مناهج اليقين في أصول الدين

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

مناهج اليقين في أصول الدين

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: يعقوب الجعفري المراغي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٧

وبيان بطلان التالي أن الماضي والباقي غير مرادين ، وأيضا (١) الاعتقاد لا ينحصر متعلقه فكذلك الإرادة على هذا التقدير ، والجامع كون كل واحد منهما قد تعدى في التعلق عن الوجه الواحد.

والجواب عن الأول المنع من صحة الشرطية ، وما ذكروه من عدم الأولوية فقد أسلفنا ضعف التمسك به ، والقياس على الاعتقاد ضعيف مع قيام الفارق.

والأولى عندي صحة تعلق الإرادة بكل متجدد سواء كان وجوديا أو عدميا.

مسألة : لما كان كل متجدد يصح تعلق الإرادة به والإرادة من جملة المتجددات صح تعلق الإرادة بها ، وهو مذهب لأبي علي ، والمحكي عن أبي القاسم المنع والّا لزم التسلسل.

والإلزام فاسد ، فإن التسلسل لازم على تقدير وجوب إرادة الإرادة ، أما على تقدير الصحة فلا.

وهل تراد الإرادة بنفسها أم بغيرها (٢)؟ الأولى هو الأخير والّا لتعلقت الإرادة بشيئين على وجه التفصيل وهو عندهم ممنوع لأنه لا مرادان الّا ويصح أن يراد أحدهما دون الآخر ، وفي هذا نظر.

مسألة : قالوا : الإرادة منها ما هو متماثل ومنها ما هو مختلف ، وشرطوا في التماثل اتحاد المتعلق في الوقت والوجه والطريقة.

واستدلوا على تماثل ما اجتمع فيه هذه الشرائط بأن موجبها متماثل وتماثل المعلول يستلزم تماثل العلل ، ولأن الكراهة الواحدة تضاد كلا منهما والشيء الواحد

__________________

(١) ب : كلمة «أيضا» ساقطة.

(٢) قال الاشعري : واختلف المعتزلة في إرادة العباد هل لها إرادة؟ على مقالتين : فقال بعضهم لا يجوز ان تكون للارادة إرادة لأنها اوّل الافعال ، واجاز الجبائي ان يريد الانسان ارادته في بعض ما دار بيني وبينه من المناظرة (مقالات الاسلاميين ج ٢ ص ٥٣).

٢٠١

لا يضاد الّا مثلين أو ضدين ، فأما المختلفان فلا يضادهما شيء واحد.

والحجتان رديتان ، فان الحق عندنا أن التماثل في المعلول لا يستلزم التماثل في العلل ولم يتضح لنا أن الواحد لا يضاد المختلفين ، فسيأتي لهذين زيادة تقرير.

قال المجوزون لاجتماع الأمثال : أنه لا استحالة في اجتماع إرادات متماثلة في محل واحد ، ولكن لا تأثير لهذه الزيادة فيما يؤثر فيه ، لأنا حال إخبارنا عن زيد بإرادة واحدة وبإرادات لا نجد تفرقة من حيث إن الحكم الجزئي لا يتزايد ، نعم قد يكون للزيادة حظ في المنع فان القديم تعالى لو حاول ايجاد (١) كراهة واحدة وقد فعلنا إرادات كثيرة ، لم يكن مراده أحق بالوجود ، وأما المختلف من الإرادات فهو ما فقد أحد الشرائط السالفة ، وذلك بأن يتغاير المتعلق أو الوقت أو الوجه كما يريد أحدهما حدوث الشيء والآخر يريد حدوثه على وجه أو الطريقة ، كما يريد أحدهما الشيء مجملا والآخر مفصلا.

ولا تضاد في الإرادة على رأي جماعة ، وهو مذهب ابي هاشم اخيرا ، وذهب أبو علي الى تضاد ارادتي الضدين.

استدل الفريق الأول بأن من شرط التضاد في المتعلقات اتحاد متعلقها وتعلق كل واحد من المتعلقين على عكس ما تعلق به الآخر ، واذا كان تعلق الإرادة لا يكون الّا على وجه واحد فلو أن هاتين الارادتين تعلقتا بمتعلق واحد لكانا مثلين لا ضدين.

واستدل الآخرون بأن إرادة الحركة ترجيح لوجودها وإرادة السكون ترجيح لوجوده ، فكما أنهما متقابلان لذاتيهما فكذلك إرادتهما.

واتفق الفريقان على أن الكراهة ضد الإرادة لحصول المنافاة بينهما.

