مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

رجب البرسي

مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين

المؤلف:

رجب البرسي


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6307-75-2
الصفحات: ٣٨٤

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة المصنف

بسم الله الرّحمن الرّحيم كتاب مشارق أنوار اليقين للحافظ رجب البرسي من الكتب التي جمعت مناقب وأسرار آل محمد صلوات المصلين عليهم ما طلع نجم ، بل لنا أن نقول أنه تفرد في نقل بعض المناقب والأسرار ، مما واجهتنا مشكلة في تخريج تلك المناقب.

ومؤلف هذا الكتاب من الحفاظ المشهورين بالعلم والتقوى والعرفان ، وشدة ولائه لآل محمد عليهم‌السلام ، وإبراز ما أخفوه عن بعض شيعتهم ، حتى رماه من لا تحقيق له ولا اطلاع له على جلّ روايات أهل البيت عليهم‌السلام بالغلو.

وسوف تعرف من كلام العلامة الخبير الأميني حقيقة الحال :

* قال العلامة الأميني (١) :

الشيخ رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلي المعروف بالحافظ : من عرفاء علماء الإماميّة وفقهائها المشاركين في العلوم ، على فضله الواضح في فنّ الحديث ، وتقدّمه في الأدب وقرض الشعر وإجادته ، وتضلّعه في علم الحروف وأسرارها واستخراج فوائدها ، وبذلك كله تجد كتبه طافحة بالتحقيق ودقّة النظر ، وله في العرفان والحروف مسالك خاصّة ، كما أنّ له في ولاء أئمة الدين عليهم‌السلام آراء ونظريات لا يرتضيها لفيف من الناس ، ولذلك رموه بالغلوّ والارتفاع ، غير أنّ الحقّ أنّ جميع ما يثبته المترجم لهم عليهم‌السلام من الشؤون هي دون مرتبة الغلوّ وغير درجة النبوّة ، وقد جاء عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : إيّاكم والغلوّ فينا. قولوا : إنّا عبيد مربوبون. وقولوا في فضلنا ما شئتم (٢). وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : اجعلوا لنا

__________________

(١) الغدير : ٧ / ٣٣ ـ ٦٨.

(٢) عن الخصال لشيخنا الصدوق وسوف يأتي مع تخريجه.

٥

ربّا نؤوب إليه وقولوا فينا ما شئتم.

وقال عليه‌السلام : اجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا (١).

وأنّى لنا البلاغ مدية ما منحهم المولى سبحانه من فضائل ومآثر؟ وأنّى لنا الوقوف على غاية ما شرّفهم الله به من ملكات فاضلة ، ونفسيّات نفيسة ؛ وروحيّات قدسيّة ، وخلائق كريمة ، ومكارم ومحامد؟ فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام؟ أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات ضلّت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وخسئت العيون ، وتصاغرت العظماء ، وتحيّرت الحكماء ، وتقاصرت الحلماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألبّاء ، وكلّت الشعراء ، وعجزت الأدباء ، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه ، وفضيلة من فضائله ، وأقرّت بالعجز والتقصير ؛ وكيف يوصف بكلّه؟ أو ينعت بكنهه؟ أو يفهم شيء من أمره؟ أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه؟ لا. كيف؟ وأنّى؟ فهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين ، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ (٢).

ولذلك تجد كثيرا من علمائنا المحقّقين في المعرفة بالأسرار يثبتون لأئمة الهدى صلوات الله عليهم كلّ هاتيك الشؤون وغيرها ممّا لا يتحمّله غيرهم ، وكان في علماء قم من يرمي بالغلو كلّ من روى شيئا من تلكم الأسرار حتى قال قائلهم : إنّ أوّل مراتب الغلوّ نفي السهو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. إلى أن جاء بعدهم المحقّقون وعرفوا الحقيقة فلم يقيموا لكثير من تلكم التضعيفات وزنا ، وهذه بليّة مني بها كثيرون من أهل الحقائق والعرفان ومنهم المترجم ، ولم تزل الفئتان على طرفي نقيض ، وقد تقوم الحرب بينهما على أشدّها ، والصلح خير.

وفذلكة المقام أنّ النفوس تتفاوت حسب جبلّاتها واستعداداتها في تلقّي الحقائق الراهنة ، فمنها ما تبهظه المعضلات والأسرار ، ومنها ما ينبسط لها فيبسط إليها ذراعا ويمدّ لها

__________________

(١) بصائر الدرجات للصفار وسوف يأتي.

(٢) من قولنا : «فمن ذا الذي يبلغ» إلى هنا مأخوذ من حديث رواه شيخنا الكليني ثقة الإسلام في أصول الكافي ١ / ٩٩ عن الإمام الرضا صلوات الله عليه (هامش الغدير).

٦

باعا ، وبطبع الحال أنّ الفئة الأولى لا يسعها الرضوخ لما لا يعلمون ، كما أنّ الآخرين لا تبيح لهم المعرفة أن يذروا ما حقّقوه في مدحرة البطلان ، فهنالك تثور المنافرة ، وتحتدم الضغائن ، ونحن نقدّر للفريقين مسعاهم لما نعلم من نواياهم الحسنة وسلوكهم جدد السبيل في طلب الحقّ ونقول :

على المرء أن يسعى بمقدار جهده

وليس عليه أن يكون موفّقا

ألا إنّ الناس لمعادن كمعادن الذهب والفضة (١) وقد تواتر عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام : أنّ أمرنا ـ أو حديثنا ـ صعب مستصعب لا يتحمّله إلّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب ، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان (٢).

