نهج الحقّ وكشف الصدق

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهج الحقّ وكشف الصدق

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب اللبناني
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

فلينظر العاقل هل يجوز له أن يصير إلى مذهب لا يمكن إثبات نبوة الأنبياء به البتة ولا يمكن الجزم بشريعة من الشرائع والله تعالى قد قطع أعذار المكلفين بإرسال الرسل فقال (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). (١)

وأي حجة أعظم من هذه الحجة عليه تعالى وأي عذر أعظم من أن يقول العبد لربه إنك أضللت العالم وخلقت فيهم الشرور والقبائح وظهر جماعة خلقت فيهم كذب وادعاء النبوة وآخرون ادعوا النبوة ولم تجعل لنا طريقا إلى العلم بصدقهم ولا سبيل لنا إلى معرفة صحة الشرائع التي أتوا بها فيلزم انقطاع حجة الله تعالى.

__________________

ـ سبيل الحق. ألا إن الله تعالى قد كشف الخلق كشفة ، لا أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ، ومكنون ضمائرهم» ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا» ، فيكون الثواب جزاء ، والعقاب بواء».

وقال بعد وصف خلقه آدم ، ومواهبه تعالى له : «واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه ، واتخذوا الأنداد (إلى أن قال) فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائف العقول ، ويروهم آيات المقدرة (إلى أن قال في حق نبينا «ص») : إلى أن بعث الله سبحانه محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانجاز عدته ، وإتمام نبوته ، مأخوذا على الأنبياء ميثاقه ، مشهورة سماته ، كريما ميلاده».

وقال في الخطبة (١٠٣) : «حتى بعث الله محمدا «ص» شهيدا ، وبشيرا ونذيرا ، خير البرية طفلا ، وأنجبها كهلا ، وأطهر المطهرين شيمة ، وأجود المستمطرين ديمة» ، وقال في الخطبة (١٠٦) : «اختاره من شجرة الأنبياء ، ومشكاة الضياء ، وذؤابة العلياء ، وسرة البطحاء ، ومصابيح الظلمة ، وينابيع الحكمة ، طبيب دوار بطبه ، قد أحكم مرهمه ، وأحمى مواسمه ، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي ، وآذان صم ، وألسنة بكم ، متتبع بدوائه مواضع الغفلة ، ومواطن الحيرة ، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة ، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة ، فهم في ذلك كالأنعام السائمة والصخور القاسية».

(١) النساء : ١٦٥.

١٤١

وهل يجوز لمسلم يخشى الله وعقابه أو يطلب الخلاص من العذاب المصير إلى هذا القول نعوذ بالله من الدخول في الشبهات.

عصمة الأنبياء

١ ـ المبحث الثاني : أن الأنبياء معصومون.

ذهبت الإمامية كافة إلى أن الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر ومنزهون عن المعاصي قبل النبوة وبعدها على سبيل العمد والنسيان وعن كل رذيلة ومنقصة وما يدل على الخسة والضعة.

وخالفت الأشاعرة في ذلك وجوزوا عليهم المعاصي وبعضهم جوزوا الكفر عليهم قبل النبوة وبعدها وجوزوا عليهم السهو والغلط (١) ونسبوا رسول الله ص إلى السهو في القرآن بما يوجب الكفر

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة / ج ٢ ص ١٦٢ ما خلاصته : قال قوم من الخوارج وابن فورك من الأشعرية : إنه يجوز بعثة من كان كافرا. وقال برغوث المتكلم ، من النجارية : لم يكن الرسول قبل البعثة مؤمنا بالله. وقال السدي : إنه كان على دين قومه (وهو الشرك) أربعين سنة. وقال بعض الكرامية : إن إبراهيم «ع» قال : أسلمت ، ولم يكن قبل ذلك مسلما.

وقال ابن حزم ، في كتابه الفصل في الملل والأهواء ج ٤ ص ١ : فذهب طائفة إلى أن رسل الله يعصون الله في جميع الكبائر والصغائر ، حاشا الكذب في التبليغ فقط ، وهو قول الكرامية من المرجئة ، وقول أبي الطيب الباقلاني ، من الأشعرية ، ومن اتبعه .. وهو قول اليهود والنصارى .. (إلى أن قال) : وأما هذا الباقلاني ، فإنا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السمناني ، قاضي الموصل : أنه كان يقول : إن كل ذنب دق أوجل ، فإنه جائز على الرسل حاشا الكذب في التبليغ فقط. وقال : وجائز عليهم أن يكفروا. وقال : وإذا نهى النبي عن شيء ، ثم فعله فليس دليلا على أن ذلك النهي قد نسخ ، لأنه قد يفعله عاصيا لله تعالى. وقال : وليس لأصحابه أن ينكروا عليه ، وجوز أن يكون في أمة محمد من هو أفضل من محمد «ص» مذ بعث ، إلى أن مات. انتهى كلام ابن حزم!!!! وقال الغزالي ، في بحث أفعال الرسول من كتابه الموسوم ب (المنخول في الأصول): ـ

١٤٢

فقالوا إنه صلى يوما وقرأ في سورة النجم عند قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (١) تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى (٢) وهذا اعتراف منه ص بأن تلك الأصنام

__________________

ـ والمختار ما ذكره القاضي (يعني الباقلاني) : وهو أنه لا يجب عقلا عصمتهم ، إذ لا يستبان استحالة وقوعه (أي العصيان) بضرورة العقل ولا بنظره ، وليس هو مناقضا لمدلول المعجزة ، فإن مدلوله صدق اللهجة فيما يخبر عن الله تعالى ، لا عمدا ولا سهوا ، ومعنى التنفير باطل ، فإنا نجوز أن ينبىء الله كافرا ويؤيده بالمعجزة. واختاره فرقة الأزارقة من الخوارج (وليراجع الملل والنحل ج ١ ص ١٢٢).