ومن قال إن إرادة الشيء هي كراهة ضده ، خطأ ، فإن الشيء قد يراد حال

__________________

(١) الف : اتحاد ، والظاهر أنه غلط.

٢٠٢

الغفلة عن الضد ، نعم إرادة الشيء يلزمها كراهة الضد بشرط اعتبار الضد ، فالخطأ نشأ من أخذ لازم الشيء مكان الشيء.

وأثبت أبو القاسم السهو معنى يضاد الإرادة.

وردوا عليه بأن القدرة على أحد الضدين يستلزم القدرة على الضد الآخر ، فوجب ان يكون قادرين على السهو كما كنّا قادرين على الإرادة.

وجعل أبو علي الأعراض ضدا ثالثا للإرادة والكراهة.

وردوا عليه بأن الأعراض لو كان معنى لوجب أن يتوصل إليه بصفة صادرة عنه أو حكم صادر عنه ، ومعلوم انتفاء ذلك فوجب نفيه.

والدعاوى بعيدة والحجج ضعيفة والردود مختلفة.

مسألة : ذهب جماعة الى امتناع بقاء الإرادة ، وهو مذهب السيد المرتضى والشيخ أبو جعفر (١) ، واستدلوا بأنها لو كانت باقية لزم أحد الأمرين وهو إما دوامها أو عدمها لا بطريان الضد ، والتالي باطل بقسميه فالمقدم مثله.

بيان الشرطية أنها إن بقيت دائما لزم أحد الامرين ، وإن عدمت فعدمها إما بطريان الضد أو لا ، والأول باطل والّا لزم أن لا يخرج أحدنا من الإرادة إلا بكراهة وهو باطل ، فإنا قد نريد الشيء ثم نخرج عن ارادته مع عدم كراهته ، والثاني هو الأمر الآخر.

وأما بطلان القسمين ، اما الأول فظاهر ، واما الثاني فلما عرف أن الاعدام انما تكون بطريان الضد.

ولقائل أن يقول : هذا الدليل مبني على إن الاعدام لا يكون بفاعل ، وهو

__________________

(١) وذلك من فروع بحث الإرادة التي جاء في : السيد المرتضى ، الملخص ورقة ١٩ (المخطوطة الفريدة المتعلقة بمكتبة المجلس في طهران) ، والشيخ أبو جعفر الطوسي ، تمهيد الاصول ص ٤٩.

٢٠٣

عندنا ضعيف.

مسألة : ذهب جماعة من المعتزلة الى أن الإرادة يجوز أن تتقدم الفعل سواء تعلقت بفعل الإنسان نفسه أو بفعل غيره ، وادعوا فيه الوجدان.

وأوجب أبو القاسم التقدم لأنها سبب والسبب متقدم ، والأصلان فاسدان.

مسألة : قالوا : الإرادة غير موجبة للفعل (١) والّا لما جاز تقدمها والتالي باطل بما تقدم فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة.

الحق عندي أن الإرادة غير موجبة للفعل الّا بانضمام القدرة وشرائط الفعل بأسرها.

مسألة : قالوا : الإرادة لا تقع متولدة عن الاسباب بالاستقراء ، فإنا لما استقرينا الأجناس المفعولة في القلب من غير ان يتولد عنها الإرادة حكمنا بعدم التوليد مطلقا.

وانت خبير بضعف الاستقراء.

__________________

(١) قال الاشعري : واختلفت المعتزلة في الإرادة هل تكون موجبة لمرادها أم لا؟

فقال ابو الهذيل وابراهيم النظام ومعمر وجعفر بن حرب والاسكافي والشحام وعيسى الصوفي : الإرادة التي يكون مرادها بعدها بلا فصل موجبة لمرادها.

وقال بشر بن المعتمر وهشام عمر والفوطي وعباد بن سليمان وجعفر بن مبشر ومحمد بن عبد الوهاب الجبائي : الإرادة لا تكون موجبة. (مقالات الاسلاميين ج ٢ ص ٩٠).

٢٠٤

البحث الثامن عشر في الالم واللذة

الذي ذكره الأوائل في تعريفهما ان اللذة هي إدراك الملائم والألم إدراك المنافي.

والمعتزلة قالوا : إن المدرك إن كان متعلق الشهوة كالحكة في الأجرب (١) كان الإدراك لذة ، وإن كان متعلق النفرة كان ألما.

ونقل عن ابن زكريا : أنه قال : إن اللذة خروج من الحالة الطبيعية.