إذن فلا نتحرّى وقيعة في علماء الدين ولا نمسّ كرامة العارفين ، ولا ننقم من أحد عدم بلوغه إلى مرتبة من هو أرقى منه ، إذ لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها. وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : لو جلست أحدّثكم ما سمعت من فم أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وآله لخرجتم من عندي وأنتم تقولون : إنّ عليا من أكذب الكاذبين (٣).

وقال إمامنا السيّد السجّاد عليه‌السلام : لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهما فما ظنّكم بسائر الخلق (٤) (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).

وإلى هذا يشير سيّدنا الإمام السجّاد زين العابدين عليه‌السلام بقوله :

إنّي لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدّم في هذا أبو حسن

إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا

فربّ جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي : أنت ممّن بعبد الوثنا

__________________

(١) حديث ثابت عند الفريقين (هامش الغدير).

(٢) بصائر الدرجات للصفار : ٦ ، أصول الكافي : ١ / ٢١٦.

(٣) منح المنّة للشعراني : ١٤.

(٤) بصائر الدرجات للصفّار : ٧ آخر الباب الحادي عشر من الجزء الأوّل وأصول الكافي لثقة الإسلام الكليني : ١ / ٢١٦.

٧

ولا ستحلّ رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا (١)

ولسيّدنا الأمين في أعيان الشيعة (٣١ : ١٩٣ ـ ٢٠٥) في ترجمة الرجل كلمات لا تخرج عن حدود ما ذكرناه.

وممّا نقم عليه به اعتماده على علم الحروف والأعداد الذي لا تتمّ به برهنة ولا تقوم به حجّة ، ونحن وإن وافقناه على ذلك إلّا أنّ للمترجم له ومن حذا حذوه من العلماء كابن شهر آشوب ومن بعده عذرا في سرد هاتيك المسائل فإنّها أشبه شيء بالجدل تجاه من ارتكن إلى أمثالها في أبواب أخرى من علماء الحروف من العامّة كقول العبيدي المالكي في عمدة التحقيق ص ١٥٥ : قال بعض علماء الحروف : يؤخذ دوام ناموس آل الصدّيق وقيام عزّته إلى انتهاء الدنيا من سرّ قوله تعالى : (فِي ذُرِّيَّتِي) فإنّ عدّتها بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وعشرة وهي مظنّة تمام الدنيا كما ذكره بعضهم فلا يزالون ظاهرين بالعزّة والسيادة مدّة الدنيا ، وقد استنبط تلك المدّة عمدة أهل التحقيق مصطفى لطف الله الرزنامجي بالديوان المصري من قوله تعالى : (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢) ، قال ما لفظه : إذا أسقطنا مكرّرات الحروف كان الباقي (ل ا ي ب ث ون خ ف ك ق) أحد عشر حرفا عددهم بالجمل الكبير ألف وثلثمائة وتسعة وتسعين زدنا عليه عدد الحروف وهو أحد عشر صار المجموع وهو ألف وأربعمائة وعشرة وهو مطابق لقوله تعالى : (ذُرِّيَّتِي).

وسمعت ختام الأعلام شيخنا الشيخ يوسف الفيشي رحمه‌الله يقول : قال محمّد البكري الكبير : يجلس عقبنا مع عيسى ابن مريم على سجّادة واحدة وهذا يقوي تصحيح ذلك الاستنباط. ه.

[تهويل ليس عليه تعويل]

ونحن لا ندري ماذا يعني سيّدنا الأمين بقوله : «وفي طبعه شذوذ وفي مؤلّفاته خبط وخلط وشيء من المغالاة لا موجب له ولا داعي إليه وفيه شيء من الضرر وإن أمكن أن

__________________

(١) تفسير الآلوسي : ٦ / ١٩٠ وسوف يأتي مع مصادره.

(٢) الإسراء : ٧٦.

٨

يكون له محل صحيح»؟ ليت السيّد يوعز إلى شيء من شذوذ طبع شاعرنا الفحل حتى لا يبقى قوله دعوى مجرّدة. وبعد اعترافه بإمكان محمل صحيح لما أتى به المترجم له فأيّ داع إلى حمله على الخبط والخلط ، ونسيان حديث : ضع أمر أخيك على أحسنه؟ وأيّ ضرر فيه على ذلك التقدير؟ على أنّا سبرنا غير واحد من مؤلّفات البرسي فلم نجد فيه شاهدا على ما يقول ، وستوافيك نبذ ممتعة من شعره الرائق في مدائح أهل البيت عليهم‌السلام ومراثيهم وليس فيها إلّا إشارة إلى فضائلهم المسلّمة بين الفريقين أو ثناء جميل عليهم هو دون مقامهم الأسمى ، فأين يقع الارتفاع الذي رماه به بعضهم؟ وأين المغالاة التي رآها السيّد؟ والبرسي لا يحذو في كتبه إلّا حذو شعره المقبول ، فأين مقيل الخبط والضرر والغلو التي حسبها سيّد الأعيان؟.

