مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

الله سبحانه ورسوله وفهم معانيه ما لم تتوفر على كلام غيره وفهم معانيه ، مع تكفل الله سبحانه بحفظه وبيانه.

(الدرجة الثالثة) أن يسمع اللغة بمن سمع الألفاظ وذكر أنه فهم معناها من العرب كالأصمعي وابن الأعرابي وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم ممن سمع من الأعراب ، ومن هذا الباب كتب اللغة التي يذكرون فيها معاني كلام العرب ، ومعلوم أن هذا يرد عليه أكثر مما يرد على من سمع الكلام النبوي من صاحبه وقال إنه فهم معناه وبيّنه لنا بعبارته.

(الدرجة الرابعة) أن ينقل إليه كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلام العرب ، ومن المعلوم أنه يرد على هذا من الأسئلة أكثر مما يرد على نقل الحديث ومعناه.

(الدرجة الخامسة) أن اللغة بقياس نحوي أو تصرفي قد يدخله تخصيص لمعارض راجح وقد يكون فيه فرق لم يتفطن له واضع القياس القانوني ، ومعلوم أن الذي يرد على هذا أكثر من الذي يرد على من ذكر قبله.

وإذا كان الأمر كذلك : فمن لم يأخذ معاني الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم لم يكن له طريق أصلا إلا ما ذكرناه من هذه الطرق التي يرد عليها أضعاف ما يرد على هذه الطريق ، ولا يجوز ترجيح تلك الطرق عليها فيلزمه أحد الأمرين : إما أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويعدل عن الطريق التي فيها من العلوم اليقينية والأمور الإيمانية ما لا يوجد في غيرها ، إلى ما هو دونها في ذلك كله ، بل يستبدل باليقين شكا ، وبالظن الراجح وهما ، وبالإيمان كفرا ، وبالهدى ضلالا ، وبالعلم جهالة وبالبيان عيا ، وبالعدل ظلما ، وبالصدق كذبا ، ويحمل كلام الله ورسوله على مجازه تحريفا للكلم عن مواضعه ، ويسميه تأويلا لتقبله النفوس الجاهلة بحقائق الإيمان والقرآن ، وإما أن يعرض عن ذلك كله ، ولا يجعل القرآن مفهوما ، وقد أنزله تعالى بيانا وهدى وشفاء لما في الصدور.

٧٠١

قال تعالى في أصحاب الطريقين : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة : ٧٥) ثم قال في أهل الطريق الثاني : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (البقرة : ٧٨) ثم قال في المصنفين ما لا يعلم أن الرسول قاله وجاء به يعلم أن الرسول جاء بخلافه : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (البقرة : ٧٩) الآية.

فهذه الطريق المذمومة التي سلكها علماء اليهود ، وقد سلكها أشباههم من هذه الأمة تحقيقا لقول الصادق المصدوق : «لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع» (١) وفي لفظ آخر : «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» (٢) وكثير من هؤلاء الأشباه يحرفون كلام الله ويكتمونه ، لئلا يحتج به عليهم في خلاف أهوائهم ، فتارة يغل كتب الآثار التي فيها كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام أصحابه والتابعين وأئمة السنة ويمنع من إظهارها ، وربما أعدمها ، وربما عاقب من كتبها أو وجدها عنده كما شاهدناه منهم عيانا ، وكثير من هؤلاء يمنع من تبليغ الأحاديث النبوية وتفسير القرآن بالآثار والأخبار ، وحتى إذا جاءت تفاسير الجهمية والمعتزلة ونحوهم بالغ في مدحها وقال : إن التحقيق فيها ، ما لم يمكنهم منعه من الكتاب والسنة وكتمانه سطوا عليه بالتحريف وتأولوه على غير تأويله ، ثم يعتمدون على آثار موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه موافقة لأهوائهم وبدعهم ، فيقولون هذا من عند الله ، ويحتجون به ويضعون قواعد ابتدعوها وآراء اخترعوها ، ويسمونها أصل الدين وهي أضر شيء على الدين.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٥ / ٢١٨ ، ٣٤٠) والحميدي (٨٤٨) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٣٧) ، والحاكم (١ / ١٢٩ ، ٤ / ٤٥٥) ، وصححه ووافقه الذهبي ، وقال الألباني : رجاله رجال الصحيح غير موسى بن ميسرة الديلمي وهو ثقة على أنه متابع وانظر «الصحيحة» (١٣٤٨).

٧٠٢

فصل

(كلام الشافعي في الاحتجاج بالسنة)

قال البخاري : سمعت الحميدي يقول : كنا عند الشافعي فأتاه رجل فسأله عن مسئلة فقال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكذا ، فقال الرجل للشافعي ما تقول أنت؟ فقال : سبحان الله تراني في كنيسة ، تراني في بيعة ، ترى على وسطي زنارا ، أقول قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكذا ، وأنت تقول لي ما تقول أنت؟

وقال المزني وحرملة عن الشافعي : إذا وجدتم سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى أحد.

