مناهج اليقين في أصول الدين

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

مناهج اليقين في أصول الدين

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: يعقوب الجعفري المراغي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

المعنى المعقول والخارجي ، ظن أنها واحدة بالشخص في الجميع ، فأورد الظانّ ما أورد لمقتضى ظنه ، والتحقيق ما قلناه.

وعن الثالث ، أن قبول الماهية للوجود أمر اعتباري ليس كقبول الجسم للسواد ، وأكثر الخطأ في هذه المواضع إنما نشأ من أخذ الأمور الذهنية مقيسة على الأمور الخارجية ، وهذا هو الجواب عن الرابع ، فهذا ما ذكروا على هذه الحجة.

وأما الثانية فهي عندي ضعيفة ، لأن الوجود إذا نسب الى الماهية من حيث هي قابلة ، كان مغايرا له إذا نسب إليها من حيث هي فاعلة ، ومع تغاير النسب لا يلزم ما ذكروه.

واحتج القائلون بالزيادة بوجوه :

احدها (١) : أن الوجود من حيث هو هو واحد لما بينا ، فهو إن اقتضى العروض ثبت المطلوب ، وإن اقتضى عدم العروض لزم إما كون الممكنات نفس وجوداتها أو عدمها ، وإن لم يقتض أحدهما افتقر الى علة.

الثاني : أن حقيقته تعالى (٢) غير معلومة ووجوده معلوم (٣).

الثالث : أن المقتضي للتأثير إن كان هو الوجود من حيث هو فكل وجود كذلك فلا ممكن ، وإن كان هو المجرد كان للسلب مدخل في التأثير.

الرابع : الوجود طبيعة نوعية ، فإن اقتضى العروض في البعض اقتضاه في الكل.

أجاب بعض المحققين عن الأول ، بأن الوجود مقول بالتشكيك على ما تحته من الوجودات ، فليس نفس ماهياتها ولا جزء منها بل هو لازم عارض عروض البياض للبياضات الخاصة ، والمقول بالتشكيك لا يلزم من اشتراكه اشتراك أنواعه

__________________

(١) الف : احدهما وهو غلط.

(٢) ب : حقيقة الله.

(٣) الف : غير معلوم وهو غلط.

٣٠١

فيما يقتضيه كالنور المقتضي في بعض معروضاته كنور الشمس لإبصار الأعشى دون غيره.

وعن الثاني ، أن المعقول هو المقول بالتشكيك وهو أمر ذهني لازم للحقيقة (١) التي هي الوجود الخاص.

وعن الثالث ، أن المقتضي إنما هو وجوده الخاص به المخالف لغيره في نوعيته وإن شاركه في مطلق الوجود الذهني.

وعن الرابع ، بالمنع.

واعلم أن حاصل هذه الأجوبة يرجع الى شيء واحد ، وهو أن الوجود مقول بالتشكيك على الوجودات ، والمقول على أشياء بالتشكيك خارج عنها ، وعندي فيه إشكال.

وتحريره ما أقوله ، وهو : ان الوجود من حيث هو إما أن يكون صدقه على الواجب والممكن بالاشتراك اللفظي أو المعنوي ، فإن كان الأول سقطت هذه الوجوه إلا أنه مخالف للجواب ، وإن كان الثاني فلا بد وأن يكون لكل ما صدق عليه ذلك الوجود العام حصّة منه خاصة به نوع له ، لأن ذلك الوجود يكون جنسا لاستحالة تعقل ذلك الخاص دون العام وتقدمه في الوجودين إن كان يلحقه الوجود وهذه خواص الذاتي.

وإذا ثبت ذلك فنقول : ذلك النوع إن كان مغايرا لماهية الله تعالى ثبت مطلوب القوم ، وان كان نفس حقيقته لزم ما ذكره السائل من الوجوه ، فالخلاص حينئذ إنما هو بكون الوجود مقولا بالاشتراك اللفظي بين الواجب وغيره من الممكنات.