ونقل أبو رية في كتابه : أضواء على السنة المحمدية ص ٤٢ عن كتاب : نهاية المبتدئين لابن حمدان : إنهم معصومون فيما يؤدونه عن الله تعالى ، وليسوا بمعصومين في غير ذلك ، من الخطأ ، والنسيان ، والصغائر ، وقال ابن عقيل في الارشاد : إنهم لم يعتصموا في الأفعال ، بل في نفس الأداء ، ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى. وهذا ينكره علماء الشيعة فإنهم أجمعوا على أن الأنبياء معصومون لا يخطئون ، ولا يعتريهم السهو والنسيان ، وهم مجمعون على أنهم معصومون في الكبر والصغر ، حتى في أمور الدنيا. وقال الرازي في تفسيره الكبير ج ٣ ص ٧ : واختلف الناس على ثلاثة أقوال : أحدها : قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم ، وهو قول الرافضة. وثانيها : قول من ذهب إلى عصمتهم وقت بلوغهم ، ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة ، وهو قول كثير من المعتزلة. وثالثها : قول من ذهب إلى أن ذلك (يعني ارتكاب الكفر والكبيرة) لا يجوز وقت النبوة. أما قبلها فجائز ، وهو قول أكثر أصحابنا ، وقول أبي الهذيل العلاف ، وأبي علي من المعتزلة.

وقال في الجزء ١٨ ص ٩ من تفسيره : وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها. وأشار ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٢ ص ١٦٢ إلى ما قاله الفخر الرازي.

(١) آية : ١٩ و ٢٠.

(٢) رواه في (مجمع الزوائد ج ٧ ص ١١٥ ط مصر) ، ورواه السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) ج ٤ ص ٣٦٨ بهذا الاسناد.

وأخرجه عبد بن حميد ، من طريق السدي ، عن صالح.

وأخرجه البزار ، والطبراني ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، بسند صحيح ، عن سعيد بن جبير. ـ

١٤٣

ترتجى الشفاعة منها نعوذ بالله من هذه المقالة التي نسب النبي ص إليها وهي توجب الشرك فما عذرهم عند رسول الله ص وقد

__________________

ـ وأخرجه ابن جرير ، وابن مردويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس.

وأخرجه ابن مردويه ، من طريق الكلبي ، عن ابن صالح. ومن طريق أبي بكر الهذلي ، وأيوب ، عن عكرمة. ومن طريق سليمان التيمي ، عمن حدثه ، كلهم عن ابن عباس.

وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، من طريق يونس ، عن ابن شهاب عن أبي بكر ابن عبد الرحمان بن الحارث : أن رسول الله إلخ ... مرسل صحيح الاسناد.

وأخرجه ابن أبي حاتم ، من طريق موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب.

وأخرجه البيهقي في الدلائل ، عن موسى بن عقبة ، ولم يذكر ابن شهاب.

وأخرجه الطبراني ، عن عروة مثله.

وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم بسند صحيح ، عن أبي العالية.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، بتفاوت يسير مع الذي قبله.

وأخرجه ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، وعن السدي.

وأخرجه عبد بن حميد ، عن مجاهد ، وعكرمة.

كانت تلك هي أسانيد هذا الحديث المجعول جمعها السيوطي في تفسيره وخلاصته : أن رسول الله «ص» لما قرأ : «أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى» ألقى الشيطان على لسانه ، وفي بعضها فألقى في أمنيته (تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى) ، فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد ، وسجدوا ، ثم جاءه جبرئيل بعد ذلك فقال : اعرض علي ما جئتك به ، فلما بلغ : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى ، قال جبرئيل : لم آتك بهذا ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ، وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحج : ٥٢ وزيد في بعضها ما خلاصته : قال المشركون يذكر آلهتنا بالشتم والشر ، وإن ذكرها بالخير نذكر إلهه بالخير ، وأقررناه وأصحابه ، فتكلم الرسول بها ، فانتشر قوله «ص» (تلك الغرانيق ...) ، وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه.

أقول : صفوة القول في عصمة الأنبياء عند الأشاعرة ، هو عدم وجوب عصمتهم قبل النبوة بالاتفاق عندهم. ويجوز عليهم ارتكاب الكفر وأنواع المعاصي ، ويؤيد ذلك ما نسبوه إلى النبي «ص» ، في فضل عمر بن الخطاب : (لو كان بعدي نبي ، لكان عمر بن الخطاب) رواه في أسد الغابة ج ٤ ص ٦٤ ، ونور الأبصار ص ٦١ ، وتاريخ ابن عساكر ج ٣ ـ

١٤٤

قتل جماعة كثيرة من أهله وأقاربه على عبادة الأصنام ولم تأخذه في الله

__________________

ـ ص ٢٨٧ ، وتاريخ الخلفاء ص ١١٧ ، وقال : أخرجه الترمذي ، والحاكم ، وصححه عن عقبة بن عامر ، وأخرجه الطبراني عن أبي سعيد الخدري ، وعصمة بن مالك ، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عمر ... مع أنه قد تواتر في كتب التاريخ والحديث : أن عمر أسلم في السنة السادسة بعد البعثة ، أو بعد ذلك ، وله على الأقل سبع وعشرون سنة.

وأما بعد النبوة ، فأكثرهم على عدم وجوبها أيضا ، كما صرح به الغزالي وغيره كما تقدم ، واعتمد حفاظهم في تفسير قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) ، ، على أمثال هذه الروايات المختلفة. فراجع الدر المنثور للسيوطي ج ٤ ص ٣٦٤ وقال الآخرون من أهل السنة بوجوب العصمة بعد النبوة من الكبائر والصغائر عمدا. وأما سهوا ، فان كان من الكبائر فبينهم خلاف ، وإن كان من الصغائر ، فقد قال القاضي ابن روزبهان : هو جائز اتفاقا ، بين أكثر أصحابنا ، وقال : وأما الصغائر عمدا فجوزها الجمهور ...

وأما عند الامامية : فيجب في النبي أن يكون طاهر الولادة ، طيب النسل لم يشرك أحد من آبائه من آدم إلى الخاتم ، كما تقدم عن علي «ع» في خطبته رقم (٩٤) في نهج البلاغة : «فاستودعهم في أفضل مستودع ، وأقرهم في خير مستقر ، تناسختهم كرائم الأصلاب ، إلى مطهرات الأرحام» انتهى ، ويقولون : إن الأنبياء معصومون من وقت مولدهم ، وصرح بذلك غيره من أئمة أهل البيت المعصومين «ع» ، فراجع الكتب المعتبرة عند الامامية ومن الأدلة التي أقامها الفخر على العصمة بعد النبوة الآية (١٢٤) من سورة البقرة :. (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) حيث قال : والمراد : إما عهد النبوة ، أو عهد الامامة ، فان كان المراد عهد الامامة وجب أن لا تثبت الامامة للظالمين ، وإذا لم تثبت الامامة للظالمين ، وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين ، لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به ، والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنبا ..