وأمّا ما نقم به عليه من اختراع الصّلوات والزيارة بقوله : «واختراع صلاة عليهم وزيارة لهم لا حاجة إليه بعد ما ورد ما يغني عنه ولو سلّم أنّه في غاية الفصاحة كما يقول صاحب الرياض» فإنّه لا مانع منه إلّا ما يوهم المخترع أنّها مأثورة ، وأيّ وازع من إبداء كلّ أحد تحيّته بما يجريه الله تعالى على لسانه وهو لا يقصد وردا ولا يريد تشريعا؟ وقد فعله فطاحل العلماء من الفريقين ممّن هو قبل المترجم [له] وبعده ، ولا تسمع اذن الدنيا الغمز عليهم بذلك من أيّ أحد من أعلام الأمّة.

وأمّا قول سيّدنا : «وإنّ مؤلفاته ليس فيها كثير نفع وفي بعضها ضرر ولله في خلقه شؤون سامحه الله وإيّانا» ، فإنّه من شظفة القلم صدر عن المشظف (١) سامحه الله وإيّانا.

تآليفه القيّمة :

١ ـ مشارق أنوار اليقين في حقايق أسرار أمير المؤمنين.

٢ ـ مشارق الأمان ولباب حقايق الإيمان. ألّفه سنة ٨١٣.

٣ ـ رسالة في الصّلوات على النبيّ وآله المعصومين.

٤ ـ رسالة في زيارة أمير المؤمنين طويلة. قال شيخنا صاحب الرياض : في نهاية الحسن

__________________

(١) المشظف كمنبر : من يعرض بالكلام على غير القصد.

٩

والجزالة واللطافة والفصاحة معروفة.

٥ ـ رسالة اللمعة من أسرار الأسماء والصفات والحروف والآيات والدعوات. فيها فوائد لا تخلو من غرابة كما قاله شيخنا صاحب الرياض.

٦ ـ الدرّ الثمين في خمسمائة آية نزلت في مولانا أمير المؤمنين باتّفاق أكثر المفسّرين من أهل الدين ، ينقل عنه المولى محمد تقي الزنجاني في كتابه : طريق النجاة.

٧ ـ أسرار النبيّ وفاطمة والأئمّة عليهم‌السلام.

٨ ـ لوامع أنوار التمجيد وجوامع أسرار التوحيد في أصول العقايد.

٩ ـ تفسير سورة الاخلاص.

١٠ ـ رسالة مختصرة في التوحيد والصّلوات على النبيّ وآله.

١١ ـ كتاب في مولد النبيّ وعليّ وفاطمة وفضائلهم.

١٢ ـ كتاب في فضائل أمير المؤمنين غير المشارق.

١٣ ـ كتاب الألفين في وصف سادة الكونين.

شعره الرائق :

أضاء بك الافق المشرق

ودان لمنطقك المنطق

وكنت ولا آدم كائنا

لأنّك من كونه أسبق

ولو لاك لم تخلق الكائنات

ولا بان غرب ولا مشرق

وله في العترة الطاهرة وسيّدهم صلوات الله عليه وعليهم قوله :

إذا رمت يوم البعث تنجو من اللظى

ويقبل منك الدين والفرض والسنن

فوال عليّا والأئمة بعده

نجوم الهدى تنجو من الضيق والمحن

فهم عترة قد فوّض الله أمره

إليهم لما قد خصّهم منه بالمنن

أئمّة حقّ أوجب الله حقّهم

وطاعتهم فرض بها الخلق تمتحن

نصحتك أن ترتاب فيهم فتنثني

إلى غيرهم من غيرهم في الأنام من؟

فحبّ عليّ عدّة لوليّه

يلاقيه عند الموت والقبر والكفن

١٠

كذلك يوم البعث لم ينج قادم

من النار إلّا من تولّى أبا الحسن

* وقال السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة (١) :

كان حيّا سنة ٨١٣ وتوفي قريبا من هذا التاريخ.

(والبرسي) نسبة إلى برس في الرياض بضم الباء الموحدة وسكون الراء ثم السين المهملة ، قال : ويظهر من القاموس أنه بضم الباء وفتحها وكسرها. في القاموس قرية بين الكوفة والحلة وقيل برس جبل يسكن به أهله. وعن مجمع البحرين : قرية معروفة بالعراق ، ذكر ذلك في ذيل قوله في الخبر أحلى من ماء برس ، أي ماء الفرات لأنها واقعة على شفيره أو هو موضع بين البلدتين المذكورتين وضبطه بكسر الباء ، وكذا عن شرح المولى خليل القزويني على الكافي. أقول : الشائع على لسان أهل العراق اليوم بكسر الباء ، والظاهر أنه اسم قرية هي اليوم خراب كانت على ذلك الجبل ، وهذا الجبل اليوم على يمين الذاهب من النجف إلى كربلاء وأهل العراق يسمّونه برس ويضربون به المثل للشخص الذي أينما ذهبت وجدته فيقولون فلان مثل برس. وهذا الجبل لعلوّه وعدم وجود جبل سواه في تلك السهول أينما كنت تراه. وأصل الشيخ رجب من تلك القرية ثم سكن الحلّة ، وليست النسبة إلى بروسا المدينة المعروفة في الأناضول لأنّ المترجم لم يرها. وفي الرياض قد يتوهّم كون النسبة إليها. وحكى عن الصدر الكبير الميرزا رفيع الدين محمد في رد شرعة التسمية للسيّد الداماد أن كتاب مشارق أنوار اليقين في كشف أسرار حقايق أمير المؤمنين عليه‌السلام للشيخ الفاضل رضي الدين رجب بن محمد البروسي قال : ولا شك أن البروسي نسبة إلى بلدة بروسا ا ه. وكيف كان فكونه نسبة إلى بروسا غير صواب مع إمكان كون الواو من زيادة النسّاخ.

