مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

يَحْذَرُونَ) (التوبة : ١٢٢) والطائفة تقع على الواحد فما فوقه ، فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم ، والإنذار : الإعلام بما يفيد العلم ، وقوله (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) نظير قولهم في آياته المتلوة والمشهودة (لعلهم يتفكرون) (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (الأعراف : ١٧٦ ، يوسف : ٤٦ ، الأنبياء : ٣١) وهو سبحانه إنما يذكر ذلك فيما يحصل العلم لا فيما لا يفيد العلم.

الدليل الخامس : قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء : ٣٦) أي لا تتبعه ولا تعمل به ، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات ، فلو كانت لا تفيد علما لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم.

الدليل السادس : قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧) فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم ، ولو لا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علما ، وهو سبحانه لم يقل سلوا عدد التواتر بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقا ، فلو كان واحد لكان سؤاله وجوابه كافيا.

الدليل السابع : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (المائدة : ٦٧) وقال (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور : ٥٤) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلغوا عني» وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة «أنتم مسئولون عني فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد إنك بلغت وأديت ونصحت» ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ ويحصل به العلم ، فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد ، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه ، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله

٧٤١

وسنته ، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة ، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر ، وهذا من أبطل الباطل.

فيلزم من قال إن أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تفيد العلم أحد أمرين : إما أن يقول إن الرسول لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد التواتر ، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ ، وإما أن يقول إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علما ولا يقتضي عملا ، وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علما ، وهذا ظاهر لا خفاء به.

الدليل الثامن : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة : ١٤٣) وقوله : (وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (الحج : ٧٨) وجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أنه جعل هذه الأمة عدولا خيارا ليشهدوا على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم عن الله رسالته وأدوا عليهم ذلك ، وهذا يتناول شهادتهم على الأمم الماضية وشهادتهم على أهل عصرهم ومن بعدهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم بكذا ونهاهم عن كذا ، فهم حجة الله على من خالف رسول الله ، وزعم أنه لم يأتهم من الله ما تقوم به عليه الحجة ، وتشهد هذه الأمة الوسط عليه بأن حجة الله بالرسل قامت عليه ، ويشهد كل واحد بانفراده بما وصل إليه من العلم الذي كان به من أهل الشهادة ، فلو كانت أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تفيد العلم لم يشهد به الشاهد ولم تقم به الحجة على المشهود عليه.

الدليل التاسع : قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف : ٨٦) وهذه الأخبار التي رواها الثقات الحفاظ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما أن تكون حقا أو باطلا أو مشكوكا فيها ، لا يدرى هل هي حق أو باطل. فإن كانت باطلا أو مشكوكا فيها وجب

٧٤٢

اطراحها وأن لا يلتفت إليها ، وهذا انسلاخ من الإسلام بالكلية. وإن كانت حقا فيجب الشهادة بها على البت أنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الشاهد بذلك شاهد بالحق وهو يعلم صحة المشهود به.

الدليل العاشر : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مثلها «فاشهدوا» أشار إلى الشمس ، ولم يزل الصحابة والتابعون وأئمة الحديث يشهدون عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القطع أنه قال كذا وأمر به ونهى عنه وفعله لما بلغهم إياه الواحد والاثنان والثلاثة فيقولون : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا ، وحرم كذا وأباح كذا ، وهذه شهادة جازمة يعلمون أن المشهود به كالشمس في الوضوح ، ولا ريب أن كل من له التفات إلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتناء بها يشهد شهادة جازمة أن المؤمنين يرون ربهم عيانا يوم القيامة ، وأن قوما من أهل التوحيد يدخلون النار ثم يخرجون منها بالشفاعة ، وأن الصراط حق ، وتكليم الله لعباده يوم القيامة كذلك ، وأن الولاء لمن أعتق ، إلى أضعاف أضعاف ذلك ، بل يشهد بكل خير صحيح متلقى بالقبول لم ينكره أهل الحديث شهادة لا يشك فيها.

الدليل الحادي عشر : إن هؤلاء المنكرون لإفادة أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم أنهم قالوا ، ولو قيل إنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار ، وتعجبوا من جهل قائله ، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم ، لم يروها عنهم عدد التواتر ، وهذا معلوم يقينا.

فكيف يحصل لهم العلم الضروري والمقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا وذهبوا إلى كذا ، ولم يحصل لهم بما أخبر به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بما رواه عنهم التابعون وشاع في الأمة وذاع ، وتعددت طرقه وتنوعت ، وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم؟ إن هذا لهو العجب العجاب.

