الملل والنّحل - ج ١

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


المحقق: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٧

١
٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

لعلّ كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني من أهمّ الكتب انتشارا في مجاله ، ويكاد يطغى اسمه على ما عداه من الكتابات التي تتعرّض لموضوع الأديان والفرق والمذاهب ، وغير ذلك ممّا كان نتيجة للصراعات السياسية ، لا سيّما مشكلة الحكم التي ظهرت بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بصورة مباشرة ، حيث أدّى الخلاف بشأنها إلى تمزّق وحدة المسلمين ، وانقسامهم إلى اتجاهات مختلفة ، اتخذت طابعا سياسيا في بادئ الأمر ، قبل أن تتّسع دائرة الخلاف الديني والإيديولوجي بينها ، ممّا أسهم في ظهور العديد من الفرق الإسلامية التي تشعّبت بدورها إلى عدة فرق متباينة في مفاهيمها وطروحاتها الدينية والسياسية والاجتماعية.

ومن هذا المنطلق ، فإن مسألة الحكم شكّلت أحد أهمّ العوامل التي أدّت إلى انقسام المسلمين إلى فرق وشيع ومذاهب ، أو ما عبّر عنه الشهرستاني بالملل والنحل ، حيث رياح التمزّق أخذت تعصف بالجماعة منذ انشقاقها الذي كانت بوادره في السقيفة ، وأخذ اتجاها خطيرا في «الفتنة» التي طوّحت بالخليفة عثمان ، قبل أن يتجسّد في الصراع الخطير الذي جرى بين علي ومعاوية وانتهى إلى تكريس هذا الواقع الانقسامي بدوائره المختلفة التي تبلورت بعد إعلان التحكيم بصورة خاصة. وكانت تلك هي المؤثرات الداخلية لهذه المسألة التي ارتبطت بالصراع على الحكم منذ وقت مبكّر من تاريخ الدولة الإسلامية.

على أن هذه المسألة لم تكن معزولة عن المؤثرات الأخرى ، التي أسهمت

٥

في توسيع شقّة الخلاف بين المسلمين ، الذين استوعبوا أعدادا كبيرة من العناصر غير العربية التي لم تتخلّ عن تراثها الخاص وشخصيتها التقليدية ، وحتّى عن مزاجها المختلف ، حيث انعكس ذلك كلّه على هؤلاء المسلمين غير العرب ، الذين لم يعدموا تأثيرا مباشرا أم غير مباشر على الإسلام بشكل عام ، خصوصا إبّان بدء الحكم العبّاسي الذي أصبح مقرّه أكثر قربا من التجمع الرئيسي لهؤلاء في المشرق ، وشهدت عهوده الأولى ظهور الفرق الأساسية وتشعباتها مسبوقة بمناخ فكري خاص ، كانت قد أسهمت في تكوينه حركة الترجمة والتيارات الثقافية والفلسفية التي رافقتها وانعكست بمجملها على الفكر الديني في الإسلام وخروجه من بيئته الحضارية الخاصة واشتباكه بتلك الحضارات المجاورة التي كان لها تأثيرها المتفاوت في العديد من الفرق الإسلامية.

والشهرستاني ـ في كتابه هذا ـ بعد أن تحدّث عن هذه الفرق جميعها ، وعن النواحي التاريخية لكل فرقة وشعبة ، وما لها من آراء ومعتقدات ، أخذ في سرد الملل غير الإسلامية ومقالات أهل العالم من أرباب الديانات والشرائع ، وأهل الأهواء والنحل ، والوقوف على مصادرها ومواردها وشواردها ، فذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وتحدث عن أشهر فرقهم ، ثم ذكر من لهم شبهة كتاب فتحدّث عن المجوسية والمانوية والمزدكية وسائر فرقهم ، ثم عدّد بيوت النيران وبناتها وأماكنها وما ذهب إليه القوم من تعظيمها ، وانتقل بعد ذلك إلى الكلام على أهل الأهواء والنحل ـ وفي مذهبه أنهم يقابلون أرباب الديانات والملل تقابل التضاد ـ فأخذ في ذكر الصابئة وشرح تعصّبهم للروحانيات ، وفصّل آراءهم وأقاويلهم ، وما أجابت به الحنفاء على مزاعمهم. ثم انتقل للحديث على الحرنانيين وطريقتهم ، وما عبدوه من النجوم ، وما استندوا إليه في التنجيم ، وتحدّث بعد ذلك على فلاسفة اليونان وما ذهبوا إليه وما أظهروه من الطبيعيات والإلهيات والرياضيات ، فأخذ يقارن بين هؤلاء الفلاسفة وحكماء العرب وحكماء البراهمة الهنود ، ورأى أن فلاسفة الإسلام جميعا سلكوا طريقة أرسطو طاليس واحتذوها في فلسفتهم. ثم أظهر

٦

ما لابن سينا من إجلال وإكبار في نفسه. وأخيرا ذكر آراء حكماء الهنود ، ومعتقدات البراهمة وما ذهبوا إليه من قدم العالم.