مسألة : استمرار وجود الشيء هل هو صفة زائدة على ذاته أم لا؟ الحق أنه

__________________

(١) ج : لحقيقته.

٣٠٢

زائد في الاعتبار ، أما في الخارج فلا ، لأن المعدوم قد يتصف بالاستمرار ، فإنا كما نعقل مقارنة الوجود لزمانين كذلك نعقله في العدم ، ولو كان صفة ثبوتية لزم اتصاف المعدوم بالصفة الثبوتية هذا خلف.

واعلم أن بعض المعاني المعقولة قد يعرض لبعضها البقاء الذي هو الاستمرار بهذه المثابة ، فإنه قد يعقل الذهن له بقاء آخر وينتهي بانقطاع الاعتبار العقلي ، وأثبت أبو الحسين البقاء صفة لله تعالى قديمة قائمة به ، ونفاه القاضي وجماهير المعتزلة ، وأثبت الكعبي البقاء شاهدا ونفاه غائبا (١).

واحتج المثبتون له بأن الذات لم تكن باقية ثم صارت باقية ، فتجدد البقاء مع عدم تجدد الذات دال على الزيادة ، وهو ضعيف ، فإنه يدل على الزيادة الاعتبارية لا على الخارجية ، ونوقضوا بالحدوث فإن الذات لم تكن حادثة ثم تصير حادثة.

وأيضا المعاد لم يكن معادا ثم صار معادا ، فيلزم أن يكون كون ذاته (٢) معادة زائدا عليها ، وقد التزم به القاضي من الأشاعرة ، فقد ظهر من هذا أن الله تعالى باق لذاته.

وأيضا فإنه لو كان باقيا بالبقاء لكان ممكنا من حيث افتقاره في وجوه الى تلك الصفة.

وأيضا إن قام البقاء بذاته تعالى لزم احتياجه إليه ، فيستحيل احتياج الله تعالى الى تلك الصفة والّا جاء الدور والّا لزم وجود صفة لموصوف غير قائمة به

__________________

(١) قال الرازي : ذهب ابو الحسن الاشعري واتباعه الى ان الله تعالى باق ببقاء يقوم به ، وذهب القاضي وامام الحرمين الى نفيه وهو الحق (محصل افكار المتقدمين والمتاخرين ص ٢٥٢) وقال المحقق الطوسي في تعليقته على ذلك : وهاهنا مذهب آخر وهو يقول بثبوت البقاء في الممكنات ونفيه عنه تعالى وبه قال الكعبي واتباعه (ص ٢٥٣).

(٢) ب : الذات.

٣٠٣

هذا خلف.

وأيضا صفاته باقية فيلزم قيام المعنى بالمعنى.

وأيضا البقاء إن لم يكن باقيا لم تكن الذات باقية به ، وإن كان باقيا لزم التسلسل.

أجابوا عن هذين بوجوه :

الأول : أن صفاته يبقى ببقاء الذات فلا تسلسل ولا يلزم قيام المعنى بالمعنى.

لا يقال : لو جاز بقاء الصفات ببقاء الذات جاز أن يعلم الصفات بعلم الذات ويقدر بقدرتها.

لأنا نقول : التلازم حاصل بين الذات والصفات ، فبقاء احدهما يستلزم بقاء الآخر بخلاف العلم والقدرة.

الثاني : الذات باقية بالبقاء والصفات باقية لذاتها.

الثالث : قال بذاته تعالى بقاءان : أحدهما يقتضي بقاء الذات ، والاخر يقتضي بقاء الصفات.

وهذه الأجوبة عندي ضعيفة.

اما الأول ، فلأن البقاء من جملة الصفات ، فلو بقي ببقاء الذات لزم الدور.

وأما الثاني ، فلأنه يلزم منه كون الصفات أولى بالذاتية من الذات ، ولأنه لما عقل في بعض الأشياء البقاء من غير أمر زائد ، فلم لا يعقل في الذات؟.

