاص في اللغة : الاثبات .... واصله من الرهص وهو تاسيس البنيان (لسان العرب ج ٧ ص ٤٤) ، وفي اصطلاح المتكلمين ما سيذكره المصنف في المتن.

(٣) ب : اذا.

٤٠٣

البحث الثاني

في إمكان البعثة

اختلف الناس في ذلك ، فالجمهور من أهل الملل كافة على ذلك ، وخالف فيه البراهمة والصابئة (١).

ويدل على الإمكان أنها حسنة لما اشتملت عليه من الفوائد فتكون ممكنة.

أمّا اشتمالها على الفوائد فمن وجوه :

الأول : أنهم يأتون بالخبر القاطع بحصول العقاب للعاصي ، لأن العقل دال على الاستحقاق وليس بدال على الوقوع ، ولا شك في أن هذا الاخبار يشمل على فائدة هي الامتناع من الإقدام على المعاصي.

الثاني : العقل يجوّز أن تكون بعض أفعالنا مصلحة لنا وداعيا الى فعل ما كلفنا به من جهة العقل كالصلاة والصوم ، وتكون بعض أفعالنا مفسدة لنا كشرب الخمر ويكون مصلحة بأن يعرفنا هذه المصالح أو المفاسد بلسان واحد من نوعنا.

الثالث : أن التكاليف (٢) العقلية يجوز أن تكون في النبوة مصلحة لنا بسبب

__________________

(١) الخلاف هنا مع البراهمة الهنود على ما جاء في اكثر الكتب الكلامية من جملتها : شرح الاصول الخمسة ص ٥٦٣ ، وأيضا الصابئة على ما جاء في الشهرستاني ، الملل والنحل ج ٢ ص ٧.

واعلم انه شاع بين المسلمين انكار البراهمة للنبوات ، وقد اتهم بعض فلاسفة المسلمين بالبرهمية حين اتهم بنفي النبوات ، من جملتهم ابو زكريا الرازي الذي نسب إليه كتاب : مخاريق الأنبياء ورده ابو حاتم في كتاب سماه اعلام النبوة ، ومن جملتهم أيضا ابن الراوندي الذي اتهم بالبرهمية ونفي النبوات ويدافع عند السيد المرتضى في كتابه الشافي بان ابن الراوندي يروي قول البرهمية كما يروى قول الدهرية وقول الموحدين ... (انظر تعليقتنا على شرح جمل العلم والعمل ص ١٧٠).

(٢) ب : التكليف.

٤٠٤

دعاء الأنبياء إليها.

الرابع : المعارف العقلية كالتوحيد والعلم والقدرة يحصل بتطابق العقل والنقل فيها التأكيد.

الخامس : قد بيّنا وجوب التكليف ، والعقول البشرية قاصرة عن إدراك كنه ما كلف الله به تعالى ، فلا بد من البعثة ليحصل المعرفة بذلك.

السادس : أن العقول ممنوّة بالأضداد كالشهوة والنفرة والوهم وغيرها من القوى الموجبة لما ينافي العقل ، والطبائع الانسانية مجبولة على الانبعاث الى مقتضى هذه القوى ، والزجر المستفاد من العقل غير كاف فلا بدّ من زاجر آخر خارجي وهو الرسول.

السابع : أن لله تعالى صفات لا يدل العقل عليها كالكلام والسمع والبصر وينبغي للعقلاء معرفتها ، ولا طريق الى ذلك فلا بد من النبي لتعليم (١) ذلك.

الثامن : قد يكون هاهنا أشياء حسنة في أنفسها وإن كنا لا نعرف حسنها وأشياء قبيحة لا نعرف قبحها ، فلا بد من نبيّ يحصل منه ذلك.

التاسع ، قد يحصل للمكلف (٢) حيرة بسبب ترك اشتغاله في العبادات وبسبب استعماله لها فلا بد من نبي يزيل هذه الحيرة والخوف.

العاشر : الخواص التي في النبات يعجز العقل عن إدراكها فإن فيها ما هو نافع وفيها ما هو ضارّ ، والرسول معرف لذلك.

