مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

صوتك وأحس وجسك ، ولا أرى مكانك ، فأين أنت؟ قال أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك ، فلما سمع موسى هذا علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تبارك وتعالى فأيقن به ، فقال كذلك أنت إلهي أسمع أم بكلام رسولك؟ فقال :

بل أنا الذي أكلمك فادن مني. الحديث قد رواه عبد الرحمن بن حميد في «تفسيره» ويعقوب بن سفيان الفسوي.

وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أحب الله عبدا نادى جبرائيل إن الله قد أحب فلانا فأحبه» (١) الحديث.

والذي تعقله الأمم من النداء إنما هو الصوت المسموع كما قال الله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (ق : ٤١) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) (الحجرات : ٤) وهذا النداء هو رفع أصواتهم الذي نهى الله عنه المؤمنين وأثنى عليهم بغضها بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) الآية (الحجرات : ٣).

وكل ما في القرآن العظيم من ذكر كلامه وتكليمه وأمره ونهيه دال على أنه تكلم حقيقة لا مجازا ، وكذلك نصوص الوحي الخاص كقوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) (النساء : ١٦٣).

قال الجارودي : سمعت الشافعي يقول : أنا مخالف ابن علية في كل شيء حتى في قول لا إله إلا الله. أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء الحجاب ، وهو يقول لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى.

وقد نوع الله تعالى هذه الصفة في إطلاقها عليه تنويعا يستحيل معه نفي حقائقها ، بل ليس في الصفات الإلهية أظهر من صفة الكلام والعلو والفعل والقدرة ، بل حقيقة الإرسال تبليغ كلام الرب تبارك وتعالى ، وإذا انتفت عنه حقيقة الكلام انتفت حقيقة الرسالة والنبوة ، والرب تبارك وتعالى يخلق بقوله وكلامه كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس : ٨٢) فإذا

__________________

(١) رواه البخاري (٣٢٠٩) ، ومسلم (٢٦٣٧).

٦٤١

انتفت حقيقة الكلام عنه انتفى الخلق ، وقد عاب الله آلهة المشركين بأنها لا تتكلم ولا تكلم عابديها ولا ترجع إليهم قولا ، والجهمية وصفوا الرب تبارك وتعالى بصفة هذه الآلهة.

وقد ضرب الله تعالى لكلامه واستمراره ودوامه المثل بالبحر يمده من بعده سبعة أبحر ، وأشجار الأرض كلها أقلام ، فيفنى المداد والأقلام ولا تنفد كلماته. أفهذا صفة من لا يتكلم ولا يقوم به كلام؟ فإذا كان كلامه وتكليمه ، وخطابه ونداؤه ، وقوله وأمره ، ونهيه ووصيته ، وعهده وإذنه ، وحكمه وإنباؤه ، وأخباره وشهادته. وكل ذلك مجاز لا حقيقة له بطلت الحقائق كلها ، فإن الحقائق إنما حقت بكلمات تكوينه (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس : ٨٢) فما حقت الحقائق إلا بقوله وفعله.

* * *

فصل

اختلاف الناس في : صفة الكلام

اختلف أهل الأرض في كلام الله تعالى ، فذهب الاتحادية القائلون بوحدة الوجود أن كل كلام في الوجود كلام لله ، نظمه ونثره ، وحقه وباطله ، سحره وكفره ، والسب والشتم ، والهجر والفحش ، وأضداده كله غير كلام الله تعالى القائم به كما قال عارفهم :

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

وهذا المذهب مبني على أصلهم الذي أصلوه ، وهو أن الله سبحانه هو عين هذا الوجود ، فصفاته هي صفات الله ، وكلامه هو كلام الله ، وأصل هذا المذهب إنكار مسألة المباينة والعلو ، فإنهم لما أصلوا أن الله تعالى غير مباين لهذا العالم المحسوس صاروا بين أمرين لا ثالث لهما إلا المكابرة.

(أحدهما) إنه معدوم ، لا وجود له ، إذ لو كان موجودا لكان إما داخل العالم وإما خارجا عنه ، وهذا معلوم بالضرورة ، فإنه إذا كان قائما بنفسه ، فإما أن يكون مباينا للعالم أو محايثا له ، إما داخلا فيه وإما خارجا عنه.

(الأمر الثاني) أن يكون هو عين هذا العالم ، فإنه يصح أن يقال فيه حينئذ

٦٤٢

أنه لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا مباينا له ولا حالا فيه ، إذ هو عينه ، والشيء لا ينافي نفسه ولا يحايثها ، فرأوا أن هذا خير من إنكار وجوده وبالحكم عليه بأنه معدوم ، ورأوا أن الفرار من هذا إلى إثبات موجود قائم بنفسه ، لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مباين له ولا محايث ، ولا فوقه ولا عن يمينه ، ولا عن يساره ، ولا خلفه ولا أمامه ، فرارا إلى ما لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة ولا تأتي به شريعة ، ولا يمكن أن يقر برب هذا شأنه إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما.

أحدهما : أن يكون ساريا فيه حالا فيه ، فهو في كل مكان بذاته ، وهو قول جميع الجهمية الأقدمين.

الوجه الثاني : أن يكون وجوده في الذهن لا في الخارج ، فيكون وجوده سبحانه وجودا عقليا ، إذ لو كان موجودا في الأعيان لكان إما عين هذا العالم أو غيره ، ولو كان غيره لكان إما بائنا عنه أو حالا فيه ، كلاهما باطل ، فثبت أنه عين هذا العالم ، فله حينئذ كل اسم حسن قبيح ، وكل صفة كمال ونقص ، وكل كلام حق وباطل ، نعوذ بالله من ذلك.