هذا مختصر ما جاء في كتاب الشهرستاني الذي قال فيه : «أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تديّن به المتدينون وانتحله المنتحلون عبرة لمن استبصر ، واستبصارا لمن اعتبر».

فقد تحدّث الشهرستاني عن كل ذلك دون أن يغفل النواحي التاريخية لكل فرقة وشعبة وفيلسوف وعالم بعبارات سلسة ولغة رصينة ، فجاء الكتاب فريدا في بابه ، لأنه عمدة في هذا الموضوع وموسوعة مختصرة للأديان والمذاهب والفرق ، بل للآراء والفلسفة المتعلقة بما وراء الطبيعة التي عرفت في عصر المؤلّف.

وعلى الرغم من أن المسلمين قد اهتموا بدراسة الأديان والمذاهب للردّ على أصحابها وألّفوا في ذلك كتبا ، ككتاب «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري ، وكتاب «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي ، وكتاب «الفصل في الملل والنحل» لابن حزم الظاهري ، وكتاب «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» للبيروني ، وغيرها من الكتب التي وضعت في الردّ على النصارى واليهود ،. أو في ردّ بعض الفرق الإسلامية على بعضها الآخر ، على الرغم من كل ذلك فإن كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني مع صغر حجمه فإنه يمتاز عنها جميعا بغزارة المادة وشموليتها ويمتاز بالاستقصاء في البحث ، والدّقة والتحقيق في الموضوعات التي يتناولها ، والاعتدال في الأحكام التي يصدرها ، حيث لا تأتي عن ميل أو هوى مؤكدا ذلك في قوله : «وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على وحدته في كتبهم ، من غير تعصّب لهم ، ولا كسر عليهم». ولهذا يقول عنه الإمام السبكي : «هو عندي خير كتاب صنّف في هذا الباب ، ومصنّف ابن حزم ، وإن كان أبسط منه ، إلّا أنه مبدّد ليس له نظام ... ثم فيه من الحطّ على أئمة السنّة ونسبة الأشاعرة إلى ما هم براء منه ما يكثر تعداده. ثم إن ابن حزم نفسه لا يدري علم الكلام حقّ الدراية على طريقة أهله ...».

٧

هذا وقد لقي كتاب الشهرستاني عناية كبرى من المشتغلين بالآراء الإسلامية ، وبخاصة ممن يعنون بمقالات الفرق ، وما طرأ عليها من تطوّرات ، وما انتظمته من آراء وبحوث ، فطبع الكتاب بالعربية مرات وترجم إلى لغات عدّة ، ولقي صدورا رحبة فتناوله العلماء الغربيون بالمدح والثناء.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الشهرستاني في كتابه : «الملل والنحل» فاته ذكر بعض ديانات القدماء ومنها :

* ديانة (١) قدماء المصريين الذين كانوا يعبدون أكثر من إله (سبك ، حوريس ، ست ، أزوريس ، رع ، آمون رع ، آتون ...) وقد تلاشت حينما أدخل «بطليموس» الأوّل إلهه الجديد «سربيس» فصار إلها لجميع المصريين.

* والديانة الهندوسية (٢) أو البرهمية التي دخلت الهند مع الآريين الذين نزحوا إلى الأقاليم الغربية من تلك البلاد حوالي سنة ١٥٠٠ ق. م. وهي ديانة تجمع بين الوثنية الساذجة والآراء الفلسفية السامية والزهد الصادق ، وللبراهمة آلهة للمطر والنار والسماء وما شاكلها ، وهم يؤمنون بفكرة التناسخ و «الكارما» أي العمل الذي لا بدّ منه في الحياة ، ثم بفكرة «الانطلاق» أي محاولة النفس الإفلات من دورات تجوالها ونتائج أعمالها. وأهمّ تعاليم الديانة البرهمية :

١ ـ الكائن الإلهي. ٢ ـ مقابلة الإساءة بالإحسان. ٣ ـ القناعة. ٤ ـ الاستقامة. ٥ ـ الطهارة. ٦ ـ كبح جماح الحواس. ٧ ـ معرفة الفيدا. ٨ ـ الصبر. ٩ ـ الصدق. ١٠ ـ اجتناب الغضب.