الحادي عشر : التنازع الواقع بين الناس الحاصل بسبب الاجتماع يحتاج في إزالته الى من أيّد من عند الله تعالى بخاصية مميزة له عن غيره موجبة للامتثال منه.

__________________

(١) ب : لنقل.

(٢) ج : للانسان.

٤٠٥

الثاني عشر : الصناعات الخفية عن عقول البشر قد تقع الحاجة إليها في أغلب الأوقات ، فلا بد من رسول يرشد إليها ، فقد تبين من هذه الوجوه اشتمال البعثة على الحسن مع أنها خالية عن المفسدة فيكون ممكنة بل واجبة على ما يأتي.

احتج المخالف بوجوه :

الأول : أن الرسل إن جاءوا بما يوافق العقل فالبعثة عبث لاستقلال العقل بما بعثوا لأجله ، وإن جاءوا بما يخالفه فهو مردود.

الثاني : أن النبوّة تتوقف على معرفة الله تعالى بالجزئيات ، والتالي باطل بما تقدم والمقدم مثله.

الثالث : أن الأنبياء انما جاءوا بالتكليف لكن التكليف محال والبعثة محال.

والجواب عن الأول ، أن الذي يوافق العقل على قسمين : أحدهما يكون في العقل ما يدل عليه وفائدة الأنبياء فيه التأكيد ، والثاني أن لا يكون فالحاجة إليهم في هذا القسم ظاهر.

وأما الذي لا يوافق العقل فعلى قسمين أيضا : احدهما أن يكون العقل يقضي بنقضه ، والثاني أن لا يكون للعقل فيه قضاء بشيء البتة ، ومثل هذا قد ينفع معرفته في العاجل والآجل ، فاحتيج إليهم في هذا القسم أيضا.

وعن الثاني ، ما مرّ من بيان صدق التالي.

وعن الثالث ، ما تقدم من وجوب التكليف.

٤٠٦

البحث الثالث

في وجوب البعثة

اتفقت المعتزلة (١) عليه ، خلافا للأشاعرة (٢).

لنا أنها قد اشتملت على لطف في التكليف العقلي والسمعي ، واللطف واجب لما تقدم (٣) فالنبوة واجبة.

أما اشتمالها على اللطف في التكليف العقلي ، فلأنا نعلم أن السمعيات ألطاف في العقليات ، فإن التجربة قاضية بأن الإنسان إذا كان مواظبا على فعل الواجبات السمعية فإنه يقرب الى الواجبات العقلية ، بخلاف ما إذا لم يواظب.

وأما اشتمالها على اللطف في السمعي ، فلأن العلم بدوام الثواب والعقاب لطف فيه وهو لا يحصل إلا مع البعثة.

لا يقال : اللطف هو الداعي الى فعل الملطوف فيه ، وهو لا يتحقق إلا إذا علم المكلف كونه لطفا داعيا (٤) وجهة دعائه ، وذلك منتف عن السمعيات في العقليات.

لأنا نقول : نمنع وجوب العلم بكون اللطف لطفا وداعيا ، فإنه يجوز أن يعلم الله تعالى أن مع تكليف العبد بالسمعيات ينقاد الى العقليات فيكلّفه بها ويكون ذلك لطفا.

على أنا نقول : العقليات قد يتباعد أزمنة فعلها كرد الوديعة وقضاء الدين

__________________

(١) ب : العدلية.

(٢) انظر : الايجي ، المواقف ص ٣٤٢.

(٣) ج : لما مرّ.

(٤) ب : وداعيا.

٤٠٧

فيقع هناك غفلة عن الله تعالى والخوف منه فلا بد من مذكّر هو السمعي ، وأيضا فإن تحققت القدرة والداعي وجبت البعثة ، لكن المقدم حق فالتالي مثله.

واما الشرطية فظاهرة ، وأما صدق المقدم ، أما القدرة فظاهر ، وأما الداعي فلأنها قد اشتملت على وجه مصلحة وانتفت عنها المفاسد ، أما أولا فبالفرض ، وأما ثانيا فلأن وجوه المفاسد محصورة عندنا وليس شيء منها ثابتا هاهنا.