* * *

(مذهب الفلاسفة في ذلك)

المذهب الثاني : مذهب الفلاسفة المتأخرين أتباع أرسطو ، وهم الذين يحكى ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم : إن كلام الله فيض فاض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها ، فأوجب لها ذلك الفيض تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه ، لهذه النفوس عندهم ثلاث قوى : قوة التصور وقوة التخييل وقوة التعبير فتدرك بقوة تصورها من المعانى ما يعجز عنه غيرها ، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس ، فتتصور المعقول صورا نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الآذان ، وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج ، وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية ، قالوا وربما قويت هذه القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها ، وتشكيل تلك الصور

٦٤٣

العقلية لعين الرائي فيرى الملائكة ويسمع خطابهم ، وكل ذلك من الوهم والخيال لا في الخارج.

فهذا أصل هؤلاء في إثبات كلام الرب وملائكته وأنبيائه ورسله ، والأصل الذي قادهم إلى هذا عدم الإقرار بالرب الذي عرّفت به الرسل ودعت إليه ، وهو القائم بنفسه المباين العالي فوق سماواته فوق عرشه الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته ، العالم بجميع المعلومات ، القادر على كل شيء ، فهم أنكروا ذلك كله.

* * *

المذهب الثالث : مذهب الجهمية لصفات الرب تعالى أن كلامه مخلوق ومن بعض مخلوقاته ، فلم يقم بذاته سبحانه ، فاتفقوا على هذا الأصل واختلفوا في فروعه. قال الأشعري في كتاب «المقالات» : اختلفت المعتزلة في كلام الله ، هل هو جسم أو ليس بجسم وفي خلقه على ستة أقاويل (فالفرقة الأولى) منهم يزعمون أن كلام الله جسم ، وأنه مخلوق ، وأنه لا شيء إلا جسم.

والفرقة الثانية : زعموا أن كلام الخلق عرض وهو حركة ، لأنه لا عرض عندهم إلا الحركة وأن كلام الخالق جسم ، وأن ذلك الجسم صوت متقطع مؤلف مسموع ، وهو فعل الله وخلقه وهذا قول أبي الهذيل وأصحابه ، وأحال النظام (١) أن يكون كلام الله في أماكن كثيرة أو مكانين في وقت واحد ، وزعم أنه في المكان الذي خلق فيه.

والفرقة الثالثة : من المعتزلة تزعم أن القرآن مخلوق لله ، وأنه عرض ، وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد إذا تلاه قال فهو يوجد مع تلاوته ، وإذا كتبه وجد مع كتابته ، وإذا حفظه وجد مع حفظه ، وهو يوجد في الأماكن بالتلاوة والحفظ والكتابة ولا يجوز عليه الانتقال والزوال.

__________________

(١) هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار المعروف بالنظام ، وهو ابن أخت أبي الهذيل العلاف ومنه أخذ الاعتزال ، وهو شيخ الجاحظ ، وللمزيد راجع «تلبيس إبليس» بتحقيقنا (ص ٤٣) طبعة المكتب الثقافى بالقاهرة ، و «اجتماع الجيوش» بتحقيقنا طبعة نزار الباز بمكة المكرمة.

٦٤٤

والفرقة الرابعة : يزعمون أن كلام الله عزوجل عرض ، وأنه مخلوق ، وأحالوا أن يوجد في مكانين في وقت واحد ، وزعموا أن المكان الذي خلقه الله تعالى فيه محال انتقاله ، وزاوله منه ووجوده في غيره. وهذا قول جعفر بن حرب وأكثر البغداديين.

والفرقة الخامسة : أصحاب معمر يزعمون أن القرآن عرض ، والأعراض عندهم قسمان : قسم منهما يفعله الأحياء وقسم منهما يفعله الأموات ، ومحال أن يكون ما يفعله الأموات فعلا للأحياء. والقرآن مفعول وهو عرض ، ومحال أن يكون الله فعله في الحقيقة ، لأنهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلا لله. وزعموا أن القرآن فعل للمحل الذي يسمع منه ، إذ سمع من الشجرة فهو فعل لها حيث سمع ، فهو فعل المحل الذي حل فيه.

والفرقة السادسة : يزعمون أن كلام الله عرض مخلوق ، وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد. وهذا قول الإسكافي.

واختلفت المعتزلة في كلام الله هل يبقى؟ فقالت فرقة منهم يبقى بعد خلقه ، وقالت فرقة أخرى لا يبقى وإنما يوجد في الوقت الذي خلقه ثم يعدم بعد ذلك ، وهذا المذهب هو من فروع الأصل الباطل لجميع كتب الله ورسله ، ولصريح المعقول والفطر ، من جحد صفات الرب وتعطيل حقائق أسمائه ونفي قيام الأفعال به ، فلما أصلوا أنه لا يقوم به وصف ولا فعل كان من فروع هذا الأصل أنه لم يتكلم بالقرآن ولا بغيره ، وأن القرآن مخلوق ، وطرد ذلك إنكار ربوبيته وإلهيته ، فإن ربوبيته سبحانه إنما تتحقق بكونه فعالا مدبرا متصرفا في خلقه ، يعلم ويقدر ويريد ويسمع ويبصر ؛ فإذا انتفت أفعاله وصفاته انتفت ربوبيته ، وإذا انتفت عنه صفة الكلام انتفى الأمر والنهي ولوازمها ، وذلك ينفي حقيقة الإلهية ، فطرد ما أصلوه أن الله سبحانه ليس برب العالم ولا إله ، فضلا عن أن يكون لا رب غيره ولا إله وسواه.