وهذا خطأ ، وسببه أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ، فإن الإدراك إنما يحصل بانفعال الحاسة (٢) يقتضيه تبدل حال ما (٣).

مسألة : المشهور عند الأوائل والمعتزلة أن تفريق الاتصال سبب موجب للألم ، وربما ادعوا فيه الضرورة ، ونازع فيه بعض المتأخرين قائلا : إن التفريق عدمي والألم وجودي ، وأيضا فالغذاء ينفذ في أجزاء المغتذي (٤) بأن يفرق اتصالها وهو غير مؤلم.

والجواب عن الأول أن العدم لا يكون علة للوجود ، أما العدمي فإنه يجوز أن يكون علة كعدم الحركة فإنه علة للسكون وعدم السمع علة للخرس وعدم الغذاء في الحيوان الصحيح علة للجوع.

وهذا الجواب ضعيف ، فإن العقل قاض بالمنع من استناد الوجودي الى العدمي ، وما ذكر من الأمثلة فغير صحيحة.

والجواب عن الثاني أن النفوذ في الغذاء طبيعي فليس بمناف فإدراكه لا

__________________

(١) الحكة شيء كالنخالة في الجلد ، والجرب داء في الجسد وهو خلط غليظ يحدث تحت الجلد يكون معه بثور. انظر : المصباح المنير ج ١ ص ١١٧.

(٢) ج : للحاسة.

(٣) ب : كلمة «ما» ساقطة.

(٤) ب : المغذي.

٢٠٥

يكون إدراكا للمنافي.

هل للألم سبب آخر غير تفريق الاتصال؟ جزم جالينوس بنفيه ، والشيخ زعم أن سوء المزاج سبب له فان عناصر الحيوان يقتضي كل واحد منها كيفية مخالفة لكيفية الآخر ، فما دام الاتصال موجودا يكون الانكسار حاصلا ويتم الاعتدال ، فاذا تفرقت بقيت طبيعة كل واحد منها خالية عن المعاوق فيقع الإحساس بالمنافي فيوجد الألم.

مسألة : لما كان الألم عندنا عبارة عن إدراك المنافي أو ما يلازمه هذا المعنى لم يصح وجوده الّا في الحيّ.

وأبو هاشم جوّز وجوده في الجماد (١) ، واستدل بأن الألم لا يوجب حكما للحيّ وكلما كان كذلك كفى في وجوده مجرد المحل.

أما الصغرى فلأنه لو أوجب حكما للحيّ كما يقولون في العلم والإرادة لوجب كونه ألما عند وجود ذلك المعنى فيه على كل حال وإن لم يدركه كما يجب ذلك في الإرادة والاعتقاد ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

وأما الكبرى فادعوا فيه الظهور ، فإن الحرارة والبرودة وغيرها لما لم توجب أحوالا للجملة صح وجودها في كل محل ، والحجة لا يخفى ضعفها والمطلوب ظاهر الإحالة.

مسألة : ذهب بعض المعتزلة الى أن الآلام غير باقية ، وهو مذهب السيد المرتضى (٢) ، واستدل بأنها لو كانت باقية لما انتفت عن المحل القابل لها الّا بضد والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله والملازمة عندهم ظاهرة.

وهي عندنا فاسدة.

__________________

(١) نقل ذلك عنه السيد المرتضى أيضا في : الذخيرة ص ٢١٤.

(٢) كما جاء ذلك في : الذخيرة ص ٢١٥.

٢٠٦

البحث التاسع عشر في الشهوة والنفار

وهما من المعلومات الضرورية ، ولا بد لهما من محل وهو ظاهر ، ويفتقران الى الحياة ولا يحلان الّا جزءا واحدا عندنا وعند المعتزلة.

واستدلوا بأنها لو وجدت في أزيد من محل واحد وإن افتقرت الى البنية لساوت التأليف والتالي باطل فالمقدم مثله.

وبيان الشرطية عندهم بأن التساوي في بعض الأحكام يستلزم التساوي في العلل وهو ضعيف.

ثم اعترضوا على أنفسهم بأنه لا استبعاد في حلول الشهوة والنفرة في أزيد من المحلين (١) فيخالف التأليف فإن التأليف لا يحل الّا بمحلين.

أجابوا بأنه يلزم تزايد الشهوة والنفرة عند تزايد الأجزاء ، والتالي باطل ـ فانا نجد السمين إذا هذل قد لا ينتقص شهوته ـ فالمقدم مثله.