وللأوائل في هذا الباب طريق آخر مبني على قواعد :

الأولى : أن الإنسان لا يمكن أن يستقل وحده بأمور معاشه لاحتياجه الى الغذاء والملبوس والمسكن وغير ذلك من ضرورياته الّتي تخصه ويشاركه غيره من اتباعه فيها ، وهي صناعية لا يمكن أن يعيش الإنسان مدة يصنعها ويستعملها ، فلا بد من اجتماع على تلك الأفعال بحيث يحصل التعاون الموجب لتسهيل الفعل ، فيكون كل واحد منهم يعمل لصاحبه عملا يستعيض منه أحد.

الثانية : أن الطبائع البشرية مجبولة بالشهوة والغضب والتحاسد والتنازع والاجتماع مظنة ذلك ، فيقع بسبب الاجتماع الهرج والمرج ويختل أمر النظام ، فلا بد من معاملة وعدل يجمعها قوانين كلية هي الشرع ، فلا بد من شريعة ناظمة لأمور نوع الإنسان.

الثالثة : أن الشريعة لا بد لها من واضع يمتاز عن بني نوعه بخاصة من الله تعالى هي المعجزة ، لأن الشريعة لو فوّضت الى بني آدم لوقع منهم النزاع في وضعها وكيفيته ومن يستقل به ، وتلك المعجزات قد يكون قوله وقد يكون فعله.

الرابعة : أن الغالب على الناس الجهل وطاعة شهواتهم والانقياد الى قواهم الوهمية والغضبية ، ومثل هؤلاء يستحق اختلال العدل النافع في أمور معاشهم

٤٠٨

بحسب النوع عند استيلاء الشوق إليهم على ما يحتاجون إليه بحسب الشخص ، وذلك يبعثهم على الإقدام على المخالفة للقوانين الشرعية ، فلا بد من ثواب وعقاب آخر وبيّن يحملهم على الرجاء والخوف على الانقياد الى متابعة الشريعة.

الخامسة : أن نوع الإنسان ممنو بالشهوة والنسيان ، وتذكر المعبود (١) في كل وقت أمر واجب يحصل بسببه الخوف الدائم من عقابه ، فلا بد من سبب حافظ لذلك التذكر متكرر في كل وقت وهو العبادة ، فإذن وجب في العناية الالهيّة إرسال رسول داع الى التصديق بوجود الخالق والى الإيمان بشرعه والى الاعتراف بالوعد والوعيد والقيام بالعبادات المفروضة وإلى الانقياد للقوانين الشرعية حتى يستقر النظام النوعي.

__________________

(١) الف : المقصود.

٤٠٩

البحث الرابع

في إثبات (١) نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

ويدل على ذلك أنه ظهر (٢) وادعى النبوة وظهر على يده المعجزة ، وكل من كان كذلك كان نبيا حقا.

أما ادعاء النبوة فظاهر ، وأما ظهور المعجزة فلوجوه :

أحدها : أن القرآن ظهر على يده وهو معجز ، أما الصغرى فبالتواتر ، وأما الكبرى فلأنه تحدى به العرب مع بلوغهم الغاية في الفصاحة وعجزوا عن ذلك.

أما التحدي (٣) ، فلقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (٤) ، وقوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (٥) ، وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (٦).

وأما العجز ، فلأنهم توفرت دواعيهم على المعارضة ولا مانع ، فكان يجب أن تقع المعارضة ، فلما لم تقع دل على عدم قدرتهم.

وأما توفر الدواعي فظاهر ، لأنه عليه‌السلام قهر العباد على إتباع دينه

__________________

(١) الف : كلمة «اثبات» ساقطة.

(٢) ب : كلمة «ظهور» ساقطة.

(٣) التحدّي في اللغة : المباراة والمنازعة والمعارضة ، قال الزمخشري : يقال تحدّى أقرانه : إذا باراهم ونازعهم الغلبة ، وأصله في الحداء يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان ، فيتحدى كل واحد منهما صاحبه أي يطلب حداءه (أساس البلاغة ص ١١٧) وفي اصطلاح المتكلمين التحدي هو : معارضة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العرب بالقرآن كما جاء في المتن.

(٤) الاسراء : ٨٨.

(٥) هود : ١٣.

(٦) يونس : ٣٨.

