مناهج اليقين في أصول الدين

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

مناهج اليقين في أصول الدين

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: يعقوب الجعفري المراغي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

البحث الثاني عشر

في أنه تعالى غني

ذات واجب الوجود مستغنية عن غيرها ويستحيل انفعالها عنه فيكون غنيا وهذا ظاهر ، وأيضا ذلك الغير إن كان واجبا فهو محال لما يأتي ، وإن كان ممكنا استند إليه فيكون مفتقرا إليه فكيف يعقل افتقاره الى ما يفتقر إليه ، والمتكلمون طولوا في هذا الباب مع ضعف براهينهم ، ونحن نذكر هاهنا خلاصة ما نقل إلينا من كلامهم.

قال مشايخ المعتزلة : لو كان واجب الوجود محتاجا (١) في جلب نفع او دفع ضرر لكان مشتهيا ونافرا واللازمان باطلان والمقدم مثلهما ، بيان الملازمة أن النفع هو اللذة والسرور وما يؤدي إليهما او الى احدهما ، والضرر هو الألم والغم ما يؤدي إليهما او الى احدهما ، واللذة إدراك المشتهى والسرور اعتقاد وصول النفع او اندفاع الضرر ، والألم إدراك ما ينفر عنه والغم اعتقاد وصول الضرر او فوات النفع ، فكل من جازت عليه المنفعة والمضرة جازت عليه اللذة والألم ، ومن جازت عليه هاتان الصفتان جازت عليه الشهوة والنفرة.

وأما بطلان التالي ، فلأنه لو كان مشتهيا فإما أن يكون لذاته فيكون مشتهيا للشيء الواحد ونافرا عنه في الوقت الواحد هذا خلف ، وإما أن يكون لشهوة قديمة وهو محال لاستحالة تعدد القديم ، وإما أن يكون لشهوة محدث فيكون ملجأ الى

__________________

(١) جاء هذا البرهان في كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي حيث قال : «ان الحاجة إنما تجوز على من جازت عليه الشهوة والنفار ، والشهوة والنفار انما تجوز على من جازت عليه الزيادة والنقصان ، والزيادة والنقصان إنما تجوز على الأجسام ، والله تعالى ليس بجسم فيجب ان لا تجوز ، عليه الحاجة» (شرح الاصول الخمسة ص ٢١٣).

٣٤١

فعل الشهوة والمشتهي جميعا هذا خلف ، ولأنه لو كان مشتهيا ونافرا لكان جسما والتالي باطل والمقدم مثله والشرطية ظاهرة ، فان المشتهي هو الذي إذا أدرك ما يشتهيه صح جسمه والنافر هو الذي إذا أدرك ما ينفر عنه فسد جسمه والله تعالى ليس بجسم.

وقال القاضي عبد الجبار (١) : لا دلالة على كونه محتاجا فيجب نفيه.

وقال سديد الدين سالم بن محفوظ صاحب المنهاج من الامامية (٢) : لو كان محتاجا فحاجته إن لم يكن موجودة في الخارج انتفت ، ولأن الذهن (٣) إن طابق استدعى الخارج وإلا فجهل ، ولأن المحتاج محتاج في نفسه وإن لم يوجد الذهن وإن كانت موجودة في الخارج ، فإن كانت واجبة الوجود تعدد الواجب ، وإن كانت ممكنة فان استندت الى واجب الوجود بالايجاب بشرط ، فذلك الشرط إن كان معلولا للواجب على الاطلاق لزم قدم العالم ، وإن كان بشرط ، تسلسل ، وإن كان بالاختيار فهو محال لأن الحكيم لا يفعل في ذاته الحاجة ، وان استندت الى غيره فذلك الغير ممكن وهو محال والا لزم التسلسل.

ثم اورد على نفسه بأن قال : يلزم مما ذكرتم الدور ، لأن كونه تعالى حكيما انما يتم بعد بيان كونه غنيا ، فلو بنيتم كونه غنيا عليه لزم الدور.

وأجاب بأن الحكيم يطلق على معنين : الأول العالم بحقائق الأمور ، والثاني

__________________

(١) انظر : شرح الاصول الخمسة ص ٢١٤.