وهذا وإن لم يكن نفسه دليلا يلزمهم أحد أمرين : إما أن يقولوا أخبار رسول

٧٤٣

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتاواه وأقضيته تفيد العلم ، وإما أن يقولوا إنهم لا علم لهم بصحة شيء مما نقل عن أئمتهم ، وأن النقول عنهم لا تفيد علما وأما أن يكون ذلك مفيدا للعلم بحصته عن أئمتهم دون المنقول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو من أبين الباطل.

الدليل الثاني عشر : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال : ٢٤) ووجه الاستدلال أن هذا أمر لكل مؤمن بلغته دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة. ودعوته نوعان : مواجهة ونوع بواسطة المبلغ وهو مأمور بإجابة الدعوتين في الحالتين ، وقد علم أن حياته في تلك الدعوة والاستجابة لها ، ومن الممتنع أن يأمره الله تعالى بالإجابة لما لا يفيد علما ، أو يحييه بما لا يفيد علما ، أو يتوعده على ترك الاستجابة لما لا يفيد علما بأنه إن لم يفعل عاقبه ، وحال بينه وبين قلبه.

الدليل الثالث عشر : قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور : ٦٣) وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ، ولو كان ما بلغه لم يفده علما لما كان متعرضا بمخالفة أمره للفتنة والعذاب الأليم ، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر.

الدليل الرابع عشر : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إلى قوله : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (النساء : ٥٩) ووجه الاستدلال أنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. فلو لا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النزاع لم يكن في الرد إليه فائدة ، إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى ما لا يفيد علما البتة ولا يدرى حق هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع بحمد الله ، فلهذا قال من زعم أن أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تفيد علما ؛ إنا نرد ما تنازعنا فيه إلى العقول والآراء والأقيسة فإنها تفيد العلم.

الدليل الخامس عشر : قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ

٧٤٤

أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) إلى قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة : ٤٩) ووجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو ما أنزل الله ، وهو ذكر من الله أنزله على رسوله ، وقد تكفل سبحانه بحفظه ، فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه ، وهذا من أعظم الباطل ، ونحن لا ندعي عصمة الرواة ، بل نقول : إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلا بد أن يقوم دليل على ذلك ولا بد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته ، ولا تلتبس بما ليس منها ، فإنه من حكم الجاهلية ، بخلاف من زعم أنه يجوز أن تكون كل هذه الأخبار والأحكام المنقولة إلينا آحادا كذبا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده ، إن نظن إلا ظنا ، وما نحن بمستيقنين.

الدليل السادس عشر : ما احتج به الشافعي نفسه فقال : أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبيه عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نضر الله ، عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها ، فرب حامل فقه إلى غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (١).

قال الشافعي : فلما ندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها أمر أن يؤديها ولو واحد ، دل على أنه لا يأمر من يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه ، لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى ، وحرام يجتنب ، وحد يقام ، ومال يؤخذ ويعطى ، ونصيحة في دين ودنيا ، ودل على أنه قد يحمل

__________________

(١) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٥ / ١٨٣) ، والترمذي (٢٦٥٨) وأبو داود (٣٦٦٠) ، وابن ماجه (٢٣٠) ، وصححه الألباني ومعنى لا يغل : أى لا يدخله حقد يزيله عن الحق.

٧٤٥

الفقه غير الفقيه يكون له حافظا ولا يكون فيه فقيها وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في إجماع المسلمين لازم. انتهى.

والمقصود أن خبر الواحد العدل لو لم يفد علما لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يقبل منه أدى إليه إلا من عدد التواتر الذي لا يحصل العلم إلا بخبرهم ، ولم يدع للحامل المؤدي وإن كان واحدا ، لأن ما حمله لا يفيد العلم ، فلم يفعل ما يستحق الدعاء وحده إلا بانضمامه إلى أهل التواتر ، وهذا خلاف ما اقتضاه الحديث. ومعلوم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما ندب إلى ذلك وحث عليه وأمر به لتقوم الحجة على من أدى إليه. فلو لم يفد العلم لم يكن فيه حجة.