وأما الثالث ، فلأن بقاء الصفات مغاير لها ومن جملتها البقاء فيكون له بقاء حال في الذات مغاير له ويلزم التسلسل (١) ، الا أن يقولوا : انّ بقاء الصفات باق لذاته وحينئذ يعود الكلام الى الوجه الثاني.

__________________

(١) سقط هنا قريبا من صفحتين من نسخة الف.

٣٠٤

مسألة : ذهبت الأشاعرة الى أن الله تعالى متكلم بكلام قائم بذاته تعالى قديم ، وأنه واحد ليس بأمر ولا نهي ولا خبر أوجب له كونه تعالى متكلما (١) بوجوه :

أحدها : أن الطلب معنى من المعاني المعقولة ولا يجوز أن يكون هو القدرة والعلم والحياة وغير ذلك من الصفات ، وهو ظاهر إلا في الإرادة.

وإنما كان مغايرا لها لأن وجود كل واحد منها قد يحصل بدون الآخر ، أما الإرادة فكثير ما يريد الإنسان شيئا ولا يطلبه لتعذره ، واما الطلب فلأن السيد إذا أمر عبده عند السلطان طالبا إظهار تمرّده ليتضح عذره في عقوبته فإنه في تلك الحالة طالب غير مريد وذلك الطلب هو نفس الكلام.

وثانيها : أن ذلك المعنى أعني الطلب باق مع تغير الألفاظ الدالة عليه أعني الكلام اللفظي فدل على التغاير.

وثالثها : قول الشاعر :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا (٢)

ورابعها : أنه تعالى موصوف بأنه متكلم إجماعا ، فذلك الوصف إما أن يكون قديما أو محدثا ، والثاني باطل والّا لزم أن يكون محلّا للحوادث ، والأول هو المطلوب.

__________________

(١) هذا هو القول بالكلام النفسي الذي اثبته ابو الحسن الاشعري واشتهر به ، وقد رده المحققون حتى ان النوبختي قال في الياقوت : وكلام النفس هذيان! وقال العلامة في شرحه : انه غير معقول فان العقلاء كافة لا يصفون بالتكلم الّا من صدر عنه الحروف والاصوات ... (انوار الملكوت في شرح الياقوت ص ١٣٩).

(٢) هذا الشعر للاخطل كما نسب إليه الفاضل المقداد في اللوامع الالهية ص ١٢٥ والتفتازاني في شرح المقاصد ج ٤ ص ١٥٠ ، وكان الاخطل مسيحيا يشرب الخمر ومع ذلك كان شاعر الامويين ، قال عبد الملك بن مروان : لكل قوم شاعر وشاعر بني امية الاخطل (ابو الفرج الاصفهاني ، الاغاني ج ٨ ص ٢٩٤).

٣٠٥

ثم نقول : ذلك القديم إن كان هو الحروف والأصوات فهو باطل ، لأن كل واحد من الحروف حادث ، لأن اللفظ مركب من الحروف المتتالية والمتأخر محدث لتأخره والسابق كذلك لتقدمه على المحدث بزمان متناه ، فثبت أن القديم معنى من المعاني غير الحروف والأصوات.

وهذه الوجوه فاسدة :

أما الأول ، فلأنا لا نعقل معنى يغاير الإرادة هو الطلب ، وما ذكروه من وجود كل واحد منهما بدون الآخر فهو باطل ، فإنا دائما متى كنا مريدين كنا طالبين ، ولا فرق بين امتناع الطلب لتعذر المطلوب وامتناع الإرادة لتعذر المراد ، وما ذكروه من المثال فهو ضعيف ، فإنا نقول : ان السيد إنّما يأمر بذلك من غير إرادة ولا طلب.

واما الثاني ، فانه يدل على ثبوت معنى غير الألفاظ ، ونحن نقول : ذلك المعنى هو الإرادة ، فإن أثبتوا شيئا آخر فعليهم البرهان.

واما الثالث ، فهو ضعيف ، أما أولا فلعدم إفادته اليقين بل والظن الغالب ، وأما ثانيا فلأنه يحتمل أن يكون أراد بذلك تصور الكلام.