(٢) ستأتي ترجمة الرجل في آخر الكتاب ، ولكن لم نقف على كتابه المنهاج ، الا ان صاحب الروضات عدّ من مصنفات الرجل كتابه «المنهاج في الكلام» (الخوانساري ، روضات الجنات ج ٤ ص ٤) وكذا العلامة الطهراني الا انه اضاف انه قد قرأ المحقق الحلي عليه كتابه هذا وقرأ عليه بعضه السيد رضي الدين علي بن طاوس كما حكاه الجبعي في مجموعته عن خط الشهيد. (الطهراني ، الذريعة ج ٢٣ ص ١٥٤).

(٣) ج : الذهني.

٣٤٢

التارك للقبيح الذي لا يخل بواجب ، والمقصود بالحكيم هاهنا هو الأول فلا دور.

وهذه الحجج لا يخفى ضعفها.

وقيل : لو كان محتاجا في ذاته لكان ممكنا ، ولو كان محتاجا في صفاته لكان وجود ذاته متوقفا على وجود تلك الصفة أو عدمها المستفادين من الغير وكل متوقف مفتقر.

٣٤٣

البحث الثالث عشر

في أنه تعالى واحد

واجب الوجود لا يمكن أن يحمل على شيئين ، والّا فإن تميزا بعد هذا الاشتراك فلا يخلو إما أن يكون جهة الامتياز عارضة لجهة الاشتراك او لازمة أو معروضة او ملزومة ، فإن كان ما به الامتياز عارضا افتقر الى سبب يقتضي العروض فيكون كل واحد من واجب الوجود انما هو هو بعلة ، وإن كان لازما استحال التعدد ، وإن كان معروضا كان واجب الوجود عارضا لغيره أعني الوجود المتأكد ، ونحن قد بينا فيما سلف أن الوجود نفس الماهية.

وأيضا يفتقر الى سبب ، وقد بينا أن ما يفتقر الى سبب فهو ممكن فالواجب ممكن وان كان ملزوما عرض المحالان.

وأيضا لو تعدد (١) ، فإما أن يمتنع عليهما المخالفة أولا ، والقسمان باطلان.

أما الأول ، فلأنه لو كان أحدهما موجودا بانفراده لصح منه إيجاد الحركة ، والآخر لو انفرد (٢) لصح منه إيجاد السكون ، فمع الاجتماع إن بقيت الصحتان فهو المطلوب ، وإن عدمتا فليس أحدهما بقادر فليس بإله.

وأما الثاني ، فلأنه لو صحت المخالفة وأراد احدهما الحركة والآخر السكون ، فان وقعا او عدما لزم المحال ، وان عدم أحدهما ووقع الآخر فهو ترجيح من غير مرجح وقول بوحدانية الصانع.

لا يقال : إن كل واحد منها حكيم فيتحد فعلاهما لاتحاد الداعي ، ولأن كل

__________________

(١) ج : لو تعددا.

(٢) : لانفراده.

٣٤٤

واحد منهما عالم بكل المعلومات فيكون عالما بوقوع أحد الطرفين فلا يريد الآخر ، ولأن كل واحد منهما عالم بكون الآخر قادرا على كل مقدور فاذا خالف أحدهما الآخر لم يتمكنا من حصول مطلبيهما فكان هذا العلم صارفا لهما عن المخالفة ، ولأن المحال انما لزم من الوقوع لا من صحة الوقوع.

لأنا نجيب عن الأول ، بأنا نفرض الكلام في ضدين (١) اشتركا في جهة المصلحة ، وهذا السؤال ساقط على رأي الأشاعرة.

وعن الثاني ، أن العلم تبع الوقوع الذي هو تبع الإرادة فلا يكون مانعا.

وعن الثالث ، أن العلم حاصل لكل واحد منهما فإن صرفهما معا عدم النقيضان والا حصل الترجيح من غير مرجح.

وعن الرابع ، أن المخالفة لما استلزمت المحال كانت محالا ، لأن الممكن لا يستلزم المحال.

وللمشايخ طرق أخرى ضعيفة إحداها أنها لو اشتركا في القدم لتساويا مطلقا لأن القدم اخص الصفات فيلزم عدم الاثنينية ، وثانيتها أن الثاني لا دليل عليه فيجب نفيه ، وثالثتها لو جاز إثبات ثان لجاز إثبات ما لا نهاية له لعدم الأولوية.

