منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة التحقيق

قضية الامامة من قضايا الاسلام الكبرى ، بل هي اكبرها بل كلّ ما حدث في الاسلام من القضايا منحدر منها ، ومتفرع عنها ، وقد حصل الخلاف فيها والنزاع عليها يوم لحق الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرفيق الأعلى بل وقبل أن يوسد في الثرى وهذا من المسلمات التي لا مرية فيها ، وانقسمت الأمّة الواحدة الى مذاهب يطول عرضها ، سنة وشيعة ، اشاعرة ومعتزلة إلى آخر ما هنالك.

وصار لكلّ مذهب من هذه المذاهب أصوله وفروعه التي يتميّز بها عن المذهب الأخر ، بل تشعب المذهب الواحد الى شعب متفرقة ، ولم يقتصر خلافهم على مسألة الامامة فحسب ، فهم بعد ان آمنوا بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر ، اختلفوا في صفاته سبحانه وتعالى ، كما اختلفوا في الأنبياء من حيث أفضليتهم على الملائكة أو أفضلية الملائكة عليهم ، وفي عصمتهم وعدمها ، واذا كانت هل هي قبل النبوة أو بعدها ، وهل هي من كبائر الذنوب وصغائرها ، وهل في التبليغ وغيره ، وفي القرآن الكريم من حيث القدم والحدوث ، وفي المعراج هل هو بالروح أو الجسد أو بهما جميعا ، وفي القبر ونعيمه وعذابه ، وفي خلق الجنّة والنار وعدمه الى آخر ما هو مسطور في كتب الملل والنحل.

٥

ولم يقتصر الخلاف على الأصول والعقائد بل انسحب على الفروع بقسميها التكليفي والوضعي ، وربّما اختلف أهل المذهب الواحد في المسألة الواحدة في كثير من مسائل العبادات والمعاملات تعرف ذلك بأوّل نظرة الى الكتب التي حفلت بالفقه المقارن ومسائل الخلاف.

وكل ما ذكرنا فرع عن الخلاف في الإمامة. وليت الخلاف اقتصر على الكلام والجدل بل تخطّاه الى ما هو أدهى وأمر فكم قامت من حروب ، وسفكت دماء ، وهتكت حرمات ، واستبيحت محرمات ، وبيعت ضمائر ، واشتريت ذمم وقد وصف ذلك عالم من علماء الازهر وكاتب من كتاب مصر صفة لم يسبق فيها.

يقول الشيخ عبد الله عفيفي في كتابه القيم «المرأة العربية في جاهليتها واسلامها ٢ / ١٣٥» : ما زال المسلمون منذ لحق النبي بربّه وهم من أمر خليفته ، والقائم بالأمر من بعده ، في فتنة غاشية تعصف بهم تارة وتقرّ دونهم رابضة مترصدة متحفزة تارة أخرى ، فهي يومئذ غافية غفوة الذئب نائمة هاجعة ساكنة مستجمعة ، كذلك تدافعت الحقب على الخلافة والدم ينغر من حروفها ، والمهج تسيل على أطرافها ، وشفار السيوف تصلّ من أقطارها ، ورسل الموت رائحة بأسود الغابة ، وفتيان الضراب من كلّ معتزم لو جرّد في سبيل الله عزمته لفلّ بها الصفوف ، وجندل الالوف ..». حتى قال الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٢٧ : «أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة ، إذا ما سلّ سيف في الاسلام على قاعدة دينيّة في كلّ زمان مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان» فمن يوم الدار الى يوم الجمل وصفين والنهروان ، ثم من فاجعة كربلاء الى يوم الحرّة إلى انتهاك حرمة البلد الحرام والمسجد الحرام والى آخر ما تعرض له التاريخ في طوله وعرضه ، ولعلّ ما خفي على الناس أكثر ، اذ أنّ التاريخ كتبته السياسة ، وليس بوسع الباحث أن

٦

يطمئن الى كثير ممّا نقل فيه.

وليست لتلك البداية نهاية إلّا أن يشاء الله تعالى فما زلنا نقاسي آلام تلك الفتن والمحن ونتجرع مرارتها.

