النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

ميثم بن علي بن ميثم البحراني

النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

المؤلف:

ميثم بن علي بن ميثم البحراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٤

١
٢

٣
٤

كلمة المجمع

لا شكّ أنّ الحوار العلمي والاحتجاجات والمناظرات القائمة على الاسس المنطقية والأخلاقية من أبدع الوسائل للوصول إلى الحقائق والكشف عنها ، وقد حثّ القرآن الكريم على هذه الطريقة من البحث العلمي إذ قال تعالى : (... فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ...) (١).

ومن السبّاقين في هذا المضمار هم أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، فالكتب الروائية مشحونة بالاحتجاجات العقلية التي دارت بينهم وبين أصحاب المذاهب الفكرية الاخرى من المسلمين وغيرهم في جانبي المعارف الاعتقادية والأحكام الشرعية.

وقد سار علماؤنا رضوان الله عليهم على هذا الدرب المنير ، فأجروا حوارات ومناظرات مع من يخالفهم في الآراء الاعتقادية والفقهية عبر المشافهة والتخاطب أو التأليف والكتابة ، ولم يكتفوا بالمناظرة مع الأشخاص والمفكّرين المعاصرين لهم أو السابقين عليهم ، بل ربما كانوا هم الذين يثيرون الشبهات ، ومن ثمّ يتصدّون للإجابة عليها.

ونظرا إلى أهميّة موضوع الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والدور التأريخي والاجتماعي المهمّ لهذا الأمر فقد بادر علماؤنا منذ البدء إلى تأليف الكتب

__________________

(١) الزمر : ١٧ ، ١٨.

٥

والرسائل في موضوع الإمامة وشتّى جوانبه العقلية والنقلية والتأريخية ، كما تصدّوا أيضا للردّ على الشبهات الواردة في هذا الموضوع سواء كانت الشبهات المثارة فعلا ، أو التي يمكن أن تثار في المستقبل.

والكتاب الذي بين يديك أيّها القارئ الكريم ـ بالرغم من وجازته ـ هو من خيرة الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع فمؤلّفه ـ كما ستقف على نبذة من حياته العلمية ـ هو من فطاحل متكلّمي الشيعة كما تدلّ على ذلك تأليفاته الثمينة.

والكتاب (النجاة في القيامة) يحتوي على أهمّ المسائل المتعلّقة بمبحث الإمامة. ومنهج البحث فيه هو ذكر المسألة والآراء المتضاربة فيها ثمّ بيان الرأي الراجح ثمّ العود إلى الآراء المخالفة لمناقشتها استدلاليا ، ويذكر المؤلّف ما يثبت الرأي المختار عنده ، كما أنّه يبيّن المناقشات الجارية في دلالة هذه الأدلّة مع الإجابة عنها. هذا كلّه مع القناعة والالتزام بالطريق العقلي المستقيم والتجنّب عن كلّ نزعة ذاتية والاقتصار على الدفاع عن الحقّ والدين القويم.

إنّ هذا الكتاب حلقة مكمّلة لما قدّمه المتقدّمون عليه في هذا المجال كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي ومن حذا حذوهم ونتاج زاخر بالعطاء يمتاز بالدقة وعمق النظر للمتأخّرين عنه.

ومجمع الفكر الإسلامي إذ يقدّم الطبعة الاولى المحقّقة لهذا السّفر الجليل إلى قرّاء المكتبة الإسلامية يأمل أن ينال هذا الموضوع مزيد عناية من العلماء والمفكّرين وطلّاب الحقيقة.

كما ويقدّم جزيل الشكر لمحقّقه صاحب الفضيلة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي حيث بذل جهدا مشكورا لإحياء هذا التراث الخالد راجيا الله تعالى أن يوفّقه وإيّانا لمراضيه إنّه وليّ التوفيق.

مجمع الفكر الإسلامي

٦

من حياة المؤلف وعصره

ولادته ووفاته ومرقده :

يبدو من كتب التأريخ القديم أنّ اسم البحرين كان يطلق قديما على مجموعة من المدن والقرى فيما بين البصرة إلى عمان ، ثمّ تقلّص تدريجا حتّى اختصّ بمجموعة جزر بالقرب من الشاطئ الغربي من الخليج الفارسي ، هي :

المنامة ـ العاصمة ـ والمحرّق ، وحترة ، والنبيّ صالح ، وأم نسعان ، وجدّة ، ومن قراها المعروفة : البلاد ، والخيط ، والدراز ، والدونج ، والدمست ، والمهر ، والماحوز (١).