ونحن قد اعطيناك قانونا تعلمت منه ضعف هذه الطرق وأمثالها ، واعلم أن السمع لا يتوقف على الوحدانية فيجوز إثباتها به.

اوهام وتنبهات : زعم قوم من الأوائل أن العالم واجب الوجود لذاته وبطلانه قد سلف ، وذهبت الثنوية الى قدم النور والظلمة (٢) وأن العالم حدث بامتزاجهما ، ونحن قد سلف في كتابنا انّ النور عرض لا يقوم بنفسه وانّ الظلمة أمر

__________________

(١) ب : الضدين.

(٢) انظر : الشهرستاني ، الملل والنحل ج ١ ص ٢٤٤.

٣٤٥

عدميّ.

ومما زعموا هاهنا أنّ النور خير والظلمة شرّ والخيرات حاصلة من النّور والشرور حاصلة من الظلمة ، وهذا باطل ، أما أولا فلأنّ البحث في الخير والشر والشرف والخسة من الابحاث الخطابية ، وأما ثانيا فلأنّ النور قد يظهر الهارب مع شريته وقد تخفيه (١) الظلمة مع خيريته.

ومما ذهبوا إليه هاهنا أنّهما غير متناهيين الّا من جهة التقائهما ، وهذا باطل ان عنوا بالسلب عدم الملكة ، لأنّ النور عرض فتناهيه تابع لتناهي محله ، وقد اسلفنا أنّ الأجسام متناهية.

ومما ذهبوا إليه أنّ النور حيّ عالم قادر سميع بصير متحرك لذاته ، واختلفوا فذهبت الصابئة (٢) الى أنّ القوة على هذه الإرادات (٣) قوة واحدة وتختلف بحسب الآلات والمشاعر.

واثبت المانوية لكل إدراك قوة ، واختلفوا في الظلمة فالديصانية نفت عنها هذه الأوصاف ، وذهبت المانوية الى أنّها موصوفة بها وما بيناه من بطلان ما تقدم آت هاهنا.

مسألة : ذهبت المجوس الى إثبات صانع للعالم قادر حي حكيم غير جسم ولا جسماني عالم منزه عن الشرور والنقائص سموه «يزدان» (٤) ونسبوا الشرور الى الشيطان ، وذهب بعضهم الى أنّه محدث وجسم وسبب

__________________

(١) ج : وتخفيه.

(٢) كذا في النسخ ، والظاهر أنه غلط من سهو القلم ، والصحيح هو الديصانية ، لأن الصابئة ليست من فرق الثنوية ، وما نسبه هنا الى الصابئة هو عقيدة الديصانية من الثنوية على ما ذكره الشهرستاني في : الملل والنحل ج ١ ص ٢٥٠ ، ونشوان الحميري في : الحور العين ص ١٤٠.

(٣) ب : الادراكات.

(٤) انظر عن عقائد المجوس وقولهم في يزدان واهريمن الى : الملل والنحل ج ١ ص ٢٣٣.

٣٤٦

حدوثه (١) أنّه عرض ليزدان فكرة في بعض الأوقات هي أنّه كيف يكون حالي لو نازعني غيري فتولد الشيطان من هذه الفكرة ، ثم تحاربا واصطلحا وجعلا سيف المنازعة عند القمر الى مدة.

وهذا الكلام مع ظهور فساده دال على نقص قائله ، ثم نقول : الشيطان أصل الشر وقد صدر عن صانعهم فيكون الذي أثبتوه خيرا ، شريرا.

مسألة : ذهبت النصارى الى أنه تعالى واحد ليس بمتحيز فهو احد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية (٢) ، وهؤلاء ان أرادوا بالجوهر المعنى المصطلح عليه بين الفلاسفة فاكثر الناس ينفونه عنه وهو مذهبنا ، ومن يجعل الوجود مغايرا لحقيقته يوافقهم على اطلاق الجوهر بالمعنى وان لم يؤذن فيه.