وعسيت أن تقول ـ كما قال بعضهم ـ : إذا كان الأمر كذلك فلما ذا «لا يسدّ هذا الباب ، لأنّ وجود الامام الذي ترتضيه الأمّة وتتفق عليه متعذّر ، لأنّ آراء الناس مختلفة ، وأهواءهم متباينة ، وقلوبهم شتّى ، وهذا يستدعي إثارة الفتن ، وقيام الحروب ، والتجربة التي مرّ بها الاولون يجب أن يعتبر بها التالون ، فاللازم ترك هذا الأمر والابتعاد عن هذا المحذور».

وهذا القول قد يروق لبعض الناس ، ويروونه جميلا في ظاهره لو لا الوقوع في محذورين :

الاول : فسح المجال للطغاة والمستبدين ليتحكّموا في رقاب الناس واعراضهم واموالهم ، ويحكموا فيهم بغير ما أنزل الله سبحانه.

الثاني : لزوم أمر الامامة ، إذ ليس للمسلم مندوحة عنها ، لأنّ أمر الإمامة لازم لا يكمل الدين ولا يتم الايمان إلّا به ، ولا يقوم الاسلام إلّا عليه ، لتعلق أمور الدنيا والآخرة بها ، لأن القرآن الكريم ينادي : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (١) والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية) والله لا يريد أن يطبّق في الارض إلّا حكمه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٢). (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٣). (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ... عَلَيْهِمْ

__________________

(١) الأسراء : ٧١.

(٢) الانعام : ٥٧ ، يوسف : ٤٠ و ٤٧.

(٣) المائدة : ٥٠.

٧

الظَّالِمُونَ ... هُمُ الْفاسِقُونَ) (١) والقرآن لم ينزل ليوضع بين يدي الحكام للحلف به والحكم بغيره ، أو لتفتتح به الاذاعات ، ثم يعقبه ما لا يرضي الله تعالى ، أو ليكون زخارف تعلّق على الجدران ، او تمائم تناط بالاعناق ، او ليتلى في المآتم ، أو ينقش على ألواح القبور ، أو ليطرح عليها ، القرآن انزل للاحياء لا للأموات ، وللعمل لا للتلاوة فحسب.

وهيهات أن تنفذ أحكامه ، وتقام حدوده ما لم يكن بين الناس من يؤتمن على حفظه ، ويقوم بتطبيقه ، ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة ، او يضطلع بهذه المسئولية إلّا شخص له صفات خاصّة تؤهله لهذا المقام الاسمي ، وذلك هو الذي تجب طاعته ، ويلزم اتباعه ، لأنّه خليفة الرسول ، والقائم مقامه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢) وهو ولي الأمر الذي أمر الله تعالى باتباعه (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) وموضع ذي بال كهذا لا بد أن ينال من اهتمام العلماء ـ على اختلاف مذاهبهم ـ ما لم ينله موضوع سواه ، ولذا كثرت المؤلفات في الإمامة من صدر الاسلام والى يوم الناس هذا حتّى تجاوزت العشرات بل المئات من المجلدات تعرف ذلك بمراجعة معجمات الرجال ، وفهارس الكتب ، عدا من تعرض لذلك ممّن خصّصوا لهذا الموضوع في كتبهم أبوابا ، أو تعرضوا لذكره استطرادا ، وقد طال الكلام فيها وعرض ، في وجوبها وعدمه ، واذا وجبت هل هل هي واجبة على الله تعالى أم على الخلق؟ وهل هذا الوجوب من جهة الشرع أو العقل ، أو من قبلهما معا ، وفي صفات الامام من حيث العصمة وعدمها والقرشية وغيرها ، وهل وهل وهلم جرّا.

__________________

(١) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) النساء : ٥٩.

٨

وقد كان عبد الحميد بن ابي الحديد المعتزلي : تعرض لذلك في مواطن عديدة في شرحه على نهج البلاغة ، وتحامل على الاماميّة ، وانبرى لنقض أقوالهم بكلّ ما أوتي من بلاغة في القول ، وبراعة في الكلام.

وذلك ما حدى بطائفة من علماء الامامية لافراد كتب في الرد عليه.