وقد ترجم لعلماء البحرين عدة منهم في عدة كتب ورسائل ، منهم الشيخ علي بن الحسن البلادي البحراني (م ١٣٤٠) في كتابه (أنوار البدرين في علماء البحرين : ٦٢ ـ ٦٩) فذكر أنّ في (الدونج) و (هلتا من الماحوز) بقعتان كلتاهما مشهورتان بأنّها بقعة (ابن ميثم البحراني).

ولكن المحقق البحراني (م ١١٨٦) ترجم له في كتابه (لؤلؤة البحرين : ٢٥٤ ـ ٢٦١) فعيّن أنّ قبر المترجم له في قرية «هلتا» وفي قرية «الدونج» قبر

__________________

(١) انظر للمزيد معجم البلدان ١ : ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ، طبعة بيروت ١٩٧٩ م.

٧

جدّه. يعني الميثم بن المعلّى (١).

وعليه يبدو أنّ اسرة المترجم له قد نزحت بعد وفاة الجدّ من قرية الدونج إلى قرية هلتا من ضواحي الماحوز فأمّا قبل ولادة المترجم له أو بعدها.

وأوّل من أرّخ مولده هو الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني (م ١١٢١) في فهرسه (فهرست آل بويه وعلماء البحرين : ٦٩) ولكنّه أرّخ وفاته بسنة (٧٦٩) وهذا تأريخ غريب عن ترجمته في سائر المصادر وعليه يكون عمره مائة وثلاثا وثلاثين سنة ، أي يكون من المعمّرين ، ولو كان لذكر. اللهم إلّا أن يكون من خطأ في الطبع أو النسخ بوقوع تأخير وتقديم في الترقيم بين العددين بأن يكون الأصل (٦٧٩) كما جاء ذلك في أكثر المصادر.

ويبدو أنّ أوّل من أرّخ وفاته بذلك الشيخ بهاء الدين العاملي (م ١٠٣٠) في (الكشكول ٣ : ٣٨٩ ، الطبعة الحجرية) بالأرقام كذلك ، بينما نقل ذلك عنه السيد إعجاز حسين الهندي في كتابه (كشف الحجب عن أسماء المؤلفين والكتب : ٣٥٧) فقال : «توفي سنة تسع وتسعين وستمائة» بالحروف. فلعلّه اعتمد نسخة معتمدة ، أو اطمأنّ إلى اشتباه السبعين عن التسعين ، بدلالة ما تنبّه إليه العلّامة الطهراني في كتابه (طبقات أعلام الشيعة ٧ : ١٨٧) حيث أرّخ ابن ميثم فراغه من كتابه (اختيار مصباح السالكين الشرح الصغير لنهج البلاغة) بسنة ٦٨١ (٢) ولا شكّ أنّ الأولى بالتشكيك تأريخ الوفاة ، دون تأريخه لفراغه من تأليفه لكتابه ،

__________________

(١) وعليه فلا يصحّ ما في نهاية مقدمة شرح النهج الكبير للمؤلف ١ : ٣٠٠ أنّه دفن في مقبرة جدّه المعلّى في قرية هلتا.

(٢) واختار الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني في تحقيقه لاختيار مصباح السالكين للمؤلف المترجم له ابن ميثم رحمه‌الله وسطا بين التأريخين : ٧٨٩ بلا ذكر مستند له لذلك.

٨

وعليه فلا يمكن تصحيح ذلك التأريخ لوفاته إلّا باحتمال تحريف السبعين عن التسعين أو تصحيفه عنه. وعليه يكون عمره ثلاثا وستين سنة ، عمرا يكاد يكون طبيعيا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين الستين إلى السبعين معترك المنايا ... الحديث الشريف» (١) ومنسجما مع كثرة كتبه ومؤلفاته. وبهذا يضاف استبعاد آخر لصحّة التأريخ السابق (٦٧٩) فعليه يكون عمر المترجم له ابن ميثم ثلاثا وثلاثين سنة ، وهذا أيضا لو كان لذكر بقصر العمر ، ولم يذكر بذلك ، هذا أوّلا. وثانيا : كان من المستبعد جدّا أن يكون قد كتب كلّ ما سنذكره من كتبه خلال أقلّ من عقد ونصف.