أقوال العلماء فيه :

في مسودة الكتاب : كان فقيها محدّثا حافظا أديبا شاعرا مصنّفا في الأخبار وغيرها.

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٦ / ٤٦٥ ـ ٤٦٧.

١١

وفي أمل الآمل : الشيخ رجب الحافظ البرسي كان فاضلا شاعرا منشئا أديبا له كتاب مشارق أنوار اليقين في حقائق أسرار أمير المؤمنين عليه‌السلام وله رسائل في التوحيد وغيره وفي كتابه إفراط وربما نسب إلى الغلو.

وفي الرياض : الشيخ الحافظ رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي مولدا والحلّي محتدا الفقيه المحدّث الصوفي المعروف صاحب كتاب مشارق الأنوار المشهور وغيره ، كان من متأخّري علماء الإمامية لكّنه متقدّم على الكفعمي صاحب المصباح وكان ماهرا في أكثر العلوم وله يد طولى في علم أسرار الحروف والأعداد ونحوها كما يظهر من تتبّع مصنّفاته ، وقد أبدع في كتبه حيث استخرج أسامي النبي والأئمة عليهم‌السلام من الآيات ونحو ذلك من غرائب الفوائد وأسرار الحروف ودقائق الألفاظ والمعميات ولم أجد له إلى الآن مشايخ من أصحابنا ولم أعلم عند من قرأ (أقول) ستعرف أنه يروي عن شاذان بن جبرئيل القمي.

وقال المجلسي في مقدّمات البحار عند تعداد الكتب التي نقل منها : وكتاب مشارق الأنوار وكتاب الألفين للحافظ رجب البرسي ولا أعتمد على ما ينفرد بنقله لاشتمال كتابيه على ما يوهم الخبط والخلط والارتفاع وإنّما أخرجنا منهما ما يوافق الأخبار المأخوذة من الأصول المعتبرة. وفي الرياض التأمّل في مؤلّفاته يورث ما أفاده الأستاذ المجلسي والمعاصر صاحب الأمل من الغلو والارتفاع لكن لا إلى حدّ يوجب عدم صحّة الاعتقاد (١).

٢ / شوال / ١٤٢٠ ه‍

حرره علي عاشور

الموافق ١٠ / ١ / ٢٠٠٠ م

لبنان / شقراء

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٦ / ٤٦٦.

١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تمهيد

الحمد لله الواجد لا من قلّة ، الموجود لا من علّة ، والصلاة على المبعوث لأشرف ملّة ، وآله النجوم والأهلة.

وبعد فيقول المخلوق من الماء المهين العبد الفقير المسكين المستكين المؤمن بوحدانية ربّ العالمين ، المنزّه عن أقوال الظالمين ، وشبه الظالمين ، وضلال المشبهين ، وإلحاد المبطلين ، وإبطال الملحدين ، الشاهد بصدق الأنبياء والمرسلين ، وعصمة الأولياء الصدّيقين ، والخلفاء الصادقين ، المصدّق بيوم الدين ، رجب الحافظ صان الله إيمانه ، وأعطاه في الدارين أمانه ، هذه رسالة في أصول الكتاب سمّيتها (لوامع أنوار التمجيد ، وجوامع أسرار التوحيد) أودعتها ديني واعتقادي ، وجعلتها زادي ليوم معادي ، قدّمتها لوجوب تقديم التوحيد ، على سائر العلوم ، وأتبعتها كتابا سمّيته (مشارق أنوار اليقين ، في إظهار أسرار حقائق أمير المؤمنين) فكان هذا الكتاب الشريف جامعا لحقائق أسرار التوحيد ، والنبوّة والولاية ، موصلا لمن تأمّله وأم له إلى الغاية والنهاية ، والله المعين والهادي.

فأقول متوكّلا ومتوسّلا : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، شهادة يوافق فيها السرّ الإعلان ، والقلب اللسان ، الحي القيوم ، الموجود بغير أنية ، المعروف بغير كيفية ، سبحان الله العظيم في مجده ، قيوم بذاته وصفاته ، غني عن جميع مخلوقاته ، وحده لا شريك له بعد فاقترب ، وظهر فاحتجب ، فلا بعده بعد مسافة ، ولا قربه قرب كثافة ، قرب إلى الأسرار ببرّه ورحمته ، وبعد عن الأبصار بأشعة جلال عظمته ، نأى عن العيون بشدّة جماله ؛ واختفى عن العيان بكمال نوره ، فظهر بغيبه ، وغاب بظهوره ، فهو ظاهر لا يرى ، وباطن لا يخفى ، يعرف بفطر القلوب ، وهو في سواتر الغيوب ، تجلّى بجمال صفاته من كل الجهات ، فظهر وتجلّى