المذهب الرابع : مذهب الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب ، أن القرآن معنى قائم بالنفس لا يتعلق بالقدرة والمشيئة ، وأنه لازم لذات الرب كلزوم الحياة والعلم وأنه لا يسمع على الحقيقة ، والحروف والأصوات حكاية له

٦٤٥

دالة عليه وهى مخلوقة ، وهو أربع معان في نفسه والأمر والنهي ، والخبر والاستفهام ، فهي أنواع لذلك المعنى القديم الذي لا يسمع ، وذلك المعنى هو المتلو المقروء ، وهو غير مخلوق : والأصوات والحروف هي تلاوة العباد ، وهى مخلوقة ، وهذا المذهب أول من يعرف أنه قال به ابن كلاب ، وبناه على أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ، والحروف والأصوات حادثة فلا يمكن أن تقوم بذات الرب تعالى ، لأنه ليس محلا للحوادث ، فهي مخلوقة منفصلة عن الرب ، والقرآن اسم ذلك المعنى وهو غير مخلوق.

المذهب الخامس : مذهب الأشعري ومن وافقه أنه معنى واحد قائم بذات الرب ، وهو صفة قديمة أزلية ليس بحرف ولا صوت ، ولا ينقسم ولا له أبعاض ولا له أجزاء ولا عين الأمر وعين النهى وعين الخبر وعين الاستخبار ، الكل من واحد وهو عين التوراة والإنجيل والقرآن والزبور ، وكونه أمرا ونهيا ، وخبرا واستخبارا صفات لذلك المعنى الواحد ، وأنواع له ، فإنه لا ينقسم بنوع ولا جزء ، وكونه قرآنا وتوراة وإنجيلا تقسيما للعبارات عنه لا لذاته ، بل إذا عبر عن ذلك المعنى بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان اسمه إنجيلا ، والمعنى واحد ، وهذه الألفاظ عبارة عنه ولا يسميها حكاية ، وهي خلق من المخلوقات ، وعنه لم يتكلم الله بهذا الكلام العربي ، ولا سمع من الله وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ، ويجوز أن يرى ويشم ، ويذاق ويلمس ، ويدرك بالحواس الخمس ، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود ، فكل وجود يصح تعلق الإدراكات كلها به كما قرره في مسئلة رؤية من ليس في جهة من الرائي ، وأنه يرى حقيقة وليس مقابلا للرائي.

هذا قولهم في الرؤية وذلك قولهم في الكلام.

والبلية العظمى نسبة ذلك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه جاء بهذا ودعا إليه الأمة. وأنهم أهل الحق ، ومن عداهم أهل الباطل ، وجمهور العقلاء يقولون : إن تصور هذا المذهب كاف في الجزم في بطلانه. وهو لا يتصور إلا كما تتصور المستحيلات الممتنعات. وهذا المذهب مبني على مسئلة إنكار قيام الأفعال والأمور

٦٤٦

الاختيارية بالرب تعالى ، ويسمونها مسئلة حلول الحوادث ، وحقيقتها إنكار أفعاله وربوبيته وإرادته ومشيئته.

المذهب السادس : مذهب الكرامية (١) وهو أنه متعلق بالمشيئة والقدرة قائم بذات الرب تعالى وهو حروف وأصوات مسموعة ، وهو حادث بعد إن لم يكن ، فهو عندهم متكلم بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن متكلما ، كما يقوله سائر فرق المتكلمين أنه فعل بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن فاعلا ، كما ألزموا به الكرامية في مسئلة الكلام ، فهو لازم لهم في مسئلة الفعل ، والكرامية أقرب إلى الصواب منهم ، فإنهم أثبتوا كلاما وفعلا حقيقة قائمين بذات المتكلم الفاعل وجعلوا لهما أولا ، فرارا من القول بحوادث لا أول لها ، ومنازعوه أبطلوا حقيقة الكلام والفعل ، وقالوا لم يقم به فعل ولا كلام البتة. وأما من أثبت منهم معنى قائما بنفسه سبحانه ، فلو كان ما أثبته مفعولا لكان من جنس الإرادة لم يكن شيئا خارجا عنهما ، فهم لم يثبتوا لله كلاما ولا فعلا ، وأما الكرامية فإنهم جعلوه متكلما بعد أن لم يكن متكلما ، كما جعله خصومهم فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا.

المذهب السابع : مذهب السالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث أنه صفة قائمة بذات الرب تعالى لم يزل ولا يزال ، لا يتعلق بقدرته ومشيئته ، ومع ذلك هو حروف وأصوات ، وسور وآيات ، سمعه جبرائيل منه ، وسمعه موسى بلا واسطة ، ويسمعه سبحانه من يشاء ، وإسماعه نوعان : بواسطة وبغير واسطة ومع ذلك فحروفه وكلماته لا يسبق بعضها بعضا. بل هي مقترنة الباء مع السين مع الميم في آن واحد ، لم تكن معدومة في وقت من الأوقات ، ولا تعدم بل لم تزل قائمة بذاته سبحانه قيام صفة الحياة والسمع والبصر وجمهور العقلاء قالوا : تصور هذا المذهب كاف في الجزم ببطلانه.

__________________

(١) وهم أتباع محمد بن كرّام السجستانى ، واختلفوا في ضبط إكرام ، والأكثرون على أنه بفتح الكاف وتشديد الراء ، وانظر في شأن هذه الفرقة : «الملل والنحل» (١ / ١٠٨) للشهرستانى ، و «الفرق بين الفرق» الفصل السابع من الباب الثالث.

٦٤٧

والبراهين العقلية والأدلة القطعية شاهدة ببطلان هذه المذاهب كلها ، وأنها مخالفة لصريح العقل والنقل ، والعجب أنها هي الدائرة بين فضلاء العالم لا يكادون يعرفون غيرها.