وعندي أن هذه الحجة ضعيفة ، فإنه لا استبعاد في أن يكون الزائد من الأجزاء في السمين ليست هي المحتاج (٢) إليها في الشهوة.

مسألة : قالوا : الشهوة غير مدركة لأنها إن أدركت بمحل الحياة فيه كانت مماثلة للألم ، فإن الألم قد اختص بأنه يدرك بمحل الحياة في محل الحياة دون غيره من الأعراض ولا يدرك بإحدى الحواس الخمس ، وهو ظاهر.

قالوا : وهما لا يتعلقان الّا بالمدركات ، لأنا متى وجدنا الشيء مدركا صحّ تعلق الشهوة والنفرة به ، ومتى لم يكن مدركا استحال تعلقهما به ، وبنوا على هذين الأصلين أن الشهوة لا يشتهى وكذلك النفار لا ينفر الطبع عنه لأنهما غير مدركين.

__________________

(١) ب : من محلين.

(٢) ب : المحتاجة.

٢٠٧

مسألة : قالوا : إنهما غير باقيتين (١) ، لأن أحدنا يخرج من كونه مشتهيا الى غير ضد مع قبول المحل ، وهذا الطريق (٢) ضعيف لما مرّ.

مسألة : الشهوة تضادّ النفرة ، واستدلوا بعدم اجتماعهما على تضادهما ونفوا ضدا ثالثا لهما قالوا : لأن المدرك إما أن يلتذ بإدراكه فيكون مشتهى او يتألم به فيكون منفورا عنه ، ولا واسطة بين هذين الّا عدمهما ولا يفتقر عدمهما الى علة ، فلو ثبت ضد ثالث لم يكن له حكم صادر عنه.

وهو باطل ، فان من شرط الضدية تعلق كل واحد من الضدين بصفة على عكس ما تعلق به الضد الآخر.

__________________

(١) ب : نافيين.

(٢) ب : وهذه الطريقة.

٢٠٨

البحث العشرون في الإدراك

وهو من المعلومات الضرورية ، ومغايرته للقدرة والإرادة وغيرهما من الأعراض المختصة بالحي معلوم (١) قطعا ، وانما وقع النزاع في مغايرته للعلم ، فذهب الأشاعرة الى زيادته (٢) قالوا : لأنا نجد تفرقة بين حالنا اذا علمنا وبين حالنا اذا علمنا وفتحنا العين ومستند الفرق انما هو الزيادة.

والأوائل والكعبي وأبو الحسين زعموا أن الزيادة راجعة الى تأثر الحاسة.

والإدراكات خمسة : الإبصار والسماع والشم والذوق واللمس.

القول في الإبصار

مسألة : اختلفوا في كيفية الإبصار ، فقال قوم من الاوائل : إنه إنما يكون بخروج شعاع من العين يلاقي المبصر ، وهو مذهب جماعة من معتزلة البصرة والشيخ أبي جعفر.

وذهب آخرون من الأوائل الى أنه إنما يكون بانطباع صورة المرئي في العين.

والقولان باطلان ، أما الأول فلاستحالة خروج جسم من العين يلاقي نصف كرة العالم ويلاقي كرة الثوابت واستحالة الانتقال على الأعراض.

واما الثاني فلاستحالة انطباع العظيم في الصغير ، والعذر عنه بانطباع المبصر في المادة التي لا حظ لها في الصغر والعظم غير تام ، وقد بيناه في كتاب الأسرار (٣).

__________________

(١) ج : معلومة.

(٢) خلافا للشيخ الاشعري نفسه ، فانه قال : ان الاحساس بالشيء علم به فالابصار علم بالمبصرات والسماع علم بالمسموعات وهكذا البواقي ، ورده الجمهور بانا نجد فرقا ضروريا بين العلم التام بهذا اللون وبين ابعاده وهكذا. انظر : التفتازاني ، شرح المقاصد ج ٢ ص ٣١٣.

(٣) وهو كتاب «الاسرار الخفية في العلوم العقلية» للمصنف وقد سبق منا التعريف لهذا

٢٠٩

مسألة : شرط الأوائل والمعتزلة للإبصار بعد سلامة الآلة مكثافة المبصر ، بمعنى أن يكون ذا لون أو ضوء وإضاءته من ذاته أو من غيره ، وأن لا يكون في غاية الصغر ، وأن لا يكون بينهما حجاب وعدم البعد والقرب المفرطين وحصول المقابلة أو حكمها.