إذن فالمختار في تأريخ حياة المؤلف المترجم له العلّامة ابن ميثم البحراني هو أنّه عاش ثلاثا وستين سنة من ٦٣٦ إلى ٦٩٩ ه‍.

عصر المؤلّف :

كانت ولادة المؤلّف في أواخر عصر المستنصر بالله العباسي (٦٢٣ ـ ٦٤٠) (١٢٤٢ ـ ١٢٥٨ م) وفي الرابعة من عمره توفي المستنصر وخلفه ابنه عبد الله المستعصم بالله (٦٤٠) فأوكل تدبير الملك إلى وزيره أبي طالب محمد ابن علي بن محمد القمي العلقمي ، واشتغل هو باللعب بالطيور ، وضرب الطنبور ، واللهو والفجور ، وأغار ابن الخليفة أبو بكر على محلّة «الكرخ» مسكن الشيعة في بغداد فنهبها ، وأسر جمعا كثيرا من سادة الشيعة ، ومعهم ألف امرأة أو فتاة منهم! فتصدّى الوزير العلقمي القمي لزوال آل العباس آملا في أن يليها أحد السادة العلويّين.

__________________

(١) البحار ٦ : ١١٩.

٩

ومن قبل المستنصر وعلى عهد جدّه أحمد الناصر لدين الله (٥٧٥ ـ ٦٢٢) كان الملك في المشرق الإسلامي إيران وما والاها بيد تكش الخوارزمشاهي ، وتوفّي هذا في سنة ٥٩٦ وخلفه ابنه علاء الدين محمد خوارزمشاه ووسّع ملكه من أقصى المشرق إلى حدود العراق وملك كلّ هذه البلاد ، وأساء التصرّف مع وفود جنكيزخان المغولي فاحتجّ بذلك وأغار على المشرق الإسلامي ، وانهزم علاء الدين خوارزمشاه ، ولم يبق فيها من يحمي البلاد ويمنع الأوغاد فاستولوا عليها ، وتوفّي علاء الدين سنة ٦١٧ وخلفه ابنه جلال الدين ، وجهّز جيشا وحارب المغول وانتصر في بعض المواقع وانكسر في أواخرها فانهزم إلى الهند ، ورجع سنة ٦٢٢ واستجاب دعوته المسلمون لحرب المغول ، واستولى على البلاد ، ولكنّه بدأ يحارب الملوك : كيقباد السلجوقي والملك الأشرف فتصالحا لحربه فانكسر وانهزم.

وانتهز فرصة ضعفهم هولاكو حفيد جنكيز مع قومه التتار ، فكانت الحملة التترية بقيادة هولاكو بعد الحملة المغولية بقيادة جنكيزخان سنة ٦٢٨ وقتل فيها جلال الدين وانقضى ملك الخوارزمشاهيّين.

وانتهز الفرصة دعاة الاسماعيليين بقيادة الحسن بن الصبّاح ، فنشروا دعوتهم في أوساط إيران : قزوين وما والاها ، حتّى قضى عليهم التتار في سنة ٦٥٣ ه‍ ١٢٥٥ م (١) واستصحب هولاكو الخواجة نصير الدين الطوسي القمي (٢).

__________________

(١) أحوال وآثار خواجه نصير الدين : ١٤ ، (فارسي).

(٢) كان أبوه من كهرود واليوم يقال لها وشارة ـ بين قم وساوة تتمة المنتهى : ٥٢٠ ، طبعة قم ، والفوائد الرضوية : ٦٠٤. انظر روضات الجنات ٦ : ٣٠٠. بل يرى الأفندي أنّ طوس كانت من قرى قم ، انظر رياض العلماء ٥ : ١٦٠.

١٠

هذا والملك في غربي إيران إلى جانب الروم بأيدي أخلاف الملك كيقباد السلجوقي : قليج ارسلان السلجوقي ثمّ أبناؤه الثمانية! وفي الشامات الكبرى سورية وفلسطين والأردن ولبنان ومصر ، بأيدي أخلاف الفاطميين الاسماعيليين : أبناء صلاح الدين الأيوبي الثلاثة ، وأبناء أخيه أبي بكر الخمسة! والشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء بخمر الدنيا وميسرها ، فالفتنة قائمة على قدم وساق ، وبشقّ الأنفس.

فأدّى اختلاف الكلمة بين ملوك المغرب الإسلامي إلى تجرّء متفيّئي ظلال الصليب عليهم ، فأجلبوا عليهم بخيلهم ورجلهم ، فاستولوا على كثير من مدن آسيا الصغرى وحكموها وأكثروا القتل والفساد فيها.