* * *

فصل

(مذهب أهل السنة في إثبات صفة الكلام)

قول أتباع الرسل الذين تلقوا هذا الباب عنهم أثبتوا لله صفة الكلام كما أثبتوا له سائر الصفات ومحال قيام هذه الصفة بنفسها كما يقوله بعض المكابرين أنه خلق الكلام لا في محل ، ومحال قيامها بغير الموصوف بها كما يقوله المكابر الآخر أنه خلق في محل ، فكان هو المتكلم به دون المحل. قالوا والكلام الحقيقي هو الذي يوجد بقدرة المتكلم وإرادته قائما به ، لا يعقل غير هذا ، وأما ما كان موجودا بدون قدرته ومشيئته وإن سمع منه فإنه ليس بكلام له ، وإنما هو مخلوق خلقه الله فيه ، فلو كان ما قام بالرب تعالى من الكلام غير متعلق بمشيئته بل يتكلم بغير اختياره لم يكن هذا هو الكلام المعهود ، بل هذا شيء آخر غير ما يعرفه العقل ، ويشهد به الشرع. قالوا : ولو لم يكن هناك ألفاظ مسموعة حقيقة السمع لم يكن ثم صفة كلام البتة ، ولو كان عاجزا عن كلام في الأزل لم يصر قادرا عليه فيما لم يزل ، فإنه إذا كانت حاله قبل وبعد سواء وهو لم يستفد صفة الكلام من غيره ، فمن المستحيل أن تجدد له هذه الصفة بعد أن كان فاقدا لها بالكلية.

وكذلك إثبات قدم عين كل فرد من أنواع الكلام وبقائه أزلا وأبدا واقتران حروفه بعضها ببعض بحيث لا يسبق شيء منها لغيره ، لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة وقد دلت النصوص النبوية أنه متكلم إذا شاء بما شاء ، وأن كلامه يسمع ، وأن القرآن العزيز الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات عين كلامه حقا ، لا تأليف ملك ولا بشر ، وأنه سبحانه الذي قاله بنفسه : (المص ،) و (حم عسق) ، و (كهيعص) (أول الأعراف ، وأول الشورى ، وأول مريم) وأن القرآن جميعه ،

٦٤٨

حروفه ومعانيه نفس كلامه الذي تكلم به ، وليس بمخلوق ولا بعضه قديما ، وهو المعنى وبعضه مخلوق ، وهو الكلمات والحروف ، ولا بعضه كلامه وبعضه كلام غيره ، ولا ألفاظ القرآن وحروفه ترجمة ترجم بها جبرائيل أو محمد عليهما‌السلام عما قام بالرب من المعنى من غير أن يتكلم الله بها ، بل القرآن جميعه كلام الله ، حروفه ومعانيه ، تكلم الله به حقيقة ، والقرآن اسم لهذا النظم العربي الذي بلغه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبرائيل عن رب العالمين.

فللرسولين منه مجرد التبليغ والأداء ، لا الوضع والإنشاء ، كما يقول أهل الزيغ والاعتداء ، فكتاب الله عندهم غير كلامه ، كتابه مخلوق وكلامه غير مخلوق. والقرآن إن أريد به الكتاب كان مخلوقا ، وإن أريد به الكلام كان غير مخلوق. وعندهم أن الذي قال السلف هو غير مخلوق هو عين القائم بالنفس وأما ما جاء به الرسول وتلاه على الأمة فمخلوق ، وهو عبارة عن ذلك المعنى ، وعندهم أن الله تعالى لم يكلم موسى ، وإنما اضطره إلى معرفة القائم بالنفس من غير أن يسمع منه كلمة واحدة ، وما يقرؤه القارءون ويتلوه التالون فهو عبارة عن ذلك المعنى ، وفرعوا على هذا الأصل فروعا :

(منها) أن كلام الله لا يتكلم به غيره ، فإنه عين القائم بنفسه ، ومحال قيامه بغيره فلم يتل أحد قط كلام الله ولا قرأه.

(ومنها) أن هذا الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس كلام الله إلا على سبيل المجاز.

(ومنها) أنه لا يقال إن الله تكلم ولا يتكلم ، ولا قال ولا يقول ، ولا خاطب ولا يخاطب ، فإن هذه كلها أفعال إرادية تكون بالمشيئة ، وذلك المعنى صفة أزلية لا يتعلق بالمشيئة.

(ومنها) أنهم قالوا لا يجوز أن ينزل القرآن إلى الأرض ، فألفاظ النزول والتنزيل لا حقيقة لشيء منها عندهم.

(ومنها) أن القرآن القديم لا نصف له ولا ربع ولا خمس ولا عشر ولا جزء له البتة.

٦٤٩

(ومنها) أن معني الأمر هو معنى النهى ، ومعنى الخبر والاستخبار ، وكل ذلك معني واحد بالعين.

(ومنها) أن نفس التوراة هي نفس القرآن ونفس الإنجيل والزبور ، والاختلاف في التأويلات فقط.

(ومنها) أن هذا القرآن العربي تأليف جبرائيل أو محمد أو مخلوق خلقه الله تعالى في اللوح المحفوظ ، فنزل به جبرائيل من اللوح لا من الله على الحقيقة كما هو معروف من أقوالهم.

(ومنها) أن ذلك العين القديم يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمس فيسمع ويرى ويشم ويذاق ويلمس إلى غير ذلك من الفروع الباطلة سمعا وعقلا وفطرة.

وقد دل القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته ، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته ، وهي صفة ذات وفعل قال الله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل : ٤٠) وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس : ٢٨).

(فإذا) تخلص الفعل للاستقبال (وأن) كذلك (ونقول) فعل دال على الحال والاستقبال (وكن) حرفان يسبق أحدهما الآخر ، فالذي اقتضيته هذه الآية هو الذي في صريح العقول والفطر.