واما الرابع ، فلأنا نقول : إنه تعالى متكلم بمعنى أنه فاعل للكلام لا على أنه صفة حقيقية في ذاته تعالى.

٣٠٦

البحث الثاني عشر

في كونه تعالى صادقا

المسلمون اتفقوا على ذلك وأدلّتهم مختلفة ، أما طريقة المعتزلة في أن الكذب قبيح وهو على الله تعالى محال لما يأتي.

واما الاشاعرة فلهم في ذلك طريقان :

الأولى (١) : أن الكذب نقص وهو على الله محال.

الثاني : أن كلامه تعالى نفساني فيستحيل (٢) الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل ، إذ الخبر يقوم به النفس على وفق العلم والجهل.

واستحدث لهم طريقتان أخريان :

إحداهما : أن الرسول عليه‌السلام أخبر عن صدقه والرسول صادق.

الثانية : أنه إن كان كاذبا بكذب محدث لزم قيام الحوادث به هذا خلف ، وإن كان كاذبا بكذب قديم لزم استحالة صدقه ، لأن القديم لا يزول واللازم باطل قطعا ، لأن كل من كان قادرا على الكذب فهو قادر على الصدق ، فإن من قدر على أن يقول : العالم ليس بمحدث ، كان قادرا على أن يقول : العالم محدث ، لأن القادر على مجموع قادر على أفراده.

والحق طريقة المعتزلة وحجج الأشاعرة مدخولة.

اما الأولى ، فلأن الحكم بكون الكذب نقصان إن كان عقليا فهو خلاف مذهبهم ورجوع الى طريقة المعتزلة ، وإن كان سميعا لزم الدور.

وأما الثانية ، فلا نسلم استحالة قيام الكذب لمن يستحيل عليه الجهل.

__________________

(١) ج : الطريقة الاولى.

(٢) ج : ويستحيل.

٣٠٧

وأيضا فلو سلمنا صدق الكلام القائم بالنفس فلا نسلم صدق هذه الألفاظ الدالة عليه.

وأما الثالثة ، فلأن إخبار الرسول عليه‌السلام يدخله التخصيص والنسخ وغير ذلك من المعاني الموجبة لعدم اليقين عندهم ، فلا يبقى القطع حاصلا.

واما الرابعة ، فضعيفة لجواز انقسام كلام الله تعالى الى ما هو صدق دائما والى ما هو كذب دائما.

وقد يورد على طريقة المعتزلة أنه يحتمل دخول التخصيص والمجاز والإضمار وغير ذلك في خبر الله تعالى ، فلا يبقى وثوق به كما لا يبقى وثوق بخبره لو كان كاذبا.

والجواب أنه قد يحصل في خبر الله تعالى من القرائن ما يفيد القطع بانتفاء هذه المفاسد (١).

__________________

(١) من هنا سقط قريبا من صفحتين من كل من نسختي الف وب.

٣٠٨

البحث الثالث عشر

في بقية الكلام في الصفات الثبوتية

مسألة : مثبتوا المعاني من الأشاعرة اختلفوا. فذهب قوم الى أنه تعالى عالم بعلم واحد وقادر بقدرة واحدة ومريد بإرادة واحدة ، وذهب أبو سهل الصعلوكي الى خلاف ذلك ، والقاضي أبو بكر قال : إن الإجماع على الأول وخلاف أبي سهل حاصل بعده فيكون محجوجا به ، وذلك لأن الناس قائلان : منهم من أثبت المعاني فجعلها واحدة ، ومنهم من نفاها ، فالقول بكثرتها خارق للإجماع.

مسألة : المشهور عندهم أن كلام الله تعالى واحد ، وقد نقل عن بعض قدمائهم إن الله تعالى خمس كلمات : الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء ، وذهب عبد الله بن سعيد منهم الى أنه في الأزل واحد ثم يصير فيما لا يزال متعددا.