٤١٠

وترك أديانهم وما شاءوا عليه واختاروا المحاربة والقتل بالسيف على الإتباع لدينه ، ولو كانوا متمكنين من المعارضة لصاروا إليها.

وأما عدم المانع فظاهر ، فإنه عليه‌السلام في ابتداء أمره لم يكن يخشى العرب من سطوته.

وأما بيان أن المعارضة لم تقع فضروري ، لأن مثل هذه الوقائع العظيمة يجب اشتهارها حتى يغلب ظهورها على ظهور القرآن من حيث إنها مسقطة للتكليف والانقياد الى أوامر المماثل.

الثاني : أنه عليه‌السلام أخبر عن الغيب بالتواتر والآيات الدالة عليه ، كقوله : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (١) ، وقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢) ، وكقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) (٣) ، وذلك معجز قطعا.

الثالث ، المعجزات المنقولة عنه عليه‌السلام بالتواتر كليتها وإن لم يكن تفاصيلها متواترة ، كانشقاق القمر ، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وختم الحصى ونبوغ الماء من بين أصابعه ، وغير ذلك ، وقد نقل المحدثون في ذلك جملا كثيرة.

أما الكبرى فضرورية ، الا ترى أن الملك لو قال له بعض أصحابه : إن كنت رسولك فخالف عادتك ففعل الملك ذلك وتكرر ، علم قطعا صدق المدعى.

الثاني : الاستدلال بأخلاقه وأفعاله على صدق مقالاته (٤) ، ووجهه أن الكمالات النفسانية محصورة في قسمي قوتها أما بحسب الشخص نفسه او بحسب

__________________

(١) الروم : ٢.

(٢) النور : ٥٥.

(٣) الفتح : ٢٧.

(٤) ب : مقالته.

٤١١

تكميل غيره (١) والكامل المطلق هو الكامل فيهما (٢) المكمل غيره ، ومحمد عليه‌السلام من ابتداء نشوه الى آخره لم يزل مواظبا على الأفعال الحسنة والأخلاق الجميلة ، وبعد ظهور أمره ملازم لعبادة ربّه متوجه بكليته إليه تارك للدنيا يدعو الناس الى ذلك ويجتهد في دخولهم تحت طاعة مولاهم ، وهو (٣) متواتر عنه عليه‌السلام ، وذلك راجع الى كمال قوته العملية وإكمال غيره فيها.

وأما القوة العلمية فلا شك في أنه عليه‌السلام ظهر والعرب متشاجرة مختلفة الأديان ، قوم يعبدون الأصنام وآخرون الكواكب الى غير ذلك من الأديان الباطلة والأقاويل الفاسدة ، فنشر فيهم المعارف الإلهية والمطالب العلمية المشتملة على التوحيد والتنزيه والعدل وغير ذلك من المسائل الحقة وبيّن منها ما كان خفيا عليهم وأمرهم بالتفكر والتطلع على الحق ، وذلك نهاية كماله في قوته العلمية وإكمال غيره فيها.

الثالث : أن الأنبياء المتقدمين أخبروا بظهوره ونبوته وصدق مقالاته.

فإن قيل (٤) : لا نسلم ظهور المعجزة على يده ، والتواتر باطل لأنكم إن عنيتم به عددا محصورا يحصل به العلم فهو باطل ، لأن كل عدد يفرض يمكن تواطؤهم على الكذب ، وإن عنيتم به ما أفاد العلم فلا يحصل العلم بكون الخبر متواترا إلا بعد العلم به ، وإن عنيتم العلم به على كونه متواترا ، فيدور.

ولأن العلم يستحيل حصوله بكل واحد وبأي واحد وبالمجموع ، لأنه إن اتصف بما لم يتصف به الآحاد فالكلام في علة حصول ذلك الوصف كالكلام في العلم ، وإن لم يتصف لم يحصل العلم ، ولأن شرط التواتر البعيد استواء الطرفين

__________________

(١) الف : عنه.

(٢) الف : منهما.

(٣) ب : هذا.

(٤) هذه الاشكالات سيأتي جوابها بعد صفحات بقوله : والجواب.

٤١٢

والواسطة ونمنع ذلك هاهنا ولأن أصل التواتر الحسّ وهو قد يغلط كما في المسيح (١).