وكذلك قوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) الآية (الإسراء : ١٦) ، سواء كان الأمر هاهنا أمر تكوين أو أمر تشريع فهو موجود بعد أن لم يكن. وكذلك قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (الأعراف : ١) وإنما قال لهم اسجدوا بعد خلق آدم وتصويره.

وكذلك قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) (الأعراف : ١٤٣) الآيات كلها ، فكم من برهان يدل على أن التكلم هو الخطاب وقع في ذلك الوقت.

وكذلك قوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) (القصص : ٣٠)

٦٥٠

والذي ناداه هو الذي قال له : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) (طه : ١٤) وكذلك قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ) (القصص : ٦٢ ، ٦٥ ، ٧٤) وقوله : (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (سبأ : ٤٠) وقوله : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) (ق : ٣٠) الآية ، ومحال أن يقول سبحانه لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد قبل خلقها ووجودها.

وتأمل نصوص القرآن من أوله إلى آخره ونصوص السنة ، ولا سيما أحاديث الشفاعة وحديث المعراج وغيرها ، كقوله أتدرون ما ذا قال ربكم الليلة (١) وقوله : «إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة» (٢) وقوله : «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب» (٣).

وقد أخبر الصادق المصدوق أنه يكلم ملائكته في الدنيا فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ، ويكلمهم يوم القيامة ، ويكلم أنبياؤه ورسله وعباده المؤمنين يومئذ ويكلم أهل الجنة في الجنة ويسلم عليهم في منازلهم ، وأنه كل ليلة يقول : من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ، من يقرض غير عديم ولا ظلوم ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله أحيا أباك وكلمه كفاحا» (٤) ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلمه وقال له : تمن علي.

إلى أضعاف أضعاف ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي إن دفعت دفعت

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو في «صحيح البخاري».

(٢) [حسن الإسناد وهو صحيح لغيره] رواه البخاري معلقا (١٣ / ٥٠٥ : فتح) ، وأخرجه أبو داود (٩٢٤) والنسائي (٣ / ١٩) ، وأحمد (١ / ٣٧٧) وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» وقال : حسن صحيح ا ه.

(٣) رواه البخاري (٧٤٤٣).

(٤) [حسن] رواه الترمذي (٣٠١٠) وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه ا ه ورواه ابن ماجه في (١٩٠) وحسنه الألباني في «صحيح ابن ماجه» و «ظلال الجنة» (٦٠٢).

٦٥١

الرسالة بأجمعها ، وإن كانت مجازا كان الوحي كله مجازا ، وإن كانت من المتشابه كان الوحي كله من المتشابه ، وإن وجب أو ساغ تأويلها على خلاف ظاهرها ساغ تأويل جميع القرآن والسنة على خلاف ظاهره فإن مجيء هذه النصوص في الكتاب وظهور معانيها وتعدد أنواعها واختلاف مراتبها أظهر من كل ظاهر ، وأوضح من كل واضح ، فكم جهد ما يبلغ التأويل والتحريف والحمل على المجاز.

هب أن ذلك يمكن في موضع واثنين وثلاثة وعشرة ، أفيسوغ حمل أكثر من ثلاثة آلاف وأربعة آلاف موضع كلها على المجاز وتأويل الجميع بما يخالف الظاهر؟ ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاث آلاف ، فكل آية وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول ، وكل أثر فيه ذلك ، إذا استقرئت زادت على هذا العدد ، ويكفي أحاديث الشفاعة وأحاديث الرؤية وأحاديث الحساب ، وأحاديث تكليم الله لملائكته وأنبيائه ورسله وأهل الجنة ، وأحاديث تكليم الله لموسى ، وأحاديث تكلمه عند النزول الإلهي ، وأحاديث تكلمه بالوحى ، وأحاديث تكليمه للشهداء ، وأحاديث تكليم كافة عباده يوم القيامة بلا ترجمان ولا واسطة ، وأحاديث تكليمه للشفعاء يوم القيامة حين يأذن لهم في الشفاعة ، إلي غير ذلك ، إذ كل هذا وأمثاله وأضعافه مجاز لا حقيقة له. سبحانك هذا بهتان عظيم. بل نشهدك ونشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أن هذا بهتان عظيم. بل نشهدك ونشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أنك أحق بهذه الصفة وأولى من كل أحد ، وأن البحر لو أمده من بعده سبعة أبحر ، وكانت أشجار الأرض أقلاما يكتب بها ما تتكلم به ، لنفدت البحار والأقلام ولم تنفد كلماتك ، وأنك لك الخلق والأمر ، فأنت الخالق حقيقة (١).

__________________

(١) واستدل البخاري في كتاب «خلق أفعال العباد» على أن الله يتكلم كيف شاء وأن أصوات العباد مؤلفة حرفا حرفا فيها التطريب والترجيع بحديث أم سلمة ثم ساقه من طريق يعلى بن مملك أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلاته فذكر الحديث ، وفيه : «ونعتت قراءته ، فإذا قراءته حرفا حرفا».

٦٥٢

فصل

القرآن كلام الله غير مخلوق

وأما مسأله تكلم العباد بالقرآن فقد اشتبهت على كثير من الناس ، فقالت طائفة : إن الله يخلق كلامه عند تلاوة كل تال ، فيجري كلامه المخلوق على لسان التالي ، وفعل التالي هو حركة اللسان فقط وهي القراءة : فالقراءة صنع العبد عندهم ، والمقروء صنع الله وخلقه ، فالمسموع عندهم مخلوق بين صانعين : صنع الرب وصنع العبد ، وهذا قول أبي هذيل والإسكافي وأصحابه.