وأما الأقانيم فالمتكلمون خبطوا في مرادهم منها ، وتحرير القول فيه : أن هذه الأقانيم إما أن يكون ذواتا متغايرة ومغايرة له تعالى كما يقوله الأشاعرة ، وإما أن يكون أحوالا كما يقوله أبو هاشم ، وإما أن يكون أحكاما كما يقوله أبو الحسين ، فإن كان الأول فهو باطل بما أبطلنا به مذهب الأشاعرة ، وإن كان الثاني فهو باطل بما أبطلنا به مذهب أبي هاشم ، وإن كان الثالث فهو مسلم إلا أنّهم مع القول بكثرة الأقانيم قائلون باتحادها وهذا غير معقول على ما سلف.

والذي حصّله متأخروا المتكلمين من قولهم : إنّ أقنوم الأب إشارة الى الوجود الذي هو الذات عندهم ، وإنّ أقنوم الابن هو علمه ، وإنّ أقنوم روح القدس هو حياته ، ولا منازعة حينئذ الا في اللفظ ، الا أنّهم قالوا هاهنا أنّ أقنوم الابن اعني العلم اتحد بعيسى فصار إلها بعد أن كان إنسانا وإنّ عيسى هو (٣) خالق

__________________

(١) الف وج : حدثه.

(٢) الاقنوم هو الاصل ويجمع على اقانيم ، قال الجوهري : واحسبها رومية. (لسان العرب ج ١٢ ص ٤٩٦.

(٣) ب : كلمة «هو» ساقطة.

٣٤٧

الخلق وإنّه سيحيي الموتى ، واختلفوا في كيفية اتحاده به ، فقالت اليعقوبية : إنّ الكلمة أعني العلم مازجت عيسى وخالطته وحصل امر ثالث هو المسيح ، فقالوا : إنّ عيسى جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين.

وقالت النسطورية : إنّ الكلمة جعلته هيكلا (١) وأدرعته إدراعا ، فقالوا : إنّ المسيح جوهران أقنومان.

وقالت الملكانية : إن الاتحاد كان بالإنسان الكلي دون المسيح ، وقال بعضهم : انّ الاتحاد كان بأن اثّرت فيه الكلمة كما تؤثر الصورة في المرآة من غير انتقال منها إليه.

وهذه الأقوال لا يخفى فسادها ، فانّه كيف يعقل اتحاد صفة هي العلم بذات هي جسم ، ومطلق الاتحاد قد بطل بما أسلفناه ، ونزيد هاهنا أن بعد الاتحاد إن كان المتحد جوهرا كان العرض جوهرا هذا خلف ، وإن كان عرضا كان الجوهر عرضا هذا خلف ، وإن لم يكن جوهرا ولا عرضا لزم ارتفاع النقيضين وأيضا إعدامهما وإحداث ثالث.

__________________

(١) الهيكل : الضخم من كل شيء ، والهيكل : بيت للنصارى فيه صورة مريم وعيسى. قاله في : لسان العرب ج ١١ ص ٧٠٠.

٣٤٨

البحث الرابع عشر

في اسمائه تعالى

اعلم أنّ الاسم قد يكون هو المسمى ، وذلك لأنّ الاسم عبارة عن اللفظ الدّال المجرد عن الزّمان والاسم إشارة الى اللفظ الدال على مسماه ، ومن جملة المسميات لفظة الاسم ، وقد يكون مغايرا له كالجدار الدّال على معناه المغاير للفظه.

إذا عرفت هذا فنقول : الاسم اذا أطلق على الشيء فإما أن يكون المسمى به ذات الشيء ، أو ما يكون داخلا فيها ، أو ما يكون خارجا عنها ، والدال على الخارجي إما أن يكون دالا على الموصوفية بتلك الصفة ، أو على ذلك الشيء مع كونه موصوفا بتلك الصفة ، والدال على الصفة إما أن يكون دالا على صفة حقيقية فقط ، أو إضافية فقط ، أو سلبية فقط أو ما يتركب من هذه الأقسام.

واختلف الناس في أنّه هل لذاته تعالى اسم أم لا؟ أنكره الأوائل ، لأنّ الواضع إن كان هو الله وقصد تعريف نفسه فهو محال ، أو تعريف غيره ذاته فهو أيضا محال ، وإن كان غيره فلا بد وأن يكون ذلك الغير عارفا به ، وقد بينا أنّ حقيقته تعالى غير معقولة للبشر ، وقد ظهر أنّ هذه المسألة فرع على قولنا : ذاته تعالى معقولة أولا؟ واتفقوا على أنّه يستحيل أن يكون له اسم دال على جزء معناه فإنه غير مركب فلا جزء له.