والديانة البوذية المنتشرة بين عدد كبير من الشعوب الآسيوية ، وهي مذهبان كبيران : المذهب الشمالي السائد في الصين ، واليابان ، والتبت ، ونيبال ، وجاوه ، وسومطرة ، والمذهب الجنوبي السائد في بورما ، وسيلان ، وسيام.

__________________

(١) راجع ديانة قدماء المصريين ، ترجمة الدكتور سليم حسن.

(٢) راجع أديان العالم الكبرى ، ترجمه عن الإنكليزية الأستاذ حبيب سعد.

٨

وديانة بوذا لها أربعة أطوار ، أرقاها الطور الرابع وهو : «النرفانا». وبوذا الذي أنكر الصلاة ، يعتقد أن قليلين جدا هم الذين يبلغون «النرفانا» في جهادهم الأخلاقي.

* والديانة الصينية (١) التي تقوم على عبادة السماء باعتبارها الإله الأعظم ، ثم عبادة الأرض. لأن للأرض إلها. ثم عبادة أرواح الأجداد وعبادة الجبال والأنهار.

وقد استقرّ الصينيون بعد قرون طويلة على ثلاثة أديان هي : الكنفوشية ، والبوذية ، والتاوزميّة.

والديانة اليابانية (٢) التي انتشرت بين اليابانيين وتقسم إلى ثلاثة أديان هي : الشنتوية ، (طريق الآلهة) ، وعبادة الميكادو (اسم زعيمهم) ، ثم الديانة البوذية اليابانية (زعيمهم إميدا بوذا).

أمّا الأديان التي ظهرت بعد الشهرستاني فهي :

* اليزيدية (٣) ، أو عبدة الشيطان ، وهم طائفة ينتمي معظمها إلى الجنس الكردي ويقطن أتباعها في الشمال الشرقي من الموصل ، وفي قضاء سنجار في الشمال الغربي من العراق على الحدود السورية ، وفي منطقة حلب ، والبلاد الأرمنية الواقعة على الحدود بين تركيا وروسيا.

وقد اختلف الباحثون في تعليل تسميتهم ، كما اختلفوا أيضا في أصل دينهم ، ونبيّ هذه الديانة الشيخ عادي. ومن الشخصيات المقدسة عندهم منصور الحلّاج ، والشيخ عبد القادر الكيلاني ، والحسن البصري. واليزيدية يؤمنون بالتناسخ ، وبالحلول ، ولهم كتابان مقدسان هما : «الجلوة» وفيه وعد ووعيد ، وترغيب وترهيب ، ومصحف «رش» وفيه قصة خلق العالم وعقائد الزيديّة.

__________________

(١) راجع أديان العالم الكبرى.

(٢) راجع أديان العالم الكبرى.

(٣) راجع اليزيدية قديما وحديثا ـ معتقدات اليزيديين.

٩

* والديانة البابية أو البهائية ، ومؤسسها علي بن محمد رضا الشيرازي. وتقوم هذه الديانة على أساس الاعتقاد بوجود إله واحد أزلي نظير ما يعتقد به المسلمون. إلّا أن «البابية» يستمدون صفات الخالق من أساس العقيدة الباطنية التي ترى أن لكل شيء ظاهرا وباطنا ، وأن هذا الوجود مظهر من مظاهر الله. وأن الله هو النقطة الحقيقية. وكل ما في الوجود مظهر له.

أمّا عبادات البهائيين ومعاملتهم فقد وردت في كتاب : «البيان» الذي نسخه خليفة الباب وهو علي حسين الملقّب بالبهاء بكتابه : «الأقدس» ومنها : الصوم ، والصلاة ، والحج ، والزكاة ، وهناك تعاليم دينية أخرى.

وعلى الإجمال فيمكن القول أن الفرق الإسلامية التي تحدّث عنها الشهرستاني قد اختفت كلّها من الوجود ما عدا القليل القليل الذي فقد هو الآخر أهميته.