وقال الربيع عن الشافعي : ليس لأحد قول مع سنة سنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الربيع : وسمعته روى حديثا فقال له الرجل : أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال :

متى رويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.

وتذاكر الشافعي وإسحاق بمكة وأحمد بن حنبل حاضر ، فقال الشافعي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وهل ترك لنا عقيل من دار» (١) فقال إسحاق حدثنا يزيد عن الحسن (ح) وأخبرنا أبو نعيم وعبده عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنهما لم يكونا يريانه ـ يعني بيع رباع مكة ـ فقال الشافعي لبعض من عرفه : من هذا؟ قال إسحاق ابراهيم الحنظلي ، فقال الشافعي : أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم ، ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك ، فكنت آمر بفردك أذنيه أقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول أنت : عطاء وطاوس ومنصور عن إبراهيم والحسن ، وهل لأحد مع رسول الله قول.

وروينا عن الربيع عن الشافعي قال : لم اسمع أحدا ينسبه عامة إلى علم أو

__________________

(١) رواه مسلم (٩٨٤) ، وابن ماجه (٢٧٣٠) ، والبيهقي (٦ / ٢١٨ ، ٩ / ٢٢) ، والحاكم (٢ / ٦٠٢) ، وغيرهم بلفظ : «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» وبلفظ المصنف أخرجه البيهقي في «سننه» (٦ / ٣٤).

٧٠٣

ينسب نفسه إلى علم يخالف في أن الله سبحانه فرض اتباع أثر رسوله والتسليم لحكمه لأن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن ما سواهما تبع لهما ، وإنما فرض الله علينا وعلى من قبلنا وبعدنا قبول الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يختلف فيه أحد أنه فرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد اتفق المسلمون على أن حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرض بل لا يتم الإيمان والإسلام إلا بكونه أحب إلى العبد من نفسه ، فضلا عن غيره ، واتفقوا أن حبه لا يتحقق إلا باتباع آثاره والتسليم لما جاء به والعمل على سنته وترك ما خالف قوله لقوله ، وهاتان مقدمتان برهانيتان لا يحتاجان إلى تقرير.

وقد قال بعض السلف في قوله عزوجل (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (النحل : ١١٦) قال نزلت في علماء السوء الذين يفتون الناس بآرائهم ويكفي في هذا قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء : ٦٥) وفرض تحكيمه لم يسقط بموته بل ثابت بعد موته كما كان ثابتا في حياته وليس تحكيمه مختصا بالعمليات دون العلميات كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد.

وقد افتتح سبحانه هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع ما تنازعوا فيه من دقيق الدين وجليله وفروعه وأصوله ثم لم يكتف منهم بهذا التحكيم حتى ينتفي الحرج ، وهو الضيق مما حكم به فتنشرح صدورهم لقبول حكمه انشراحا لا يبقى معه حرج ثم يسلموا تسلميا أي ينقادوا انقيادا لحكمه.

والله يشهد ورسوله وملائكته والمؤمنون أن من قال أدلة القرآن والسنة لا تفيد اليقين وأن أحاديث الأسماء والصفات أخبار آحاد لا تفيد العلم بمعزل عن هذا التحكيم ، وهو يشهد على نفسه بذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا

٧٠٤

الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء : ٥٨) الآية وأجمع المسلمون أن الرد إليه هو الرجوع إليه في حياته والرجوع إلى سنته بعد مماته ، واتفقوا أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته فإن كان متواتر اخباره وآحادها لا تفيد علما ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه.

ولما أصّل أهل الزيغ والضلال هذا الأصل ردوا ما تنازع فيه الناس من هذا الباب إلى منطق اليونان ، وخيالات الأذهان ، ووحي الشيطان ، ورأى فلان وفلان ، وهؤلاء يتناولهم قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء : ٦٠) والطاغوت اسم لكل ما تعدى حده وتجاوز طوره ، ومعلوم أن هذا الذي يتحاكم إليه أهل الزيغ حده أن يكون محكوما عليه لا حاكما.

ثم أخبر تعالى عن حال هؤلاء المتحاكمين إلى غير ما جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء : ٦١) فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدود بحكمه والتسليم لما حكم به رضا واختيارا محبة ، فهذا حقيقة الإيمان ، وذلك الإعراض حقيقة النفاق.

ثم أخبر سبحانه عن عقوبة المعرضين عن التحاكم إليه الراضين بحكم الغير من خلقه في قوله : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) (النساء : ٦٢) فأخبر أن هذا الإعراض عن التحاكم إليه سبب لأن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيهم كما قال في الآية الأخرى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور : ٦٣) وقال في المتولين عن حكمه (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) (المائدة : ٤٩).

قال أبو داود حدثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أنه

٧٠٥

حدث بحديث فقال له رجل من أهل الكوفة إن الله تعالى يقول في كتابه كذا وكذا ، فغضب سعيد وقال لا أراك تعرض في حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم بكتاب الله منك.