واما الألفاظ الدالة على الصفات ، فقد منعها قوم ، والأصل الذي يبني عليه أنه هل يجوز وصف الله تعالى بشيء مما يوصف به غيره أم لا؟ اتفق المسلمون على

٣٤٩

ذلك ، وذهبت الملاحدة وجهم بن صفوان (١) الى المنع من ذلك ، قالوا : لأنّا لو وصفناه بما نصف به غيره لوقعت المشاركة ثم نفتقر الى مميز فيقع التركيب ، وهذا خطأ ، فإنّ التركيب إنما يقع على تقدير المشاركة والمباينة بالذاتيات.

ومع ذلك فقد أنكروا الاجماع والقرآن الذي وصف فيه الله تعالى نفسه بكونه قادرا

عالما وغير ذلك.

__________________

(١) كما نقل عنه ذلك الشهرستاني في : الملل والنحل ج ١ ص ٨٦.

٣٥٠

البحث الخامس عشر

في بقية الصفات على رأي الأوائل

قالوا : قد ثبت أنّ الأمور العالية لا يجوز أن يفعل شيئا لأجل الأمور السافلة ، لأنّه يكون نقصا ، ولا شك في وجود الأمور العجيبة وأنّها لم يخلق عبثا ، فلا بد فيها من حكمة وقصد وظاهر ذلك يقتضي المناقضة ، وطريق الجمع أن يسند الأفعال المحكمة الى العلم ، فإنّه تعالى عالم بنظام العالم وما عليه كمال الوجود وعلمه سبب في فيضانه من غير تجدد إرادة حدثت بعد تردد ، وهذا هو معنى العناية لله تعالى.

ونحن لمّا أفسدنا أصلهم بطل ما فرّعوا عليه.

قالوا : وهو تعالى حي ، لأنّ الحي هو الدّراك الفعّال وقد ثبتا له تعالى لأنّه مدرك لكل معقول وموجد كل موجود بذاته او بواسطة ، وهو تعالى جواد لأنّ الجود هو إفادة ما ينبغي لا لغرض والله تعالى قد فعل الوجود الذي ينبغي (١) للممكنات من غير غرض (٢) ولا عوض فيكون جوادا.

قال بعض المتأخرين : لو لم يكن القصد من إيصال النفع الى الغير معتبرا في الجواد لكان الحجر الواقع على رأس عدوّ إنسان جودا من حيث أمات عدوه لا لقصد.

أجاب بعض المحققين بأنّ الجواد انما يكون جوادا إذا صدر عنه ما ينبغي بالذات ، أما إذا صدر عنه ما ينبغي بالعرض فليس بجواد والحجر لم يصدر عنه

__________________

(١) الف : كلم «ينبغي» ساقطة.

(٢) ج : عوض وغرض.

٣٥١

بالذات ما ينبغي بل بالعرض ، لأنّ الحاصل منه حركته الطبيعية وهي استفادة كمال لنفسه. ووقوعه على رأس إنسان انما حصل بالاتفاق الذي هو بالعرض ، والوقوع على رأس لا يقتضي الموت بل يقتضي اختلال أوضاع الأعضاء وللموت سبب آخر بالذات يحصل عقيبه ، ثم إن المقتضي للموت لا يكون مقتضيا لموت عدو انسان آخر بالذات بل بالعرض ، ثم المقتضي لموت عدو إنسان لا يكون مقتضيا لوصول فائدة الى ذلك الانسان بالذات بل بالعرض.

واعلم أن المتكلمين ادّعوا الضرورة في أنّ من يفعل شيئا لا لقصد فإنه لا يكون جوادا ، والطعن في المثال لا يكون طعنا في هذا الحكم القطعي.

مسألة : قالوا : الباري تعالى غني مطلقا ، اي في ذاته وفي صفاته المنتفية (١) وفي صفاته الحقيقية المستلزمة للإضافة ، فمن احتاج في شيء من هذه الثلاثة الى الغير فهو فقير (٢).