ولأنه يجوز أن يكون القرآن ظهر على غير محمد واخذه منه وادعاه لنفسه ، ولأنه يجوز أن تكون آيات التحدي من عنده ، فإن المتواتر إنما هو أصله لا تفاصيله ، فإنه لم يحفظ القرآن الّا نفر يسير.

ولأن ابن مسعود انكر المعوذتين والفاتحة مع تعظيم الصحابة له.

ولأن تفاصيله لو كانت متواترة لما حصل فيها اختلاف والتالي باطل ، أما اللفظي فالقراءات ، وأما المعنوي فالآيات الدالة على التنزيه والتشبيه والقدرة والجبر وغير ذلك ، ولأن آيات التحدي لفظية وهي غير مفيدة لليقين.

ولأن التحدي لم يصل الى جميع العالم ، فإن البلاد المتباعدة لم يعلموا بظهوره عليه‌السلام ولا يلزم من عجز البعض عن المعارضة عجز الجميع ، ولأنا نمنع حصول الداعي الى المعارضة ، ورجوع العرب الى الحرب لعلمهم بأنه قاطع للمادة وحاسم للأمور ، فعدلوا إليه دون المعارضة ، ولأنه يحتمل أنهم تركوا المعارضة لقلة اهتمامهم بما أتى به ولذلك نسبوه عليه‌السلام الى الجنون ، ثم بعد ظهور أمره خافوا على أنفسهم وتركوا المعارضة.

ولأنه يحتمل أنهم اعتقدوا أن أشعارهم وخطبهم كانت أفصح ، فقلّت رغبتهم في المعارضة ، ولأن عند حصول الداعية المخلوقة لله تعالى ، إن وجب الفعل لزم الجبر فالنبوّة باطلة ، وإن لم يجب جاز ترك المعارضة مع حصول الداعي.

ولأنه يحتمل حصول المعارضة وإن لم ينقل كالإمامة (٢) والوقائع المشهورة في القرون الخالية ، ولأنه يحتمل وجود المانع فإن المعارض قد يجوز أن يكون

__________________

(١) ج : في حق المسيح.

(٢) الف : كالاقامة ، وهو غلط.

٤١٣

واحدا فيخاف على نفسه ، ولأن القاري آت بالمثل.

ولأن الإخبار عن الغيب ليس بمعجز قد يحصل من المنجمين وأصحاب الرياضات ، ولأن هذه المعجزات أمور عظيمة فكان يجب اشتهارها وبلوغها حد التواتر ، ولو جاز وجودها مع عدم تواترها ، فلم لا يجوز وجود المعارض للقران مع عدم نقله؟.

ولأن تجويز المعجز تجويز للسفسطة ، لجواز انقلاب البحر دما معجزة لنبي (١).

ولأن الإنسان إن كان عبارة عن البدن والأمزجة لا شك في اختلافها ، فيجوز حدوث معجز عن مزاج خاص وان كان عبارة عن النفس ، فلم لا يجوز اختلافها إما بالنوع أو بالشخص ويصدر عن بعضها المعجز ، أو ان المعجز حصل له لاطلاعه على بعض الخواص الموجبة لذلك ، أو أن المعجز حصل من الأفلاك فإنها عند بعضهم أحياء ناطقة ، أو من الكواكب أو من الجن أو من الملائكة.

ولأن الفعل إن افتقر الى الداعي لزم الجبر ، فالأفعال القبيحة منسوبة إليه تعالى فجاز إظهار المعجز لا للتصديق.

ولأن لم يفتقر جاز حصوله من غير غرض ، فلا يمكن جعل التصديق غاية ، ولأن الغرض جاز أن يكون غير التصديق من كونه لطفا لمكلف آخر أو إجابة لدعوة إنسان أو معجزة لنبيّ آخر أو الابتلاء ليحصل الثواب ، كما في إنزال المتشابهات أو ابتداء عادة أو تكرير عادة متطاولة او ارهاصا.

والتمثيل بالملك لا يفيد اليقين.

ولأن تصديق الله تعالى للرسول لا يدل على صدقه الا بعد بيان صدقه تعالى وأنه لا يفعل القبيح.