الدليل السابع عشر : حديث أبي رافع الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ألفين أحدا منكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري يقول : لا ندري ما هذا ، بيننا وبينكم القرآن ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه» (١) ووجه الاستدلال أن هذا نهي عام لكل من بلغه حديث صحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخالفه أو يقول لا أقبل إلا القرآن ، بل هو أمر لازم ، وفرض حتم بقبول أخباره وسننه ، وإعلام منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها من الله أوحاها إليه ، فلو لم تفد علما لقال : من بلغته إنها أخبار آحاد لا تفيد علما فلا يلزمني قبول ما لا علم لي بصحته ، والله تعالى لم يكلفني العلم بما لم أعلم صحته ولا اعتقاده ، بل هذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ونهاها عنه ، ولما علم أن في الأمة من يقوله حذرهم منه ، فإن القائل إن أخباره لا تفيد العلم هكذا يقول سواه لا ندري ما هذه الأحاديث ، وكان سلف هؤلاء يقولون بيننا وبينكم القرآن وخلفهم يقولون بيننا وبينكم أدلة العقول وقد صرحوا بذلك وقالوا : نقدم العقول على هذه الأحاديث ، آحادها ومتواترها ، ونقدم الأقيسة عليها.

الدليل الثامن عشر : ما رواه مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة الأنصاري وأبيّ

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو صحيح.

٧٤٦

ابن كعب شرابا من فضيخ ، فجاءهم آت فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها ، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفلها حتى كسرتها (١) ، ووجه الاستدلال أن أبا طلحة أقدم على قبول خبر التحريم حيث ثبت به التحريم لما كان حلالا ، وهو يمكنه أن يسمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفاها ، وأكد ذلك القبول بإتلاف الإناء وما فيه ، وهو مال ، وما كان ليقدم على إتلاف المال بخبر من لا يفيده خبره العلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنبه ، فقام خبر ذلك الآتي عنده وعند من معه مقام السماع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث لم يشكوا ولم يرتابوا في صدقه ، والمتكلفون يقولون إن مثل ذلك الخبر لا يفيد العلم لا بقرينة ولا بغير قرينة.

الدليل التاسع عشر : إن خبر الواحد لو لم يفد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل والتحريم والإباحة والفروض ، ويجعل ذلك دينا يدان به في الأرض إلى آخر الدهر. فهذا الصديق رضي الله عنه زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدة وجعله شريعة مستمرة إلى يوم القيامة بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة فقط ، وجعل حكم ذلك الخبر في إثبات هذا الفرض حكم نص القرآن في إثبات فرض الأم ، ثم اتفق الصحابة والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد. وأثبت عمر بن الخطاب بخبر حمل ابن مالك دية الجنين وجعلها فرضا لازما للأمة ، وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده ، وصار ذلك شرعا مستمرا إلى يوم القيامة. وأثبت شريعة عامة في حق المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده ، وأثبت عثمان بن عفان شريعة عامة في سكنى المتوفى عنها بخبر فريعة بنت مالك وحدها ، وهذا أكثر من أن يذكر ، بل هو إجماع معلوم منهم ، ولا يقال على هذا إنما يدل على العمل بخبر الواحد في الظنيات ونحن لا ننكر ذلك لأنا قد قدمنا أنهم أجمعوا على قبوله والعلم

__________________

(١) رواه البخاري (٥٥٨٢) ، ومسلم (١٩٨٠) والفضيخ : هو البسر إذا شدخ ونبذ ، وقد يطلق على خليط البسر والرطب أو التمر.

٧٤٧

بموجبه ، ولو جاز أن يكون كذبا أو غلطا في نفس الأمر لكانت الأمة مجمعة على قبول الخطأ والعمل به ، وهذا قدح في الدين والأمة.

الدليل العشرون : إن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقبلون خبر الواحد ويقطعون بمضمونه ، فقبله موسى من الذي جاء من أقصى المدينة قائلا له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فجزم بخبره وخرج هاربا من المدينة ، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا وقبل خبر أبيها في قوله : هذه ابنتي وتزوجها بخبره.

وقبل يوسف الصديق خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة.

وقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر الآحاد الذين كانوا يخبرونه بنقض عهد المعاهدين له وغزاهم بخبرهم واستباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم ، ورسل الله صلواته وسلامه عليهم لم يرتبوا على تلك الأخبار أحكامها ، وهم يجوزون أن تكون كذبا وغلطا ، وكذلك الأمة لم تثبت الشرائع العامة الكلية بأخبار الآحاد ، وهم يجوزون أن يكون كذبا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفس الأمر ، ولم يخبروا عن الرب تبارك وتعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله بما لا علم لهم به ، بل يجوز أن يكون كذبا وخطا في نفس الأمر ، هذا مما يقطع ببطلانه كل عالم مستبصر.

الدليل الحادي والعشرون : إن خبر العدل الواحد المتلقى بالقبول لو لم يفد العلم لم تجز الشهادة على الله ورسوله بمضمونه ، ومن المعلوم المتيقن أن الأمة من عهد الصحابة إلى الآن لم تزل تشهد على الله وعلى رسوله بمضمون هذه الأخبار جازمين بالشهادة في تصانيفهم وخطابهم ، فيقولون شرع الله كذا وكذا على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو لم يكونوا عالمين بصدق تلك الأخبار جازمين بها لكانوا قد شهدوا بغير علم وكانت شهادة الزور من سادات الأمة وعلمائها.