ثم إن المعتزلة والأوائل أوجبوا حصول الإبصار عند حصول هذه الشرائط ، وخالفهم في ذلك الأشاعرة.

والأولون التجئوا الى الضرورة ، والأواخر استدلوا على عدم الإيجاب بأنا نبصر الكبير من البعيد صغيرا مع تساوي نسبة أجزائه الى العين.

وأصحاب الانطباع أجابوا عن ذلك بأن انطباع الصورة في المقدار الصغير سبب لرؤيتها أصغر منها إذا انطبعت في المقدار الكبير ، والمرئي إذا بعد يوهم مخروط قاعدته المرئي وزاوية العين ، فكلما بعد المرائي (١) صغرت الزاوية فكان المنطبع فيه أصغر.

وأصحاب الشعاع أجابوا بأن بعد المسافة سبب لتفرق الأشعة فلا يقوى على الإدراك التام.

مسألة : قال أصحاب الانطباع : إن صورة المرائي ينطبع في الرطوبة الجليدية ولا يقع عندها الإحساس وانما يقع عند ملتقى القصبتين (٢) المجوفتين وهناك روح مدركة ، وكذلك تكون الصورة المدركة واحدة بخلاف اللمس باليدين ، فامّا اذا لم يمتد المخروطان على هيئة التقاطع بل انتهى كل مخروط الى جزء من الروح الباصر ، أدركت الصورة الواحدة صورتين.

__________________

الكتاب.

(١) ب : المرئي.

(٢) ب : العصبين.

٢١٠

وأصحاب الشعاع قالوا : إن الشعاع الخارج من العين على هيئة مخروط يكون رأسه عند العين وقاعدته عند المرائي ، وهذا (١) الشعاع في سهمي المخروط وهما يلتقيان (٢) عند المبصر ويتحدان ، والأحول لا يلتقي سهما مخروطية على شيء واحد ، بل يرى الأشياء بطرف المخروط لا بوقوع السهمين عليه ، والطرفان متباينان فتباين مدركاهما.

والعذران عندي باطلان ، أما الأول فلأن الروح جسم لطيف فمن المتعذر بقائه في الملتقى دائما بحيث لا يتقدم ولا يتأخر فكان يجب حصول الحول لأكثر الناس في أكثر الأوقات.

وأما الثاني فلأن الطرفين إن اتحدا عند المرئي كان واحدا ، كما إذا اتحد سهما المخروطين ، وإن لم يتحدا كان المدرك بكل واحد منهما بعض المرئي لا المرئي نفسه.

مسألة : قال أصحاب الانطباع : إن صورة الوجه ينطبع في المرآة فيدركها الإنسان إذا قابلها لانطباع تلك الصورة مرة ثانية في العين.

وهذا خطأ ، والّا لزم انطباع العظيم في الصغير ، ولأنه يلزم أن لا يظهر لون المرآة عند انطباع الصورة فيها ، كما أن الجدار اذا اخضر بالانعكاس لم يظهر لونه.

وأصحاب الشعاع قالوا : إنه يخرج الشعاع من العين ويلاقي المرآة وينعكس عنها الى ما يقابلها.

وهذا أيضا ضعيف لما مرّ.

القول في بقية الإدراكات

في المشهور أن السماع إنما يكون بسبب تأدي الهواء المنضغط بين قارع ومقروع الى الصماخ.

__________________

(١) ب : وقوة الشعاع.

(٢) ب : يلقيان.

٢١١

وأما الشم فقد اختلفوا فيه ، فقال قوم : إنه لتكيّف الهواء المتصل بالخيشوم بكيفية ذي الرائحة.

وقال آخرون : إنه يكون لانفصال أجزاء لطيفة من ذي الرائحة الى الخيشوم.

وهذان الوجهان عندي جائزان.

وهاهنا وجه بعيد قال به من لا مزيد تحصيل له (١) ، وهو أن القوة الشامة تتعلق بمدركها وهو هناك.

وأما الذوق ، فانما يحصل بتوسط الرطوبة اللعابية الخالية عن الطعوم ، وهل الإدراك بانفعال تلك الرطوبة بكيفية الجسم أو بانفعال أجزاء من الجسم غائصة في اللسان مخالطة له؟ فيه احتمال.

وأما اللمس فانه أنفع الإدراكات للحيوان ، لأنه باعتباره يبعد من المنافي وباعتبار الذوق يجتلب النفع ، ولما كان دفع الضرر أقدم من جلب النفع كان اللمس أقدم.