فإذا كان هذا إنكارهم على من عارض سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن فما ذا تراهم قائلين لمن عارضهم بآراء المتكلمين ، ومنطق المتفلسفين وأقيسة المتكلمين ، وخيالات المتصوفين ، وسياسات المعتدين؟

ولله بلال بن سعد حيث يقول : ثلاث لا يقبل معهن عمل : الشرك ، والكفر والرأي ، قلت : يا أبا عمر وما الرأي؟ قال : يترك سنة الله ورسوله ويقول بالرأي.

وقال أبو العالية في قوله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (فصلت : ٣٠ ، الأحقاف : ١٣) قال أخلصوا لله الدين والعمل والدعوة أن جردوا الدعوة إليه وإلى كتابه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط لا إلى رأي وقول فلان.

وقال سفيان في قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) (النور : ٦٣) قال يطبع على قلوبهم. وقال الإمام أحمد إنما هي الكفر ، ولقي عبد الله بن عمر جابر بن زيد في الطواف فقال له : يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية ، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت.

وقال ابن خزيمة : قلت لأحمد بن نصر وحدث بخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما تأخذ به؟ فقال : أترى على وسطي زنارا ، لا تقل لخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتأخذ به وقل أصحيح هو ذا؟ فإذا صح الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت به شئت أم أبيت.

وقال أفلح مولى أم سلمة : إنها كانت تحدث أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر وهي تمتشط «أيها الناس» فقالت لماشطتها كفي رأسي ، قالت فديتك إنما يقول أيها الناس ، فقالت ويحك أو لسنا من الناس؟ فكفت رأسها وقامت في حجرتها فسمعته يقول : «يا أيها الناس أنا على حوضي إذ مر بكم زمرا

٧٠٦

فتفرقت بكم الطرق فناديتكم ألا هلم إلى الطريق فينادي مناد إنهم قد بدلوا بعدك فأقول ألا سحقا سحقا» (١).

وهذه الطرق التي تفرقت بهم هي الطرق والمذاهب التي ذهبوا إليها وأعرضوا عن طريقه ومذهبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يجوزون على الطريق التي هو عليها يوم القيامة كما لم يسلكوا الطريق التي كان عليها هو وأصحابه ، وقال عكرمة عن ابن عباس :

إياكم والرأى فإن الله رد على الملائكة الرأي وقال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣٠) وقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (النساء : ١٠٥) ولم يقل بما رأيت.

وقال بعض العلماء : ما أخرج آدم من الجنة إلا بتقديم الرأي على النص ، وما لعن إبليس وغضب عليه إلا بتقديم الرأي على النص ، ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم آرائها على الوحي ، ولا تفرقت الأمة فرقا وكانوا شيعا إلا بتقديم آرائهم على النصوص ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برأي اجتهادا والله ما آلوا عن الحق وذلك يوم أبي جندل ، والكتاب بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أهل مكة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال بل تكتب كما نكتب باسمك اللهم ، فرضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبيت عليه حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تراني أرضى وتأبى» (٢) وقال ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات : الأولى) قال لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.

* * *

__________________

(١) رواه مسلم (٢٢٩٥) ، والإمام أحمد (٦ / ٢٩٧).

(٢) رواه البخارى (٢٧٣١ ، ٢٧٣٢).

٧٠٧

فصل

وأما (المقام الرابع) وهو إفادتها اليقين : فنقول وبالله التوفيق : الأخبار المقبولة في باب الأمور الخبرية العلمية أربعة أقسام (أحدها) متواتر لفظا ومعنى (والثاني) أخبار متواترة معنى إن لم تتواتر بلفظ واحد (الثالث) أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة (الرابع) أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط عن مثله حتى تنتهي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأما القسمان الأولان فالأخبار الواردة في عذاب القبر والشفاعة والحوض ورؤية الرب تعالى وتكليمه عباده يوم القيامة ، وأحاديث علوه فوق سماواته على عرشه ، وأحاديث إثبات العرش ، والأحاديث الواردة في إثبات المعاد والجنة والنار ونحو ذلك مما يعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بها كما يعلم بالاضطرار أنه جاء بالتوحيد وفرائض الإسلام وأركانه ، وجاء بإثبات الصفات للرب تعالى ، فإنه ما من باب من هذه الأبواب إلا وقد تواتر فيه المعنى المقصود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواترا معنويا لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه متعددة يمتنع في مثلها في العادة التواطؤ على الكذب عمدا أو سهوا ، وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها تمنع التواطؤ على الاتفاق على الكذب في هذه الأخبار ، ويمتنع في العادة وقوع الغلط فيها ، أفادت العلم واليقين.

ثم للناس في حصول العلم بها طريقان : (أحدهما) أنه ضرووي ، (والثاني) أنه نظري ، فأصحاب الضرورة يستدلون بحصول العلم لهم ضرورة على حصول التواتر الموجب له ، وأصحاب النظر يعكسون الأمر ويقولون نحن نستدل بتواتر المخبرين على إفادة العلم.