١٠

من هو الشهرستاني؟

اسمه محمد بن عبد الكريم بن أحمد ، وكنيته أبو الفتح ، وشهرته المعروف بها الشهرستاني ، نسبة إلى بلدة «شهرستان» مسقط رأسه ومثوى رفاته ، وهي شهرستان خراسان ، بين نيسابور وخوارزم في آخر حدود خراسان ، وهي التي بناها عبد الله بن طاهر أمير خراسان في خلافة المأمون ، وقد أخرجت خلقا كثيرا من العلماء.

أمّا مولده ، فقد اختلف في تاريخه والراجح أنه ولد سنة ٤٧٩ ه‍. وتوفي في شعبان سنة ٥٤٨ ه‍. الموافق ١٠٨٦ ـ ١١٥٣ م. وبذلك يكون قد عاش قرابة السبعين سنة.

والشهرستاني من حيث المذهب شافعي ، ومن حيث الأصول أشعري ، كان إماما مبرّزا فقيها متكلّما ، واعظا محاضرا. قال عنه الخوارزمي في تاريخ خوارزم : «دخل خوارزم واتخذ بها دارا وسكنها مدّة ، ثم تحوّل إلى خراسان ، وكان عالما حسنا ، حسن الخطّ ، واللفظ ، لطيف المحاورة ، خفيف المحاضرة ، طيّب المعاشرة ، تفقّه بنيسابور على أحمد الخوافي وأبي نصر القشيري ، وقرأ الأصول على أبي القاسم الأنصاري ، وسمع الحديث على أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد المدائني وغيره .. وخرج من خوارزم سنة ٥١٠ ه‍. وحجّ في هذه السنة ، ثم أقام ببغداد ثلاث سنين ، وكان له مجلس وعظ في النظاميّة [وهي أعلى المدارس ببغداد] وظهر له قبول عند العوام ، وكان المدرّس بها يومئذ أسعد الميهني ، وكان بينهما صحبة سالفة بخوارزم ، فقرّبه أسعد لذلك ... وكان قد صنّف كتبا كثيرة في

١١

علم الكلام .. ثم عاد إلى بلدة شهرستان فمات بها في سنة ٥٤٩ ه‍ أو قريبا منها ، ومولده سنة ٤٦٩».

وكان الشهرستاني مولعا بطلب العلم ، يطوف بالبلاد الإسلامية يتعلّم ويعلّم ، وبلغ من جلال مجالسه العلمية أنها كانت تدوّن وذلك لعمقها. ومن صفوة الشيوخ الذين كانوا يحضرون هذه المجالس : أبو الحسن بن حموية ، والبيهقي ، والإمام أبو منصور ، وموفق الدين أحمد اللّيثي ، وشهاب الدين الواعظ ، وغيرهم من أئمة الفقه والعلم.

نماذج من آراء العلماء فيه :

قال ابن السبكي : «برع في الفقه والأصول والكلام ، وكان لعلمه يلقب بالأفضل وبالفيلسوف وبالإمام».

وقال ابن تغري بردي : «كان إمام عصره في علم الكلام ، عالما بفنون كثيرة من العلوم ، وبه تخرّج جماعة من العلماء».

وقال ياقوت : «إنه المتكلّم الفيلسوف صاحب التصانيف».

وقال مصطفى عبد الرزاق : «إن الشهرستاني من أهل الفلسفة الإسلامية الذين يستشهد بآرائهم ، مثله مثل ابن سينا».

أمّا العلماء الغربيون فقد مثّلهم العالم الإنكليزي «الفرد جيوم» بقوله : «الشهرستاني كان رجلا ديّنا إلى الأعماق ، وإخلاصه للعقيدة لا يمكن أن يشك فيه أيّ إنسان قرأ مؤلّفاته التي تكفي بنفسها لدحض ادّعاءات المنتقصين من شأنه ... وهو جدير بأن ينظر إليه باعتباره ذا أصالة فكرية.

ومن قول «كارادي» الفرنسي : «إن عقلية الشهرستاني لم تكن في جوهرها إلّا عقلية فلسفية».

وقال العالم الألماني : «هابركر» : «بواسطة الشهرستاني في كتابه الملل والنحل نستطيع أن نسدّ الثغرة التي في تاريخ الفلسفة بين القديم والحديث».