١٣

بكمال ذاته عن كل الجهات ، فاستتر الفرد المجرّد عن المواد والصور ، فهو الرفيع في جلاله ، البديع في جماله ، وحده لا شريك له ، وجوده وجود إيمان لا وجود عيان ، دلّت عليه آياته ، وشهدت بوحدانيته مصنوعاته ، وأقرّت بربوبيته أرضه وسمواته ، كل حادث دليل عليه ، ومستند في وجوده إليه ، ومشير بالعظمة والكبرياء إليه ، فمفهومه ومعناه ، تقدّس في عزّه وعلاه ، أنه ذات واحدة لا تحدّها فكرة ، ولا تحاولها كثرة ، لها الجلال والإكرام ، والبقاء والدوام ، والملك المؤبد ، والسلطان السرمد ، والعزّ المنيع ، والمجد الرفيع ، فالحق عزّ اسمه وجل جلاله ، واحد من جميع الجهات ، فرد صمد بكل العبادات ، قيوم أحد بأكمل الدلالات ، ربّ وتر بالذات والصفات ، معبود حقّ بسائر اللغات ، لا تحكيه العبارات ، ولا تحويه الإشارات ، فذاته الأزلية الأبدية القيومية الرحمانية ، المقدّسة بالوحدة الحقيقية ، المنزّهة عن الكثرة الصورية ، مبدأ لسائر الموجودات ، ومنبع لسائر الكمالات ، موصوفة بأكرم الصفات ، مسلوب عن جمال كمالها النقائص والحاجات ، متعالية عن الأحياز والجهات ، منزّهة عن مشابهة المحدثات ، مبراة عن المقولات ، فسبحان القيوم ، الذي لم يزل ولا يزال ، الفرد المنزّه عن الحلول والانتقال ، وحده لا شريك له ، كان ولم يزل كائنا ، ولا سماء مبنية ، ولا أرض مدحية ، ولا خافق يخفق ، ولا ناطق ينطق ، ولا ليل داج ، ولا صبح مشرق ، كان الله ولا شيء معه ، وهو على ما كان لم يتكثر بخلقه أبدا ، فسبحان من أيّن الأين ، فلا أين يحويه ، وكيّف الكيف فلا كيف يحكيه ، وتعالى عن المكان والزمان ، فلا وقت يباريه ، وحده لا شريك له ، جل عن أجل معدود ، وأمد ممدود ، وتعالى عن وقت محدود ، الحي الحميد المحمود ، قدوس ، سبوح ، ربّ الملائكة والروح ، حي لا يموت.

فسبحانه من أزلي قديم ، سبق العدم وجوده ، والأزل قدمه ، والمكان كونه ، وعزّ عن المزاوجة اسمه ، وحده لا شريك له ، ليس لقدمه رسم ، ولا حدّ ، ولا لملكه قبل ولا بعد ، ولا لأمره دفع ولا ردّ ، ولا لسلطانه ضدّ ولا ندّ ، تقدّس القيوم في جلال عظمته ، ودوام سلطنته ، وحده لا شريك له ، لا تدركه الحواس ، فيوجد له شكل ، ولا يشبه بالناس فيكون له مثل ، امتنعت عن إدراك ذاته عيون العقول ، وانقطعت دون وصف صفاته أسباب الوصول ، حي قيوم ، وجوده لذاته بذاته عن ذاته ، لا لعلّة تقوّمه فيكون ممكنا ، ولا لسبب يتقدّمه فيكون

١٤

محدثا ، ولا لكثرة تزاحمه فيكون للحوادث محلّا ، حي قبل كل حي ، وحي بعد كل حي ، واجب الحياة لكل حي ، وحي لم يرث الحياة من حي ، فهو المعبود الحق ، والإله المطلق ، أحدي الذات ، واحدي الصفات ، أزلي اللاهوت ، أبدي الملكوت ، سرمدي العظمة ، والجلال والجبروت ، حي قيوم لا يموت ، لا تحكيه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تحجبه السواتر ، ولا تبلغه النواظر ، لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، وجهه حيث توجهت ، وطريقه حيث استقمت ، لا تجري عليه الحركة والسكون ، فكيف يجري عليه ما هو أجراه ، لا إله إلّا هو الله ، فمن وصف الله سبحانه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد ثنّاه ، ومن ثناه فقد أبطله ، إذ ليس في الأشياء ؛ وإلّا لكان محدودا ، ولا منها ؛ وإلّا لكان معدودا ، فهو بعيد عنها ، دان إليها ، قائم بها ، قيوم عليها ، لا يتجزى فيعد ، ولا يتكثّر فيحدّ ، ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا حمده من أشار إليه وتوهّمه ، الحكم العدل الذي لا يتوهم ولا يتهم ، شهدت العقول والنفوس ، وشاهدت العيون والمحسوس : أن العالم متغيّر ، وكل متغيّر جسم ، وكل جسم حادث ، وكل حادث له محدث ، وذلك المحدث هو الخالق المقدر ، والبارىء المصوّر ، والجبّار المتكبّر ، لافتقار الأثر إلى المؤثر ، فهو الربّ القديم ، العلي العظيم ، الغني الكريم ، الجواد الرحيم ، الذي صدر العالم عنه وابتدعه ، وتعالى عنه ، فهو المبتدىء الأوّل ، الذي فاض عن وجود وجود كل موجود ، والمبدأ الأوّل واجب لذاته ، والواجب لذاته حي قيوم ، والحي القيوم قديم أزلي ، والقديم واجب الوجود ودائم الوجود ، واحد من جميع الجهات ، والواحد الحق يستحيل أن يكون جسما ، لأن الجسم يلزمه التركيب والكثرة ، وكل مركّب له أوّل ، وما له أوّل محدث ، والقيوم الحق مجرّد عن كل مادة ، منزّه عن كل صورة ، مقدّس عن كل كثرة ، مبرأ عن كل وصف ، لا يشمله حدّ أو يبدأ له عدّ ، أو يتناوله رسم ، أو يكشفه اسم ، لا تحويه الأقطار ، ولا تبديه الأفكار ، ولا تدركه الأبصار ، وكيف تدركه الأبصار وهي خلقه؟ أو كيف تحويه الأقطار وهي صنعه؟ والصنعة على نفسها تدل ، وفي مثلها تحل ، فسبحانه قيوم حق ، لا أوّل لوجوده ، ولا نهاية لملكه وجوده ، والعالم كله بالعدم مسبوق ، وبالفناء ملحوق ، فكلها سوى الحي القيوم محدث ومركب ومفتقر ، والحق عز اسمه فرد مجرّد ، لا كثرة في ذاته وصفاته ،