وكان من جملة من تصدى للردّ على ابن أبي الحديد ، ونقض كلامه صاحب «منار الهدى» وفي أثناء ردّه على ابن ابي الحديد تعرّض أيضا للردّ على علاء الدين علي بن محمد القوشجي المتوفى سنة ٨٧٩ ه‍ ـ من أكابر علماء الاشاعرة في كلامه حول الإمامة في كتابه المعروف ب (الجديد في شرح التجريد) أي تجريد الاعتقاد لنصير الدين الطوسي اذ لا يقل عن ابن ابي الحديد في الميل على الإمامية ، والطعن في عقائدهم كما ستطّلع على الكثير من ذلك في ثنايا هذا الكتاب.

أمّا صلتي ب (منار الهدى) وعملي فيه ، فأني كنت قد اطلعت على هذا الكتاب مصادفة قبل أربعين عاما تقريبا في مكتبة أحد الاعلام في كربلاء فتصفحت جملا من فصوله في صفحات مختلفات فاستحسنت بعضها ، وراقني كثير منها ، ثم لم أره بعد ذلك الحين إلّا قبل ثلاث سنوات أثناء إقامتي في البحرين فهاجت بي الذكرى ، واخذني الحنين الى أيّام الشباب ، فاعدت النظر فيه ، فرأيت أن أخرّج مصادره ، واعلّق عليه ففطنت لشيء فيه هو أنّ المؤلف قويّ الحجّة ، ناصع البرهان إلّا أنّ في لهجته شيئا من الغلطة والشدّة على خصميه ـ المعتزلي والقوشجي ـ كنت أتمنى لو أنّه كان ليّن العريكة معهما ، فرأيت أنّ أخفف منها ، وألطف بعضها بشيء من التنقيح والتهذيب على ان لا أغير شيئا من معناه وأن تغيّر شيء من مبناه ، وقد حاولت أن أحافظ على عبارات المؤلف ما وجدت إلى ذلك سبيلا.

ولا يسمى عملي هذا تصرّف في الكتاب ، أو تحريف له فالتنقيح

٩

والتهذيب ، والاختصار والتجريد طريق سلكه كثير من الفضلاء قبلي ، ثم رأيت أن أسميه من بعد ذلك ب :

(أشعة من منار الهدى)

أما مؤلف «منار الهدى» فهو الشيخ علي بن عبد الله بن علي البحراني الستري علم من أعلام البحرين ، ذلك البلد الطيّب الذي أنجب كثيرا من العلماء والفقهاء ، والفلاسفة والحكماء ، والادباء والشعراء في ماضي الدهر وحاضره.

كما عرف بالولاء لاهل البيت عليهم‌السلام منذ أن دخله الاسلام ، أو منذ أن دخل هو طواعية في الاسلام أيّام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث قد تعاقب عليه ولاة عرفوا بالتشيع لعلي عليه‌السلام أمثال أبان بن سعيد بن العاص الأموي والعلاء بن الحضرمي ، وساعد في ذلك تهجير زياد بن أبيه في أيّام ولايته على العراق جماعة عرفوا في ولاء أهل البيت ومحبتهم ، ولجوء آخرين الى البحرين فرارا من بطش الحجّاج أيام بني مروان ، فاسسوا للايمان قواعد راسخة ، وشيدوا للعلم صروحا شامخة ، لا تزعزعها القواصف مهما اشتدت الأعاصير ، وعصفت الرياح.

ولد المؤلف في البحرين ولم تذكر لنا المصادر تاريخ ولادته ، ولا مسقط رأسه من قرى البحرين ، والمظنون أنه ولد في قرية «سترة» وهي القرية التي ينسب إليها ، نشأ في البحرين ، وتعلّم فيها ، وتخرج بعلمائها وخصوصا والده وهو أيضا من العلماء الاعلام ، فعلّ وانتهل حتى ارتوى ـ وان كان طالب العلم لا يشبع نهمه ولا تروى غلته ما دام يتنسم روح الحياة ـ فاصبح عالما يشار إليه بالبنان ، وفقيها يرجع إليه في الأحكام ، ثم بدا له أن يهاجر الى مطرح من بلاد عمان لحاجة الناس إليه هناك ، ولكثرة العلماء في البحرين

١٠

فحلّ بينهم ، يهذب النفوس ، ويشحذ الافكار ، ويطهّر القلوب ، ويدعو الى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وهدى الله به الى الحقّ أمّة من الناس ، حتّى قيل : إنه تحوّل بسببه الى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أكثر من ثلاثين ألفا ، وصار له هناك من جليل الآثار ، وصالح الأعمال ما يذكر به ، ويشكر عليه.