وفي أوائل المحرّم سنة ٦٥٥ ه‍ ١٢٥٧ م حاصر هولاكو بغداد ، وقد استصحب الخواجة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي (٥٩٧ ـ ٦٧٢) وقرّر هولاكو إرسال المحقّق الطوسي سفيرا إلى الخليفة العباسي المستعصم للتفاوض معه (١) ، وحاول الطوسي أن يقنع الخليفة بالتنازل للأمر الواقع لتهدئة الأوضاع والحدّ من إراقة الدماء ، إلّا أنّ الخليفة أصرّ على رفض كلّ الحلول المطروحة ، فرجع الطوسي صفر اليدين ، وبدأ هولاكو بتضييق الحصار على بغداد.

وحيث تصدّى وزير الخليفة مؤيّد الدين العلقمي القمي لزوال آل العباس ، آملا في أن يليها أحد السادة العلويين ، فقد كاتب التتار وراسلهم خفية ، وأطمعهم في الاستيلاء على بغداد بغير قتال وجلاد ، وفرّق جيش المستعصم ، وأبلغه أنّ هولاكو يريد أن يزوّج ابنته ابنك أبا بكر ، ثمّ يكون لك كما كان لك السلاجقة وتبقى أنت الخليفة ، فإن رأيت أن تخرج إليهم وتصالحهم وتصاهرهم ، فلا تراق

__________________

(١) يادبود خواجه طوسى : ١٥ ، (فارسي).

١١

الدماء وينتهي الأمر بالسلام والوئام!

وحيث لم يكن للخليفة تدبير إلّا في تطيير الطيور ، لذلك فقد نجحت فيه خدعة الوزير ، واستدعى الوزير من فقهاء بغداد وسائر علمائها أن يحضروا مجلس السلام ، وخرج الخليفة وبيده قضيب النبي (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه بردته (٢) مع جماعة من العلماء والأعيان وأكابر الدولة إلى بلاط هولاكو ، وأدخلهم هولاكو في مخيّمه ، وحيث اجتمع جمعهم جرّد جنوده سيوف الخيانة والحتوف فيهم. أمّا المستعصم وابنه أبو بكر فقد وضعوهما في جولقين (خرجين) وضربوهما بمكدم الجصّ حتّى ماتا ، وكان ذلك في اليوم الثامن والعشرين من شهر محرّم سنة ٦٥٦ ه‍ ثمّ استباحوا بغداد أربعين يوما ، وقتلوا سائر أولاد المستعصم واسترقّوا بناته ، وكأنّ دخولهم بغداد كان بعد اسبوع من قتل المستعصم ومن اعتصم به ، في الخامس من شهر صفر سنة ٦٥٦ ه‍ ١٢٥٨ م.

وكان هولاكو قد اتّخذ تبريز عاصمة له ، واستوزر بهاء الدين محمد الجويني بعنوان صاحب الديوان ، لإدارة الدولة في إيران ، فتركه في بغداد ورجع هو ونصير الدين الطوسي إلى عاصمته تبريز ، بعد عام من دخوله بغداد في أوائل سنة ٦٥٧ ه‍ ١٢٥٨ م.

ورغّب الطوسي هولاكو في اختيار قاعدة جديدة ، ليقيم فيها أعظم رصد

__________________

(١) عصا صغيرة كان يأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده يسمّى القضيب الممشوق.

(٢) نقل ابن الأثير في الكامل : أنّ البردة كان قد أهداها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كعب بن زهير الشاعر واشتراها معاوية من ورثته بعشرين ألف درهم ، فكانت بيد الخلفاء حتّى أحرقها التتار ٢ : ٢٧٦.

١٢

ومكتبة من الكتب المنهوبة من خراسان وبغداد والموصل ودمشق (١) ومدرسة علمية ، وأن يوفد وفودا إلى العلماء في البلدان يدعوهم إليها ، واستجاب هولاكو لذلك ، واختار الطوسي مراغة قرب مدينة زنجان لذلك ، وأوفد فخر الدين لقمان المراغي لدعوة العلماء إليها (٢).

وفي سنة ٦٦١ توفّي بهاء الدين محمد الجويني صاحب الديوان ببغداد ، ففوض هولاكو حكومة بغداد إلى ابنه علاء الدين عطاء الملك الجويني واستوزر له أخاه شمس الدين محمد بن محمد الجويني.