١٥

هو واحد لا ينقسم تقديرا ولا حدا ، واحدا لا يقارب نظيرا ولا ضدّا ، واحدا ذاتا ونعتا ، وكلمة وعدا ، فله الوحدة اللائقة بكرم وجهه ، وعز جلاله ، كالإلهية المحضة ، والإله المطلق هو الله سبحانه ، كل الكل ، ومعبود الكل ، وخالق الكل ، والعالي على الكل ، والمتعالي عن الكل ، والعلي عن الكل ، والمنزّه عن الكل ، والبريء عن الكل ، والعالم بالكل ، والمظل على الكل ؛ والمطّلع على الكل ، والحافظ الكل ، والحفيظ على الكل ، والقائم بالكل ، والقيوم على الكل.

فالرب الأزل القديم واحد حقا ، وصمد يبقى ، وقيوم معبود صدقا ؛ فسبحان من تفرّد بالوحدانية والجلال ، وتقدّس بالمجد والجمال ، وتعزّز بالبقاء والكمال ، وحكم على الخليقة بالفناء والزوال ، فكل شيء هالك إلّا وجهه ، فليس على الحقيقة معبود حق إلّا الله وحده لا إله إلّا الله ، لا إله إلّا الله نفي وإثبات ، والحق ثابت لم يزل ولا يزال ، والضد جل عن الضدّ ، عدم محض ، ينفي الغير من وقع النفي والإثبات ، فمعنى كلمة التوحيد ، وآية التجريد أنه لا إله في وجود ، حي موجود ، له الركوع والسجود ، واحد لذاته ، غني عن جميع مخلوقاته ، قادر عالم ، حي سميع ، بصير مريد ، كاره غني ، واحد منزّه عن كل نقص ، طاهر من كل عيب ، ذاته وصفاته ، مستحق للعبادة ، لا إله إلّا الله اسمه ، والرحمن نعته ، والأحد ذاته ، والواحد صفاته ، واسمه الله ، عز عن اسم ، علم لذاته المقدّسة ، جامع لجلال صفات الجلال والعظمة ، مانع من الشركة في الحقيقة والتسمية الرحمن ، ولا شبيه [له ولا] يسمّى أحد بأسمائه ، ولا شريك له في ملكه وكبريائه ، ولا شبه له في عظمته وآلائه ، ولا منازع له في أمره وقضائه ، ولا معبود سواه في أرضه وسمائه ، ربّ قديم ، وملك عظيم ، غني كريم ، لا شريك له في الإلهية ، ولا شبيه له في الماهية ، جلّ عن الشبيه والمثيل ، وتعالى عن التشبيه والتمثيل ، عز عن ولد ينفعه ، وتقدّس عن عدد يجمعه ، الواحد الأحد ، الذي لا يشبهه أحد ، ولا يساويه أحد ، له الجلال الباهر ، والجبروت القاهر ، والملكوت الزاهر ، والسلطان الفاخر ، هو الأوّل والآخر ، والباطن والظاهر ، الأوّل بالذات ، والآخر بالصفات ، والظاهر بالآيات ، والباطن عن التوهمات ، حارت في إدراك ملكات ملكوته مذاهب التفكير ، وغارت عن الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، تاهت العقول في تيه عظمته ، وهامت الأوهام في بيداء عزّته ، حماها نور الأحدية ، وغشاها جلال سبحات الربوبية ، عن إدراك حقيقته الإلهية ،

١٦

فرجع الطرف خاسئا حسيرا ، والعقل مبهوتا مبهورا ، والفكر متحيّرا مذعورا ، والوهم مذموما مدحورا ؛ فسبحان الملك الحق المتعالي عن الجهات والأمكنة ، الذي لا تأخذه نوم ولا سنة ، ولا تصف جلال كمال عظمته الألسنة اللسنة ، لا يحويه مكان ، ولا يخلو منه مكان ، ولا يصفه لسان ، به كان الخلق لا بالخلق كان.

إن قلت : متى فقد سبق الكون كونه ؛ أو قلت قبله فالقبل بعده ؛ أو قلت أين؟ فقد تقدّم المكان وجوده ؛ أو قلت كيف؟ فقد أصحت (١) عن الوصف صفته ؛ أو قلت مم؟ فقد باين الأشياء كلّها ؛ أو قلت هو ، فالهاء والواو كلامه.