قال أبو عمرو بن الصلاح : وقد ذكر الحديث الصحيح المتلقى بالقبول المتفق على صحته : وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته ، والعلم اليقيني النظري واقع به ، خلافا لقول من نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد إلا الظن ، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن ، والظن قد يخطئ.

٧٤٨

قال : وقد كنت أميل إلى هذه وأحسبه قويا ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه هو الصحيح ، لأن الظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعا بها ، وأكثر إجماعات العلماء كذلك وهذه نكتة نفيسة نافعة.

* * *

فصل

وقال إمام عصره المجمع على إمامته أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني في كتاب «الانتصار» له وهذا لفظه :

ونشتغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق : أن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم وهذا رأي سمعت به المبتدعة في رد الأخبار فنقول وبالله التوفيق :

إذا صح الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلقته الأمة بالقبول ، فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم ، هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة.

وأما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال فلا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به حتى أخبر عنه القدرية والمعتزلة ، وكان قصدهم منه رد الأخبار ، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ، ولم ، يقفوا على مقصودهم من هذا القول ، ولو أنصف أهل الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد قد يوجب العلم ، فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد : ترى أصحاب القدر يستدلون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل مولود يولد على الفطرة» (١) وبقوله «خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» (٢)

__________________

(١) رواه البخاري (١٣٥٨ ، ١٣٥٩) ، ومسلم (٢٦٥٨).

(٢) رواه مسلم (٢٨٦٥).

٧٤٩

وترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ـ قيل : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق» (١) وترى الرافضة يحتجون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يجاء بقوم من أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم» (٢) وترى الخوارج يستدلون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (٣) وبقوله : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٤).

إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق ، ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها ، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد ، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى ، وفي مسائل القدر والرؤية ، وأصول الإيمان ، والشفاعة ، والحوض ، وإخراج الموحدين من المذنبين من النار ، وفي صفة الجنة والنار ، وفي الترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، وفي فضائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين ، وأخبار الرقاق ، وغيرها ما يكثر ذكره.

وهذه الأشياء علمية لا عملية ، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها ، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم ، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحدا شيئا ولا ينفعه ، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه.

قال : وربما يرتقي هذا القول إلى أعظم من هذا ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من الصحابة ، وهذا الواحد يؤديه إلى الأمة

__________________

(١) رواه البخاري (١٢٣٧) ، ومسلم (٩٤).

(٢) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين».

(٣) رواه البخاري (٤٨) ، ومسلم (٦٤).

(٤) رواه البخاري (٢٤٧٥) ، ومسلم (٥٧).

٧٥٠

وينقله عنه ، فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي نعوذ بالله من هذا القول البشع والاعتقاد القبيح.

قال : ويدل عليه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الرسل إلى الملوك : إلى كسرى ، وقيصر ، وملك الاسكندرية ، وإلى أكيدر دومه ، وغيرهم من ملوك الأطراف ، وكتب إليهم كتبا على ما عرف ونقل واشتهر ، وإنما بعث واحدا واحدا ودعاهم إلى الله تعالى والتصديق برسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإلزام الحجة وقطع العذر لقوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء : ١٦٥) وهذه المعاني لا تحصل إلا بعد وقوع العلم ممن أرسل إليه بالإرسال والمرسل ، وأن الكتاب من قبله والدعوة منه ، وقد كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الناس كافة كثيرا من الرسل إلى هؤلاء الملوك والكتاب إليهم لبثّ الدعوة إليهم في جميع الممالك ، ودعا الناس إلى دينه على حسب ما أمره الله تعالى بذلك ، فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من الصحابة ، منها إنه بعث عليا لينادى في موسم الحج بمنى : «ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» ومن كان بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فمدته إلى أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» (١).

ولا بد في هذه الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كان يناديهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد سماع هذا القول كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبسوط للعذر في قتالهم وقتلهم.

وكذلك بعث معاذا إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم إذا أجابوا شرائعه (٢).

__________________

(١) رواه البخاري (٣٦٩) ، ومسلم (١٣٤٧).

(٢) تقدم تخريجه في أول الكتاب وهو في «الصحيحين».