وقالت فرقة أخرى : إن العبد هو المحدث لأفعاله وتلاوته ، والله تعالى خلقه في مكان واحد لا ينتقل عنه ولا يفارقه إلى غيره ، فهذا المسموع هو صنع التالي ، ألفاظه وتلاوته. وهذا قول أكثر البغداديين من المعتزلة ، وقول جعفر بن حرب.

__________________

قال الحافظ : وهذا أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما ، ثم قال :

واختلف أهل الكلام في أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أولا؟! فقالت المعتزلة : لا يكون الكلام إلا بحرف وصوت ، والكلام المنسوب إلى الله قائم بالشجرة ، وقالت الأشاعرة : كلام الله ليس بحرف ولا صوت ، وأثبتت الكلام النفسي ، وحقيقته معنى قائم بالنفس وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية ، واختلافها يدل على اختلاف المعبر عنه ، والكلام النفسي هو ذلك المعبر عنه ، وأثبتت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت.

أما الحروف فللتصريح بها في ظاهر القرآن ، وأما الصوت فمن منع قال : إن الصوت هو الهواء المنقطع المسموع من الحنجرة ، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر ، وصفات الرب بخلاف ذلك فلا يلزم المحذور المذكور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه ، وأنه يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه.

وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب «السنة» : سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت ، فقال لي أبي : بل تكلم بصوت هذه الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره ا ه.

أفاده الحافظ في «الفتح» (١٣ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩).

٦٥٣

وقالت فرقة : إن القرآن لم يخلقه الله تعالى في الحقيقة ولا هو فعله ، فإنه عرض وهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلا لله. قالوا فهو فعل المحل الذي قام به. وهذا قول معمر وأصحابه من المعتزلة.

قالت فرقة : إن الله سبحانه خلق كلامه في اللوح المحفوظ ثم مكن جبرائيل أن يأخذه منه نقلا ويعلمه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجبرائيل إذا نطق به كان نطقه بمنزلة من يقرأ كتاب غيره ، لكن الحروف والأصوات في الحقيقة لجبرائيل لم تقم بذات الرب حروف القرآن ولا ألفاظه ، ولا سمعه جبرائيل من الله تعالى ، وإنما نزل من به المحل الذي خلق فيه. وهذا قول كثير من الكلابية ، فعندهم أن المسموع قول الرسول الملكي حقيقة سمعه منه الرسول البشري ، فأداه كما سمعه فالرسول الملكي ناقل لما في اللوح المحفوظ غير سامع له من الله ، والرسول البشري ناقل له عن جبرائيل قوله وألفاظه.

ومن هؤلاء من يقول : بل الله تعالى ألهم جبرائيل معانيه ، فعبر عنها جبرائيل بعبارته ، فهذه الألفاظ كلام جبرائيل في الحقيقة لا كلام الله. ومنهم من يقول : جبرائيل علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معانيه وألقاها في روعه ، ومحمد رسول الله ، أنشأ ألفاظها وعبر بها من عنده دلالة على ذلك المعنى الذي ألقاه إليه الملك ، فالقرآن العربي على قولهم قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قول جبرائيل عليه‌السلام ، وهذا قول من لا نسميهم لشهرتهم ، وإن حرفوا العبارة وزينوا له الألفاظ ، فهو قولهم الذي يناظرون عليه ويكفرون من خالفهم فيه ، يقولون فيه : قال أهل الحق كذا وقالت سائر فرق أهل الزيغ بخلافه.

وقالت فرق أخرى : بل لسان التالي مظهر للكلام القديم ، فيسمع منه عند التلاوة كما سمع موسى كلام الله من الشجرة ، فلسان التالي كالشجرة محل ومظهر للكلام ، فإذا قال التالي (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كان المسموع كله حروفه وأصواته غير كلام الله القائم به من غير حلول في القارئ ولا اتحاد به ، كما أن الله سبحانه لم يحل في الشجرة ولا اتحد بها ، وسمع موسى كلامه منها.

٦٥٤

واختلفت هذه الفرقة في الصوت الذي يسمع من القارئ على قولين (أحدهما) إنه عين صوت الله بالقرآن ظهر عند تلاوة التالي ، فكانت التلاوة مظهرة له. وقالت فرقة أخرى منهم ؛ ما لا بد منه من الصوت في الأداء ولا يتأدى الكلام بدونه ، فهو الصوت القديم ، وما زاد عليه من قوة الاعتماد والرفع فمحدث.

قالوا : وقد اقترن القديم بالمحدث على وجه معسر التمييز بينهما جدا ؛ فلما ورد عليهم أن الحس شاهد بأن هذه الصوت موجودا بعد أن كان معدوما ، ومعدوما بعد وجوده وهذا مستحيل على القديم أجابوا بأن الذي وجد بعد عدمه ثم عدم بعد وجوده هو ظهور الصوت القديم لا نفسه ، فالحدوث وقع على الإدراك لا على المدرك ؛ كما إذا سمع كلامه سبحانه منه بعد أن لم يسمع ؛ ثم عدم السمع فالحدوث واقع على السمع لا على المسموع ؛ وهذا قول جماعة ممن ينسب إلى الإمام أحمد.

وأصحابه المتقدمون بريئون من هذا المذهب المخالف والعقل والفطرة ، ونصوص أحمد إنما تدل على خلافه ، فقد نص في رواية جماعة من أصحابه على أن الصوت صوت العبد ،

فقال في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (١) قال يجهر به ويحسنه بصوته ما استطاع ، وقد نص على ذلك الأئمة كالبخاري وغيره.

قال البخاري في «صحيحه» : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الماهر بالقرآن مع الكرام البررة» (٢) «زينوا القرآن بأصواتكم» (٣) ثم احتجت بحديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بتغنى بالقرآن يجهر به» (٤) فأضاف الصوت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ساق حديث البراء : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) رواه البخاري (٧٥٢٧).