بالكلمة تجلّى الصانع للعقول ، وبها احتجب عن العيون ، فسبحان من جوده آية وجوده ، وأنوار عظمته مانعة من سهوده ، لم يزل ، ولا يزال ، أزليا أبديا في الغيوب ، ليس فيها أحد غيره ولا معبود سواه ، لا يجوز عليه التشبيه الذي يرقبه فهمك ، ولا التشكيك الذي ينتجه وهمك ، الجبّار الذي فتق ورتق ظلام العدم بقوّته وقهره ، فأهلّ الوجود بلا إله إلّا الله ، وأتقن نظام الموجودات بقدرته وأمره ، فليس خالق إلّا الله خالق السّموات ، وبالعدل فطرها ، وأجرى فيها شمسها وقمرها ، فهي دائرة بقهره ، طالعة لأمره ، ملأها بالأنوار ، وقدّسها بالأبرار ، وحرسها بالشهب الثواقب من الأغيار ، وحفظها من الأود والانفطار ، فهي عالم الملكوت ، وقبة الجبروت ، وسرادق العظمة والجلال والجبروت ، سقفا مرفوعا ، وسمكا محفوظا ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار يقبضها ، لم يشيّدها سبحانه خوفا من سطوة سلطان ، ولا خشية من نزول حدثان ، بل جعلها دليلا للناظر ، وعلما للسائر ، تدلّ آياتها على عظمته ، ورفعتها على قدرته ، وكمال لطفه وحكمته ، فمن نظر في خلق السّموات ، وتعاقب حركات السيارات ، واختلاف الليل والنهار ، وما تضمن ذلك من الحكمة العجيبة ، والقدرة الغريبة ، بل في نفسه ، وتركيب جسده ، شاهد في كل لحظة ، وعاين في كل لمحة ، شاهد حق ، وناطق صدق ، ينطق بأن صانعه حي قيوم قدير ، ويشهد بأن موجده ربّ حكيم خبير.

سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، وقمر ذو إشراق ، وسراج وهاج ، وسحاب صاعد ، وماء فجاج ، وأجسام ذات أعضاء ، وأحياء وأمشاج ، والكل يدلّون

__________________

(١) كذا بالأصل.

١٧

على الصانع القدير ، فسبحان من فطر الخلائق على عظائم المختلفات ، وأنطقهم بغرائب اللغات ، وقدّر لهم الأعمار والأرزاق والأقوات ، فهو الخالق العليم ، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ، ولا يغيب عن حفظه مكيال قطرة ، فكيف يغيب عنه ما هو أبداه ، ويخفى عليه ما هو أنشأه ، لأن الخالق عالم بخلقه ، محيط بصنعه ، ومؤلف بين عناصره ، شاهد بحقائقه وسرائره ، مدرك بباطنه وظاهره ، فهو العالم بخفيات الغيوب ، الشاهد لسرائر القلوب ، فالأعضاء شهوده ، والجوارح جنوده ، والضمائر غيوبه ، والسرائر عيانه ، فلا يخفى عليه شيء من خلقه ، ولا يعزب عنه شيء من صنعه ، وكيف يغيب عنه ما هو أبداه ، ويخفى عليه ما هو أنشأه ، فسبحانه من قادر عليم ؛ لم يزل على الأسرار رقيبا ، ومن الأرواح قريبا ، وعلى الأعمال حسيبا ، فهو الرقيب القريب ، الشاهد الذي لا يغيب ، فسبحان القيوم القدير ، المتكلّم الخبير ، السميع البصير ، سمعه منزّه عن الأصمخة والآذان ، وبصره منزّه عن الحدقة والأجفان ، وكلامه جل عن الآلات واللسان ، فطر العقول فلا ضدّ حضره حين فطرها ، وبرأ النفوس فلا ندّ خبره حين اختبرها ، وحده لا شريك له ، الروح قطرة من قطرات بحار ملكوته ، والنفس شعلة من شعلات جلال جبروته ، والسّموات السبع والأرض ومن فيهن ذرة من ذرات قدرته ، وسبعون ألف عالم أثر من آثار حكمته ، والعالم بأسره سرّ من أسرار صنعته ، والكل شاهد بأنه هو الذي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له في جلال كبريائه وعظمته ، أهل السّموات يظنونه من الأرض ، وأهل الأرض يظنونه في السماء ، وهو الصمد الديان ، المنزّه عن الأين والمين ، الموجود في كل مكان ، المتعالي عن الإدراك بالبصر والعين ، العالي عن الحدوث والحدثان ، الواحد الفاضل عن الاثنين ، المعبود في كل زمان.

خلق الإنسان فقدره ، وأحسن خلقه وصوّره ، وشقّ سمعه وبصره ، خلقه من ماء مهين نطفة ، وأنشأه من الحق شرعة ومنهاجا ، وفطره على التوحيد ، وأوقد له من العقل سراجا ، وحل له رباط الضريح (١) بأنامل الفرج والاعتبار ، وأخرجه من مشيمة الرحم بيد المشية والرحمة والاقتدار ، ودفع له دم الطمث في الصدر لبنا ، وغذاه برزقه ، وأخرجه إليه سهلا لينا ورباه بلطفه ، وأنبته نباتا حسنا ، وجعل له سمعا يسمع آياته ، وعقلا يفهم كلماته ، ويدرك

__________________

(١) كذا بالأصل.

١٨

صفاته ، وبصرا يرى قدرته ، وفؤادا يعرف عظمته ، وقلبا يعتقد توحيده ، ولسانا ينشر تمجيده ، وجعل جسده مدينته ، والروح منه خليفته ، وقلبه كعبته وبيته ، الذي أطاف به ملائكته ، وكرّمه وفضّله ، وفض له سوابغ النعماء ، وأمره بمعرفته ، ليشكره على عميم العطاء والنعماء ، وأسكنه دار المحنة والابتلاء ، وأرسل عليه الرسل ونصب له الأدلّاء ، وساقه بسوط القهر إلى ميدان الفناء ، وساوى بالموت بين الملوك والفقراء ، ذلك لطف وعدل لنفوذ قلم القضاء ، والوصول إلى دار البقاء ، وإعادتهم بعد الموت لطفا واجبا لإيصال العوض والجزاء ، فسبحان من فطر الخلائق ، فلم يعي بخلقهم حين ابتدأهم ، ولم يستأنس بهم حين أوجدهم وأنشأهم ، ولم يستوحش لفقدهم إذ أماتهم وأفناهم ، ولم يعجزه بعثهم إذ هو أهون عليه إذا دعاهم ، للمحسنات وناداهم ، تبارك القوي القدير ، علمه بهم قبل التكوين كعلمه بهم بعد الإيجاد والتبيين ، فسبحان من ألهم ، ومن له الفضل والمنن.

