مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ ، وأبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده ، وأبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه ، وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ، وخلق سواهم ، رووه في السنة وقابلوه بالقبول وتلقوه بالتصديق والتسليم.

قال الحافظ أبو عبد الله بن منده : روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعاني ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما ، وقرءوه بالعراق بجمع العلماء وأهل الدين ، ولم ينكره أحد منهم ، ولم يتكلم في إسناده ، وكذلك رواه أبو زرعة وأبو حاتم على سبيل القبول.

وقال أبو الخير عبد الرحيم محمد بن الحسن بن محمد بن حمدان بعد أن أخرجه في «فوائد» أبو الفرج الثقفي : هذا حديث كبير ثابت حسن مشهور ، وقد روى منه الإمام أحمد في «مسنده» فصل «الضحك» وروى منه فصل «الرؤية» وروى منه فصل «فأين من مضى من أهلك» وروى منه : «قلت يا رسول الله كيف يحيى الموتى» لكن بغير هذا الإسناد ، وابنه ساقه بكماله في «مسند أبيه» وفي «السنة».

(وأما حديث ابن عمر): فرواه خلاد بن يحيى ، حدثنا عبد الوهاب ، عن مجاهد ، عن عمر قال : كنت جالسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء رجلان أحدهما أنصاري والآخر ثقفي ، فذكر الحديث وفيه «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول للملائكة هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق ، اشهدوا إني قد غفرت لهم ذنوبهم» (١) ورواه طلحة بن مصرف عن مجاهد به.

(وأما حديث عبد الله بن عباس): فروى عبيد الله بن عمر عن زيد أبي أنيسة عن طارق عن سعيد بن جبير قال : سمعت ابن عباس يقول : إن الله تعالى ينزل في شهر رمضان إذا ذهب الثلث الأول من الليل هبط الى السماء الدنيا

__________________

(١) [صحيح] ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» (٥١٣) ، وقال الألباني في «ظلال الجنة» : إسناده صحيح.

٦٠١

ثم قال : هل من سائل يعطى ، هل من مستغفر يغفر له ، هل من يتاب عليه. رواه علي ابن معبد ، عن عبيد الله. وروى عبيد الله بن موسى.

قال ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (إبراهيم : ٢٧) قال : ينزل الله إلى السماء الدنيا في شهر رمضان يدبر أمر السنة ، فيمحو ما يشاء غير الشقاوة والسعادة ، والموت والحياة ؛ وإسناده حسن.

وقال أبو الزبير ، عن طاوس : سئل ابن عباس عن ليلة الحصبة فقال : إن الله يهبط ليلة الحصبة على حراء ، وذكر عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل السدي ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : «كان النداء من السماء ؛ وكان الرب تعالى في السماء الدنيا حين كلم موسى» ذكره الخلال في «السنة».

وفي كتاب «السنة» للخلال : عن الوليد بن عبد الله بن أبي رباح ، عن زياد البهزي : بينما هو يحدث إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان فقال عطاء :

من هذا المحدث؟ قلت هو زياد البهزي ، قال سبحان الله ، فقد طول هذا على الناس ليلة واحدة في السنة ، أحسبه قال حدثنا ابن عباس قال : ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلث الليل الأوسط ، فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ، ويترك أهل الحقد لحقدهم.

(وأما حديث عبادة بن الصامت): فرواه موسى بن عقبة ، عن اسحاق بن يحيي ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : «ألا عبد يدعوني فأستجيب له ، ألا ظالم لنفسه يدعوني فأقبله ، فيكون كذلك إلى مطلع الصبح ويعلو على كرسيه» وإسحاق هذا هو إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة (١).

__________________

(١) إسحاق هذا قال الحافظ في «التقريب» : أرسل عن عبادة ، وهو مجهول الحال ا ه.

٦٠٢

(وأما حديث أسماء بنت يزيد): فرواه أبو أحمد العسال في كتاب «السنة» من حديث أبان بن أبي عياش ، عن شهر بن حوشب ، عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يهبط الرب تعالى من السماء السابعة إلى المقام الذي هو قائمه ، ثم يخرج عنق من النار ، فيظل الخلائق كلهم ، فيقول أمرت ، كل جبار عنيد ، ومن زعم أنه عزيز كريم ، ومن دعا مع الله إلها آخر (١).

(وأما حديث أبي الخطاب): فقال محمد بن سعد في «الطبقات» : حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل حدثني ثوير قال : سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال له أبو الخطاب وسئل عن الوتر فقال : أحب الوتر نصف الليل ، فإن الله يهبط من السماء السابعة إلى السماء الدنيا فيقول : هل من مذنب ، هل من مستغفر ، هل من داع ، حتى إذا طلع الفجر ارتفع (٢).