والطريق الأول أعلى التقديرين ، فكل عالم بهذه الأحاديث وطرقها ونقلها وتعددها يعلم علما يقينا لا شك فيه بل يجد نفسه مضطرة إلى ثبوتها أولا وثبوت مخبرها ثانيا ، ولا يمكنه دفع هذين العلمين عن نفسه (العلم الأول) ينشأ من جهة معرفته بطريق الأحاديث وتعددها وتباين طرقها واختلاف مخارجها ، وامتناع التواطؤ زمانا ومكانا على وضعها ، (والعلم الثاني) ينشأ من جهة إيمانه بالرسالة ، وأن الرسول صادق فيما يخبر به.

٧٠٨

وهذا عند أهل الحديث أعظم من علم الأطباء بوجود بقراط وجالينوس فإنهما من أفاضل الأطباء ، وأعظم من علم النحاة بوجود سيبويه والخليل والفراء وعلمهم بالعربية ، ولكن أهل الكلام وأتباعهم في غاية قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به ؛ وكثير منهم بل أفضلهم عند أصحابه لا يعتقد أنه روى في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا أو يظن أن المروي فيه حديث أو حديثان كما يجده لأكابر شيوخ المعتزلة كأبي الحسين البصري يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث جرير ، ولم يعلم أن فيها ما يقارب بثلاثين حديثا ، وقد ذكرناها في كتاب صفة الجنة «حادي الأرواح».

فإنكار هؤلاء لما علمه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة عند أتباعهم وما يعلم أن كثيرا من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا تفيده علما ، لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها من قبله ، فإذا اتفق له إعراض عنها أو نفرة عن روايتها ، وإحسان ظن بمن قال بخلافها أو تعارض خيال شيطاني يقوم بقلبه ، فهناك يكون الأمر كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (فصلت : ٤٤).

فلو كانت أضعاف ذلك لم تحصل لهم إيمانهم ولا علما وحصول العلم في القلب بموجب التواتر مثل الشبع والري ونحوهما ، وكل واحد من الأخبار يفيد قدرا من العلم ، فإذا تعددت الأخبار وقويت أفادت العلم ، إما للكثرة وإما للقوة وإما لمجموعهما ، كما يحصل الشبع إما بكثرة أو بقوة المأكول وإما لمجموعهما.

والعلم بمخبر الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه بل بفهم معناه مع سماع لفظه ، فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه الأخبار : العلم بطريقها ومعرفة حال رواتها وفهم معناه ، حصل له العلم الضروري الذي لا يمكنه رفعه ، ولهذا كان جميع أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث ، شاهدين بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جازمين بأن من كذب بها أو أنكر

٧٠٩

مضمونها فهو كافر ، مع علم من له اطلاع على سيرتهم وأحوالهم بأنهم من أعظم الناس صدقا وأمانة وديانة وأوفرهم عقولا وأشدهم تحفظا وتحريا للصدق ومجانبة للكذب ، وأن أحدا منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ، ولا شيخه ولا صديقه ، وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحريرا لم يبلغه أحد سواهم ، لا من الناقلين عن الأنبياء ولا من غير الأنبياء ، وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم ، وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ ، حتى انتهى الأمر إلى من أثنى عليهم أحسن الثناء ، وأخبر برضاه عنهم واختباره لهم واتخاذه إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة.

ومن تأمل ذلك أفاده علما ضروريا بما ينقلونه عن نبيهم أعظم من كل علم ينقله كل طائفة عن صاحبه ، وهذا أمر وجداني عندهم لا يمكنكم جحده بل هو بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة والحب والبغض ، حتى أنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه ويباهون من خالفهم عليه.

وقول هؤلاء القادحين في أخباره وسنته يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين ، بمنزلة قول أعدائه يجوز أن يكون الذي جاءه به شيطان كاذب.

وكل أحد يعلم أن أهل الحديث أصدق الطوائف كما قال عبد الله بن المبارك وجدت الدين لأهل الحديث ، والكلام للمعتزلة ، والكذب للرافضة ، والخيل لأهل الرأي ، وسوء الرأي التدبير لآل أبي فلان.

وإذا كان أهل الحديث عالمين بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هذه الأخبار وحدث بها في الأماكن والأوقات المتعددة ، وعلمهم بذلك ضروري ، لم يكن من لا عناية له بالسنة والحديث ، وأن هذه الأخبار آحاد لا تفيد العلم ـ مقبولا عليهم ، فإنهم يدعون العلم الضروري. وخصومهم إما أن ينكروا حصوله لأنفسهم أو لأهل الحديث ، فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم ، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث كانوا مكابرين لهم على ما يعلمونه من نفوسهم بمنزلة من يكابر غيره على ما يجده في نفسه من فرحه وألمه ، وخوفه

٧١٠

وحبه ، والمناظرة إذا انتهت إلى هذا الحد لم يبق فيها فائدة ، وينبغي العدول إلى ما الله أمر الله به رسوله من المباهلة ، قال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (آل عمران : ٦١).