ثم بعد ما أصاب هدفه ، ونال قصده تحوّل الى «لنجه» أحد مواني إيران الشمالية ، ليواصل دعوته فقام فيها بما قام به في سابقتها ومكث فيها بقيّة أيامه حتّى لقي ربّه مسموما من قبل اعداء الله الذين كبر عليهم ما يدعوهم إليه ، فكان أحد «شهداء الفضيلة» وذلك في شهر جمادى الاولى سنة ١٣١٩ ه‍. فكان يومه مشهودا ، وكان لفقده رنة حزن وأسى من كلّ من عرف فضله ، واستضاء بنور علمه ، تغمده الله برحمته ، وحشره مع من يتولاه.

أمّا آثاره العلمية فهي :

١ ـ رسالة عمليّة في الطهارة والصلاة.

٢ ـ رسالة في الفرق بين الاسلام والايمان.

٣ ـ رسالة في التوحيد.

٤ ـ رسالة في نقض الاختيار في الإمامة.

٥ ـ رسالة في وجوب الاخفات في البسملة في ثالثة المغرب والركعتين الأخيرتين من العشاء.

وقد نقض هذه الرسالة الشيخ صالح بن أحمد البحراني رحمه‌الله.

٦ ـ رسالة في التقيّة.

٧ ـ رسالة في المتعة.

٨ ـ قامعة أهل الباطل في الردّ على محرّمي الشعائر الحسينيّة. ط

١١

٩ ـ أجوبة المسائل المسقطيّة.

١٠ ـ لسان الصدق في الردّ على بعض أحبار النّصارى.

١١ ـ منار الهدى وهو هذا الكتاب الذي بين يديك وقد قرّظه الشيخ علي البلادي صاحب كتاب «أنوار البدرين» بقوله :

هذا «منار الهدي» حقّاً وذا علمه

هذا لسان الهدى صدقا وذا قلمه

فالزم محجّته ، واسلك طريقته

تلقى النجاة يقينا حين تلتزمه ... الخ.

استقينا هذه الترجمة من كتاب «شهداء الفضيلة» للشيخ عبد الحسين الاميني صاحب كتاب «الغدير» ، وكتاب «أنوار البدرين» للشيخ علي البلادي ، «والذريعة» لآغابزرك الطهراني ، وما نقله لي شفاها كلّ من سماحة العلّامة الجليل السيد جواد الوداعي ، والخطيب الفاضل الشيخ محمد صادق العصفور وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

بيروت ٢٠ محرم الحرام سنة ١٤٠٥.

عبد الزهراء الحسيني الخطيب

١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الغني لذاته ، والمتوحد بصفاته ، والمتفرد في افعاله الذي لم يشاركه احد في صنع مخلوقاته ، ولم يوازره وزير في إنشاء برياته ، الذي لم يخلق الخلق عبثا ، ولا فطر السموات والأرض وما بينهما باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (١) الذي لم يكلف عباده شططا ، ولم يتركهم سدى ، ولم يعذب أحدا من خلقه حتى يبعث إليهم رسلا يدلونهم على طريق الهدى ويصدّونهم عن سبيل الرّدى تقوم له بهم على العباد الحجة ، وتستبين بهم المحجة لئلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، والصلاة والسلام على من ختمت به النبوة وكملت به الرسالة ووضحت به الدلالة ، وقامت به الحجة وتمت به النعمة واجتمعت به الكلمة وحصلت به الالفة ، وائتلفت به القلوب المختلفة ، وانتظمت به أمور الناس بعد المباينة والفرقة ، واتفقت به الاهواء المتشتتة ، والآراء المتشعّبة ، ولم الله به الشعث وشعب به الصدع ، وآمن به السبل ، وصدّق به الرّسل ، وفضله على جميع من خلق ونسخ بشرعه أديان من سبق وانزل عليه قرآنا مجيدا وفرقانا حميدا ، اقام به الأود (٢) وهدى به الى الرشد وسوى به العوج ، وفك به من الرنج (٣) امام المتقين

__________________

(١) سورة ص : ٧.