٧٥١

وبعث إلى أهل خيبر في أمر القتيل واحدا يقول : إما أن تؤدوا أو تؤذنوا بحرب من الله ورسوله. وبعث إلى قريظة أبا لبابة بن عبد المنذر يستنر لهم على حكمة. وجاء أهل قباء واحد وهم في مسجدهم يصلون فأخبرهم بصرف القبلة إلى المسجد الحرام فانصرفوا إليه في صلاتهم ، واكتفوا بقوله ، ولا بد في مثل هذا من وقوع العلم به.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرسل الطلائع والجواسيس في بلاد الكفر ويقتصر على الواحد في ذلك ويقبل قوله إذا رجع. وربما أقدم عليهم بالقتل والنهب بقوله وحده ، ومن تدبر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرته لم يخف عليه ما ذكرناه ، وما يرد هذا إلا مكابر ومعاند.

ولو أنك وضعت في قلبك أنك سمعت الصديق والفاروق رضي الله عنهما أو غيرهما من وجوه الصحابة يروي لك حديثا عن النبي ، في أمر من الاعتقاد من جواز الرؤية على الله وإثبات القدر أو غير ذلك لوجدت قلبك مطمئنا إلى قوله لا يداخلك شك في صدقه وثبوت قوله ، وفي زماننا ترى الرجل يسمع من أستاذه الذي يختلف إليه ويعتقد فيه التقدمة والصدق أنه سمع أستاذه يخبر عن شيء من عقيدته التي يريد أن يلقى الله بها ، فيحصل للسامع علم بمذهب من نقل عنه أستاذه ذلك بحيث لا يختلجه شبهة ولا يعتريه شك ، وكذلك كثير من الأخبار التي يقتضيها العلم توجد بين الناس فيحصل لهم العلم بذلك الخبر ومن رجع إلى نفسه علم بذلك.

(قال) واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب والظن فللتجوز فيه مدخل ، ولكن هذا الذي قلناه لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلا بالحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة ، ليقف على رسوخهم في هذا العلم وكبير معرفتهم به وصدق ورعهم في أقوالهم وأفعالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر ، والبحث عن أحوال الرواة والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها ، وكانوا بحيث لو

٧٥٢

قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك ، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم وأدوا كما أدى إليهم ، وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن ما يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر ، وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ، ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه.

(قال) والذي يزيد ما قلنا إيضاحا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل عن الفرقة الناجية قال «ما أنا عليه وأصحابي» (١) فلا بد من تعرّف ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وليس طريق معرفته إلى النقل ، فيجب الرجوع إلى ذلك ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنازعوا الأمر أهله» (٢) فكما يرجع في مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوة في هذه الأمة إلى أهل الفقه ، ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة ، وفي النحو إلى أهل النحو ، وكذا يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى أهل الرواية والنقل ، لأنهم عنوا بهذا الشأن واشتغلوا بحفظه والفحص عنه ونقله ، ولولاهم لاندرس علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقف أحد على سنته وطريقته.

(ثم قال الإمام أبو المظفر) : فإن قالوا فقد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلطت عليهم (قلنا) ما اختلطت إلا على الجاهلين بها ، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير ، فيميزون زيوفها ويأخذون خيارها ، ولئن دخل في أغمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث وورثة العلماء حتى أنهم عدوا أغاليط من غلط في الإسناد والمتون ، بل تراهم يعدون على كل واحد منهم كم في حديث غلط ، وفي كل حرف حرف ، وما ذا صحف ، فإذا لم ترج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون والحروف فكيف يروج عليهم وضع الزنادقة وتوليدهم الأحاديث التي يرويها الناس حتى خفيت على أهلها ، وهو قول بعض الملاحدة

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه وهو ضعيف الإسناد حسن لغيره.

٧٥٣

وما يقول هذا إلا جاهل ضال مبتدع كذاب يريد أن يهجن بهذه الدعوة الكاذبة صحاح أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآثاره الصادقة ، فيغالط جهال الناس بهذه الدعوى وما احتج مبتدع في رد آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجة أوهن ولا أشد استحالة من هذه الحجة ، فصاحب هذه الدعوى يستحق أن يسف في فيه وينفى من بلد الإسلام.