* * *

فصل : الحكم في خبر الآحاد

خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه ، فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه وتارة يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنيا. وتارة يتوقف فيه فلا يترجح صدقه ولا كذبه إذ لم يقم دليل أحدهما ، وتارة يترجح صدقه ولا يجزم به ، وتارة يجزم بصدقه جزما لا يبقى معه شك ، فليس خبر واحد يفيد العلم ولا الظن ، ولا يجوز أن ينفى عن خبر الواحد مطلقا أنه يحصل العلم ، فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم وإلا اجتمع النقيضان ، بل نقول خبر الواحد يفيد العلم في مواضع :

(أحدها) خبر من قام الدليل القطعي على صدقه ، وهو خبر الواحد القهار جل وعلا وخبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما يخبر به.

(الثاني) خبر الواحد بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصدقه كخبر الخبر الذي أخبر بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع» (١) فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعجبا وتصديقا له ، وكخبر من أخبره أنه رأى السد مثل البرد المحبر فقال : «قد رأيته» ومن هذا ترتيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خبر المخبر له مقتضاه كغزو من أخبر بنقض قوم العهد وخبر من أخبر عن رجل أنه شتمه ونال من عرضه فأمر بقتله.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٧١١

فهذا تصديق للمخبر بالفعل ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع بصدق أصحابه كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبره بقصة الدجال. وروى ذلك عنه علي المنبر ، ولم يقل أخبرني جبرائيل عن الله ، بل قال : «حدثني تميم الداري» (١) ومن له أدنى معرفة بالسنة يرى هذا كثيرا فيما يجزم بصدق أصحابه ، ويرتب على أخبارهم مقتضاها من المحاربة والمسالمة والقتل والقتال.

ونحن نشهد بالله ولله شهادة على البت والقطع ، لا نمتري فيها ولا نشك على صدقهم ونجزم به جزما ضروريا لا يمكننا دفعه عن نفوسنا ، ومن هذا أنه كان يجزم بصدقهم فيما يخبرونه به من رؤيا المنام ، ويجزم لهم بتأويلها ويقول إنها رؤيا حق ، وأثنى الله تعالى عليه بذلك في قوله (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (التوبة : ٦١) وأثنى عليه ومدحه بتصديقه لمن أخبره من المؤمنين.

ومن هذا إخبار الصحابة بعضهم بعضا فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتوافر ، وتوقف من توقف منهم حتى عضده آخر منهم لا يدل على رد خبر الواحد عن كونه خبر واحد ، وإنما كان يستثبت أحيانا نادرة إذا استخبر.

ولم يكن أحد من الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عمر عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود وأبي كعب وأبو ذر ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمر وأمثالهم من الصحابة ، بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة مع تفرده بكثير من الحديث ، ولم يقل له أحد منهم يوما واحدا من الدهر : خبرك خبر واحد لا يفيد العلم ، وكان حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلّ في صدورهم من أن يقابل بذلك ، وكان المخبر لهم أجلّ في أعينهم وأصدق عندهم من أن يقول له مثل ذلك.

__________________

(١) رواه مسلم (٢٩٤٢) مطولا في قصة الدجال والجساسة.

٧١٢

وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ن في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين كما اعتقد رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب ، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة ، وضحكه وفرحة وإمساك سماواته على إصبع من أصابع يده وإثبات القدم له.

من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق ، ولم يترتب فيها حق حتى أنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام حتى يستظهروا بآخر كما استظهر عمر رضي الله عنه برواية أبي سعيد الخدرى على خبر أبي موسى ، كما استظهر أبو بكر رضي الله عنه برواية محمد بن مسلمة على رواية المغيرة بن شعبة في توريث الجدة ، ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها ، وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك ولو لا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع.

فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ، ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة ، وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء ، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم.

فمن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه ، كأبي محمد بن حزم ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي.

قال ابن خراز منداد في كتاب «أصول الفقه» وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان ، ويقع بهذا الضرب أيضا العلم الضروري نص على ذلك مالك. وقال أحمد في حديث الرؤية : نعلم أنها حق ، ونقطع على العلم

٧١٣

بها ، وكذلك روى المروذي قال : قلت لأبي عبد الله : هاهنا اثنان يقولان إن الخبر يوجب عملا ولا يوجب علما فعابه ، وقال لا أدري ما هذا. وقال القاضي : وظاهر هذا إنه يسوي بين العلم والعمل.

وقال القاضي في أول المخبر : خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده ولم تختلف الرواية فيه وتلقته الأمة بالقبول ، وأصحابنا يطلقون القول فيه وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول قال : والمذهب على ما حكيت لا غير.

فقد صرح بأن هذا هو المذهب ، ونص في رواية أحمد بن الحسين الترمذي أنه يحتم على الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنه رواية أخرى تدل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم ، فإنه قال في رواية المروذي : إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض عملت به ودنت الله به ، ولا أشهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك. وسيأتي الكلام على معنى هذه الرواية إن شاء الله تعالى.

وقال ابن أبي يونس في أول «الإرشاد» : وخبر الواحد يوجب العلم والعمل جميعا ، ونص القاضي أبو يعلى على أن هذا القول في «الكفاية».