وقد ظهر من هذا أن كل ذي قوة لمس فإن فيه قوة تحريك ، واختلفوا فذهب قوم الى أن اللمس ليس قوة واحدة بل هو قوى أربع :

الأولى : الحاكمة بين الحار والبارد.

والثانية : الحاكمة بين الرطب واليابس.

والثالثة : الحاكمة بين الصلب واللين.

والرابعة : الحاكمة بين الخشن والأملس.

وآخرون جعلوها واحدة ، وهو الأولى.

__________________

(١) ب : لا يحصل له.

٢١٢

البحث الحادي والعشرون في احكام الأعراض

مسألة : الأعراض باقية عند جماهير المعتزلة ، خلافا للاشاعرة ، وادعى ابو الحسين الضرورة في ذلك (١).

واستدل غيره بأنها ممكنة في الزمان الأول فتكون ممكنة في الزمان الثاني والّا لزم انتقال الشيء من الإمكان الذاتي الى الامتناع الذاتي وهو محال ، وهذه حجة عول عليها الجمهور وارتضاها أكثر الناس.

واقول : إنها عند التحقيق غير مرضية ، فانهم إن عنوا بكونه ممكنا في الزمان الثاني كونه ممكن الوجود في الزمان الثاني بدلا عن الوجود في الزمان الأول فهو حق ، ولكن ذلك لا يدل على جواز البقاء.

وإن عنوا به أنه إذا كان ممكن الوجود في الزمان الأول ثم وجد فيه كان ممكن الوجود في الزمان الثاني عقيب وجوده في الزمان الأول فهو ممنوع ، ولا يلزم من عدم إمكانه بهذا المعنى انتقال الشيء من الامكان الى الامتناع ، وذلك لأن الممتنع هاهنا ليس هو الوجود المطلق ، وانما الممتنع هاهنا هو الوجود المقيد بكونه بعد وجود أول أعني البقاء وهو نفس المتنازع ، ولا يلزم من امتناع الوجود المقيد كون الشيء ممتنعا في نفسه ، ومثال هذا الصوت ، فإنه ممكن الوجود في الزمان الأول غير ممكن الوجود في الزمان الثاني ، وكذلك الحركة عند من يقول : بأن الأكوان غير باقية ، فلتلمح هذه الفائدة.

حجة الأشاعرة أن البقاء عرض ، فلو كانت الأعراض باقية لزم قيام العرض بالعرض ، ولأنها لو بقيت لاستحال عدمها ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

__________________

(١) راجع في هذا البحث الى : الخياط ، الانتصار ص ١٢ والاشعري ، مقالات الاسلاميين ج ٢ ص ٤٤ والبغدادي ، اصول الدين ص ٥١ والجرجاني ، شرح المواقف ج ٥ ص ٣٨.

٢١٣

بيان الشرطية أن عدمها يستحيل استناده الى الذات والّا لكان الممكن لذاته ممتنعا لذاته ، ولا الى الضد لأن طريانه على المحل مشروط بعدمه فلو علل به لزم الدور ، ولا الى المختار لأن التأثير إنما يكون في أمر وجودي وليس الأعدام بوجودي ، ولا الى انتفاء الشرط لأن شرطه الجوهر وهو باق والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض.

والجواب عن الأول بالمنع من جعل البقاء عرضا وإلّا لزم الدور ، وبالمنع من قيام العرض بالعرض.

وعن الثاني لم لا يستند عدمه الى الضد؟ قوله : لأن وجود الضد مشروط بانتفائه ، قلنا : ممنوع بل عدمه معلل بطريان الضد ، فليس أحد القولين أرجح من الآخر ، سلمنا لكن لم لا يستند الى المختار؟ قوله : المختار إنما يؤثر في أمر وجودي ، قلنا : ممنوع فإن الممكن إذا جعل معه ترجيح أحد الطرفين وجب حصوله ، سواء كان وجودا أو عدما ، ضرورة تساوي نسبتهما الى الماهيّة.

سلمنا لكن لم لا يستند الى انتفاء الشرط ، قوله : الشرط هو الجوهر ، قلنا : دعوى الانحصار ممنوعة ، فأين البرهان؟

سلمنا لكن لم لا ينتفي في الزمان الثالث او ما بعده لا لسبب بل لذاته كما يقولون : إنه ينتفي في الزمان الثاني كذلك؟

مسألة : ذهب الأوائل ومعمّر الى صحة قيام العرض بالعرض ، وهو الحق عندي.