أقول : لا يخفى على من أمعن النظر في الآية الكريمة : أنها تنفي نيل الظالمين العهد المذكور فيها بعنوان القضية الحقيقية ، ولم يلحظ فيها زمان دون زمان ، فالآية الكريمة صريحة في نفي العهد عمن ارتكب الظلم في آن من آنات عمره. قال السيد سابق : في «العقائد الاسلامية» ص ١٨٣ : إن رسل الله يدركون بحسهم الذي تميزوا به على غيرهم من البشر : أنهم دائما في حضرة القدس ، وأنهم يبصرون الله في كل شيء ، فيرون مظاهر جماله وجلاله ، ودلائل قدرته وعظمته ، وآثار حكمته ورحمته (إلى أن قال) فتمتلىء قلوبهم إجلالا لله ، ووقارا له ، فلا يبقى فيها مكان لشيطان ، ولا موضع لهوى ، ولا جنوح لشهوة ، ولا إرادة لشيء سوى إرادة الله.

وقال عفيف عبد الفتاح طباره في كتابه : «مع الأنبياء في القرآن الكريم» ص ١٩ : فالله سبحانه تولى تأديبهم وتربيتهم ، وعصمهم عن الوقوع في الذنوب والمعاصي ، فلم تكن ـ

١٤٥

لومة لائم (١) وينسب إليه هذا القول الموجب للكفر والشرك وهو مقام إرشاد العالم وهل هذا إلا أبلغ أنواع الضلالة وكيف يجامع هذا قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٢) وهل أبلغ من هذه الحجة وهي أن يقول العبد إنك أرسلت رسولا يدعو إلى الشرك والكفر وتعظيم الأصنام وعبادتها ولا ريب أن القائلين بهذه المقالة صدق عليهم قوله تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٣) وَرَوَوْا عَنْهُ ص أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدِ أَقَصَّرْتَ الصَّلَاةَ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ

__________________

ـ حياتهم لأنفسهم ، بل كانوا مثلا يهتدى بهديهم ، ويسار على نهجهم ، ثم غدت سننهم ، وذكراهم من بعد وفاتهم ، مصابيح تضيء للانسانية ظلمة الحياة ، وتوضح لها طرق الرشاد ، فهم الهداة الذين أمرنا الله بالاقتداء بهم.

واما قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الكلام في هذه الآية ووضوح تفسيرها يستدعي البحث في معنى الرسول ، والنبي ، والمرسل ، ان الرسول صفة مشبهة لازم هو من يتلقى العلوم من الله بواسطة الملك بحيث يراه ويشاهده ويكلّمه مشافهة ويقرء عليه او يلقى اليه كلام الله تعالى فيسمّى ذلك رسالة والانسان الواجد لهذا الامر رسولا والغاية في اطلاق الرسول عليه هي اخذه لرسالة الله بواسطة رسل السماء فقد ادّوا اليه رسالة ربّهم فصار ليهم وضلالهم.

وان كان التلقّي وافاضة العلم من الله تعالى بغير الطريق المذكور فهو يسمّى نبوّة سواء كان ذلك الطريق الآخر هو الالهام الصريح والحضور مثل ما أوحي لنبيّنا ليلة المعراج ، وما اوحي الى موسى في طور سيناء ، او سماع صوت في النوم او اليقضة او بالقذف في قلبه (النبي صفة مشبهة لازم كشريف) قال الله تعالى : («وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) بل هم اضل سبيلا

وأيضا : استظهرناه فخر الدين الرازي في تفسيره ج ٢٧ ص ١٧٦ بقوله : ويشهد على ذلك ان لفظ النبي والرسول صفتان مشبّهتان اخذا من الفعل اللازم ، والمرسل من باب الافعال بعد البعثة بخمس سنين.

(١) هذا اقتباس من قوله تعالى : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) المائدة : ٥٤.

(٢) النساء : ١٦٥.

(٣) الأنعام : ٩١.

١٤٦

فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ص فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ الْحَدِيثَ (١).

وَرَوَوْا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ ص صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَدَخَلَ حُجْرَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ لِبَعْضِ حَوَائِجِهِ فَذَكَّرَهُ بَعْضٌ فَأَتَمَّهَا. (٢)

وأي نسبة أنقص من هذا وأبلغ في الدناءة فإنها تدل على إعراض النبي عن عبادة ربه وإهمالها والاشتغال عنها بغيرها والتكلم في الصلاة وعدم تدارك السهو من نفسه لو كان نعوذ بالله من هذا الآراء الفاسدة ونسبوا إلى النبي ص كثيرا من النقص رَوَى الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَلْعَبُ بَالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ ص وَكَانَتْ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ص إِذَا دَخَلَ تَقَبَّعْنَ مِنْهُ فَيُشِيرُ إِلَيْهِنَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي (٣).

__________________

(١) ويقرب منه : ما رواه الترمذي ، في الجامع الصحيح ج ١ ص ٢٤٧ رقم ٣٩٧ ومسلم في الصحيح ج ١ ص ٢١٦ باب السهو في الصلاة والسجود له ، والبخاري في الصحيح ج ٢ ص ٨٢ باب من لم يتشهد في سجدتي السهو ، وأبو داود في سننه ج ١ ص ٣٦٦ ، وابن رشد في بداية المجتهد ج ١ ص ١٥٣ ، كلهم يروون ذلك عن أبي هريرة.

(٢) هذا خلاصة ما رواه مسلم في الصحيح ج ١ ص ٢١٥ باب السهو في الصلاة والسجود له ، والبخاري أيضا ج ١ ص ٨٢ باب من يكبر في سجدتي السهو ، عن أبي هريرة.