وفي سنة ٦٦٢ ه‍ ١٢٦٣ م أوكل هولاكو إلى الطوسي ولاية الأوقاف والتفتيش العام في شئون البلاد. وفي سنة ٦٦٣ ه‍. هلك هولاكو ، وخلفه ابنه أبا خاقان ، وفي سنة ٦٧٢ ه‍. سافر الطوسي إلى العراق ، وأصابه في بغداد داء عضال توفّي به في يوم الغدير ١٨ ذي الحجة سنة ٦٧٢ ه‍. ١٢٧٢ م فدفن في رواق الإمامين الكاظمين عليهما‌السلام.

مشايخه في البحرين :

وقد ترجم له ثلاثة من علماء البحرين في كتبهم (٣) ولا نرى لديهم في مشايخه من علماء البحرين سوى شيخ واحد هو الشيخ كمال الدين علي بن سليمان البحراني (م ٦٧٢) وهو من قرية مصترة ، وله كتاب الإشارات ، ومفتاح الطير في

__________________

(١) يادبود خواجه طوسى ، المقدّمة : ٢ ، للدكتور موسى عميد.

(٢) أعيان الشيعة ٤٦ : ١١.

(٣) فهرست آل بويه وعلماء البحرين : ٦٩ ، والسلافة البهية في الترجمة الميثمية بضمن كشكول البحراني ١ : ٤١ ـ ٥٣.

١٣

شرح رسالة الطير وشرح قصيدة ابن سينا في النفس. وهذه كلّها رسائل فلسفية وفيها شيء من العرفان ، فلعل المؤلف قرأ عليه الفلسفة ، وابن سليمان هذا هو تلميذ الشيخ كمال الدين أبي جعفر أحمد بن علي بن سعيد بن سعادة ، من قرية مصترة ، وله رسالة باسم «رسالة العلم».

ذكر هذه الرسالة العلّامة الطهراني فقال : بعثها إليه (المؤلف المترجم له) استاذه الشيخ علي بن سليمان البحراني. وذكر أنّ المؤلّف أرفقها برسالة الخواجة نصير الدين الطوسي ، فيها المدح له والثناء عليه في غاية البلاغة ، وطلب فيها المؤلف من الخواجة شرح «رسالة العلم» لابن سعادة (١).

فالمعلوم من هذا : المرسل والمرسل والمرسل إليه بالوساطة «المؤلف» والمرسل إليه بالنهاية «الطوسي» هؤلاء معلومون ، ولكن المكان والزمان مجهولان ، فمتى؟ ومن أين؟ وإلى اين ارسلت الرسالة؟

لقاؤه بالخواجه :

وقد ذكروا اسم المحقق الطوسي رحمه‌الله في عداد تلامذة المؤلف المترجم له ابن ميثم في الفقه (٢) فأيضا متى؟ وأين كان ذلك؟ ولم يذكر للمؤلف أيّ سفر إلى إيران ، وإنّما إلى العراق فقط. وكذلك لم يذكر للمحقّق الطوسي رحمه‌الله سفر إلى البحرين وإنّما إلى العراق فقط أيضا. فمتى؟ وأين كان هذا التلاقي؟ وهل الرسالة قبله أو بعده؟

وقد مرّ أنّ المحقّق الطوسي قدس‌سره كان ملزما بملازمة السلطان هولاكو في

__________________

(١) الذريعة ٢٠ : ٢٩٧.

(٢) بدأه الطريحي في مجمع البحرين ، مادّة مثم ٦ : ١٧٢.

١٤

محاصرته بغداد من أوائل المحرّم سنة ٦٥٥ ه‍ حتّى سنة بعد سقوط بغداد حيث رجع مع السلطان إلى إيران في أواخر سنة ٦٥٦ ه‍. وسيأتي أنّ سفر المؤلف إلى بغداد كان في حكومة علاء الدين عطاء الملك الجويني أي بعد ٦٦١ ه‍. وعليه فلم يكن التلاقي في هذه السفرة.