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتبه الأصول «كالتبصرة» و «شرح اللمع» وغيرهما وهذا لفظه في «الشرح» : وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل سواء عمل به الكل أو البعض ، ولم يحك فيه نزاعا بين أصحاب الشافعي ، وحكى هذا القول القاضي عبد الوهاب من المالكية عن جماعة من الفقهاء ، وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض يوجب العلم ، ومثلوه بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصية لوارث» (١) ، قالوا مع أنه إنما روي من طريق الآحاد (قالوا) ونحوه حديث ابن مسعود في المتبايعين إذا اختلفا إن القول قول البائع أو يترادان (قالوا) ونحوه حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس (قالوا) وكذلك حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن

__________________

(١) رواه الدارقطني (٤ / ٩٧) وقال : مرسل ، وصححه الألباني في «صحيح الجامع».

٧١٤

مسلمة في إعطاء الجدة السدس ، وقد اتفق السلف والخلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها ، فدل ذلك من أمرها على صحة مخرجها وسلامتها ، وإن قد خالف فيها قوم فإنها عندنا شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع.

(قال) وإنما قلنا ما كان هذا سبيله من الأخبار فإنه يوجب العلم بصحة مخبره من قبل إنا إذا وجدنا السلف قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبيت فيه ولا معارضة بالأصول أو يخبر مثله مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار والنظر فيها وعرضها على الأصول ، دلنا ذلك من أمورهم على أنهم لم يصيروا إلي حكمة إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته ، فأوجب لنا العلم بصحته ، هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه «أصول الفقه».

ومن المعلوم لكل ذي حس سليم وعقل مستقيم استفاضة أحاديث الرؤية والنداء والنزول والتكليم وغيرها من الصفات ، وتلقي الأمة لها بالقبول أعظم بكثير من استفاضة حديث اختلاف المتبايعين ، وحديث لا وصية لوارث ، وحديث فرض الجدة ، بل لا نسبة بين استفاضة أحاديث الصفات واستفاضة هذه الأحاديث فهل يسوغ لعاقل أن يقول إن هذه توجب العلم وتلك لا توجبه ، إلا أن يكون مباهتا.

وقد صرح الشافعي في كتبه بأن خبر الواحد يفيد العلم ، نص على ذلك صريحا في كتابه «اختلاف مالك» ، ونصره في «الرسالة» المصرية على أنه لا يوجب العلم الذي يوجبه نص الكتاب والخبر المتواتر ، ونحن نذكر لفظه في الكتابين.

قال في «الرسالة» : فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملا للتأويل ، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد ، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصا منه كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب ، وقلنا ليس لك إن كنت عالما أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة العدول وإن أمكن

٧١٥

فيهم الغلط ، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم ، والله ولي ما غاب عنك من ذلك. ا ه.

فهذا نصه في خبر يحتمل التأويل ليس معه غير كونه خبر واحد ، وهذا لا تنازع فيه فإنه يحتمل سندا ومتنا ، وكلامنا في أخبار تلقيت بالقبول واشتهرت في الأمة وصرح بها الواحد بحضرة الجمع ، ولم ينكره منهم منكر ، بل قبله السامع وأثبت به صفة الرب تعالى ، وأنكر على من نفاها ، كما أنكر جميع أئمة الإسلام على من نفى صفات الرب الخبرية ونسبوه إلى البدعة.

وأما ما ذكره في كتابه الأخير فقال : فقلت له ـ يعني من يناظره ـ أرأيت إن قال لك قائل : اتهم جميع ما رويت عمن رويته عنه ، فإني أخاف غلط كل محدث عنهم عمن حدث عنه إذا روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلافه ، فلا يجوز أن يتهم حديث أهل الثقة ، قلت فهل رواه أحد منهم إلا واحد عن واحد؟ قال : لا ، قلت : وما رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحد عن واحد ، قال نعم ، قلت : فإنما علمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله بصدق المحدث عندنا وعلمنا أن من سمينا قوله بحديث واحد ، قال نعم ، قلت وعلمنا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله علمنا بأن من سميناه قاله ، قال نعم ، قلت فإذا استوى العلمان من خبر الصادق فأولى بنا أن نصير إليه الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نأخذ به أو الخبر عمن دونه ، قال بل الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن ثبت. قلت ثبوتهما واحد ، قال فالخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بنا أن نصير إليه ، وإن أدخلتم على المخبرين عنه إنه يمكن فيهم الغلط دخل عليكم في كل حديث روى مخالف الحديث الذي جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن قلت نثبت بخبر الصادقين ، فما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى عندنا أن يؤخذ به.