آمنت بذي الملك والملكوت ، وأسلمت لذي العزّة والجبروت ، وتوكّلت على الحي الذي لا يموت ، الربّ المنفرد بالوحدانية وعدم القرين ، الحي القوي ، العلي الغني عن المعين ، شهدت بواجب الوجود ، ومفيض الكرم والجود ، بالأحدية التي لا تحد والوحدانية التي لا تعد ، والصمدانية التي ليس لها قبل ولا بعد ، والإلهية البسيطة التي كل لها ملك ومملوك ، وعبدت من سري وفؤادي وروحي وخيالي وسوادي ، بأن الله هو الحق المبين وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، الرب الفرد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

شهدت لربي ومولاي مصور ذاتي ، ومقدّر صفاتي ، الذي له نسكي وصلاتي ومحياي ومماتي ، بأنه هو الذي لا إله إلّا هو ربّ كل شيء ، وخالق كل شيء ومعبود كل شيء ، وملك كل شيء ، ومالك كلّ شيء وبيده ملكوت كل شيء ، القيوم الأوّل ، قبل وجود كل شيء ، والحي الباقي بعد فناء كل شيء ، الواحد المسلوب عنه الشبيه والنظير ، الأحد الذي لا كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، وأن هذه الصفات الإلهية ، والمدائح الربانية ، لا يستحقها أحد سواه ، ولا يملكها ويستوجبها إلّا الله وأنه سبحانه حكم عدل لا جور في قضيته ، ولا ظلم في مشيئته وأنه

١٩

تجري الأمور على ما يقضيه لا على ما يرتضيه ، وأعتقد أنه من عرف بهذا الاعتقاد وحّده ، ونزّهه عن مشاهدة المحدثات وعبده ، وأعلن شكر الإله وحمده ، فهو مؤمن مخلص قد شملته العناية والمنة ، ووجبت له النجاة والجنة ، وذلك كله بلطفه وعنايته وحوله وقوّته ومنّه وهدايته وإرشاده ودلالته.

فسبحان من ابتدأ بالفضل ، وكلف بالعدل ، ومدح العلم وذم الجهل ، وأفاض اللطف ، وأوضح السبيل ، ونصب الدليل ، وأرسل الرسل ، وبعث الأنبياء عليهم‌السلام حكاما لإظهار أمره ، ونشر عدله ، ونصب الأوصياء عليهم‌السلام أعلاما لكمال دينه ، وبيان فضله ، بعثهم بالهدى ودين الحق ، رسلا مبشّرين ومنذرين ، صادقين معصومين ، إليه يدعون ، وعنه يقولون ، وبأمره يعملون ، ثم جعلنا وله الحمد من امّة خير الأنبياء عليهم‌السلام ، وأطيب مخلوق من الطين والماء ، وأشرف مبعوث شرفت به الأرض والسماء ، الجسد المطهر ، والروح المقدس المعطر ، الذي تعطرت به البطحاء ، البشير النذير ، السراج المنير ، أوّل الأنبياء بالنور ، وآخرهم بالظهور ، وسرهم في الأصلاب والظهور ، أكرمهم شيعة ، وأعظمهم شريعة ، وأفصحهم كلاما ، وأرفعهم قدرا ، وأشرفهم كتابا ، وأعزّهم جنابا ، أشرف من تشرّفت به الأعواد والأعضاء (١) المنطق الالهي ، أفصح من نطق بالضاد ، النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والرؤوف الرحيم ، الأوّل ، الآخر ، الباطن ، الظاهر ، الفاتق ، الراتق ، الفاتح ، الخاتم ، العالم ، الحاكم ، الشاهد ، القاسم ، المؤيّد ، المنصور ، أبي القاسم محمد بن عبد الله ، الحميد المحمود ، الصادق الأمين ، العزيز المبين ، المنتجب من خاص الطين ، المبعوث رحمة للعالمين ، صفي الله وصفوته ، وإمام أصفيائه يوم البعث والنشور ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، وسيّد الأوّلين والآخرين ، صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرين.

آمنّا بالله وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبما دعانا إليه ، واتبعنا النور الذي أنزل معه (٢) ، وهدانا إليه ، وصيّه الذي خصّ بالولاء واللواء والإخاء (٣) ، نص النبي عليه ، أخاه وأمينه ، وخليفته وقائد جيشه ، وحامل رايته ، وسلطان رسالته ، وإمام أمّته ، مفديه بروحه ، ومتساويه

__________________

(١) كذا بالأصل.

(٢) وفي الحديث أنه أمير المؤمنين عليه‌السلام راجع : تفسير نور الثقلين : ٢ / ٨٣ ح ٣٠٠.

(٣) إشارة إلى حديث المؤاخاة وحديث الغدير وحديث الراية في خيبر.

٢٠