ومرّ أيضا أنّ هولاكو أوكل ولاية الأوقاف والتفتيش العام في شئون البلاد إلى المحقق الطوسي قدس‌سره في سنة ٦٦٢ ه‍ ١٢٦٣ م فأرسله لذلك إلى العراق في تلك السنة فزار البصرة وبغداد والواسط والحلّة. وقد أرّخوا هلاك هولاكو بسنة ٦٦٣ ولم يؤرّخوا لرجوع المحقق من سفرته هذه إلّا أنّه بعد عشر سنين سافر إلى بغداد سفرته الأخيرة التي توفّي في أواخرها. ففي أي هاتين السفرتين سنة ٦٦٢ و٦٧٢ كان لقاء المؤلف بالمحقق؟

في سنة ٦٦٢ ه‍ وبتذكر مولد المؤلف في ٦٣٦ ه‍ يكون عمر المؤلف ٢٦ سنة ، وعمر المحقق بالقياس إلى مولده في ٥٩٧ ه‍ (١) ٦٥ سنة ، أفليس من الغريب والبعيد أن يكون المحقق في هذه السفرة وهو في ٦٥ من عمره قرأ الفقه على المؤلف وهو في ٢٥ من عمره تقريبا؟! اللهم إلّا أن يكون بالعكس ، أو يكون للمؤلف طرق رواية ليست للمحقق وأراد أن يتبرّك بها منه ، كما ذكر ذلك (٢) وفي السفرة الأخيرة للمحقق الطوسي كان عمره ٧٥ عاما والمؤلف ٣٥ سنة ، فهل فيها ـ دون السابقة ـ قرأ المحقق الفقه على المؤلف؟ أو استجاز منه للرواية؟

ولعلّ بين هاتين السفرتين للمحقق الطوسي قدس‌سره من إيران إلى بغداد ، سمع

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٢٤٦ ، وروضات الجنات ٦ : ٣١٤ ، وتنقيح المقال ٣ : ١٧٩.

(٢) انظر مقدمة الحاتمي لشرح النهج الكبير للمؤلف ١ : ى ، والحاتمي هو الشيخ محمد رضا البروجردي المتوفى في ١٤٠١ ه‍ ، معجم رجال الفكر : ١٤٦.

١٥

شيخ المؤلف الشيخ كمال الدين علي بن سليمان البحراني ـ وهو في البحرين ـ بالتقاء تلميذه المؤلف بالمحقق الطوسي ومعرفته به وسمع بالسمعة العالية للمحقق الطوسي في الفلسفة والكلام ، وقد أشكلت عليه «رسالة العلم» لاستاذه ابن سعادة فأرسلها إلى تلميذه ليتوسط له لدى المحقق الطوسي فيطلب منه شرح الرسالة ، وكان المحقق الطوسي قد رجع إلى تبريز أو مراغة زنجان ، فأرفق الرسالة برسالة منه إليه يطلب فيه منه ذلك ، وقد استجاب المحقق إلى ذلك فشرح الرسالة.

صلته بالأمير عزّ الدين النيشابوري :

مرّ آنفا : أنّ الفيلسوف الطوسي رغّب هولاكو في اختيار قاعدة جديدة في مراغة زنجان في إيران ، وأن يوفد وفودا إلى العلماء في البلدان يدعوهم إليها ، واستجاب هولاكو لذلك ، وأوفد فخر الدين لقمان المراغي لدعوة العلماء إليها (١).

وكان ممن استجاب للرحلة إلى مراغة السيد أبو الفضل بن المهنّأ الحسيني ومعه تلميذه الشيخ عبد الرزّاق بن أحمد الشيباني المعروف بابن الفوطي البغدادي المتوفّى في بغداد (٧٣٢ ه‍) وله كتاب «معجم الآداب في معجم الألقاب» جاء في تلخيصه ترجمة : عزّ الدين أبو المظفر عبد العزيز بن جعفر بن الحسين النيسابوري الملك ، صاحب البصرة ، له نسب في آل الأشتر النخعي. ذكره لي شيخنا أبو الفضل ابن المهنّأ الحسيني وكتب لي بخطّه قال : «ولد المذكور سنة ٦٢٦ وسافر حتّى عدّ من الرحّال الصدور ، فتعلّق ببيت الأوشادي أي سنقر بيتكجي. ولما فتحت العراق لجأ إلى الصاحبين : علاء الدين وشمس الدين (الجويني) ورتّب شحنة (مدير الشرطة) بواسط ، وفوّضت إليه البصرة وضواحيها ، وكان كثير الإحسان

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤٦ : ١١.

١٦

إلى العلويين» ، ثمّ أضاف الفوطي : قدم علينا مراغة ورأيته. ومن شعره يمدح الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني :

عطا ملك ، عطاؤك ملك مصر

وبعض عبيد دولتك العزيز

تجازي كلّ ذي ذنب بعفو

ومثلك من يجازي أو يجيز

ولمّا استقرّ ملكه بالبصرة كانت لنجم الدين عبد السلام فيه مدائح كثيرة.