وهو تعالى ملك لأنّه غني مطلقا ، فكل شيء مفتقر إليه في كل شيء وله ذات كل شيء ، والملك من استجمع هذه الثلاث.

وهو تعالى تامّ ، لأنّه واحد واجب من كل جهة يمتنع تغيره ، فكل ما من شأنه أن يكون له فهو حاصل له بالفعل ، وهو أيضا فوق التمام لأنّ ما حصل لغيره من الكمالات فهو منه.

وهو حق محض ، لأنّه لما وجب في صفاته وذاته لم يكن قابلا للعدم والبطلان ، فذاته أحق من كل حق ، وهو خير محض لأنّ الشر عبارة عن عدم كمال الشيء من حيث هو مستحق له وواجب الوجود يستحيل أن يكون فاقدا للكمال في وقت ما ، فذاته مبرأة عن الشرور.

__________________

(١) عبارة «وفي صفاته المنتفية» ساقطة.

(٢) ب : مفتقر.

٣٥٢

وهو تعالى حكيم ، لأنّ الحكمة معرفة الأشياء ولا عرفان أتم من عرفانه ، وقد يراد بالحكمة صدور الشيء على الوجه الأكمل ، وقد بينا ذلك في حقه تعالى.

وهو تعالى جبار بمعنى أنه جبار لما بالقوة بالفعل والتكميل ، وقهار بمعنى أنه قهار العدم بالوجود والتحصيل.

وهو تعالى قيوم بمعنى أنه قائم بذاته مقيم لغيره.

كلام كلي في الصفات

قسم الأوائل الصفة على أربعة أقسام :

أحدها : الصفة الحقيقية التي لا تلزمها الإضافة كالسواد والبياض.

وثانيها : الصفة الحقيقية التي تلزمها الإضافة ولا يتغير بتغيرها كالقدرة.

وثالثها : الصفة الحقيقية التي تلزمها الإضافة وتتغير بتغيرها كالعلم.

ورابعها : الصفة الاضافية المحضة كالتيامن والتياسر.

وقالوا أيضا : الصفات التي من باب الوجود للأشياء ، إما أن يكون بحيث يجوز أن يكون الشيء الموصوف سببا لها ، سواء اعتبر ذلك الشيء موجودا أو معدوما ، وذلك كإمكان الوجود للماهيات الممكنة الوجود ، فإن إمكان الوجود لها هذا سبيله.

ومثل هذا الشيء قد يجوز أن يكون له حالة الوجود والعدم كالحادثات ، فيكون في كل واحدة من الحالتين متصفا بتلك الصفة ، وقد يجوز أن يكون له إحدى الحالتين لا غير وهي الوجود كالأزليات ، فيكون في تلك الحالة الواحدة متصفا ، وإما أن يكون بحيث لا يجوز أن يكون الشيء الموصوف بها سببا لها بل سببها أمر من خارج.

ثم إن اعتبر موجودا صح أن يكون موصوفا بتلك الصفة ، وإن كان غير موجود فلا يصح مثل هذا الشيء ، وأيضا يصح أن يعتبر له في نفسه حالتا الوجود

٣٥٣

والعدم ، ولكنه انما يجوز أن يكون متصفا بتلك الصفة في إحدى الحالتين ، وذلك كالوجود للماهيات الممكنة الوجود فإن كل ماهية ممكنة الوجود فإنها توصف بالوجود حالة كونها موجودة ، ولا يجوز أن تكون الماهية سببا لهذه الصفة بل يكون أبدا سببه أمر من خارج.

وإما أن يكون بحيث لا يجوز أن يكون الموصوف بها سببا لها ولا أيضا أمر من خارج سببا لها ولا أيضا يصح لمثل هذا الشيء أن يكون له حالتا وجود وعدم ، بل ليس له إلا إحدى الحالتين وهي الوجود ، وذلك مثل وجوب الوجود للأول ، فإنه لا يجوز أن يكون هو نفسه سببا لوجوب وجوده ولا أمر من خارج سبب لذلك ولا يجوز أن يكون له حالتا وجود وعدم.