(٣) صحيح البخاري ج ٨ ص ٣٧ ، كتاب الأدب ، باب الانبساط إلى الناس ، وصحيح مسلم ج ٢ ص ١٢٠ ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل عائشة. وفي مصابيح البغوي ج ٢ ص ٢٧ ، في باب عشرة النساء ، من كتاب النكاح ، عن عائشة : (قالت : قدم رسول الله «ص» من غزوة تبوك ، أو حنين ، وفي بهوتها ستر ، فهبت ريح ، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب بها ، فقال : ما هذه يا عائشة؟ قالت : بناتي. ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع ، فقال : وما هذا الذي وسطهنّ؟ قالت : فرس ، قال : وما هذا الذي عليه؟ قالت جناحان ، قال : الفرس يكون له جناحان؟ قالت : أما سمعت ، أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت : فضحك ، حتى رأيت نواجذه. (والبنات كما في أقرب الموارد والقاموس : التماثيل الصغار).

١٤٧

وحديث الحميدي أيضا كنت ألعب بالبنات في بيته وهن اللعب. (١)

مع أنهم رَوَوْا فِي صِحَاحِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ صُوَرُ مُجَسَّمَةٍ أَوْ تَمَاثِيلُ (٢) وتواتر النقل عنه بإنكار عمل الصور والتماثيل (٣) فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلى النبي ص وإلى زوجته من عمل الصور في بيته الذي أسس للعبادة (٤) وهو محل هبوط الملائكة والروح الأمين في كل وقت. (٥)

ولما رأى النبي ص الصور في الكعبة لم يدخلها حتى محيت (٦) مع أن الكعبة بيت الله تعالى فإذا امتنع من دخوله مع شرفه وعلو

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٢ ص ١٢٠ كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل عائشة ، والجمع بين الصحيحين.

(٢) صحيح البخاري ج ٧ ص ٢١٦ باب من كره القعود على الصورة وباب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة. وص ٢١٧ باب من لم يدخل بيتا فيه صورة ، والجامع الصحيح للترمذي ج ٤ ص ٢٠٠ ، باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة أو كلب ، وصحيح مسلم ج ٢ ص ٣٢٩ ، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة.

(٣) صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٣١ و ٣٣٢ و ٣٣٣ و ٣٣٤ ، وصحيح البخاري ج ٧ ص ٢١٥ باب عذاب المصورين يوم القيامة وباب نقض الصور ، وباب ما وطي من التصاوير ص ٢١٦ باب من كره القعود على الصورة ، وباب كراهية الصلاة في التصاوير ص ٢١٧ ، باب من لم يدخل بيتا فيه صورة ، وباب من لعن المصورين ، وباب من صور صورة.

(٤) قال الله تعالى : («فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ، وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ») النور : ٣٦. قال السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ٥٠ وأخرج ابن مردويه ، عن أنسّ بن مالك ، وبريدة ، قال : قرأ رسول الله هذه الآية ، فقام إليه رجل ، فقال : أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال : بيوت الأنبياء. (الحديث).

(٥) قال رسول الله «ص» : «نحن أهل بيت طهرهم الله ، من شجرة النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وبيت الرحمة ، ومعدن العلم». رواه السيوطي في تفسيره ج ٥ ص ١٩٩ ولا ريب في أن بيته الكريم كان محل الوحي ، ومهبط أمين وحي رب العالمين.

(٦) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٦ و ٨٧ ، في هامشها سيرة زيني دحلان ج ٢ ص ٢٨٦

١٤٨

مرتبته فكيف يتخذ في بيته وهو أدون من الكعبة صورا ويجعله محلا له.

وَرَوَى الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ. (١)

وَرَوَى الْحُمَيْدِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ص وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ص فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ وَقَالَ دَعْهَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا. (٢)

وكيف يجوز للنبي ص الصبر على هذا مع أنه نص على تحريم اللعب واللهو والقرآن مملوء به (٣) وبالخصوص مع زوجته وهلا

__________________

(١) رواه ابن الأثير ، في جامع الأصول ج ١١ ص ٣٢٢ ، عن البخاري ، ومسلم ، والنسائي والغزالي في إحياء العلوم ج ٢ ص ٢٧٧ وفي ذيله الزين العراقي في كتابه : المغني في تخريج ما في الأحياء من الأخبار وقال : فرواه مسلم من حديث أبي هريرة ، دون قوله : «امنا يا بني أرفدة» بل قال : «دعهم يا عمر» ، زاد النسائي : «فإنما هم بنو أرفدة» ، ولهما من حديث عائشة : «دونكم يا بني أرفدة».

(٢) رواه مسلم في الصحيح ج ١ ص ٣٤٥ ، كتاب صلاة العيدين ، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه ، والبخاري في الصحيح ج ٢ ص ١٩ ، كتاب العيدين ، باب اللعب في العيدين والتجمل فيه.

(٣) أخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي أمامة ، عن رسول الله «ص» ، : قال لا تبيعوا القينات ، ولا تشتروهن ، ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام. في مثل هذا أنزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية لقمان : ٦ ورواه السيوطي في تفسيره ج ٥ ص ١٥٩ ، والطبري ج ٢١ ص ٣٩ ، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٩ ، وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٨ واخرج ابن ابي الدنيا ، وابن ـ

١٤٩

دخلته الحمية والغيرة مع أنه ص أغير الناس وكيف أنكر أبو بكر وعمر ومنعهما فهل كانا أفضل منه؟

وَقَدْ رَوَوْا عَنْهُ ص أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ خَرَجَتْ إِلَيْهِ نِسَاءُ الْمَدِينَةِ يَلْعَبْنَ بِالدَّفِّ فَرَحاً بِقُدُومِهِ وَهُوَ يَرْقُصُ بِأَكْمَامِهِ. (١)

__________________

ـ مردويه ، من طريق عائشة ، مرفوعا : إن الله تعالى حرم القينة ، وبيعها ، وثمنها ، وتعليمها ، والاستماع إليها ، ثم قرأ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ..) راجع : الدر المنثور ج ٥ ص ١٥٩ وتفسير الشوكاني ج ٤ ص ٢٢٨ ، وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٨ وقد جاء في السنة الشريفة ، عن الرسول «ص» : ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله تعالى إليه شيطانين ، يجلسان على منكبيه ، يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك» راجع الكشاف ج ٢ ص ٤١١ ، والدر المنثور ج ٥ ص ١٥٩ ، وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٨. وقال الله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الأنعام : ٧٠. وقال الله تعالى : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ، وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) الأعراف : ٥١.