(وأما حديث عمر بن عامر السلمي): فرواه محمد بن منده من حديث عثمان التيمي ، عن عبد الحميد بن سلمة ، عن أبيه ، عن عمر بن عامر السلمي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا ذهب ثلث الليل ، أو قال نصف الليل ، ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول : هل من عان فأفكه هل من سائل فأعطيه ، هل من داع فاستجيب له ، هل من مستغفر فأغفر له ، حتى يصلى الصبح» (٣).

(وأما حديث عوف بن مالك): فرواه حميد بن زنجويه من حديث عبادة بن نسي ، عن كثير بن مرة ، عن عوف بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يطلع إلى خلقه ليلة النصف فيغفر للمؤمنين» (٤) الحديث ، وضمن يطلع معنى : يدنو ، وينزل ؛ فعداه بإلى.

__________________

(١) [ضعيف الإسناد] في إسناده أبان بن أبي عياش قال الحافظ في «التقريب» متروك ، وقال في شهر : صدوق كثير الإرسال والأوهام.

(٢) [ضعيف الإسناد وهو صحيح لغيره] فيه ثوير بن أبي فاضة الكوفي أبو الجهم ذكره الحافظ في «التقريب» ثم قال : ضعيف رمي بالرفض.

(٣) عبد الحميد بن سلمة قال في «التقريب» : مجهول.

(٤) [ضعيف الإسناد وهو صحيح لغيره] وفيه عبد الرحمن بن أنعم ضعفوه ،

٦٠٣

(وأما حديث أبي أمامة): جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان ليلة النصف من شعبان هبط الله إلى سماء الدنيا فيغفر لأهل الأرض إلا لكافر ومشاحن» (١) ورواه محمد بن الفضل البخاري عن مكي بن ابراهيم عن جعفر. وقال الفريابي حدثنا بن عمار حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي عاتكة حدثنا سليمان بن حبيب المجازي قال : دخلنا على أبي أمامة بحمص فقال : إن هذا المجلس من بلاغ الله إياكم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بلغ ما أرسل به ، وأنتم فبلغوا عنا ، إياكم والظلم ، فإن الله يجلس يوم القيامة على القنطرة الوسطى بين الجنة والنار ، ثم يعزل فيقول : وعزتي وجلالي ، لا يجاورني اليوم ظلم ظالم.

(وأما حديث ثوبان): فقال الطبراني في «معجمة» : حدثنا أحمد بن محمد ابن يحيى بن حمزة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النصر ، حدثنا يزيد بن ربيعة ، حدثنا أبو الأشعث ، عن ثوبان ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقبل الجبار تبارك وتعالى يوم القيامة فيثني رجله على الجسر فيقول : وعزتي وجلالى لا يجاورني اليوم ظلم ظالم ، فينصف الخلق بعضهم من بعض ، حتى أنه لينصف الشاة الجماء من القرناء تنطحها نطحة» (٢) وقد جاء المعنى تفسيرا لقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فروى البيهقي من حديث الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن مسعود (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وقال : من وراء الصراط ثلاثة جسور : جسر عليه الأمانة ، وجسر عليه الرحم ، وجسر عليه الرب تبارك وتعالى.

__________________

وابن لهيعة لين.

والحديث ذكره الألباني في «الصحيحة» (١١٤٤) وذكر طرقه ثم قال : وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب.

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) ذكره الحافظ الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٣٥٣) وعزاه للطبراني وقال : وفيه يزيد بن ربيعة وقد ضعفه جماعة ، وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به ، وبقية رجاله ثقات ا ه.

٦٠٤

وذكر ابن جرير في «تفسيره» عن جويبر ، عن الضحاك في هذه الآية ، قال : إذا كان يوم القيامة يأمر الله بكرسيه فيوضع على النار فيستوي عليه ثم يقول : وعزتي لا يجاورني اليوم ذو مظلمة.

وذكر عمر بن قيس قال : بلغني أن على جهنم ثلاث قناطر : قنطرة عليها الرحم إذا مروا بها تقول : يا رب هذا واصل يا رب هذا قاطع. وقنطرة عليها الرب تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وذكر عن سفيان في هذه الآية : على جهنم ثلاث قناطر : قنطرة فيها الأمانة ، وقنطرة فيها الرب تعالى.

(وأما حديث أبي موسى الأشعري): فرواه ابن لهيعة عن الزبير بن سليم ، عن الضحاك بن عبد الرحمن ـ يعني ابن عرزب ـ عن أبيه قال : سمعت أبا موسى يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في النصف من شعبان فيغفر لأهل الأرض إلا مشركا أو مشاحنا» (١).