٣٥٤

المنهج السادس

في العدل

وفيه مباحث

٣٥٥
٣٥٦

الأول

الفعل على ضربين : إما أن يكون له وصف زائد على حدوثه ، وإما أن لا يكون ، والثاني كحركة النائم والساهي ، والأول على ضربين : حسن وقبيح ، والحسن على ضربين : أحدهما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح ، والثاني ان يكون له وصف زائد عليه وهو على قسمين : أحدهما أن يكون المدح متعلقا بفعله من غير ذم في تركه وهو المندوب ، والثاني أن يكون المدح متعلقا بفعله والذم بتركه وهو الواجب ، والقبيح هو الحرام وهو الذي يستحق فاعله الذم.

اذا عرفت هذا ، فنقول : ذهبت المعتزلة الى أن الأفعال حسنت لوجوه تقع عليها وقبحت لوجوه تقع عليها من غير ان يكون للآمر والناهي في ذلك مدخل.

وعنوا بالوجوه اقتران أمور راجعة الى النفي أو الى الثبوت بحدوثها ، فيقضي العقل عند العلم بتلك الوجوه أن للفعل مدخلا في الذم او لا مدخل له وكذلك في الإخلال.

وذهبت الأشاعرة الى أن الأفعال انما حسنت بأوامر الشرع وانما قبحت بنواهيه (١).

__________________

(١) هذه المسألة من مهام مسائل علم الكلام ، ومن المسائل الرئيسية التي اختلف فيها اهل العدل من الشيعة والمعتزلة من جهة وأهل السنة والمجبرة والاشاعرة من جهة اخرى ، وبنوا عليها اكثر مسائل العدل في علم الكلام.

وقد ذكر ابن ميثم البحراني في تحرير محل النزاع كلاما جيدا ننقله هنا : «الحسن والقبيح قد يراد بهما ملائمة الطبع ومنافرته ، وقد يراد بهما صفة كمال او نقصان ، وهما بهذا المعنى مما يحكم العقل بهما عند الكل ، وقد يراد بهما كون الفعل على وجه يكون متعلق المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا ، وهما بهذا المعنى شرعيان عند الاشعرية نظريان عند الفلاسفة ...

٣٥٧

والحق عندي مذهب المعتزلة والدليل عليه أن العقلاء بأسرهم يمدحون راد الوديعة ويذمون الظالم ، فاذا طلب منهم العلة في ذلك رجعوا الى أن الرد حسن يستحق فاعله المدح ، والظلم قبيح يستحق الذم ، ولو لا علمهم باستناد الحسن والقبح الى الوجوه والاعتبارات التي يقع عليها الأفعال والا لما صح لهم استنادهما إليها.

ولمشايخ المعتزلة طريق آخر ، وهو ان الضرر مثلا انما يقبح إذا كان ظلما وإذا انتفى الظلم انتفى القبح ، ودوران الأثر مع الوصف مشعر بالعلية ، ونحن قد بينا فيما سلف ضعف الدوران.

مسألة : ذهبت المعتزلة الى أن العلم بحسن بعض الأشياء وقبحها عقلي ، فبعضه ضروري كحسن رد الوديعة وحسن الصدق النافع ، وبعضه نظري كحسن الصدق الضار.

وذهبت الأشاعرة الى أن ذلك معلوم بالشرع وأنه لا حسن ولا قبح في العقل ، فالظلم لو أمر الله به لكان حسنا ولو نهى عن رد الوديعة لكان قبيحا.

وذهبت الأوائل الى أن العلم بحسن الأشياء وقبحها مستفاد من العقل العملي.

والعدلية قد استدلوا على مذهبهم بوجوه :

احدها : أنا نعلم بالضرورة حسن رد الوديعة وقبح الظلم ، فان أحدا لو ضرب غيره على طوله أو قصره أو لونه أو كون الكواكب في السماء فإن العقلاء

__________________

اما عند اهل العدل فمنهما ما يستقل العقل بدركه ومنهما ما ليس كذلك ، والاول فمنه ما يعلم بالضرورة كشكر المنعم ورد الوديعة ... ، ومنه ما يعلم بالنظر كالعلم بحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع ، وما لا يستقل العقل بدركه فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم اليوم الذي بعده ، فانه لا طريق للعقل الى العلم بذلك لو لا ورود الشرع» (قواعد المرام ص ١٠٤).

٣٥٨

بأسرهم يسارعون الى ذمه وإن فرض عدم الشرع.