وتوفّي في ذي القعدة سنة ٦٧٢ ه‍ ورثاه شيخنا عبد السلام بقصيدته الغرّاء أوّلها :

لم أبك حتّى بكى لك الكرم

والسيف يوم القراع ، والقلم

وصنّف له شيخنا (ابن المهنّأ) : (المدائح العزّية والمنائح العزيزية) (١).

وذكر وفاته في كتابه الآخر (الحوادث الجامعة في المائة السابعة) فقال :

في منتصف ذي القعدة ٦٧٢ توفي الملك عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النيشابوري ببغداد تولّى شحنكية (مديرية شرطة) الواسط والبصرة ، وكان حسن السيرة عظيم الناموس (الشخصية) ودفن في مشهد علي عليه‌السلام ورثاه الشعراء وتوفي بعده في ١٨ ذي الحجة ٦٧٢ الخواجة نصير الدين الطوسي فرثاهما علي بن عيسى الأربلّي بقوله :

ولمّا قضى عبد العزيز بن جعفر

وأردفه رزء النصير محمد(٢)

ونرى مؤلّفنا المترجم له يصفه في مقدّمته لكتابه هذا الكلامي العقائدي الخاص بالإمامة «النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة» بقوله : «ثمّ أنّه تعالى لمّا وفّقني للاتّصال بجناب مولانا المعظّم ، العالم العادل البارع ، ذي النفس الأبيّة ،

__________________

(١) تلخيص معجم الآداب في معجم الألقاب ١ : ٢٠٨ ، برقم ٢٦٣.

(٢) الحوادث الجامعة : ٢٧٧ ، وعنه في الأنوار الساطعة : ٨٩.

١٧

والهمم العلية ، والأخلاق المرضية ، والأعلاق الزكية ، ملجأ الأنام ، وواحد الليالي والأيام ، عزّ الدنيا والدين ، أبي المظفر عبد العزيز بن جعفر النيسابوري ـ أعزّ الله ببقائه الطائفة ، وحرس به الملّة ـ فألفيته من أخصّ الأولياء لأولاد سيد الأنبياء ، مع ما خصّه الله تعالى به من العلم ، وحباه من مزيد الفهم ، فهو للعلماء والد عطوف ، ولمعاناة أحوالهم برّ رءوف ، يتواضع لهم مع علوّ مرتبته ويرفع من خاملهم مع شرف منزلته ، فشملني بإنعامه ، وأحلّني محلّ إكرامه ، حتّى أنساني الأهل والبلد ، وأصدفني عن المال والولد ... أشار إليّ بإملاء مختصر في الإمامة ، انقّح فيه الأدلّة والبيّنات ، واقرّر فيه الأسئلة والجوابات ، فهممت أن أعتذر لمشقّة السفر وما يستلزمه من تشعّب الأذهان ، ومفارقة الأهل والأوطان ، ثمّ كرهت أن ينسب ذلك إلى تقصير منّي في خدمته ، وأداء بعض ما وجب عليّ من شكر نعمته» (١).

ولا يؤرّخ الكتاب بدءا ولا ختاما ، ويبدو لي من نفس هذه المقدّمة أنّه أوّل ما كتبه لأمير ناحيته البصرة ، وكأنّه طلب إليه كتابا آخر مثله في الكلام العام على منهج الإمامية ، فكتب له الكتاب الثاني «قواعد المرام في علم الكلام» وعلى العادة ضمّن مقدّمته وصف الأمير فقال :

«وبعد ... فلمّا كان ... وكنت ممّن وسم فيه (اصول الدين) بالتحصيل ، وإن لم أحصل منه إلّا القليل ، أشار إليّ من إشارته غنم وتلقّي أوامره العالية حتم ؛ وهو المولى المكرّم ، الملك المعظّم ، العالم العادل ، الفاضل الكامل ، الذي فاق ملوك الآفاق باستجماع مكارم الأخلاق ، وفاز في حلبة السباق أهل الفضائل بالإطلاق ، الذي ملأ الأسماع بأوصافه الجميلة ، وأفاض أوعية الأطماع بألطافه

__________________

(١) راجع ترجمته في مقدمة الكتاب ، الصفحة : ٢.