(١) وقريب منه ما رواه عن بريد : خرج رسول الله «ص» في بعض مغازيه ، فلما انصرف ، جاءت جارية سوداء ، فقالت : يا رسول الله ، إني نذرت : إن ردك الله سالما : أن أضرب بين يديك بالدف ، وأتغنى؟ فقال رسول الله «ص» : إن كنت نذرت فاضربي ، وإلا فلا. فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر ، وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر ، فألقت الدف تحت استها ، ثم قعدت عليها ، فقال رسول الله «ص» : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إني كنت جالسا ، وهي تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخلت انت يا عمر ، فالقت الدف. (رواه الترمذي في الجامع ج ٥ ص ٣٨٤ ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريد ، وفي هذا الباب عن عمر وعائشة ، في أسد الغابة ج ٤ ص ٦٤ ، ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٥٣

عن جابر قال : دخل أبو بكر على رسول الله «ص» ، وكان يضرب بالدف عنده ، فقعد ولم يزجر ، لما رأى من رسول الله «ص» ، فجاء عمر ، فلما سمع رسول الله صوته كف عن ذلك ، فلما خرج قالت عائشة : يا رسول الله ، كان حلالا فلما دخل عمر صار حراما؟ فقال «ص» : يا عائشة : ليس كل الناس مرخى عليه (الغدير ـ ج ٨ ص ٦٤ ونوادر الأصول للترمذي ج ٢ ص ١٣٨ وروى ابن الأثير في جامع الأصول ج ١١ ص ٣٢٢ ط مصر) : عن أنس بن مالك ، قال : لما قدم رسول الله «ص» المدينة لعبت ـ

١٥٠

وهل يصدر مثل هذا عن رئيس أو من له أدنى وقار نعوذ بالله من هذه السقطات.

__________________

ـ الحبشة لقدومه فرحا بذلك ، لعبوا بحرابهم ..

أقول : إذا أردنا أن نقذف بالحق على الباطل ، فيدمغه ، فإذا هو زاهق ، فلا بد وأن نعرف سر اختلاف هذه الأحاديث ، والداعي إلى افتعالها فهل الدافع لقولهم : (يجوز أن يبعث الله الكافر نبيا) ، هو كون عدة من الخلفاء كانوا قبل الإسلام من عبدة الأصنام ، على ما تواتر في التاريخ وأشرنا إليه في الحديث السابق : (لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)؟ أو غير ذلك؟.

وهل سر ذلك ، والدافع إليه ، وإلى نسبة السهو ، وعدم العصمة إلى الأنبياء «ع» هو كون الخلفاء غير مأمونين من الخطأ والسهو ، وعدم علمهم بالمعارف الدينية ، والأحكام الشرعية ، كما صرح في الكتب المعتبرة ، مع أنه أساس الخلافة عندهم؟ أو غير ذلك؟. وهل سر جعل أحاديث اللعب بالبنات ، وشهوده «ص» المعازف والراقصات ، والاستماع لأهازيجهن ، هو إثبات فضيلة للخليفة الأول ، والثاني كما يظهر من عدة منها؟.

أو هو إظهار منزلة حليلته عائشة عنده ، كما يظهر من أخرى. ثم لا يقنعه ذلك كله ، حتى يطلع زوجته عليها ، في ملأ من الناس : وهو يقول لها : «أما شبعت؟ أما شبعت؟ وهي تقول : لا ، لأنظر منزلتي عنده. (راجع سنن الترمذي ج ٥ ص ٢٨٤ والتاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٣١٤ ، ومصابيح السنة ج ٢ ص ١٩٦).

مع أن الغناء والملاهي من عمل الشيطان ، ومما حرم في الشريعة المقدسة ، بنص الكتاب والسنة أفمن العقل أن تعزى إليه «ص» تلك المسامحة المسقطة له عن محله إلى هوة الجهل؟ وينهّرها الخليفة الأول ، ويدحضها الثاني فحسب ، دون رسول الله «ص»؟ وما هذا الشيطان الذي لا يخاف من الرسول ، ويفرق من عمر؟ وأي نبي هذا الذي يسمع الملاهي ، وترقص بين يديه الرقاصة الأجنبية ، وتضرب بالدف وتغني ، أو ينظر هو وزوجته إلى تلك المواقف المخزية ، ثم يقول : «لست من دد ، ولا الدد مني ، أو يقول : «لست من دد ، ولا دد مني» ، أو يقول : «لست من الباطل ، ولا الباطل مني»؟ (أخرجه البخاري في الأدب ، وابن عساكر ، راجع كنز العمال ج ٧ ص ٣٢٣ ، وفيض القدير ج ٥ ص ٢٦٥ كما في الغدير ج ٨ ص ٧٤.

ألا تعجب من رسول ، يلعب الحبشة في مسجده الشريف الذي هو من أشرف بقاع الدنيا ، والذي أسس على التقوى من أول يوم ، كما صرح به القرآن الكريم قال تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) الجن : ١٨ ، ألا تعجب منه ، يرى الحبشة يزفون ويرقصون ، وهو وحليلته ينظران إليهم ، وعمر ينهاهن ، ويقول النبي «ص» : ـ

١٥١

مع أنه لو نسب أحدهم إلى مثل هذا قابله بالسب والشتم وتبرأ منه فكيف يجوز نسبة النبي ص إلى مثل هذه الأشياء التي يتبرأ منها.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا جَاءَ لِقَبْضِ رُوحِ مُوسَى لَطَمَهُ مُوسَى فَفَقَأَ عَيْنَهُ (١).

فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسى ع مع عظمته وشرف منزلته وطلب قربه من الله تعالى والفوز بمجاورة عالم القدس إلى هذه الكراهة وكيف يجوز منه أن يوقع بملك الموت ذلك وهو مأمور من قبل الله تعالى.

وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ص قَالَ فِي صِفَةِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ آدَمَ وَيَسْأَلُونَهُ الشَّفَاعَةَ فَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ رَبِّي

__________________

ـ «دعهن يا عمر». وقد قال ابن منظور في لسان العرب ج ١٩ ص ٢٧٤ : قد رخص عمر في غناء الأعراب.

أقول : هذه الرواية وغيرها مما ورد في سنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢٤ ، وكنز العمال ج ٧ ص ٢٣٥ تكشف لنا سر جعل هذه الروايات ، مضافا إلى ما ورد : من إحراز المعازف والغناء في أيام خلافة بني أمية مقاما عظيما عندهم كما صرح به أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني ج ٢ ص ٢٠ و ٢١١ وج ٤ ص ٢٦٠ وج ٧ ص ٣٨٧ وج ٨ ص ٣٢٦

ثم .. أليس من شرط انعقاد النذر ، كون متعلقه راجحا ، ومما يبتغي به وجه الله ، ليكون مقربا إليه تعالى زلفى ، فيصح للناذر أن يقول : لله علي كذا. وقد قال رسول الله «ص» : «لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله تعالى» ، أخرجه أبو داود ، واحمد ، كما في التاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٨٣ ، وقال «ص» : «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، أخرجه ابن ماجة في سننه ج ١ ص ٦٨٦

فأي رجحان في ضرب المرأة الأجنبية الدف بين يدي الرجل الأجنبي ، وغنائها ورقصها أمامه؟ إلا أن يقال : إن تلك الجارية ، أو مسجد النبي «ص» قد أباحا تلك المحظورات .. أو أنه الوضع والغلو في فضائل الشيخين وعائشة؟ والله الهادي.

(١) صحيح مسلم ج ٤ ص ٩٠ ، والبخاري ج ٤ ص ١٩١ والتاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٢٩٦.

١٥٢

قَدْ غَضِبَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلُهُ وَإِنِّي قَدْ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي (١)

وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ص قَالَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ. (٢)

كيف يحل لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء وكيف الوثوق بشريعتهم مع الاعتراف بتعمد كذبهم.

وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٣) وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطاً لَقَدْ كَانَ يَأْوِي (إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٤) وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ (٥).

كيف يجوز لهؤلاء الاجتراء على النبي بالشك في العقيدة.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ ص بِحِرَابِهِمْ دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ فَحَصَبَهُمْ بِهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ص دَعْهُمْ يَا عُمَرُ (٦)

وَرَوَى الْغَزَّالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ أَنَّ النَّبِيَّ ص كَانَ جَالِساً وَعِنْدَهُ جَوَارٍ يُغَنِّينَ وَيَلْعَبْنَ فَجَاءَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ النَّبِيُّ لِلْجَوَارِي

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١ ص ٨٤ و ٨٥ و ٨٦ والبخاري ج ٤ ص ١٦٤ و ١٧٢

(٢) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٧١ ، ومسلم ج ٤ ص ٩٠.

(٣) البقرة : ٢٦٠.

(٤) هود : ٨٠.

(٥) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٧٩ و ١٨٣ ، وصحيح مسلم ج ٤ ص ٨٩.

(٦) التاج الجامع للأصول ج ١ ص ٣٠٤ ، وصحيح البخاري ج ٤ ص ٤٦ ، وصحيح مسلم ج ١ ص ٣٤٦.

١٥٣

اسْكُتْنَ فَسَكَتْنَ فَدَخَلَ عُمَرُ وَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لَهُنَّ عُدْنَ فَعُدْنَ إِلَى الْغِنَاءِ فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هَذَا الَّذِي كُلَّمَا دَخَلَ قُلْتَ اسْكُتْنَ وَكُلَّمَا خَرَجَ قُلْتَ عُدْنَ إِلَى الْغِنَاءِ قَالَ هَذَا رَجُلٌ لَا يُؤْثِرُ سَمَاعَ (١) الْبَاطِلِ كيف يحل لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النبي ص أيرى عمر أشرف من النبي ص حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبي يؤثره.

وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَاماً قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ص فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ص فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ لَنَا مَكَانَكُمُ فَلَبِثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا قِيَاماً فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَكَبَّرَ وَصَلَّيْنَا (٢).

فلينظر العاقل هل يحسن منه وصف أدنى الناس بأنه يحضر الصلاة ويقوم في الصف وهو جنب وهل هذا إلا من التقصير في عبادة ربه وعدم المسارعة إليها وقد قال تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٣) (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (٤) فأي مكلف أجدر بقبول هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وآله.

__________________

(١) وقريب من رواية الغزالي ، ما رواه أحمد في مسنده ج ٣ ص ٤٣٥ عن الأسود بن سريع ، قال : أتيت النبي (ص) فقلت : يا رسول الله ، إني قد حمدت ربي تبارك وتعالى ، بمحامد ومدح ، وإياك. قال : هات ما حمدت به ربك عزوجل. قال فجعلت : أنشده. قال : ثم جاء رجل أدلم ، فاستأذن. قال : فقال النبي (ص) : بين بين. قال : فتكلم ساعة ، ثم خرج. قال : فجعلت أنشده. قال : ثم جاء فاستأذن ، قال : فقال النبي (ص) : بين بين. ففعل ذاك مرتين ، أو ثلاثا. قال : قلت : يا رسول الله من هذا الذي استنصتني له؟ قال : عمر بن الخطاب ، هذا رجل لا يحب الباطل.

(٢) صحيح البخاري ج ١ ص ٧٤ وصحيح مسلم ج ١ ص ٢٢٧ ، وسنن أبي داود ج ١ ، في باب الجنب يصلي بالقوم وهو ناس.

(٣) آل عمران : ١٣٣.

(٤) المائدة : ٤٨.

١٥٤

وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ ص إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ قَالَ وَأَكْثَرُ ظَنِّي الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرْعَانَ النَّاسُ فَقَالُوا أَقَصَّرْتَ الصَّلَاةَ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ ص ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ أُقَصِّرْ قَالَ بَلْ قَدْ نَسِيتُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ (١).

فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا الفعل إلى رسول الله ص وكيف يجوز منه أن يقول ما نسيت فإن هذا سهو في سهو ومن يعلم أن أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول الله ص مع أنهما لم يذكرا ذلك للنبي ص.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ص أَنَّهُ دَعَا زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ص فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ص سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ إِنِّي لَا آكُلُ مَا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٢).

فلينظر العاقل هل يجوز له أن ينسب نبيه إلى عبادة الأصنام والذبح

__________________

(١) وفي البخاري ج ٢ ص ٨٢ ، وبتفاوت يسير في مسلم ج ١ ص ٢١٥.

(٢) في البخاري ج ٧ ص ١١٨ ، باب ما ذبح على النصب والأصنام ، والصريح منه ، ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده ج ١ ص ١٨٩ عن نوفل بن هشام بن سعد بن زيد ، عن أبيه ، عن جده ... ومر (زيد بن عمرو بن نفيل) بالنبي ، ومعه أبو سفيان بن الحرث يأكلان ، من سفرة لهما ، فدعواه إلى الغذاء ، فقال : يابن أخي ، إني لا آكل ما ذبح على النصب. قال : فما رؤي النبي (ص) من يومه ذاك يأكل مما ذبح على النصب حتى بعث.

أقول : سر وضع حديث : أكل النبي (ص) ما ذبح على النصب ، ليس إلا ما هو مشهور عندهم من كون خلفائهم الثلاثة ، وأبي سفيان ، وأمثالهم من الآكلين مما ذبح على النصب في الجاهلية.

١٥٥

على الأنصاب ويأكل منه وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف بالله منه وأتم حفظا ورعاية لجانب الله تعالى نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ص فَانْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِماً فَتَنَحَّيْتُ فَقَالَ ادْنُهْ فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. (١) فكيف يجوز أن ينسب إلى رسول الله ص البول قائما مع أن أرذل الناس لو نسب هذا إليه تبرأ منه.

ثم المسح على الخفين والله تعالى يقول (وَأَرْجُلَكُمْ) (٢) فانظروا إلى هؤلاء القوم كيف يجوزون الخطأ والغلط على الأنبياء وأن النبي

__________________

(١) في صحيح مسلم ج ١ ص ١٠٩ ، باب المسح على الخفين ، رواه مع رواية أخرى ، متحدة المفاد معها وبهذا الوصف روايتان في البخاري ج ١ ص ٦٤ في باب البول عند صاحبه ، وفي باب البول قائما وقاعدا ، وفي تاج الأصول ج ١ ص ٩٢.

وسر جعل أحاديث بول النبي (ص) قائما ، ليس إلا ابتلاء بعض الصحابة بهذا العمل الرذل ، كما يظهر من رواية البخاري : «فقام (ص) كما يقوم أحدكم ، فبال ، فانتبذت منه ...».

وروى ابن ماجة في سننه ج ١ ص ١١٢ : وكان من شأن العرب البول قائما.

وروي عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : رآني النبي (ص) وأنا أبول قائما ، فقال : يا عمر ، لا تبل قائما ، فما بلت قائما بعد.

وعنه أيضا ، في سنن الترمذي ج ١ ص ١٠ : قال عمر : ما بلت قائما مذ أسلمت.

ومن اعتذاره لبوله قائما قوله : «البول قائما أحفظ للدبر» راجع فتح الباري ج ١ ص ٣٤٣ ، وإرشاد الساري ج ١ ص ٢٧٧ ، وج ٤ ص ٣٦٥ ، وقد صرح المحققون بتناظر الصحابة في حياة عائشة بهذه المسألة ، أنكرت هي ذلك أشد الإنكار ، وقالت : من حدثكم : أن النبي (ص) كان يبول قائما ، فلا تصدقوه. ما كان يبول إلا قاعدا ، راجع : سنن النسائي ج ١ ص ٢٦ ، وابن ماجة ج ١ ص ١١٢ ، والترمذي ج ١ ص ١٠ ، وقال ابن حجر في فتح الباري ج ١ ص ٣٤١ : هذا الحديث صحيح السند.

(٢) المائدة : ٦. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ، وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ).

١٥٦

يجوز أن يسرق درهما ويكذب في أخس الأشياء وأحقرها (١).

وقد لزمهم من ذلك محالات :

منها جواز الطعن على الشرائع وعدم الوثوق بها فإن المبلغ إذا جوزوا عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدا أو نسيانا أو يترك شيئا مما أوحى إليه أو يأمر من عنده فكيف يبقى اعتماد على أقواله.

ومنها أنه إذا فعل المعصية فإما أن يجب علينا اتباعه فيها فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه واجتمع الضدان وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة.

ومنها أنه لو جاز أن يعصى لوجب إيذاؤه والتبري منه لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن الله تعالى قد نص على تحريم إيذاء النبي ص فقال (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٢).

ومنها سقوط محله ورتبته عند العوام فلا ينقادون إلى طاعته فتنتفي فائدة البعثة.

ومنها أنه يلزم أن يكونوا أدون حالا من آحاد الأمة لأن درجات الأنبياء في غاية الشرف وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش كما قال تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (٣) والمحصن يرجم وغيره يحد وحد العبد نصف حد الحر.

__________________

(١) تجد ما ذكره العلامة فيما ذهب إليه القوم ، في الفصل لابن حزم ج ٤ ص ١ إلى ٤٤.

(٢) و (٣) الأحزاب : ٣٠ و ٥٧.

١٥٧

والأصل فيه أن علمهم بالله تعالى أكثر وأتم وهم مهبط وحيه ومنازل ملائكته.

ومن المعلوم أن كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع فينا في صدور الذنب لكن الإجماع دل على أن النبي ص لا يجوز أن يكون أقل حالا من آحاد الأمة.

ومنها أنه يلزم أن يكون مردود الشهادة لقوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١) فكيف تقبل شهادته في الوحي ويلزم أن يكون أدنى حالا من عدول الأمة وهو باطل بالإجماع.

ومنها أنه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به لقوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (٢) (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٣) (فَاتَّبِعُونِي) (٤) والتالي باطل بالإجماع وإلا اجتمع الوجوب والحرمة.