(٢) رواه البخاري (٤٩٣٧) ، ومسلم (٧٩٨).

(٣) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٤ / ٢٨٥ ، ٢٩٦ ، ٣٠٤) ، وأبو داود (١٤٦٨) ، والنسائي (٢ / ١٧٩) ، والحاكم (١ / ٥٧١ ـ ٥٧٥) وصححه الألباني في «صحيح الجامع».

(٤) رواه البخاري (٧٥٤٤) ، ومسلم (٩٧٢).

٦٥٥

قرأ في العشاء بالتين والزيتون ، فما سمعت صوتا أحسن منه» (١) فأضاف الصوت إليه ، ثم ذكر حديث ابن عباس : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متواريا بمكة وكان يرفع صوته بالقرآن ، وفإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (٢) ، ثم قال :

باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز تراقيهم ، وذكر في الباب حديث أبي سعيد الخدري : «يخرج أناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (٣) ، ومعلوم أن المراد التلاوة والأداء وما قام بهم من الأصوات ، وأنها لم تجاوز حناجرهم ، وكان البخاري قد امتحن بهذه الفرقة ، فتجرد للرد عليهم وبالغ في ذلك في كتاب «خلق أفعال العباد» فإنه بناه على ذلك وأن أصوات العباد من أفعالهم أو متولدة عن أفعالهم فهي من أفعالهم ، فالصوت صوت العبد حقيقة ؛ والكلام كلام الله حقيقة ، أداه العبد بصوته كما يؤدى كلام الرسول وغيره بصوته ، فالعبد مخلوق ، وصفاته مخلوقة وأفعاله مخلوقة ، وصوته وتلاوته مخلوقة ؛ والمتلو المؤدى بالصوت غير مخلوق.

واحتج البخاري في «الصحيح» وفي «خلق أفعال العباد» على ذلك بنصوص التبليغ ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) وقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى : ٤٨) وقوله : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) (الأعراف : ٧٩) وهذا من رسوخه في العلم ، فإن ذلك يتضمن أصلين ضل فيهما أهل الزيغ (أحدهما) أن الرسول ليس له من الكلام إلا مجرد تبليغه ، فلو كان هو قد أنشأ ألفاظه لم يكن مبلغا بل منشئا مبتدئا ، ولا تعقل الأمم كلها من التبليغ سوى تأدية كلام الغير بألفاظه ومعانيه ولهذا يضاف الكلام إلى المبلغ عنه لا إلى المبلغ.

__________________

(١) رواه البخاري (٧٦٧) ، ومسلم (٤٦٤).

(٢) رواه البخاري (٧٥٤٧).

(٣) رواه البخاري (٧٥٦٢).

٦٥٦

وأيضا فالتبليغ والبلاغ هو الإيصال ، وهو معدى من بلغ إذا وصل ، والإيصال حقيقة أن يورد إلى الموصل إليه ما حمله إياه غيره ، فله مجرد إيصاله.

(الأصل الثاني) إن التبليغ فعل المبلغ وهو مأمور به مقدور له. وتبليغه هو تلاوته بصوت نفسه ، فلو كان الصوت والتلاوة وصوت المتكلم به أزلي وتلاوته لم يكن فعلا مأمورا به مضافا إلى المأمور. وبالجملة فالتبليغ هو صوت المبلغ القائم به.

قال البخاري : باب ما جاء في قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلغوا عني ولو آية ، وليبلغ الشاهد الغائب وأن الوحي قد انقطع» (١) فتأمل مقصوده بقوله : وإن الوحي قد انقطع» فلو كانت أصواتنا بالقرآن هي نفس الصوت القديم الذي تكلم الله تعالى به لم يكن الوحي قد انقطع. بل هو متصل ما دامت أصوات العباد مسموعة بالتلاوة ، فالقائلون إن هذا الصوت القديم ظهر عند تلاوة التالي ، وهو الصوت الذي أوحى الله به الوحي إلى رسوله ، وهو غير منقطع لزمه لزوما بينا أن الوحي متصل غير منقطع.

قال البخاري : في كتاب «خلق أفعال العباد» ويذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفت الصوت ، ويكره أن يكون رفيع الصوت ، وأن الله سبحانه ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب (٢) ، فليس هذا لغير الله تعالى.

قال أبو عبد الله : وفي الدليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ، لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته ، فإذا نادى جبرائيل الملائكة لم يصعقوا ، ثم ساق في الباب أحاديث تكلم الله الصوت محتجا بها.

__________________

(١) رواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص ١١٦) وفي «الصحيح» (٣٤٦١) الشطر الأول منه من حديث عبد الله بن عمرو.

(٢) المصدر السابق (ص ١٣٧).

٦٥٧

قال البخاري : وقد كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا فيه (بسم الله الرحمن الرحيم) فقرأه ترجمان قيصر على قيصر وأصحابه ، ولا يشك في قراءة الكفار أهل الكتاب أنها أعمالهم ، وأما المقروء فهو كلام العليم المنان ليس بخلق ، فمن حلف بأصوات قيصر أو بنداء المشركين الذين يقرون بالله لم تكن عليه يمين دون الحلف بالله لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحلفوا بغير الله» (١) وليس للعبد أن يحلف بالخواتيم والدراهم البيض وألواح الصبيان الذي يكتبونها ثم يمحونها المرة بعد المرة ، وإن حلف فلا يمين عليه لقول تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

قال البخاري : وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا في الجنة سمعت صوت رجل بالقرآن» (٢) فبين أن الصوت غير القرآن (قلت) ونظيره إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن. وقال أبو عبد الله : ويقال له صفة الله وكلامه ، وعلمه وأسمائه وعزه وقدرته بائنة من الله أم لا وقولك وكلامك بائن من الله أم لا.