__________________

(١) ب : للنبي.

٤١٤

ولأن محمدا عليه‌السلام إنما يعرف أن الرسول الذي إليه من عنده تعالى لأجل المعجز ، وهذا الطريق قد يتأتى منا لأنا نستدل بكونه خارقا للعادة على صدقه ، أما محمد عليه‌السلام فلا يتأتى منه ذلك إلا بعد أن يكون عارفا بعادات الشياطين حتى (١) يحكم بأن المعجز الذي ظهر إليه على يد المرسل خارق لعاداتهم حتى يحكم بانه ليس بشيطان وأنه صادق.

ولأن نبوة محمد عليه‌السلام يقتضي النسخ وهو باطل والا لزم البداء ، ولأن المامور به إن كان حسنا قبح نسخه ، وان كان قبيحا قبح الأمر به.

ولأن موسى عليه‌السلام إن بين دوام شرعه لم يجز نسخه وإلا لزم كذبه ولجاز في شرعكم ذلك ، وإن بين عدم دوامه وجب نقله لكون الدواعي متوفرة عليه ، ولأنه لو جاز خفائه لجاز في شرعكم ، وإن لم يبين واحدا منهما لزم التعبد بشرعه مرة واحدة هذا خلف ، ولأنه نقل عنه بالتواتر تمسكوا بالسبت أبدا.

والجواب (٢) : نعني بالتواتر إخبار قوم يحصل معه العلم ، ولا دور ، لأن العلم الحاصل ليس مما يبنى (٣) على غيره بل هو علم ضروري ، وبالمعنى الذي عقلتم به حصول (٤) المجموعية ، فاعقلوا مثله في حصول العلم ، على أنه طعن في الضروري فلا يسمع.

ومنع استواء الطرفين والواسطة ، منع لما علم حصوله بالضرورة ، فإن كل طبقة تنقل عن أخرى موصوفة بالكثرة المفيدة للعلم ، وتغليط الحس تشكيك في

__________________

(١) الف : حين.

(٢) هذا جواب عن الاشكالات التي ابتدئت بقوله : فان قيل ، قبل صفحات.

(٣) ب : ينبني.

(٤) الف : حصوله.

٤١٥

الضروري (١) فلا يسمع ، والفرض الذي ذكروه مما يمتنع (٢) عقلا ، فإن من أنصف علم ان القرآن إنما نزل على محمد عليه‌السلام ، ولأن فيه من الآيات ما يدل على تخصيصه ، كقوله : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُ) (٣) ، (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) (٤) ، (إِذْ تُصْعِدُونَ) (٥) ، (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٦) ، (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٧) ، وغير ذلك من الآيات الكثيرة ، ولأن تجويز ذلك يستلزم حصول مفسدة عظيمة للمكلفين (٨) كان يجب على الله تعالى إيضاحه لأجل زوالها.

ولأن الله تعالى صرف العرب عن المعارضة ، ولو كان الفرض (٩) الذي ذكرتموه جائزا لما ساغ ذلك ، وهذا جواب القائلين بالصرفة ، وتجويز كون آيات التحدي من (١٠) عنده تجويز لإبطال الضروريات ، فانا نعلم بالضرورة تواتر القرآن بجملته وتفاصيله ، ولأجل ذلك لو زاد أحد فيه أو نقص لعلم كل عاقل ذلك ، وفي زمن الصحابة كان التشديد في حفظه أتم من ذلك حتى نازعوا في اسماء السور والتعشيرات.

وابن مسعود رجل واحد في مقابلة التواتر فلا تسمع معارضته ، ولأنه لم ينكر كونه منزلا ، وإنما أنكر كونه متلوا لأجل شبهة عرضت له.

__________________

(١) ب : الضرورة.

(٢) ب : يمنع.

(٣) التحريم : ٣.

(٤) التوبة : ٢٥.

(٥) آل عمران : ١٥٣.

(٦) التوبة : ٤٣.

(٧) التوبة : ٤٠.

(٨) الف : للمكلف.

(٩) ب : الغرض.

(١٠) ج : كلمة «من» ساقطة.

٤١٦

ويمنع وجود الاختلاف ، أما اللفظي فالقراءات منزلة بقوله عليه‌السلام : نزل القرآن على سبعة أحرف.