(٢) الأود ـ بالتحريك ـ : الاعوجاج.

(٣) العوج ـ بكسر ففتح ـ : الالتواء وعدم الاستقامة ، والرتج ـ بالتحريك ـ : المغلق.

١٣

وسيد المرسلين وشفيع يوم الدين سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله النبي الأمي ، وعلى آله البررة الاخيار الناسجين على منواله ، والمقتفين اثره في افعاله واقواله ، حجج الله على بريته ، وخلفاء رسوله على امته الحافظين لكتابه وسنته والعاملين باحكام شريعته والمطهرين من مقارفة معصيته ، والمنزّهين عن ارتكاب مخالفته الذين ماز (١) الله بولايتهم الخبيث من الطيّب ببديع حكمته كما قال في محكم كتابه (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ...) (٢) ففرض ولاءهم على لسان نبيه الكريم الامين فامتاز به الغث من السمين ، وابى عن حمله من خبثت طينته من الاشقياء وسارع لحمله وقبوله من سبقت له من الله الحسنى ، وعلى اصحابه المنتهين إلى امره والمنزجرين بزجره ما هدل الحمام (٣) وهطل الغمام.

اما بعد :

فيقول المفتقر الى فيض ربه السبحاني علي بن عبد الله بن علي البحراني ألهمه الله تقواه واتاه هداه : إن أمر الامامة والإمام ، مما شاع فيه بين الأمة الجدال والخصام ، وطال فيه البحث والكلام ، وبذل كل فريق جهدهم في اثبات ما ذهبوا إليه ، واجهد كلّ قوم انفسهم في تقوية ما اعتمدوا عليه ، فكم جمع اصحابنا المتقدمون فيه من مصنف فائق ، وكم حرر اسلافنا الصالحون فيه من مؤلف رائق اقاموا في تلك الصحف والمصنفات على صحة مذهبهم الادلة الواضحة ، واظهروا عليها البراهين اللائحة ، التي انجلى غبارها وسطع منارها مما فيه كفاية كل طالب ومنتهى رغبة كل راغب بحيث لم تبق لقائل مقالة ولا لمتعلل علة ولا لخصم

__________________

(١) ماز ـ هنا ـ بمعنى : فزر.

(٢) آل عمران : ١٧٩.

(٣) هدل الحمام هديلا : صوّت.

١٤

عذر الا مكابرا مال عن التحقيق وتنكب قصد الطريق بالشبهة وحاد بسوء النظر عن سواء المحجة فتاه في فيافي الضلالة ، وارتكس في غمرات الفتنة ممّن جعل شهوة نفسه امام عقله ، وصير الخطأ صوابا بجهله واقتصر من الدليل على حقية مذهبه وتصحيح طريقته على تقليد الاسلاف وحسن الظن فيمن تحقق منهم لله ولرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الخلاف ، ممن حقت عليهم كلمة العذاب بتركاضهم (١) في مهاوي الشك والارتياب وتهافتهم على الدنيا تهافت الفراش والذباب ، فخالف الرشاد على عمد وسلك فج الهلاك مقدرا للسلامة والنجاة ، وليس اعراض المعاند عن الهدى بناقض للحق ولا حجاج المكابر بمبطل للصدق ولا انكار الجاحد بموهن لما اقامه اصحابنا من الدليل ولا بمبهم لما اوضحوه في تلك الزبر من نهج السبيل ، بل كان ما زبروه كافيا وما رقموه شافيا ، وانما انكره من انحرف فهمه كما ينكر الماء العذب من انحرف مزاجه والداء انما هو منه لا من الماء ، فشكر الله مساعيهم الجميلة وضاعف مثوباتهم الجزيلة ، وجعلنا من المنتظمين في سلك عقدهم والواردين صافي وردهم ، بيد (٢) ان التصنيف الحادث لا يفقد فائدة اهملها الأولون والتأليف الجديد لا يعدم التنبيه على دقيقة اغفلها السابقون ، لاستغنائهم عن ايرادها في ذلك الزمان وتجدد الحاجة إليها في هذه الأزمان ، فلذا تجشمت هذه الخطة وخضت هذه اللجة وولجت هذه الغمرة ، مع قلة البضاعة وكثرة الاضاعة ، ومكابدة المحن ومعاناة صروف الزمن وتوارد الهموم وتتالى الغموم وغربة

__________________

(١) التركاض : مبالغة في الركض ، واستعاره لسرعة خواطرهم في الضلال.