قال أبو عبد الله : قال الله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (النجم : ٣٩ ، ٤٠) وقال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) (نوح : ١) والإنذار من نوح وهو نذير مبين يأمرهم بطاعة الله. وأما الغفران فإنه من الله يقول : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (نوح : ٣) ثم قال : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) (نوح : ٥) فذكر الدعاء سرا وعلانية من نوح ، وقال ابن مسعود قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوم كانوا يقرءون القرآن فيجهرون به «خلطتم علي القرآن» (٣)

__________________

(١) المصدر السابق (ص ١٤٦).

(٢) المصدر السابق (ص ١٦١).

(٣) رواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص ١٦٦) ، والإمام أحمد (١ / ٤٥١) ، وذكره الحافظ الهيثمي في «المجمع» (٢ / ١١٠) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى ورجال أحمد رجال الصحيح ا ه.

٦٥٨

يقول علت أصواتكم صوتي ، فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرفع بعضهم على بعض صوته ، ولم ينه عن القرآن ولا عن كلام الله.

قال البخاري : واعتل بعضهم فقال حتى يسمع كلام الله (قيل له) إنما قال حتى يسمع كلام الله لا كلامك ونغمتك وصوتك ، إن الله فضل موسى بكلامه ، ولو كان يسمع الخلق كلهم كلام الله كما سمع موسى لم يكن لموسى عليه فضل ، ومعنى هذا أن هذا الصوت المسموع من القارئ لو كان هو الصوت الذي سمعه موسى لكان كل من سمع القرآن بمنزلة موسى في ذلك.

* * *

فصل

وإذا قيل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة (فجوابه) أن الحرف حرفان : فالحرف الواقع في كلام المخلوقين مخلوق ، وحروف القرآن غير مخلوقة.

(فإن قيل) كيف الحرف الواحد مخلوق وغير مخلوق (قيل) ليس بواحد بالعين وإن كان واحدا بالنوع ، كما أن الكلام ينقسم إلى مخلوق وغير مخلوق ، فهو واحد بالنوع لا بالعين.

وتحقيق ذلك أن الشيء له أربع مراتب : مرتبة في الأعيان ، ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ، ومرتبة في الخط. فالمرتبة الأولى وجوده العينى ، والثانية وجوده الذهني ، والثالثة وجوده اللفظي ، والرابعة وجوده الرسمي ، وهذه المراتب الأربعة تظهر في الأعيان القائمة بنفسها ، كالشمس مثلا ، وفي أكثر الأعراض أيضا كالألوان وغيرها ، ويعسر تمييزه في بعضها كالعلم والكلام ، أما العلم فلا يكاد يحصل الفرق بين مرتبته في الخارج ومرتبته في الذهن ، بل وجوده الخارجي مماثل لوجوده الذهني. وأما الكلام فإن وجوده الخارجي ما قام باللسان ، ووجوده الذهني ما قام بالقلب ، ووجوده الرسمي ما أظهر الرسم ، فأما وجوده اللفظي فقد اتحدت فيه المرتبتان الخارجية واللفظية. ومن مواقع الاشتباه أيضا أن الصوت الذي يحصل له إنشاء الكلام مثل الصوت يحصل به أداؤه وتبليغه ، وكذلك الحرف فصوت امرئ القيس وحروفه من

٦٥٩

قوله : (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) كصوت المنشد لذلك حكاية عنه وحرفه ، فإذا قال قائل : هذا كلامك أو كلام امرئ القيس؟ كان السؤال مجملا تحتمل الإشارة فيه معنين (أحدهما) أن يراد الإشارة إلي صوت المؤدي وحروفه (الثاني) أن يراد الإشارة إلى الكلام المؤدى بصوت هذا وحروفه ، والغالب إرادته هو الثاني ، ولهذا يحمد القائل له أولا أو يذم ، وإنما يحمد الثاني أو يذم على كيفية الأداء وحسن الصوت وقبحه.

والكلام يضاف إلى من قاله مبتديا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا ، فإذا قال الواحد منا : الأعمال بالنيات ، مؤديا له عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل أحد إن هذا قولك وكلامك.

وإن قيل إنك حسن الأداء له ، حسن التلفظ به ، وهذا الذي قام به وهو حسنه وفعله وعليه يقع اسم الخلق : ولشدة ارتباطه بأصل الكلام عسر التمييز.

ومن هنا غلطت الطائفتان (إحداهما) جعلت الكل مخلوقا منفصلا (والثانية) جعلت الكل قديما ، وهو عين صفة الرب نظرا إلى من تكلم به أولا.

والحق ما عليه أئمة الإسلام كالإمام أحمد والبخاري وأهل الحديث : أن الصوت صوت القارئ والكلام كلام الباري.

وقد اختلف الناس أهل التلاوة غير المتلو أم هي المتلو؟ على قولين ، والذين قالوا التلاوة هي المتلو ، فليست حركات الإنسان عندهم هي التلاوة ، وإنما أظهرت التلاوة وكانت سببا لظهورها ، وإلا فالتلاوة عندهم هي نفس الحروف والأصوات وهي قديمة.

والذين قالوا التلاوة غير المتلو طائفتان (إحداهما) قالت التلاوة هي هذه الحروف والأصوات المسموعة ، وهي مخلوقة ، والمتلو هي المعنى القائم بالنفس وهو قديم ، وهذا قول الأشعري.

والطائفة (الثانية) قالوا : التلاوة هي قراءتنا وتلفظنا بالقرآن. والمتلو هو القرآن العزيز والمسموع بالآذان بالأداء من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي (المص ، وكهيعص ، وحم ، الم) حروف وكلمات وسور وآيات تلاه عليه جبرائيل

٦٦٠