الثاني : أن كثيرا من العقلاء قد اعترفوا بحسن الأشياء وقبحها كالهند والملحدة.

الثالث : لو لم نعلم بالعقل قبح بعض الأشياء وحسنها لم نعلمها بالشرع والتالي باطل اتفاقا والمقدم مثله ، بيان الشرطية أنا (١) اذا لم نعلم قبح الكذب ثم قال لنا الله تعالى : إن هذا الشيء قبيح أو نهانا عنه أو أمرنا [بشيء او قال لنا أنه حسن جوزنا الكذب في خبره وإن ينهانا عن الحسن ويأمرنا بالقبيح (٢)] لأنا حينئذ لم نكن عالمين بأنه حكيم لا يفعل القبيح ، فوجب القول بسابقية العلم بوجوه (٣) الافعال وبحكمته تعالى.

الرابع : أن الحسن والقبح لو استندا الى الأوامر والنواهي مطلقا او بشرط القصد من الآمر والناهي ، لزم تحسين الكفر الذي يأمر به الكافر وتقبيح الإيمان الذي ينهى عنه.

فإن قالوا : إنما المؤثر هو أمر الله من حيث إنه خالق ومنعم ، قلنا : وأيّ تأثير لكونه خالقا ومنعما؟.

فإن قالوا : الخالق يجب طاعته ، قلنا : علمكم بوجوب الطاعة إن استند الى العقل اعترفتم ، وإن استند الى السمع فنحن إنما ألزمناكم في الشرع لم كان أمره واجب الاتباع.

فإن قالوا : الخالق المالك لعبيده لامره ونهيه تأثير في التحسين والتقبيح كالمالك منا لإذنه تأثير في حسن تناول ملكه ولنهيه تأثير في قبحه دون من ليس

__________________

(١) ب : كلمة «أنا» ساقطة.

(٢) الف : ما بين المعقوفين ساقط.

(٣) الف : كلمة «بوجوه» ساقطة.

٣٥٩

بمالك.

قلنا : ان استندتم في العلم بحسن تصرف المالك في ملكه الى العقل اعترفتم ، وان كان الى الشرع سقط كلامكم لأنا الزمناكم فيه.

الخامس : لو جوزنا كون الهند اعتقدت حسن الصدق وقبح الظلم لشبهة لا لقضاء العقل ، لجوزنا أن يكون بعض البلاد يعتقدون قبح القذف وذم من استعمله والاستخفاف بالمحسن (١) والاساءة إليه والاحسان الى المسيء لاجل شبهة عرضت لهم ، لأنّ العقل غير قاض بواحد منهما ، ولما كان هذا باطلا قطعا ، فإن العقلاء بأسرهم لو أخبرهم مخبر بذلك لسارعوا الى تكذيبه بناء منهم على أن ذلك ممتنع عقلا فكذلك الأول.

واحتجت الأشاعرة على مذهبهم بوجوه (٢) :

الأول : أنّ العلم بقبح الأشياء وحسنها لو كان ضروريا لوجب مساواته لاعتقاد كون الكل أعظم من الجزء لعدم التفاوت في الضروريات ، ولكانت العقلاء بأسرهم مشتركة فيه ، ولو كان نظريا لكان خرقا للإجماع ، لأنّ العقلاء بين قائلين بعدم العلم بذلك مطلقا وبين قائلين بالعلم به بالضرورة.

الثاني : أن النبي إذا هرب من إنسان قاتل ، فإخباره به مع السؤال إن كان حسنا لزم حسن الظلم ، وإن كان قبيحا لزم قبح الصدق.

والثالث : أن الله تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان بجميع ما أخبر به ومن جملته أنه لا يؤمن فيكون مكلّفا بالجمع بين النقيضين.

__________________

(١) ب : بالمحسنين.

(٢) ذكر بعض هذه الوجوه الايجي في : المواقف ص ٣٢٤ ، والتفتازاني في : شرح المقاصد ج ٤ ص ٢٨٤ ، وبنى الايجي هذه المسألة على مسألة عدم اختيار العبد في افعاله على ما يعتقده الاشاعرة ، وقال : ان العبد مجبور في افعاله واذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبيح اتفاقا (المواقف ص ٣٢٤) ، وبناء على هذا فالمسألة مبنائية.

٣٦٠