فتدبر رحمك الله أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار أنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرقا وغربا ، برا وبحرا ، وارتحل في الحديث الواحد فراسخ ، واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان موضع التهمة ، ولم يحابه في مقال ولا خطاب غضبا لله وحمية لدينه ، ثم ألف الكتب في معرفة المحدثين وأسمائهم وأنسابهم وقدر أعمالهم ، وذكر أعصارهم وشمائلهم وأخبارهم ، وفصل بين الرديء والجيد ، والصحيح والسقيم ، حبا لله ورسوله ، وغيرة على الإسلام والسنة ، ثم استعمل آثاره كلها حتى فيما عدا العبادات من أكله وطعامه وشرابه ويقظته وقيامه وقعوده ودخوله وخروجه ، وجميع سننه وسيرته حتى في خطراته ولحظاته ، ثم دعا الناس إلى ذلك وحثهم عليه وندبهم إلى استعماله وحبب إليهم ذلك بكل ما يملكه حتى في بذل ماله ونفسه كمن أفنى عمره في اتباع أهوائه وإرادته وخواطره وهواجسه ، ثم تراه ما هو أوضح من الصبح من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشهر من الشمس برأي دخيل ، واستحسان ذميم ، وظن فاسد ، ونظر مشوب بالهوى.

فانظر وفقك الله للحق : أي الفريقين أحق أن ينسب إلى اتباع السنة واستعمال الأثر.

فإذا قضيت بين هذين بوافر لبك وصحيح نظرك ، وثاقب فهمك فليكن شكرك لله تعالى على حسب ما أراك من الحق ووفقك للصواب وألهمك من السداد.

(قلت) ومن المعلوم أن من هذا عنايته بسنة رسول الله ، وسيرته وهديه فإنها تفيد عنده من العلم الضروري والنظري ما لا تفيده عند المعرض عنها

٧٥٤

المشتغل بغيرها ، وهذا شأن من عني بسيرة رجل وهديه وكلامه وأحواله فإنه يعلم من ذلك بالضرورة ما هو مجبول لغيره.

فصل

(تقسيم الدين إلى أصول وفروع تقسيم باطل)

المقام الخامس : إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها ، فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر ، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة ، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات كما يحتج بها في الطلبيات العمليات ، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينا ، بشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته ، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته.

فأين السلف المفرقين بين البابين ، نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه ؛ بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ، ويحيلون عن آراء المتكلمين ، وقواعد المتكلفين ، فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين ، فإنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية وسموها أصولا وفروعا وقالوا الحق في مسائل الأصول واحد ، ومن خالفه فهو كافر أو فاسق ، وأما مسائل الفروع فليس لله تعالى فيها حكم معين ولا يتصور فيها الخطأ وكل مجتهد لحكم الله تعالى الذي هو حكمه ، وهذا التقسيم لو رجع إلى مجرد الاصطلاح لا يتميز به ما سموه أصولا مما سموه فروعا فكيف وقد وضعوا عليه أحكاما وضعوها بعقولهم وآرائهم ، (منها) التكفير بالخطإ فى مسائل الأصول دون مسائل الفروع ، وهذا من أبطل الباطل كما سنذكره ، (ومنها): إثبات الفروع بأخبار الآحاد دون

٧٥٥

الأصول وغير ذلك ، وكل تقسيم لا يشهد له الكتاب والسنة وأصول الشرع بالاعتبار فهو تقسيم باطل يجب إلغاؤه.

وهذا التقسيم أصل من أصول ضلال القوم فإنهم فرقوا بين ما سموه أصولا وما سموه فروعا وسلبوا الفروع حكم الله المعين فيها ، بل حكم الله فيها يختلف باختلاف آراء المجتهدين ، وجعلوا ما سموه أصولا من أخطأ فيه عندهم فهو كافر أو فاسق ، وادعوا الإجماع على هذا التفريق ، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعا عن إمام من أئمة المسلمين ولا عن أحد من الصحابة والتابعين. وهذا عادة أهل الكلام يحكمون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل أئمة الإسلام على خلافه ، وقال الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فقد كذب ، أما هذه دعوى الأصم وابن علية وأمثالهما يريدون أن يبطلوا سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدعونه من الإجماع.

ومن المعلوم قطعا بالنصوص وإجماع الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره الأئمة الأربعة نصا أن المجتهدين المتنازعين في الأحكام الشرعية ليسوا كلهم سواء بل فيهم المصيب والمخطئ ، فالكلام فيما سموه أصولا وفيما سموه فروعا ، ينقسم إلى مطابق للحق في نفس الأمر وغير مطابق ، فانقسام الاعتقاد في الحكم إلى المطابق وغير مطابق كانقسام الاعتقاد في باب الخمر إلى مطابق وغير مطابق ، فالقائل في الشيء حلال والقائل حرام في إصابة أحدهما وخطأ الآخر كالقائل إنه سبحانه يرى والقائل أنه لا يرى في إصابة أحدهما وخطأ الآخر ، والكذب على الله تعالى خطأ أو عمد في هذا كالكذب عليه عمدا أو خطأ في الآخر : فإن المخبر يخبر عن الله أنه أمر بكذا وأباحه ، والآخر يخبر أنه نهى وحرمه ، فأحدهما مخطئ قطعا.