وذهب جماعة من المتكلمين الى الامتناع.

لنا أن السرعة عرض قائم بالحركة وكذلك البطء.

احتجوا بأنه لا بدّ من الانتهاء الى الجوهر ، وحينئذ يكون الجميع في حيز الجوهر تبعا لحصول الجوهر فيه.

٢١٤

والجواب لا منازعة في ذلك ، فانا مقرّون بالانتهاء الى الجوهر ، ولكن المنازعة في قيام البعض بالبعض وقيام ذلك البعض بالجوهر ، وما ذكروه لا ينفي ذلك.

مسألة : المشهور عند المعتزلة والأشاعرة امتناع قيام العرض بمحلين ، وجوّز أبو هاشم قيام التأليف بمحلين ومنع من الزائد.

والأوائل ذهبوا الى أن العرض الواحد قد يحل في محلين ، لا بمعنى أن يكون العرض الذي هو حالّ في أحد المحلين حالّا في المحل الآخر ، بل أن العرض الواحد حال في مجموع شيئين صارا باجتماعهما محلا واحدا له كالحياة والعلم وغير ذلك.

احتج الأولون بأن العرض مستغن (١) بكل واحد من المحلين عن الآخر حال احتياجه إليه هذا خلف ، ولقائل أن يمنع ذلك.

مسألة : اتفق المتكلمون والأوائل على امتناع الانتقال على العرض ، واستدلوا عليه بأنه محتاج في تشخصه الى المحل فيستحيل انتقاله عنه.

أما الصغرى فلأنه لو لا ذلك لما حلّ فيه والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية أنه حينئذ يكون مستغنيا عنه ، أما في الوجود فبعلته ، وأمّا في التشخص فبما يشخصه والاستغناء ينافي الحلول ، وبيان بطلان التالي ظاهر.

والكبرى غنية عن البيان.

وهذه الحجة لا تخلو من بعد (٢).

__________________

(١) ب : يستغني.

(٢) ج : من نقد.

٢١٥

البحث الثاني والعشرون في بقية الأعراض (١) وقع فيها الخلاف بين المتكلمين

مسألة : ذهب البغداديون وجماعة من الأشاعرة إلى إثبات البقاء ، ونفاه جماعة من المعتزلة.

احتج الأولون بأن الذات لم تكن باقية حال الحدوث ثم صارت باقية.

والجواب لا نسلم أن تغير الذات في ذلك يدل على الثبوت.

واحتج الآخرون بأنه لو كان البقاء ثابتا لزم التسلسل واللازم باطل فالملزوم مثله.

والحق عندي أن البقاء أمر اعتباري هو مقارنة الوجود لزمان بعد الزمان الأول ، وقد يعرض له هذا المعنى وينقطع بانقطاع الاعتبار.

مسألة : أثبت أبو هاشم واتباعه الفناء (٢) معنى ، ونفاه الباقون وهو الحق.

واستدل بأن الجواهر باقية يصح عدمها ولا يمكن ذلك الّا بثبوت الفناء ، أما أنها باقية فقد مضى ، وأما صحة عدمها فلما يأتي ، وأما أن ذلك يستلزم ثبوت الفناء فلأن الأعدام إما أن يكون للذات وهو محال ، أو للفاعل وهو محال ، لأن تأثير المؤثر إنما يكون في الإيجاب لا في الإعدام لأن التأثير هو إيجاد أثر أو لطريان الضد وهو الفناء.

والنظام لما قال : بأن الجواهر لا تبقى ، استغنى عن التزام هذا المحال ، وإن كان بقوله ذلك قد ارتكب محالا.

__________________

(١) ج : اعراض.

(٢) انظر عن الآراء حول البقاء والفناء وانهما اين يوجدان ، الى : الاشعري ، مقالات الاسلاميين ج ٢ ص ٥٠ فبعد.

٢١٦

والأوائل لما قالوا : إن الإيجاب والإعدام متساويان في صحة الاستناد الى المؤثر ، اندفع عنهم هذا المحال.

والبغداديون لما أثبتوا البقاء معنى باعتباره تبقى الذات وباعتبار عدمه تفنى ، استغنوا عن التزام هذا المحال.

وبعد هذا فالحق ما ذهب إليه الأوائل.

القول في أحكام الفناء

الذي ذهب إليه مشايخ المعتزلة أن الفناء متماثل ولا يوجد فيه اختلاف ولا تضادّ ، قالوا : لأن اخص صفاته كونه منافيا للجوهر وهو مشترك بين افراده ، والاشتراك في اخص الصفات يستلزم الاشتراك في الذات.