* * *

فصل

وهذا النزول إلى الأرض يوم القيامة قد تواترت به الأحاديث والآثار ودل عليه القرآن صريحا في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) وقال عبد الله ابن المبارك : حدثنا حياة بن شريح ، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدني ، أن عقبة بن مسلم حدثه عن شفي بن مانع الأصبحي قال : قدمت المدينة فدخلت المسجد فإذا الناس قد اجتمعوا على أبي هريرة فلما تفرقوا دنوت فقلت : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة نزل الله إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية ،

__________________

(١) [ضعيف الإسناد وهو صحيح لغيره] أخرجه ابن ماجه (١٣٩٠) وابن أبى عاصم في «السنة» (٥١٠) ، وذكره البوصيري في «الزوائد» (١ / ٤٤٦) وسكت عنه وانظر «السلسلة الصحيحة» (١١٤٤) للألباني وقد صححه بمجموع طرقه.

٦٠٥

فأول من يدعى رجل جمع القرآن» وذكر الحديث بطوله وأصله في «صحيح مسلم» (١). وفي «صحيح البخاري» من حديث أنس بن مالك ، وفيها «ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى» (٢) وقد تقدم ذكر نزوله إلى الجنة يوم المزيد : ونزوله إلى الأرض قبل يوم القيامة حين يخلو أهلها ، ونزوله يوم عرفة إلى سماء الدنيا.

وقال سعيد بن منصور : حدثنا إبراهيم بن ميسرة ، عن ابن أبي سويد ، عن عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله قال : زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج وهو محتضن أحد ابني بنته وهو يقول : «والله إنكم لتجبنون وتجهلون وتبخلون وإنكم لمن رياحين الله وإن آخر وطأة وطئها رب العالمين بوج» (٣).

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس قال : إن آخر وطأة الله لبوج ، قال سفيان وكان سعد بن جبير يقول : قال أبو هريرة : تسألوني وفيكم عمرو بن أوس.

وفي الباب عن الحسن بن علي ، عبد الله بن الزبير ، ويعلى بن مرة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٢٣٨٢) وقال : حديث حسن غريب ا ه وأصله أخرجه مسلم (١٩٠٤) من حديث أبي هريرة يرفعه. وفيه : «ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ... الحديث.

(٢) رواه البخاري (٧٥١٧).

(٣) [ضعيف الإسناد] ورواه الإمام أحمد (٦ / ٤٠٩) ، والترمذي (١٩١٠) دون قوله : «وإن آخر وطأة ... الخ» وقال : حديث ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة لا نعرفه إلا من حديثه ، ولا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعا من خولة ا ه.

٦٠٦

فهذه عشرة أنواع من النزول والمجيء والإتيان ونظائرها ، تضمنها كلام أعلم الخلق بالله وأقدرهم على اللفظ المطابق لما قصده من وصف الرب تعالى وأنصحهم للأمة ـ والمجاز وإن أمكن في فرد من أفراد هذه الأنواع أو أكثر ـ فإنه من المحال عادة أن يطرد في جميعها اطرادا واحدا بحيث يكون الجميع من أوله إلى آخره مجازا.

وقال أبو العباس بن شريح : وقد صح عند جميع أهل الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع الآثار والأخبار الصادقة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصفات يجب على المسلم الإيمان بها ، وأن السؤال عن معانيها بدعة ، والجواب كفر وزندقة ، مثل قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) ، وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢) ونظائرها مما نطق به القرآن كالفوقية والنفس واليدين ، والسمع والبصر ، وصعود الكلام الطيب إليه ، والضحك والتعجب ، والنزول كل ليلة إلى السماء الدنيا.

إلى أن قال : واعتقادنا في الآي المتشابهة في القرآن نقلها ولا نردها ، ولا نتأولها بتأويل المخالفين ، ولا نحملها على تشبيه المشبهين ، ولا نترجم عن صفاته بلغة غير العربية ونسلم الخبر لظاهر تنزيلها.

قال إمام عصره محمد بن جرير في كتاب «التبيين في معالم الدين» : القول فيما أدرك علمه من الصفات خبرا ، وذلك مثل إخباره سبحانه أنه سميع بصير ، وأن له يدين ، وأن له وجها وأن له قدما ، وأنه يضحك ، وأنه يهبط إلى السماء الدنيا ، وذكر أولها.

وقال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد بن حنبل وإسحاق : ينزل ربنا كل ليلة الحديث أليس يقول لهذا الحديث ، قال أحمد وإسحاق ، قال أحمد واسحاق : صحيح ، وزاد إسحاق : لا يدعه إلا مبتدع. وقال الخلال : أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال : قيل لأبي عبد الله : إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة؟ قال نعم ، قيل له في شعبان كما جاء في الأثر؟ قال نعم.