وأما المعنوي فلأنها متأولة ولها محامل ذكرها المحققون في تفاسيرهم غير خارجة عن اللغة ، على أن المراد بالاختلاف هاهنا يحتمل الاختلاف في الفصاحة وعدمها.

وأيضا لو سلم الاختلاف ، لكن لا يدل على أنه من غير الله ، لأن استثناء عين التالي عقيم.

وآيات التحدي لا شك في وصولها الى جميع من يدعي الفصاحة ويدعي امكان المعارضة فلا اعتداد بغيرهم ، ورجوع العرب الى الحرب دال على العجز ، فإن كل عاقل لا يختار ركوب الأهوال وقتل النفس على إنشاء كلام سهل دال على فضيلة مع أنه متمكن منه ، وكيف يقل اهتمامهم بالمعارضة مع اختيارهم للحرب الأصعب؟

والخوف زائل ، فإنه عليه‌السلام كان يدعو الناس الى الإيمان ، فمن نازعه في ذلك أتاه بالمعجز وطلب منه المعارضة ، فإن عانده قاتله في ابتداء أمره وانتهائه.

واعتقادهم لغلبة (١) فصاحتهم دال على نقصهم ، فإن كل من نظر في القرآن علم أن فيه من الفصاحة ما لم يشتمل عليه قصيدة من قصائد العرب وحصول الداعي اذا كان موجبا للفعل غير مستلزم للجبر ، وقد مضى تحقيق ذلك.

وحصول المعارضة مع عدم نقلها باطل قطعا ، فإن الدواعي يكون أشد توفرا على نقلها لما فيه من التخفيف في الأمور التكليفية ، بخلاف الإمامة ، فان الدواعي غير متوفرة على نقلها ، لاشتمالها على التكليف وكونها مندوبة ، ووجود المعارض منفي بما قلنا من أنه عليه‌السلام ما كان يمنع أحدا من المعارضة.

__________________

(١) ب : لعلة.

٤١٧

والقاري ليس بآت بالمثل ، فإن المراد هنا ليس الحكاية ، وايّ عاقل يجوّز المعارضة لشاعر او فصيح بشعره وكلامه ، وابو الهذيل لأجل ذلك جعل الحكاية نفس المحكي ، وأطبق المحققون على إبطاله.

ونمنع حصول الإخبار بالغيب من المنجمين ، فإنهم إنما يحكمون بما يقع غالبا بالعادة أو بالأمور الكلية خصوصا مع ظهور المدعي ، فكان يجب على الله تعالى إبطال مقالته.

والمانع من تواتر كل واحد من المعجزات الاكتفاء بالقرآن الظاهر بين الناس ، وتجويز المعجز لا يدل على السفسطة ، لأنه يقع نادرا ، وتجويز صدور المعجز من غير الله تعالى مدفوع عند الأشاعرة بكون كل ما يصدر في العالم منه تعالى على ما بينوه فيما سلف وعند المعتزلة والا لكان الله تعالى بتمكين ذلك الفاعل منه فاعلا للقبيح تعالى الله عن ذلك.

والجبر غير لازم عند وجوب الفعل بالداعي على ما مضى ، وهذا انما يرد على الأشاعرة.

وتجويز كون الغرض غير التصديق تجويز لصدور القبيح منه تعالى على ما سلف ، وهذا أيضا يرد على الأشاعرة.

ودلالة المعجزة على النبوة لا يتوقف على صدقه تعالى ، بل يتوقف على قوله : هذا رسولي ، وهذا ليس باخبار ، على أنا قد بينا كونه تعالى صادقا وأنه لا يفعل القبيح ، وهذا أيضا يرد على الأشاعرة.

وتجويز إظهار المعجزة لمحمد عليه‌السلام على يد الشيطان أو كونه من عادات الشياطين فيه قبح عظيم من الله تعالى ، وهذا أيضا يرد على الأشاعرة.

واعلم أنهم يجيبون عن هذه الأسئلة بأنا نجوّز ذلك من حيث الماهية وان كان ممتنعا بالنظر الى العادة ، فإنا كما نقطع بعدم انقلاب البحر دما مع جوازه ، كذلك

٤١٨

نقطع بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب وإن كان جائزا.