١٨

الجزيلة ، حتّى أنسى بضروب النعم من سلف من أهل الكرم ، وأمّت كعبة جوده وجوه الهمم من سائر طوائف الامم : عزّ الدنيا والحقّ ، غياث الإسلام والمسلمين ، أبو المظفّر عبد العزيز بن جعفر ـ خلّد الله إقباله ، وضاعف جلاله ، وأبّد فضله وإفضاله ، وحرس عزّه وكماله ـ إذ كانت همّته العلية مقصودة على تحصيل السعادة الأبدية ، أن أكتب له مختصرا في هذا العلم يجمع بين تحقيق المسائل ، وإبطال مذهب الخصم بأوضح الدلائل ، المميزة للحق من الباطل» (١).

وكذلك لم يؤرّخ الكتاب بدءا ولا ختاما ، ولكن كاتب النسخة في سنة ٧١٧ ه‍ أحمد بن أبي عبد الله الآوي كتب في آخر نسخته :

«اتّفق فراغ مصنّفه ومؤلّفه : ملك العلماء علّامة الدهر مفتي الطوائف ، كاشف الحقائق واللطائف ، كمال الملّة والدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني تغمّده الله برحمته بمدينة السلام في العشرين من ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وستمائة» (٢).

وعليه وبالقياس إلى تأريخ ولادته في ٦٣٦ ه‍ يكون عمره حينئذ ثلاثين سنة. ولعلّ نسخ هذين الكتابين بلغا إلى علماء الشيعة في حاضرتهم يومئذ بمدينة الحلّة المزيدية ، فرغبوا في لقائه فكانت قصته الشهيرة : «كلّي يا كمّي» بين خروجه من البصرة وقبل انتقاله إلى مدينة السلام (بغداد).

قصّة «كلي يا كمّي»! :

أنّه عطّر الله مرقده كان في أوائل حاله ، معتزلا مشتغلا بالبحث والدراسة والتحقيق ، فكتب إليه فضلاء الحلّة من العراق صحيفة تحتوي على عذله ولومه

__________________

(١) مقدمة قواعد المرام في علم الكلام : ٢٠ ، طبعة قم المقدسة.

(٢) انظر صورة النسخة في الصفحة الأخيرة من مقدمة الكتاب.

١٩

على ذلك ، فمع مهارته في العلوم والمعارف وحذاقته في التحقيق والإبداع ، معتزل خامل ، فكتب في جوابهم هذين البيتين من الشعر :

طلبت فنون العلم أبغي بها العلى

فقصّر بي عمّا سموت به القلّ

تبيّن لي أنّ المحاسن كلّها

فروع ، وأنّ المال فيها هو الأصل

فلمّا وصل هذا الشعر إليهم كتبوا إليه : «إنّ حكمك بأصالة المال عجيب غريب ، بل خطأ ظاهر ، أقلب تصب» فكتب في جوابهم هذه الأبيات لبعض المتقدمين :

قد قال قوم بغير علم

ما المرء إلّا بأصغريه(١)

فقلت قول امرئ حكيم

ما المرء إلّا بدرهميه

من لم يكن له درهم لديه

لم تلتفت عرسه إليه

ثمّ توجّه إلى العراق لزيارة الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وبعد زيارة تلك المشاهد المشرفة ، توجه إلى الحلّة ، فلبس بعض ثيابه العتيقة الخشنة والرثة ، ودخل بعض مدارسهم المشحونة بالباحثين والدارسين ، فسلّم عليهم فلم يردّ عليه إلّا بعضهم متثاقلا عنه ، ولم يلتفتوا إليه ، فجلس أوّل المجلس في صفّ النعال!

وعكف اولئك في بحثهم على مسألة دقيقة مشكلة ، فأدلى فيها بدلوه وأجاب عنها بتسعة أجوبة في غاية الجودة والدقّة ... ومع ذلك أحضروا طعاما أفردوه بشيء منه على حده ولم يشركوه في مائدتهم! وانفضّ مجلسهم فقاموا.

وفي اليوم التالي عاد إليهم وقد تعمّم بعمامة كبيرة وبملابس فاخرة ذات أكمام واسعة وهيئة رائعة! فلمّا دخل عليهم وسلّم قاموا فرحّبوا به وأكرموه

__________________

(١) ذكرها بعضهم : بأكبريه ، بينما المعروف : المرء بأصغريه ، بقلبه ولسانه ، لا بأكبريه ، ولا أراه إلّا من التصحيح بالغلط.

٢٠