والمعتزلة أنكروا الجميع ، لبطلان الأصل الّذي بنوا عليه وهو الكلام النفساني ، ومع تسليمه أبطلوا الأول ، فإنه من المحال ان يعقل كلام مغاير لهذه ، وأبطلوا الثاني بأنه من المحال أن يكون الله تعالى آمرا في الأزل من دون مأمور ولا منهي فإن ذلك سفه.

وقول عبد الله بن سعيد باطل ، لأن التغير لا يمكن إلا بزوال شيء كان والأزلي لا يتغير.

مسألة : اختلف مثبتوا المعاني السبعة في أنه تعالى هل يوصف بالأحوال السبعة ، فذهب القاضي ومثبتوا الأحوال من الأشاعرة الى أن العلم القديم معنى تقتضي لله تعالى حالة العالمية وكذلك القدرة والحياة وغيرها ، ونفاة الأحوال منهم ذهبوا الى ان العلم نفس العالمية وكذلك البواقي.

مسألة : لا نزاع فيما بينهم في أن الحالة متعلقة بالمتعلق كالعالمية المتعلقة

٣٠٩

بالمعلوم ، وهل للمعنى الذي هو العلم تعلق به أم لا؟ فالظاهر تعلقه به أيضا.

قالوا : وإلّا لم يكن بأن يوجب العالمية بذلك المعلوم أولى من ان يوجبها بمعلوم آخر ، وهذا لا شك في ركته.

مسألة : اختلفوا في تعلقات الصفات هل هي ثبوتية أم لا؟ والحق عندي أنها ليست بثبوتية والا لزم التسلسل.

احتجوا بأن تعلق العلم بالمعلوم مغاير لهما لكونه نسبة ، وهو ثبوتي لأنه نقيض اللاتعلق الصادق على المعدوم فيكون ثبوتيا.

والجواب الكذب في قولكم إن نقيض العدمي ثبوتي ، ولو سلم فلا نسلم أن لا تعلق عدمي ، والاستدلال بصورة السلب عليه دور.

مسألة : اعترف بعض الأشاعرة تغير هذه التعلقات ، لأن الله تعالى كان قادرا في الأزل على ايجاد زيد ، فبعد إيجاده يستحيل بقاء ذلك التعلق وإلا لزم جواز إيجاد الموجود.

لا يقال : إنه قادر على إيجاده بأن يعدم فيوجده فلا تغير.

لأنا نقول : الكلام في الإيجاد المبتدأ ، لا فيه مطلقا ، ونحن لما أثبتنا التعلقات ذهنا سقط عنا هذا الفرع (١).

مسألة : ذهب فقهاء ما وراء النهر (٢) الى إثبات صفة لله تعالى سموها التكوين وهي قديمة والتكوّن (٣) محدث ، واستدلوا بأنه يصدق أن الله تعالى خالق وموجد ومكوّن ، ولا يجوز أن يكون المرجع بهذه الأمور الى القدرة ، فإن القدرة قد يصدق وإن كان التكوين معدوما ، فإن الله تعالى قبل أن يوجد الفعل يصدق عليه

__________________

(١) الى هنا تم ما سقط من نسختي الف وب.

(٢) هم فقهاء الحنفية كما صرح بذلك الرازي حيث قال : زعم بعض فقهاء الحنفية ان التكوين صفة ازلية لله تعالى وان المكون محدث. (محصل افكار المتقدمين والمتأخرين ص ٢٦٩).

(٣) ج : والكون.

٣١٠

أنه قادر غير مكوّن وظاهر أنه ليس باقي الصفات.

وأيضا قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ، فجعل قوله كن متقدما على الكون.

والحجتان ضعيفتان.

أما الأولى ، فلأن المرجع بالتكوين الى نفس الفعل في الخارج وإن كان وصفافي الذهن اعتباريا مغايرا له.

وأما الثانية ، فلفظية لا تراد منها الحقيقة.