فقد نص كما ترى بأنه إذا رواه واحد عن واحد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله يصدق الراوي عندنا ولا يناقض ، هذا نصه في «الرسالة» ، فإنه إنما نفى هناك أن يكون العلم المستفاد منه مساويا للعلم المستفاد من نص الكتاب وخبر التواتر ، وهذا حق فإن العلم يتفاوت في القوة والضعف ، وقد قال القاضي في رواية حنبل عن أحمد في أحاديث الرؤية : نؤمن بها ونعلم أنها حق ، قال فقطع

٧١٦

على العلم بها ، وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من أصحابنا ، وقالوا خبر الواحد إن كان شرعيا أوجب العلم ، قال وهذا محمول عندي على وجه صحيح من كلام أحمد ، وأنه يوجب العلم من طريق الاستدلال لا من جهة الضرورة.

والاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه :

(أحدها) أن تتلقاه الأمة بالقبول ، فيدل ذلك على أنه حق ، لأن الأمة لا تجتمع على خطأ ، وإن قبول الأمة يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته ، لأن العادة أن خبر الواحد الذي لم تقم به الحجة لا تجتمع الأمة على قبوله ، وإنما يقبله قوم ويرده قوم ، (والثاني) خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو واحد فيقطع بصدقه ، لأن الدليل قد دل على عصمته ، (الثالث) أن يخبر الواحد ويدعي أنه سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ينكره ، ويدل على أنه حق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقر على الكذب ، (الرابع) أن يخبر الواحد ويدعي على عدد كثير أنهم سمعوه منه ، فلا ينكره منهم أحد ، فيدل على أنه صدق ، لأنه لو كان كذبا لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه ، والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب ، لأنه واقع عن نظر واستدلال.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قلت حصره لأخبار الآحاد الموجبة للعلم ليس بجامع لأن مما يوجب العلم ما تلقاه الرسول أيضا بالقبول ، كإخباره عن تميم الداري وبما أخبر به مصدقا له فيه (ومنها) إخبار شخصين عن قصة يعلم أنهما لم يتواطآ عليها ويبعد في العادة الاتفاق على الكذب فيها والخطأ وغير ذلك.

قلت : أخبار الآحاد الموجبة للعلم لا تنحصر ، بل يجد المخبر علما لا يشك فيه بكثير منها ، كما إذا أخبره من لم يجرب عليه كذبا قط أنه شاهده ، فإذا يجزم به جزما ضروريا أو يقارب الضرورة ، وكما إذا أخبر عليه في الإخبار به ضرر ، فأخبر به تدينا وخشية لله تعالى ، كما إذا أتى بنفسه اختيارا وأخبر عن نفسه بحد ارتكبه يطلب تطهيره منه بالحد ، أو أقر على نفسه بحق ادعى به عليه حيث لا بينة ولا يمين يطلب منه ، ولا مخافة تلحقه في الإنكار ، أو أخبر المفتي بأمر فعله ليحصل له المخرج منه ، أو أخبر الطبيب بألم يجده ، يطلب زواله إلى أضعاف

٧١٧

أضعاف ذلك من الأخبار التي يقطع السامع بصدق المخبر بها ، فكيف ينشرح صدرا وينطلق لسانا بأن خبر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم إذا قالوا سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول كذا وكذا أنها لا تفيد علما البتة ، سبحانك هذا بهتان عظيم.

ونحن نشهد بالله أن هؤلاء كانوا إذا أخبروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخبر جزم بصدقهم ونشهد بالله أنهم كانوا إذا أخبروا سواهم من الصحابة والتابعين حزم بصدقهم ، بل نشهد بالله أن سالما ونافعا وسعيد بن المسيب وأمثالهم بهذه المنزلة ، بل مالك والأوزاعي والليث ونحوهم كذلك ، فلا يقع عندنا ولا عند من عرف القوم الاحتمال فيما يقول فيه مالك سمعت نافعا يقول سمعت ابن عمر يقول : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ونحن قاطعون بخطإ منازعينا في ذلك.

وقد ذهبت جماعة من أهل الأصول على أن الإجماع إذا انعقد على العمل بخبر الواحد صار كالمتواتر ، حكى ذلك ابن برهان واختار أنه لا يصير كالمتواتر ، وذهب جماعة أيضا إلى أن الواحد إذا ادعى على جماعة بحضرتهم ، صدقه فسكتوا صار خبره كالمتواتر ، وقد ذهب جماعة من أصحاب أحمد وغيرهم إلى تكفير من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل ، والتكفير مذهب إسحاق بن راهويه ، وإنما أتى منكر إفادة خبر الواحد للعلم من جهة القياس الفاسد ، فإنه قاس المخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرع عام للأمة أو بصفة من صفات الرب تعالى على خبر الشاهد على قضية معينة ، ويا بعد ما بينهما فإن المخبر عن رسول الله ، لو قدر أنه كذب عمدا أو خطأ ولم يظهر ما يدل على كذبه لزم على ذلك إضلال الخلق ، إذ الكلام في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وعملت بموجبه وأثبتت به صفات الرب وأفعاله ، فإن ما يجب قبوله شرعا من الأخبار لا يكون باطلا في نفس الأمر ، ولا سيما إذا قبلته الأمة كلهم ، وهكذا يجب أن يقال في كل دليل يجب اتباعه شرعا لا يكون إلا حقا ، فيكون مدلوله ثابتا في نفس الأمر.