١٢

نماذج من آراء منتقديه :

على أنّ هذا التقدير للشهرستاني لم يحل دون انتقاده من بعض معاصريه أو المتأخرين مثل الخوارزمي الذي أورد في كتابه تاريخ خوارزم : «لو لا تخبطه في الاعتقاد وميله إلى هذا الإلحاد لكان هو الإمام ... وليس ذلك إلّا لإعراضه عن نور الشريعة واشتغاله بظلمات الفلسفة ... وقد حضرت عدّة مجالس من وعظه فلم يكن فيها لفظ ، قال الله ، ولا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... والله أعلم بحاله».

وابن السمعاني في قوله : «إنه كان متّهما بالميل إلى أهل القلاع (يعني الإسماعيلية) والدعوة إليهم ، غال في التشيّع».

وياقوت في وصفه له بأنّه : «الفيلسوف المتكلّم ، صاحب التصانيف. كان وافر الفضل ، كامل العقل ، لو لا تخبطه في الاعتقاد ، ومبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة ، والذبّ عنهم لكان هو الإمام ...».

ومن الكتاب المحدّثين ، قول أحمد أمين : «... ورأيت مؤلفي العرب كالشهرستاني والقفطي وأمثالهما قد خلطوا حقّا وباطلا».

ودافع عنه ابن السبكي في طبقاته وقال : «الحقّ أقول أن ما اتّهم به ، هو منه براء فإن تصانيفه آية على استمساك بالعقيدة واعتصام بالدين ، وإنه يميل إلى أهل السنّة والجماعة ، إلّا أنه كان يتابع مذهب الفلاسفة ، ويذبّ عن آرائهم وأفكارهم ممّا أدّى لتهمته».

وفي كتاب «الذيل» للسمعاني ، و «وفيات الأعيان» لابن خلّكان ، أن الشهرستاني ذكر في أوّل كتابه «نهاية الإقدام» بيتين من الشعر هما :

لقد طفت في تلك المعاهد كلّها

وسيّرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلّا واضعا كفّ حائر

على ذقن أو قارعا سنّ نادم

ولم يذكر صاحب البيتين ، وقيل : هما لأبي بكر محمد بن باجة ، المعروف بابن الصائغ الأندلسي. [وقيل : إنهما لأبي علي ابن سينا].

١٣

أضاف ابن خلّكان : «وكان الشهرستاني يروي بالإسناد المتّصل إلى النظّام البلخي العالم ، المشهور ، واسمه إبراهيم بن سيّار ، أنّه كان يقول : لو كان للفراق صورة لارتاع لها القلوب ، ولهدّ الجبال ، ولجمر الغضى أقلّ توهّجا من حمله ، ولو عذّب الله أهل النار بالفراق لاستراحوا إلى ما قبله من العذاب.

وكان يروي للدريدي أيضا باتصال الإسناد إليه قوله :

ودّعته حين لا تودّعه

روحي ولكنها تسير معه

ثم افترقنا وفي القلوب لنا

ضيق مكان وفي الدموع سعه

وكان يروي للدريدي مسندا إليه :

يا راحلين بمهجة

في الحبّ متلفة شقيّه

الحبّ فيه بليّة

وبليّتي فوق البليّة

أضاف ابن خلّكان : «كل ذلك رواه الحافظ أبو سعيد بن السمعاني في كتاب «الذيل» ثم قال في آخر الترجمة : وصل إليّ نعيه وأنا ببخارا ، رحمه‌الله تعالى».

مؤلفات الشهرستاني :

للشهرستاني مؤلفات كثيرة منها :

١ ـ الإرشاد إلى عقائد العباد : ذكره الشهرستاني نفسه في كتابه «نهاية الإقدام».

٢ ـ الأقطار في الأصول. نسبه إليه الخوارزمي.

٣ ـ تاريخ الحكماء. نسبه إليه (كيورتن) في مقدمته لطبعته لكتاب «الملل والنحل».

٤ ـ تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام ، نسبه إليه ابن خلّكان ، وأبو الفداء ، وحاجي خليفة.

٥ ـ دقائق الأوهام. نسبه إليه الخوارزمي.

٦ ـ شرح سورة يوسف بعبارة فلسفية لطيفة نسبه إليه الخوارزمي.

٧ ـ العيون والأنهار. نسبه إليه البيهقي.

٨ ـ غاية المرام في علم الكلام. نسبه إليه الخوارزمي.

١٤

٩ ـ قصة موسى والخضر. نسبه إليه البيهقي.