(٢) بيد : اسم ملازم للاضافة الى «أنّ» ومعموليها ومعناه : غير إلّا أنه لا يقع الا منصوبا ، ولا يقع صفة ، ولا يستثنى إلا استثناء منقطعا تقول : فلان كثير المال بيد أنه بخيل ، وقد تكون بمعنى : من أجل كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش) أي من أجل أني من قريش والمراد بالمتن المعنى الأول.

١٥

الديار والابتلاء بمعاشرة الاغمار (١) ومصاحبه الاغيار وكثرة الحساد ومقاساة الامور الشداد ، فصنفت هذا الكتاب المحتوي على اثبات النص على مولانا امير المؤمنين ابي الحسن علي بن أبي طالب واولاده الاحد عشر المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين بالإمامة ، معتصما بالله ومتوكلا عليه في الاسعاف ، والاعانة على ما طلبت والتسديد والارشاد الى ما قصدت ، فلا حول ولا قوة الا به ، ولا انتصار الا بنصره ، ولا التجاء الا الى منيع عزه ، ولا استمداد الا من الهامة ولا استعانة على امر الا بمعونته وتوفيقه ، ورغبت إليه ان يجعله للمسترشدين مرشدا وللسائلين منجحا ، وللسالكين سبيل الانصاف هاديا ، وان يجعله لي في القيامة ذخرا ، وإليه مقربا وان يجعلني لثوابه مستحقا ، ويجعل لي به عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسيلة وقربا ، ويزرع لي به في قلوب المؤمنين ودا انه مجيب الدعوات ومعطي الامنيات ، واقتصرت في مقام الحجة على ذكر ما صح عند الخصوم من دليل عقل معروف عدله ، او آية محكمة فيها بيان الامر وفصله ، أو خبر ثبت في صحاح اخبارهم والمعول عليه من كتبهم ، مما وضح معناه ودليله وبان جده وزال هزله ، ولم اذكر في خلال المباحث حديثا من طرقنا خاصة الا لمرام اخر كالبيان لاصحابنا ما يدل على قولنا من احاديث ائمتنا (عليه‌السلام) لتزداد بصيرتهم كما ذهبت حيرتهم لا لأحتج به على الخصم فانه لا يجوز الاحتجاج على احد الا بما يعتقد صحته ويسلم حجيّته ، وذلك سبيل الانصاف وصراط من جانب الزيغ والاعتساف ، (٢) وقد بذلت فيه جهدي واتعبت فيه كدي وجريت فيه الى غاية مقدرتي ، طلبا لمرضاة الله وتقربا به الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ونصرا لدين الله عزوجل ووسمته اذ سميته

__________________

(١) الأغمار ـ جمع غمر بتثليث الغين المعجمة واسكان الميم ـ وهو الجاهل.

(٢) الزيغ : الميل ، والاعتساف : الأخذ على غير الطريق وفي معناه التعسف والعسف أيضا.

١٦

ب (منار الهدى في اثبات النص على الأئمة الاثني عشر النجباء) ورتبته على مقدّمة وفصلين مستعينا على تحقيقه وتنميقه برب الثقلين.

اللهم افتح لي ابواب فضلك وانشر علي من خزائن علمك ، اللهم زدني علما وفهما واشرح لي صدري ويسر لي امري ، وثبت قدمي واعصم من الزلل والخطل قلبي ، (١) واجر الحق على لساني انك ذو الفضل العظيم ، بحق نبيك الكريم وآله الابرار أولى الشرف القديم وبحق من عظمت قدره من خلقك يا رب العالمين.

__________________

(١) الخطل : المنطق الفاسد المضطرب.