هذا فيما يخبر به عن شرع الرب تعالى وأسمائه وصفاته بخلاف الشهادة المعينة على مشهود عليه معين فهذه قد لا يكون مقتضاها ثابتا في نفس الأمر.

٧١٨

وحرف المسألة أنه لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبد الله به الأمة وتعرف به إليهم على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إثبات أسمائه وصفاته كذبا وباطلا في نفس الأمر فإنه من حجج الله على عبادة ، وحجج الله لا تكون كذبا وباطلا بل لا تكون إلا حقا في نفس الأمر ، ولا يجوز أن تتكافأ أدلة الحق والباطل ، ولا يجوز أن يكون الكذب على الله وشرعه ودينه مشتبها للوحي الذي أنزله على رسوله وتعبد به خلقه ، وبحيث لا يتميز هذا من هذا فإن الفرق بين الحق والباطل ، والصدق والكذب ووحي الشيطان ووحي الملك عن الله أظهر من أن يشتبه أحدهما الآخر ، ألا وقد جعل الله على الحق نورا كنور الشمس يظهر للبصائر المستنيرة ، وألبس الباطل ظلمة الليل ، وليس بمستنكر أن يشتبه الليل بالنهار على أعمى البصر ، كما يشتبه الحق والباطل على أعمى البصيرة.

قال معاذ بن جبل في قضيته : تلق الحق ممن قاله ، فإن على الحق نورا ، ولكن لما أظلمت القلوب وعميت البصائر بالإعراض عما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وازدادت الظلمة باكتفائها بآراء الرجال ، التبس عليها الحق بالباطل ، فجوزت علي أحاديثه الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون كذبا ، وجوزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلقة التي توافق أهواءها أن تكون صدقا فاحتجب بها.

وسر المسألة أن خبر العدول الثقات الذي أوجب الله تعالى على المسلمين العمل به هل يجوز أن يكون في نفس الأمر كذبا وخطأ ولا ينصب الله دليلا على ذلك ، فمن قال إنه يوجب العلم يقول لا يجوز ذلك بل متى وجدت الشروط الموجبة للعمل به وجب ثبوت مخبره في نفس الأمر ، وعلى هذا تنازعوا في كفر تاركه من الحجج العلمية كما تكلموا في كفر جاحد الإجماع أن من رد الخبر الصحيح اعتقادا لغلط الناقل أو كذبه أو لاعتقاد الراد أن المعصوم لا يقول هذا ، أو لاعتقاد نسخه ونحوه ، فرده اجتهادا وحرصا على نصر الحق ، فإنه لا يكفر بذلك ولا يفسق فقد رد غير واحد من الصحابة بعض أخبار الآحاد الصحيحة ، كما رد

٧١٩

عمر حديث فاطمة بنت قيس في إسقاط نفقة المطلقة ثلاثا ، وكما ردت عائشة رضي الله عنها حديث ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وغير ذلك.

* * *

(فصل)

وأما رواية الأثرم عن أحمد أنه لا يشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخبر ويعمل به ، فهذه رواية انفرد بها الأثرم ، وليست في مسائله ، ولا في كتاب «السنة» ، وإنما حكاها القاضي أنه وجدها في كتاب معاني الحديث ، والأثرم لم يذكر أنه سمع ذلك منه بل لعله بلغه عنه من واهم وهم عليه في لفظه ، فلم يرو عنه أحد من أصحابه ذلك ، بل المروي الصحيح عنه أنه جزم على الشهادة للعشرة بالجنة ، والخبر في ذلك خبر واحد ، ولعل توقفه عن الشهادة على سبيل الورع ، فكان يجزم بتحريم أشياء ، ويتوقف عن إطلاق لفظ تحريم عليها ، ويجزم بتحريم أشياء ويتوقف عن إطلاق لفظ الوجوب عليها تورعا ؛ بل يقول : أكره كذا واستحب كذا ، وهذا كثير في أجوبته.

وقد قال في موضع : ولا نشهد على أحد من هل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث فنصدقه ونعلم أنه كما جاء ولا ننص الشهادة ولا نشهد على أحد أنه في الجنة لصالح عمله ولخير أتاه ، إلا أن يكون في ذلك حديث فنقبله كما جاء على ما روي ولا ننص. قال القاضي : ولا ننص الشهادة ، معناه عندي ولا نقطع على ذلك.

قال شيخ الإسلام : لفظ ننص هو المشهود عليه معناه لا نشهد على المعين ، وإلا فقد قال نعلم إنه كما جاء ، وهذا يقتضي أنه يفيد العلم.

وأيضا فإن من أصله أنه يشهد للعشرة بالجنة للخبر الوارد ، وهو خبر واحد ، وقال أشهد وأعلم واحد ، وهذا دليل على أنه يشهد بموجب خبر الواحد ، وقد خالفه ابن المديني وغيره.

قال الذين يقولون : أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفيد العلم ، قال الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (النجم : ٣ ، ٤).

٧٢٠