١٠ ـ المبدأ والمعاد. نسبه إليه الخوارزمي.

١١ ـ مجالس مكتوبة. رآها البيهقي. وكانت المجالس لا تكتب إلّا للأئمة نادرا.

١٢ ـ مصارعة الفلاسفة ، أو المصارعة والمضارعة. نسبه إليه صدر الدين الشيرازي.

١٣ ـ مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار في تفسير القرآن. نسبه إليه البيهقي.

١٤ ـ المناهج والآيات. نسبه إليه البيهقي وابن خلّكان وأبو الفداء.

١٥ ـ شبهات أرسطاطاليس وابن سينا ونقضها. ذكرها الشهرستاني نفسه.

١٦ ـ نهاية الأوهام. أشار إليه الشهرستاني في آخر كتابه «نهاية الإقدام».

١٧ ـ نهاية الإقدام في علم الكلام. مطبوع.

١٨ ـ الملل والنحل ، الكتاب الذي نشرحه الآن.

آملين أن نكون قد أدّينا خدمة للقارئ ، والله الموفق.

أمير علي مهنّا

علي حسن فاعور

بيروت في ١٧ شوّال ١٤٠٨ ه‍.

الموافق ١ حزيران ١٩٨٨ م.

١٥
١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين بجميع محامده كلها ؛ على جميع نعائمه كلها ، حمدا كثيرا طيبا مباركا كما هو أهله. وصلّى الله على سيدنا محمد المصطفى رسول الرحمة خاتم النبيّين وعلى آله الطيبين الطاهرين ؛ صلاة دائمة بركتها إلى يوم الدين ، كما صلّى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنه حميد مجيد.

وبعد : فلمّا وفقني الله تعالى لمطالعة مقالات أهل العالم من أرباب الديانات والملل (١) ، وأهل الأهواء (٢) والنحل (٣) ، والوقوف على مصادرها ومواردها ، واقتناص أوانسها (٤) وشواردها (٥) ، أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تديّن به المتدينون ، وانتحله المنتحلون ؛ عبرة لمن استبصر ، واستبصارا لمن اعتبر.

وقبل الخوض فيما هو الغرض لا بدّ من أن أقدم خمس مقدمات :

* المقدمة الأولى : في بيان أقسام أهل العالم جملة مرسلة (٦).

* المقدمة الثانية : في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية.

* المقدمة الثالثة : في بيان أوّل شبهة وقعت في الخليقة ، ومن مصدرها ومن مظهرها؟

__________________

(١) الملل : جمع ملّة ، وهي الشريعة والدين.

(٢) أهل الأهواء : أهل الآراء كالفلاسفة والدهريّة والصابئة وعبدة الكواكب والأوثان وغيرهم.

(٣) النحل : جمع نحلة بالكسر وهي الدعوى والديانة ومنه الانتحال وهو ادعاء ما لا أصل له.

(٤) أوانسها : أراد معلوماتها القيّمة. وأوانس : جمع آنسة ، الشابة الجميلة.

(٥) شواردها : معلوماتها النادرة ، وشوارد اللغة : نوادرها.

(٦) جملة مرسلة : أي غير مقيّدة.

١٧

* المقدمة الرابعة : في بيان أوّل شبهة (١) وقعت في الملة الإسلامية ، وكيفية انشعابها(٢) ، ومن مصدرها ، ومن مظهرها؟

* المقدمة الخامسة : في بيان السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب.

المقدمة الأولى

في بيان تقسيم أهل العالم جملة مرسلة

١ ـ من الناس من قسم أهل العالم بحسب الأقاليم السبعة. وأعطى أهل كل إقليم حظه من اختلاف الطبائع والأنفس التي تدلّ عليها الألوان والألسن.

٢ ـ ومنهم من قسمهم بحسب الأقطار الأربعة التي هي : الشرق ، والغرب ، والجنوب ، والشمال. ووفر على كل قطر حقه من اختلاف الطبائع ، وتباين الشرائع.

٣ ـ ومنهم من قسمهم بحسب الأمم ، فقال كبار الأمم أربعة : العرب ، والعجم ، والروم ، والهند ، ثم زاوج (٣) بين أمة وأمة : فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد ، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات (٤) والحقائق ، واستعمال الأمور الروحانية. والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد ، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات (٥) والكميات ، واستعمال الأمور الجسمانية.