فإن قيل : الفرق بينهما أنه يجوز أن يكون في نفس الأمر لا حلالا ولا حراما بل هو حلال في حق من اعتقد حله ، حرام في حق من اعتقد تحريمه.

قيل هذا باطل من وجوه عديدة ، وقد ذكرنا في كتاب «المفتاح» (١) وغيره

__________________

(١) وهو كتاب : «مفتاح دار السعادة» للمصنف.

٧٥٦

منها إنه : خلاف نص القرآن السنة وخلاف إجماع الصحابة وأئمة الإسلام ، منها : أن يكون حكم الله تعالى تابعا لآراء الرجال وظنونها ومنها : أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا مرضيا لله مسخوطا محبوبا له مبغوضا ، ومنها : أنه ينفي حقيقة حكم الله في نفس الأمر ، ومنها : أن تكون الحقائق تبعا للعقائد ، فمن اعتقد بطلان الحكم المعين كان باطلا ومن اعتقد صحته كان صحيحا ، ومن اعتقد حله كان حلالا ، ومن اعتقد تحريمه كان حراما ، وهذا القول كما قال فيه بعض العلماء : أوله سفسطة وآخره زندقة ، فإنه يتضمن بطلان حكم الله تعالى قبل وجود المجتهدين ، وإن الله لم يشرع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكما أمره به ونهاه عنه ومنها : إن حكم الله يرجع إلى خبره وإرادته ، فإذا أراد إيجاب الشيء وأخبر به صار واجبا ، وإذا أراد تحريمه وأمر بذلك صار حراما ، فإنكار أن يكون الله حكما إنكار لخبره وإرادته وإلغاء لتعلقها بأفعال المكلفين.

ومنها : أنه يرفع ثبوت الأجرين للمصيب ، والأجر للمخطئ ، فإنه لا خطأ في نفس الأمر عندهم بل كل مجتهد مصيب لحكم الله تعالى في نفس الأمر ، ومنها : أنه يبطل أن يوافق أحد حكم الله تعالى ، فليس لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى الملك» (١) معنى ، ولا لقوله «إن سألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل فإنك لا تدري أتصيب حكم الله تعالى فيهم أم لا» (٢) معنى ولا لقوله : «إن سليمان سأل ربه حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه» (٣) ولا لقوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) (الأنبياء : ٧٩) معنى ، إذ كل منهما حكم بعين حكم الله تعالى عندهم ، ولا لقوله : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (٤) معنى.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه مسلم (١٧٣١ ، ١٣٥٦ ، ١٣٥٨).

(٣) [صحيح] رواه النسائي (٢ / ٣٤) ، وابن ماجه (١٤٠٨) وصححه الألباني.

(٤) رواه البخاري (٧٣٥٢) ، ومسلم (١١٧٦).

٧٥٧

وأيضا فهذا إجماع من الصحابة ، قال الصديق في الكلالة : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله وقال عمر لكاتبه : اكتب هذا ما رآه عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر ، وقال في قضية قضاها : والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه ، ذكره أحمد.

وقال علي لعمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها وقد استشار عثمان وعبد الرحمن فقالا ليس عليك إنما أنت مؤدب فقال له علي : إن كانا اجتهدا فقد أخطئا وإن لم يجتهدا فقد غشاك : عليك الدية فرجع عمر إلى رأيه واعترف علي رضي الله عنه بخطئه في خبر صفين وندم على ذلك وكان مجتهدا فيه.

وقال ابن مسعود في قصة بروع : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله ، وقال ابن عباس : ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا ، وقال : من شاء باهلته في العول ، وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن يتوب» (١) ، وقال ابن عباس وقد ناظروه في مسألة متعة الحج واحتجوا عليه بأبي بكر وعمر : أما تخشون أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ، وكان ابن عمر يأمر بالتمتع فيقولون له إن أباك نهى عنه فقال : أيهما أولى أن يتبع كتاب الله أو كلام عمر.

وقال عمران بن حصين : نزل بها القرآن وفعلناها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال رجل برأيه ما شاء ، يعرض بعمر ، وقال ابن الزبير لابن عباس في متعة النساء : لئن فعلتها لأرجمنك فجرّب إن شئت. وقال على لابن عباس منكرا عليه إباحة الحمر الأهلية ومتعة النساء : إنك امرؤ تائه ، أي تهت عن القول الحق ، وفسخ عمر بيع أمهات الأولاد وردهن حبالى من تستر ، وفسخ حكم الصديق في

__________________

(١) [حسن الإسناد] رواه البيهقي في «السنة» (٥ / ٣٣٠) ، والدارقطني ، وقال الزيلعي في «نصب الراية» : إسناده جيد ا ه.