واستدل بعضهم على النفي بأنه إن عنيتم بهذه الصفة مؤثرية القدرة في المقدور فهي صفة نسبية لا يوجد بدونهما ، وإن عنيتم بها صفة مؤثرة في صحة الفعل فهي القدرة ، وإن عنيتم بها امرا آخر فاذكروه.

فإن قالوا : عنينا ما يؤثر على سبيل الوجوب.

قلنا : فيلزم أن يكون الله تعالى موجبا.

وهذه الحجة ضعيفة ، لأن الوجوب اللاحق لا يؤثر في القدرة السابقة والإمكان السابق.

والتحقيق هاهنا ما أقوله ، وهو أنهم إن عنوا بهذه الصفة النسبة الحاصلة بين الأثر والمؤثر فهو باطل لوجوب تأخرها ، وإن عنوا بها كون الذات بحيث يصح منها الفعل فهو راجع إلى كون الذات قادرة فإن هذا حكم راجع الى القدرة ، وإن عنوا بها كون الذات بحيث يجب عنها الفعل فهو أمر راجع الى القدرة والإرادة جميعا فإنهما كافيان في ذلك.

مسألة : أثبت ابو الحسين (٢) اليد صفة مغايرة للقدرة والعين مغايرة للبصر

__________________

(١) النحل : ٤٠.

(٢) كذا في النسخ ، والظاهر انه ابو الحسن الاشعري صرح بذلك الفخر الرازي في محصل افكار

٣١١

والاستواء عبارة عن صفة بها يصير مستويا على العرش والوجه مغايرا للوجود ووافقه على ذلك أبو اسحاق الأسفرائيني ، وأثبت أبو اسحاق صفة توجب الاستغناء عن المكان ، والقاضي أثبت ثلاث صفات اخرى : ادراك الشم واللمس والذوق.

وأثبت عبد الله بن سعيد (١) القدم صفة مغايرة للبقاء ، والرحمة والكرم والرضا صفات مغايرة للإرادة ، واستدلوا على ذلك بالسمع ، ونحن في مقام التوقف.

والمتكلمون نفوا ما عدا الصفات السبعة قالوا : لأنا كلّفنا كمال المعرفة فلا بد لها من طريق ولا طريق الى إثبات هذه الصفات ، وهذه الطريقة انما تدل على نفي معرفة بزائد أما على النفي في نفس الأمر فلا.

مسألة : ذهب جمهور المعتزلة والأشاعرة الى أن حقيقة الله تعالى معلومة للبشر لأن وجوده تعالى نفس حقيقته وهو معلوم والمقدمتان سلفتا ، وذهب الأوائل وضرار من متقدمي المتكلمين والغزالي من متأخريهم (٢) الى أنها غير معلومة ، لأن المعقول لنا إما صفاته السلبية ككونه ليس بجسم ولا عرض أو الإضافية ككونه قادرا عالما خالقا ، أما غير ذلك فلا.

وهذا عندي هو الحق ، وما ذكره المتكلمون في حجتهم فهو مبني على أن حقيقته نفس وجوده ، وللمنازع أن ينازع فيه وأما نحن فنجيبهم بالمنع من العلم بوجوده ، والأوائل أجابوا بهذا وجعلوا المعلوم هو الوجود المطلق المقول بالتشكيك ، وأيضا المعقول منه صادق على كثيرين وذاته صادقة على كثيرين.

__________________

المتقدمين والمتاخرين ص ٢٧٠ ، ونسب ذلك إليه الا يجيء في المواقف ص ٢٩٧ و ٢٩٨ ، ويظهر ذلك من كتاب الاشعري نفسه الموسوم بالابانة عن اصول الديانة ص ٨٩.

(١) كما جاء ذلك وما نسب المصنف الى أبي اسحاق الأسفرائيني في : محصل افكار المتقدمين والمتاخرين ص ٢٧٠.

(٢) نسب هذا القول الى ضرار والغزالي الفخر الرازي من محصل افكار المتقدمين والمتاخرين ص ٢٧١.