٤ ـ ومنهم من قسمهم بحسب الآراء والمذاهب. وذلك غرضنا في تأليف

__________________

(١) الشبهة : الالتباس. وأمور مشتبهة ومشبهة : مشكلة يشبه بعضها بعضا.

(٢) انشعابها : انقسامها وتفرقها. وشعب الشيء : فرّقه وانشعب عنه : تباعد.

(٣) زاوج بين أمة وأمة : خالط بينهما وقارن.

(٤) ماهية الشيء : حقيقته. نسبة إلى «ما هو».

(٥) الكيف : حالة الشيء وصفته.

١٨

هذا الكتاب. وهم منقسمون بالقسمة الصحيحة الأولى إلى أهل الديانات والملل ، وأهل الأهواء والنحل.

فأرباب الديانات مطلقا مثل المجوس ، واليهود ، والنصارى ، والمسلمين.

وأهل الأهواء والآراء مثل الفلاسفة ، والدّهرية (١) ، والصابئة (٢) ، وعبدة الكواكب والأوثان ، والبراهمة (٣).

ويفترق كل منهم فرقا. فأهل الأهواء ليست تنضبط مقالاتهم في عدد معلوم. وأهل الديانات قد انحصرت مذاهبهم بحكم الخبر الوارد فيها. فافترقت المجوس على سبعين فرقة. واليهود على إحدى وسبعين فرقة. والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة. والمسلمون على ثلاث وسبعين فرقة. والناجية (٤) أبدا من الفرق واحدة ، إذ الحق من القضيتين المتقابلتين في واحدة ، ولا يجوز أن يكون قضيتان متناقضتان متقابلتان على شرائع التقابل إلّا وأن تقتسما الصدق والكذب. فيكون الحق في إحداهما دون الأخرى ومن المحال الحكم على المتخاصمين المتضادين في أصول المعقولات بأنهما محقان صادقان.

وإذا كان الحق في كل مسألة عقلية واحدا ؛ فالحق في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة. وإنما عرفنا هذا بالسمع وعنه أخبر التنزيل في قوله عزّ

__________________

(١) الدهري : الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة القائل ببقاء الدهر وهو مولّد.

(٢) الصابئون : جمع صابئ وهو من انتقل إلى دين آخر. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره سمي في اللغة صابئا. كانوا يعبدون النجوم والكواكب. (راجع مجمع البيان ١ : ١٢٦ والقرطبي ١ : ٣٨٠ وابن خلدون ١ : ١١٦).

(٣) في القرن الثامن قبل الميلاد أطلق على الديانة الهندوسية اسم «البرهمية» نسبة إلى «برهما» وهو في اللغة السنسكريتية معناه «الله» ورجال دين الهندوس يعتقدون أنه الإله الموجود بذاته الذي لا تدركه الحواس وإنما يدرك بالعقل وهو الأصل الأزلي المستقل الذي أوجد الكائنات كلها ومنه يستمد العالم وجوده ويعتقد الهندوس أن رجال هذا الدين يتّصلون في طبائعهم بعنصر «البرهما» ولذلك أطلق عليهم اسم «البراهمة». (راجع الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص ٤٥).

(٤) سيشرحها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أسطر قليلة.

١٩

وجلّ : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١) وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: «ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، النّاجية منها واحدة ، والباقون هلكى (٢). قيل : ومن النّاجية؟ قال : أهل السّنّة والجماعة. قيل : وما السّنّة والجماعة؟ قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي».

وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ إلى يوم القيامة».

وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تجتمع أمّتي على ضلالة».

المقدمة الثانية

في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية

اعلم أن لأصحاب المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية ، لا على قانون مستند إلى أصل ونص ، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود. فما وجدت مصنّفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق.

ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كل من تميّز عن غيره بمقالة ما ؛ في مسألة ما ؛ عدّ صاحب مقالة. وإلّا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجواهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات فلا بدّ إذن من ضابط في مسائل هي أصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافا يعتبر مقالة ، ويعدّ صاحبه صاحب مقالة.

وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط ، إلّا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيف اتفق ، وعلى الوجه الذي وجد ، لا على قانون مستقرّ ، وأصل مستمرّ فاجتهدت على ما تيسر من التقدير ، وتقدر من التيسير حتى حصرتها في أربع قواعد، هي الأصول الكبار.

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١٨١.

(٢) راجع ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذم بعض الفرق في «الفرق بين الفرق ص ٩ دار المعرفة».

٢٠