نزاهة النبي (ص) عن دناءة الاباء وعهر الامهات

المبحث الثالث : في أنه يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات (٥)

__________________

(١) الحجرات : ٣٠

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) الأحزاب : ٢١

(٤) آل عمران : ٣١ وطه : ٩٠

(٥) مسألة طهارة آباء النبي وأمهاته هي من المعارف الأصلية عند الإمامية ، تأسيا بأئمتهم المعصومين عليهم‌السلام ، وقد قال الله عزوجل : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) الشعراء : ٢١٩ ، فروى ابن بابويه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : سئل رسول الله (ص) أين كنت وآدم في الجنة؟ قال : كنت في صلبه ، وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه ، وركبت السفينة في صلب نوح «ع» ، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم ، لم يلتق أبوان على سفاح قط ، لم يزل الله ينقلني في الأصلاب الطيبة ، إلى الأرحام الطاهرة ، هاديا مهديا ، حتى أخذ الله بالنبوة عهدي ، وبالإسلام ميثاقي. (الحديث ..).

١٥٨

ذهبت الإمامية إلى أن النبي ص يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات بريئا من الرذائل والأفعال الدالة على الخسة

__________________

ـ وعن أبي ذر رحمه‌الله ، قال سمعت رسول الله (ص) يقول : خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد ، نسبح الله تعالى عند العرش ، قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلما أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه ، ولقد سكن الجنة ونحن في صلبه ، ولقد ركب نوح السفينة ونحن في صلبه ، ولقد قذف إبراهيم في النار ونحن في صلبه ، فلم يزل ينقلنا الله عزوجل من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة حتى انتهى إلى عبد المطلب ، فقسمنا نصفين ، فجعلني في صلب عبد الله وجعل عليا في صلب أبي طالب. (الحديث) راجع تفسير البرهان ج ٢ ص ١٩٢

وقال علي بن إبراهيم : حدثني محمد بن الوليد ، عن محمد بن الفرات ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين» ، قال : في أصلاب النبيين صلوات الله عليهم أجمعين (تفسير القمي ص ٤٧٤ ، ونور الثقلين ج ٤ ص ٦٩ ، والبحار ج ١٥ ص ٣).

وعن أبي الجارود ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، عن قوله عزوجل : «وتقلبك في الساجدين»؟ قال : يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي ، حتى أخرجه من صلب أبيه ، من نكاح غير سفاح ، من لدن آدم (بحار الأنوار ج ١٥ ص ٣).

وقال الطبرسي : وقيل : معناه : وتقلبك في أصلاب الموحدين ، من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبيا ، عن ابن عباس ، في رواية عطا وعكرمة ، وهو المروي عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله صلوات الله عليهما ، (تفسير مجمع البيان ج ٧ ص ٢٠٧).

وقد سبق وذكرنا ما في النهج عن علي عليه‌السلام ، في شأن الأنبياء عليهم‌السلام.

وعقد السيوطي بابا لذلك في كتابه : «الخصائص الكبرى ج ١ ص ٣٧ ط حيدر آباد دكن» وقال ما لفظه : أخرج ابن سعيد ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله (ص) : خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح.

وأخرج الطبراني ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله (ص) : ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء ، وما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام.

وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله (ص) : خرجت من نكاح غير سفاح.

وأخرجه ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، في المصنف ، عن محمد بن علي بن الحسين : أن النبي (ص) قال : إنما خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم ، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء ولم أخرج إلا من طهرة.

١٥٩

كالاستهزاء به والسخرية والضحك عليه لأن ذلك يسقط محله من القلوب وينفر الناس عن الانقياد إليه فإنه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشك والارتياب.

__________________

ـ وأخرج أبو نعيم ، من طريق عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله (ص) : لم يلتق أبواي قط على سفاح. لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة ، مصفى ، مهذبا ، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما.

وأخرجه البزار ، والطبراني ، وأبو نعيم ، من طريق عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال : ما زال النبي (ص) يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه.

وراجع أيضا كنز العمال ج ٦ للمتقي الهندي طبع حيدر آباد دكن ، والطبقات الكبرى ج ١ القسم الأول ص ٣١ لمحمد بن سعد ، كاتب الواقدي ، طبع ليدن.

وقال بعض العارفين : ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فالمسجود له حقيقة هو الله تعالى ، وآدم عليه‌السلام كالقبلة ، وتلك القبلة المقصد الأعظم منها إنما هو النور المحمدي ، الذي في جبهته ولما حملت حواء «ع» بشيث انتقل ذلك النور إليها .. ثم لما وضعته «ع» ظهر ذلك النور في جبهته وكان هو وصي آدم «ع» على ذريته ، وأوصاه آدم : أن لا يضع ذلك النور إلا في المطهرات من النساء ، ولم تزل هذه الوصية جارية بينهم ، تنتقل من قرن إلى قرن ، إلى أن وصل ذلك النور إلى جده عبد المطلب ، ثم إلى ابنه عبد الله ، ثم إلى أمه آمنة ، وطهر الله تعالى هذا النسب من سفاح الجاهلية .. (سيرة زيني دحلان مفتي ديار مكة في هامش السيرة الحلبية ج ١ ص ٨).

وقال في صفحة (٣٣) في كتابه هذا : «وقد صح في أحاديث كثيرة : أنه صلى الله عليه (وآله) وسلم ، قال : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطيبات ، وفي رواية : لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة. (إلى أن قال) قوله (ص) : من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، ودليل على أن آباء النبي (ص) وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر ، لأن الكافر لا يوصف بأنه طاهر.

وقال في صفحة (٥٩) ، بعد نقل الرواية : فالكافر لا يوصف بأنه طاهر ، ففيه دليل على طهارة آبائه وأمهاته من الكفر.

وقال في صفحة (٦٢) : وقال الفخر الرازي في تفسيره : إن أبوي النبي (ص) كانا على الحنيفية دين إبراهيم «ع» ، كما كان زيد بن عمرو بن نفيل ، وأضرابه. بل إن آباء الأنبياء كلهم ما كانوا كفارا ، تشريفا لمقام النبوة ، وكذلك أمهاتهم ، وإن آزر لم يكن أبا لإبراهيم ، بل كان عمه ، ويدل لذلك قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) مع ـ

١٦٠