وهذا الجواب ضعيف ، لأنا نمنع حصول القطع مع النظر الى ذلك التجويز ، نعم القطع حاصل مع الغفلة عن ذلك.

وكيف يحصل للعاقل قطع بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب مع أنه معتقد (١) لتجويز القبيح عليه تعالى.

ومن هاهنا يظهر أن التكاليف السمعية والأوامر الشرعية انما يصح ثبوتها ويقطع به على رأي المعتزلة ، أما على طريقة الأشاعرة فلا.

والبداء غير لازم من القبيح (٢) ، لأن التكليف يعتبر فيه المصلحة ويجوز تغيرها بتغاير الأوقات ويكون المأمور به حسنا في وقت دون آخر فيحسن النهي عنه ، وعند الأشاعرة هذان ساقطان ، لأنهم لا يعترفون بالحسن والقبح ، والجواب المذكر وانما هو على رأي المعتزلة.

وأما موسى عليه‌السلام ، فإنه بين بيانا كليا أن شرعه سينسخ ولم ينقل ذلك لانقطاع تواتر اليهود ، لأن بختنصر استأصلهم ، وعند الأشاعرة وجماعة من المعتزلة أنه لا يجب البيان في ذلك وقد علم التكرار بدليل خارجي ، واذا كان تواترهم منقطعا فلا احتجاج بنقلهم في السبت وغيره.

__________________

(١) ج : معتمد.

(٢) قال السيد المرتضى رحمه‌الله : هنا وجها آخر ، وهو ان البداء هو أن يأمر بنفس ما نهى عنه والوقت والمكلف واحد ، وليس كذلك النسخ لان النسخ ، يتناول النهي عن مثل ما كان مأمورا به لا عنه نفسه (شرح جمل العلم ص ١٨٦).

٤١٩

البحث الخامس

في كيفية إعجاز القرآن

لما اعتنى المسلمون بنقل القرآن من ساير المعجزات وجب البحث عن كيفية إعجازه ، وقد اختلف الناس في ذلك ، فقال قوم : كون القرآن معجزا إنما هو لكونه منعا من المعتاد ، قالوا : ووجه الإعجاز فيه أن العرب توفرت دواعيهم على المعارضة مع شدت فصاحتهم وسكتوا عن المعارضة المعتادة ، وهذا دليل على إعجازه.

وهذا قول النظام والسيد المرتضى من أصحابنا وبعض المعتزلة ، وهو قول بالصرفة (١).

وقال آخرون : إنه معجز لأن الإتيان بمثل كل سورة منه غير معتاد.

واختلف هؤلاء ، فقال بعضهم : إن إعجازه من حيث الأسلوب وجعل

__________________

(١) الصرفة مصدر من صرف يصرف صرفا اي منع ، والمراد هنا صرف الله تعالى همم الناس عن معارضة القرآن مع تمكنهم من ذلك ، ولهم في هذا ثلاثة مذاهب كما سيجيء في كلام المصنف.

وقال بالصرفة جمع من المتكلمين ، فمن المعتزلة : النظام كما جاء في اكثر الكتب الكلامية ، والجاحظ على ما في كتابه : الحيوان ج ٤ ص ٨٩. ومن الشيعة : الشيخ المفيد في اوائل المقالات ص ٣٢ ، والسيد المرتضى في الذخيرة ص ٣٧٨ وشرح جمل العلم ص ١٧٩ ، وقد صنف في ذلك كتابا سماه بالصرفة او الموضح عن وجه اعجاز القرآن ولم يصل إلينا ، والشيخ الطوسي في احد قوليه كما جاء في : تمهيد الاصول ص ٣٣٤ ، وابو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف ص ١٠٧ ، وابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة ص ٨٩ ، وسديد الدين الحمصي في المنقذ من التقليد ص ٤٦٠.

ولنا رسالة في القول بالصرفة في وجه اعجاز القرآن تحت عنوان (الشيخ المفيد والقول بالصرفة) ، وقد نشرها المؤتمر العالمي لذكرى الشيخ المفيد باللغة العربية والفارسية.

٤٢٠