٣١٢

واستدلت الأوائل بأن العلم يستدعي حصول صورة مساوية للمعلوم ، فيكون واجب الوجود مقولا على كثيرين أعني الذهني والخارجي ، ولأن من عقله عقل معلولاته ، لأن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول.

وهذان عندي ضعيفان ، أما الأول فلأن الممتنع تكثر الواجب في الخارج على أن لنا في قولهم العلم يستدعي صورة بحثا قد سلف.

وأما الثاني فلجواز أن يكون من عقل الواجب يعقل جميع المعلولات ، على أن المنع قائم في أنه علة وفي أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول.

٣١٣
٣١٤

المنهج الخامس

فيما يستحيل عليه تعالى

وفيه مباحث

٣١٥
٣١٦

الأول

في أنه تعالى غير مركب

مقدمة : كل حقيقة مركبة فانها تلتئم عن عدة أمور ويكون وجودها إنما يتم بوجود تلك الأمور ، فوجود الجزء سابق على وجود الكل والذهني أيضا مطابق للخارج فللجزء في الذهن التقدم ، ثم إن تصور التقدم مغاير لتقدم التصور وكلاهما حاصل للجزء ، والتركيب قد يكون خارجيا وقد يكون ذهنيّا ، فإن أجناس الماهية إنما تتميز عن فصولها في الذهني أما في الخارج فهي متحدة فليس في الخارج حيوان مطلق وناطق وانضم منهما معنى ثالث هو الانسان ، بل وجود الإنسان هو وجود الحيوان الذي ذلك الحيوان هو الناطق.

وتحرير هذا الموضع ذكرناه في كتاب الأسرار (١).

وأجزاء الماهية قد يكون بعضها أعم من بعض ، إما مطلقا كالحيوان والناطق ، أو من وجه كالحيوان والأبيض ، وقد لا يكون كتركيب العلة والمعلول في الذهن.

اذا عرفت هذا فنقول : كل مركب فهو مفتقر الى جزئه (٢) وجزئه غيره وواجب الوجود لا يفتقر الى غيره ، ومن هاهنا يظهر أن الوجود نفس الماهية في حقه تعالى ، وبهذا (٣) يندفع أيضا قول من تشكك هاهنا بأنه يحتمل أن يكون واجب الوجود مركبا من اجزاء واجبة فلا يفتقر الى غير اجزائه.

__________________

(١) سبق منا التعريف بكتاب الاسرار الخفية في العلوم العقلية.

(٢) ب : اجزائه.

(٣) ج : وهذا.

٣١٧

البحث الثاني

في انه تعالى ليس بمتحيز

اعلم أن المتحيز إما أن يكون بالذات وإما أن يكون بالعرض ، فالأول هو الأجسام لا غير عند الأوائل ، وعند المتكلمين الجزء الذي لا يتجزى أيضا ، والثاني هو العرض عند الجميع والمادة الصورة عند الأوائل ، ونعني بالمتحيز هاهنا ، الحاصل في الحيز وواجب الوجود ليس بجسم ، لأن كل جسم مركب اما من المادة والصورة على رأي الأوائل ، او من الجواهر الأفراد ، وكل مركب ممكن.

ولأنه لو كان جسما لكان لا ينفك عن الأكوان الحادثة بالضرورة فيكون حادثا ، وهذه الدلالة دالة على نفي كونه متحيزا بجميع المعاني ، قيل : لو كان متحيزا تساوى المتحيزات في التحيز ، فإن لم يخالفها فهو ممكن ولا تركب.

وهذه الحجة عندي ضعيفة ، فإن مع المخالفة لا يجب التركيب الا اذا كانت المخالفة والمشاركة بأمر مقوم.

واستدل بأنه لو كان جسما ، فإن قام لمجموع (١) الأجزاء علم وقدرة وحياة لزم قيام العرض الواحد (٢) بالمجال المتعددة والا كان ذلك الجسم ليس قادرا عالما حيّا بل جملة قادرين أحياء عالمين ، وضعف هذه لا يخفى بما سلف من الأصول.