٧٥٨

استرقاق نساء أهل الردة ، وكان يضرب عن الركعتين بعد العصر ، وكان أبو طلحة وأبو أيوب وعائشة يصلونها ، فتركها أبو طلحة وأبو أيوب مدة حياة عمر خوفا منه ، فلما مات عاوداها.

وقال ابن مسعود لما طلب منه موافقة أبي موسى في مسئلة بنت وبنت ابن وأخت فأعطى البنت النصف والأخت النصف : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، فجعل القول الآخر الذي جعله المصوبة صوابا عند الله ضلالا ، هذا أكثر من أن يحيط به إلا الله تعالى.

وأيضا فالأحاديث والآيات الناهية عن الاختلاف في الدين المتضمنة لذمه كلها شهادة صريحة بأن الحق عند الله واحد ، وما عداه فخطأ ، ولو كانت تلك الأقوال كلها صوابا لم ينه الله ورسوله عن الصواب ولا ذمه.

وأيضا فقد أخبر الله تعالى أن الاختلاف ليس من عنده وما لم يكن من عنده فليس بالصواب ، قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢) وهو إن كان في اختلاف ألفاظه فهو يدل على أن ما يدل على أن ما اختلف معانيه ليس من عند الله إذ المعنى هو المقصود.

وأيضا إذا اختلف المجتهدان فرأى أحدهما إباحة دم إنسان ، والآخر تحريمه ورأى أحدهما تارك الصلاة كافرا مخلدا في النار ، والآخر رآه مؤمنا من أهل الجنة ، فلا يخلو إما أن يكون الكل حقا وصوابا عند الله تعالى في نفس الأمر ، أو الجميع خطأ عنده ، أو الصواب والحق في واحد من القولين والآخر خطأ ، والأول والثاني ظاهر الإحالة وهما بالهوس أشبه منهما بالصواب فكيف يكون إنسان واحد مؤمنا كافرا مخلدا في الجنة وفي النار ، وكون المصيب واحدا هو الحق وهو منصوص الإمام أحمد ومالك والشافعي ، كما حكاه أبو إسحاق في «شرح اللمع» له أن مذهب الشافعي أن المصيب واحد ، هذا قوله في القديم والجديد.

٧٥٩

قال القاضي أبو الطيب : وليس عنده مسئلة تدل على أن كل مجتهد مصيب وأقوال الصحابة كلها صريحة أن الحق عند الله في واحد من الأقوال المختلفة وهو دين الله في نفس الأمر الذي لا دين له سواه.

وليس الغرض استقصاء هذه المسألة بل المقصود أن الخطأ يقع فيما سموه فروعا كما يقع فيما جعلوه أصولا فنطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد من الدين وما لا يجوز ولا يجدون إلى الفرق سبيلا إلا بدعاو باطلة ثم نطالبهم بالفرق بين مسائل الأصول والفروع وما ضابط ذلك ، ثم نطالبهم بالفرق بين ما يأثم جاحده أهو إثم كفر أو فسوق وما لا يأثم جاحده ، ونطالبهم بالفرق بين ما المطلوب منه القطع اليقيني ، وما يكتفي فيه الظن ولا سبيل لهم إلى تقرير شيء من ذلك البتة.

قال الجويني وقد تكلموا في الفرق بين الأصول والفروع فقالوا : الأصل ما فيه دليل قطعي والفرع بخلافه.

(قلت) وهذا يلزم منه الدور فإنه إذا قيل لا تثبت الأصول إلا بالدليل القطعي ثم قيل والأصل ما عليه دليل قطعي كان ذلك دورا ظاهرا.

وأيضا فإن كثير من المسائل العملية بل أكثرها عليها أدلة قطعية كوجوب الطهارة والصلاة والصيام والحج والزكاة ونقض الوضوء بالبول والغائط ووجوب الغسل بالاحتلام ، وهكذا أكثر الشريعة أدلتها قطعية ، وكثير من المسائل التي هي عندهم أصول أدلتها ظنية.

وهكذا في أصول الدين وأصول الفقه أكثر من أن يذكر ، كالقول بالمفهوم والقياس ، وتقدمهما علي العموم والأمر بعد الخطر ومسئلة انقراض العصر ، وقول الصحابي ، والاحتجاج بالمراسيل وشرع من قبلنا ، وأضعاف ذلك.

وكذلك أصول الدين كمسألة الحال وبقاء الرب تعالى وقدمه هل هي بيضاء وقدم زائدين على الذات والوجود الواجب ، هل هي من نفس الماهية أو زائدة

٧٦٠