وهو عندي ضعيف لما مرّ غير مرة ، والشيخ أبو جعفر وقف في ذلك.

مسألة : قالوا : الفناء لا يبقى والّا لزم أحد الأمرين : إما التسلسل أو يبقى مع الله تعالى شيء دائما ، والتالي بقسميه باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية أن الباقي لا ينتفي الّا بضد ، فالفناء الباقي إما أن لا ينتفي ، أو ينتفي والأول أحد القسمين ، والثاني يلزم منه القسم الثاني لأن الكلام في ضده كالكلام فيه.

واما بيان بطلان القسمين ، أما الأول فبالبرهان ، وأما الثاني فبالإجماع.

مسألة : قالوا : الفناء غير مقدور بالقدرة والّا لزم القدرة على الجواهر والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية أن القادر على الشيء قادر على ضده.

وبيان بطلان التالي أن القدرة لا يمكن أن تقع المخترع من الأفعال لما مرّ ، وإنما يقع منها المباشر والمتولد ، والأول يستحيل وقوع الجوهر به والّا لزم التداخل.

والثاني على قسمين : منه ما يقع في محل القدرة كالنظر مع العلم والتأليف مع

٢١٧

المجاورة وهو أيضا يلزم منه التداخل.

ومنه ما يقع خارجا عن محل القدرة ، وهو باطل ، لأنه لا سبب يعدي الفعل عن محل القدرة الّا الاعتماد وأجناسه ستة ، وهي مقدورة لنا وليس تقع الجواهر بها ، لأنا لو اعتمدنا طول الدهر على زقّ مشدود الرأس لم يتولد فيه الجواهر.

فهذا ما قيل في هذا الباب ، وهو ضعيف ، وهاهنا أعراض وقع فيها الخلاف مضى البحث عنها.

٢١٨

المقصد الثاني

في تقسيم الموجودات على رأي الأوائل

قالوا : الموجود إما ان يكون واجبا لذاته او ممكنا ، والممكن اما ان يكون جوهرا او عرضا ، والجوهر إما ان يكون محلا لغيره وهو الهيولى ، او حالا في غيره وهو الصورة ، او مركبا منهما وهو الجسم ، او لا محلا ولا حالا ، فان كان متعلقا بالأجسام تعلق التدبير فهو النفس والّا فهو العقل.

وأما العرض فأقسامه تسعة : الكم والكيف والمضاف والأين والمتى والوضع والملك وان يفعل وان ينفعل.

أما واجب الوجود فسيأتي البحث عنه ، وأما الهيولى والصورة فقد مضى البحث عنهما وعن بعض مباحث الأجسام ، فلنأت على البحث عن البواقي وعن أحكام الأعراض.

٢١٩

البحث الأول في بقية الكلام في الأجسام

الأجسام على ضربين : بسائط ومركبات ، فالبسيط هو الذي لم يتركب حقيقته من أجسام مختلفة الطبائع ، وهو على ضربين فلكي وعنصري.

فههنا مطلبان :

الأول في الأجسام الفلكية

مسألة : المشهور عند الأوائل أن الأفلاك غير ملونة والّا لحجبت عن إبصار الكواكب المرتسمة في فلك (١) الثوابت.

وأيضا فهي بسائط فهي غير ملونة ، لأن سبب اللون المزاج.

والحجتان رديّتان ، أما الأولى فلجواز أن يكون لها لون ضعيف كالبلور فلا يحجب عن الإبصار ، ولأنه جاز أن يكون ما وراء الفلك الثامن ذا لون.

وأمّا الثانية فالصغرى ممنوعة وقد مضى البحث فيها ، والكبرى منقوضة بالقمر.

ثم قالوا : إن الزرقة سببها أن السماء شفافة ، والشفاف اذا لم ير ورائه ملون فإنه يكون كالمظلم ، وفي الجوّ أجزاء غبارية وبخارية مضيئة ، فيختلط المضيء بالمظلم فيتخيل الزرقة.

تذنيب : قالوا : لو كان المحيط مكوكبا لرؤيت الكواكب والتالي كاذب فالمقدم مثله.

والملازمة مبنية على كون الفلك غير ملون وقد مضى.

وعلى أن الكواكب ملونة ، وفيه منازعة بين القوم ، وإن كان الأظهر أنها ملونة.

__________________

(١) الف : كلمة «فلك» ساقطة.

٢٢٠