والمجسمة زعموا ان الله تعالى جسم ، واستدلوا على ذلك بانه عالم بالأجسام (٣) قبل وجودها والعلم متأخر عن التميز ، والتميز إن كان في الخارج لزم

__________________

(١) ب : بمجموع.

(٢) ب : كلمة «الواحد» ساقطة.

(٣) ب : الاجسام المتخالف.

٣١٨

الدور (١) او القول بشيئية المعدوم ، وإن كان في ذاته تعالى لزم حلول الجسمية فيه ، وكل من حلّ فيه الجسمية فهو جسم ، ولأن كل عاقل يحكم بأن كل موجود فهو متحيز أو حال فيه ، ولأن السمع قد دل عليه.

وهذه الحجج باطلة ، أما الأولى فلأنها مبنية على أن العلم يستدعي حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، ونحن قد بينا فيما سلف بطلانه.

وأما الثانية فلأن الحاكم بذلك الامتناع إنما هو الوهم ، فإن العقل قد دل على وجود مجرد ، بل قد دل على أن هاهنا مجردا منتزعا من المحسوسات كالطبائع الكلية.

وأما الثالثة فجوابها التأويل ، فإن الأدلة العقلية قد دلت على امتناع جسميته ، فلو أبطلناها لأجل السمع ، لزم إبطال العقل الذي هو الأصل ، وذلك يستلزم بطلانها.

مسألة : واجب الوجود ليس بعرض ، لان كل عرض مفتقر الى المحل وواجب الوجود ليس بمفتقر.

__________________

(١) ب : القدم.

٣١٩

البحث الثالث

في أنه تعالى ليس في محل

ذهب بعض النصارى الى أنه تعالى في بدن عيسى عليه‌السلام (١) ، وبعض الصوفية قالوا : إنه حال في أبدان العارفين (٢) ، واحتج الجمهور على ذلك بأنه إما أن يكون حالّا في محل واحد أو أكثر ، ويلزم على الأول كونه جزء لا يتجزى وهو محال ، وعلى الثاني تركيبه أو حلول الواحد في محالّ متعددة مع المحال الأول.

وأيضا حلوله في الجسم إما أن يكون قديما فيلزم قدم الجسم او محدثا فلا بد له من علّة ، فإن كان موجبا كان مجردا ، لأن الأجسام والجسمانيات متساوية في الأحكام لتساويها في الحقائق ، ولو كان مجردا لم يكن له اختصاص بذلك الجسم الذي جعل محلّا ، وإن كان مختارا فلا بد له من أثر ، لكن الحلول ليس بأثر وإلا لكان وجوديا ويلزم التسلسل.

وأيضا لو حلّ في غيره ، فإما أن يحلّ مع احتياجه الى المحل ، أو لا معه ، ويلزم من الأول الإمكان ، ومن الثاني عدم الحلول ، لأن الحال محتاج الى المحل.

وأيضا لو حل في غيره ، فإما أن يحلّ مع وجوب أن يحلّ ، أو مع جوازه ، والأول باطل لافتقاره ، ولأن غيره إما الجسم أو العرض ، فيلزم إما قدمهما أو حدوثه والثاني باطل ، لأن الغني عن المحل يستحيل أن يحلّ فيه.

__________________

(١) كما جاء في : الملل والنحل ج ١ ص ٢٢٦ ، قال الفاضل المقداد : وتفصيل مذهبهم انهم اجمعوا على انه تعالى واحد بالجوهر اي بالذات ، ثلاثة بالاقنومية اي الصفات ، ومعنى لفظه اقنوم الصفة الشخصية ، ويعبرون عن هذه الاقانيم بالاب اعني الذات مع الوجود وبالابن اعني الذات مع العلم ويطلقون عليه اسم الكلمة ويختصونه بالاتحاد وروح القدس اعني الذات مع الحياة (اللوامع الالهية ٧٥).

(٢) كما جاء ذلك في : الفخر الرازي ، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص ١٠٠.

٣٢٠