١٧
١٨

المبحث الأول

في بيان معنى الإمامة

في بيان معنى الامامة ، قد عرفها المتكلمون وحدوها : بأنها رئاسة عامة في امور الدين والدنيا لشخص انساني خلافة عن النبي ، فخرج بقيد العموم مثل رئاسة القاضي وأمير الحاج وامير الجيش وامير بلاد وناحية ورئاسة من جعله الإمام نائبا عنه مطلقا لأنها لا تعم الامام ، وفي الدين والدنيا متعلق تلك الرئاسة ، والمراد بالدنيا هنا ما يتعلق بامر المعاش من اصلاح البلاد وازالة الفساد واخذ الحقوق وغير ذلك ، وبقيد الشخصية تعدد الإمام في العصر الواحد ، فلا يكون مستحق الإمامة في عصر واحد اكثر من امام واحد إذ لا يجوز في عصر واحد إمامان لاستلزامه التكليف بالمحال ، وبيان ذلك : ان الإمام واجب الطاعة على المكلفين البتة ، فلو كانا اثنين في عصر واحد فامر احدهما بأمر ونهى الآخر عنه فانه يجب بحكم الطاعة لهما فعل ذلك المأمور به وتركه في حال واحدة وظاهر ان ذلك محال ، وما يستلزم المحال محال ، ثم يلزم اما ترك طاعتهما معا فيخرجان عن كونهما واجبي الطاعة وامتثال قول احدهما دون الآخر وحينئذ اما ان يكون بغير مرجح والترجيح بغير مرجح قبيح عقلا فهو غير جائز ، واما ان يكون لمرجح فكان واجب الطاعة بالمرجح هو الإمام البتة (١) ، وخرج الآخر عن كونه إماما وهو المطلوب ،

__________________

(١) البتة : الأمر المقطوع به وينصب على المصدر.

١٩

وبعبارة اخرى : لو كان في عصر واحد إمامان واجبا الطاعة فامر احدهما بشيء ونهى الآخر عنه فاما ان يجب امتثال امرهما معا فيجب فعل ذلك الشيء وتركه في حال واحدة وذلك ممتنع لامتناع اجتماع الضدين ، او عدم امتثال امرهما معا فيكون من هو واجب الطاعة محرمة طاعته في حال واحدة هذا خلف او ترجيح قول احدهما بغير مرجح وهو قبيح او تقديم قول احدهما لمرجح فيكون هو الإمام ويخرج الآخر عن الإمامة لعدم وجوب طاعته فلما كان في اجتماع امامين في عصر واحد لزوم المحال او خلاف المفروض من طاعة الإمام والترجيح بدون المرجح وجب وحدة الإمام في الزمان الواحد ، ولذا ورد عن مولانا ابي عبد الله جعفر بن محمد (عليه‌السلام) انه سئل : أيكون إمامان في عصر واحد؟ قال : (لا الا واحدهما صامت) (١) ومن هذا بطل ما ينقل عن الزيدية من جواز نصب امامين في عصر واحد كل واحد في ناحية (٢) ، وهذا لا يرفع التناقض ولا يزيل المحذور إن لم يزده لو فرض صدور امر كل منهما الى اهل ناحية الآخر بشيء وصدر من الآخر نهى اهل ناحيته عنه على تقدير طاعة اهل الناحيتين لكلا الامامين واستشراء الفساد بعصيان كل من اهل الناحيتين لإمام الأخرى عند طلبه منهم الطاعة فيحدث القتال ويشيع الجدال ، ومن هذا علم بطلان ما قيل : ان غاية الامر انه لا بد في كل اجتماع من رئيس مطاع منوط به النظام والانتظام ، لكن من اين يلزم عموم رئاسته جميع الناس وشمولها امر الدين والدنيا على ما هو المعتبر في الإمام؟ مع انه اجاب عنه اهل الاختيار : بانا نعلم ان انتظام امر الدين والدنيا على جهة العموم على وجه يؤدي الى الصلاح فيهما مفتقر الى رئاسة عامة لأنه لو تعدد الرؤساء في الاصقاع والبقاع لادّى الى منازعات ومخاصمات

__________________

(١) الكافي (الأصول : كتاب الحجة) ١ / ١٣٦.

(٢) نقله عن الزيدية الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ١٥٥.

٢٠