٦٠٧

وقال حنبل : قيل لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال نعم ، قلت : نزوله بعلمه أم بما ذا؟ فقال اسكت عن هذا ، وغضب غضبا شديدا.

وقال ما لك : ولهذا امض الحديث كما ورد بلا كيف ولا تحديد إلا بما جاءت به الآثار ، وبما جاء به الكتاب ، قال الله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) (النحل : ٧٤) ينزل كيف شاء بقدرته وعلمه وعظمته ، أحاط بكل شيء.

وقال بشر بن السري لحماد بن زيد : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد ثم قال : هو مكانه يقرب من خلقه كيف شاء وقال أبو عمر بن عبد البر ـ أجمع العلماء من الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل ـ يعني تفسير القرآن ـ قالوا في تأويل قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) (المجادلة : ٧) هو على عرشه وعلمه بكل مكان ، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله :

وقال : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها : وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، لأنهم لا يكيفون شيئا من ذلك.

وقال أبو عبد الله الحاكم ، سمعت أبا زكريا العنبري يقول : سمعت إبراهيم ابن أبي طالب يقول ، سمعت أحمد بن سعيد الرابطي يقول : حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم وحضر إسحاق ـ يعني ابن راهويه ـ فسئل عن حديث النزول أصحيح هو؟ قال : نعم فقال له بعض قواد الأمير عبد الله : يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال نعم ، قال كيف ينزل؟ قال له إسحاق : أثبته فوق حتى أصف لك النزول ، فقال له الرجل : أثبته فوق؟ فقال له إسحاق : قال الله جل شأنه (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فقال الأمير عبد الله بن طاهر : يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة ، قال إسحاق ـ أعز الله الأمير ـ ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟

٦٠٨

وقال البخاري في كتاب «خلق أفعال العباد» قال الفضيل بن عياض : إذا قال لك الجهمي : أنا أكفر برب يزول عن مكانه ، فقل أنت : أؤمن برب يفعل ما يشاء (١) وقد ذكر الأثرم هذه الحكاية أطول من هذا.

وقال الخلال : أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى «أن الله عزوجل ينزل إلى سماء الدنيا ـ وأن الله يرى ـ وأن الله يضع قدمه» وما أشبه ذلك ، فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ، ولا نرد منها ، ونعلم أن جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولا نرد على الله قوله ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ، ليس كمثله شيء. وهذا الكلام وكلام الشافعي من مشكاة واحد.

* * *

فصل

(أقوال العلماء في كيفية النزول)

واختلف أهل السنة في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال. (أحدها) أنه ينزل بذاته ، وهو قول الإمام أبي القاسم التيمي وهو من أجل الشافعية له التصانيف المشهورة «كالحجة في بيان المحجة» وكتاب «الترغيب والترهيب» وغيرها ، وهو متفق على إمامته وجلالته وقال شيخنا : وهذا قول طوائف من أهل الحديث والسنة والصوفية والمتكلمين. وروي في ذلك حديث مرفوع لا يثبت رفعه.

وقال أبو موسى المديني : إسناده مدخول وفيه مقال ، وعلى بعضهم مطعن لا تقوم بمثله الحجة ، ولا يجوز نسبة قوله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كنا نعتقد صحته إلا أن يرد بإسناد صحيح.

__________________

(١) رواه البخاري في (خلق أفعال العباد : ص ١٧) واللالكائى (ص ٤٥٢).

٦٠٩

وقالت طائفة منهم : لا ينزل بذاته. وقالت فرقة أخرى : نقول ينزل ولا نقول بذاته ولا بغير ذاته ، بل نطلق اللفظ كما أطلقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسكت عما سكت عنه.

واختلفوا أيضا هل يخلو العرش منه؟ فقالت طائفة ينزل ويخلو منه العرش. وقالت طائفة لا يخلو من العرش ، قال القاضي أبو يعلى في كتاب «الوجهين والروايتين» : لا يختلف أصحابنا أن الله ينزل إلى سماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ، كما أخبر به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ساق حديث أبي هريرة وابن مسعود وعبادة بن الصامت ثم قال : واختلفوا في صفته ، فذهب شيخنا أبو عبد الله إلى أنه نزول انتقال. قال : لأن هذا حقيقة النزول عند العرب. وهو نظير قوله في الاستواء بمعنى قعد : وهذا على ظاهر حديث عبادة بن الصامت.

قلت : يريد قوله ثم يعلو تبارك وتعالى على كرسيه ، قال : لأن أكثر ما في هذا أنه من صفات الحدث في حقنا. وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثا كالاستواء على العرش هو موصوف به مع اختلافنا في صفته ، وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفا به في القدم ، وكذلك نقول تكلم بحرف وصوت وإن كان هذا يوجب الحدث في حقنا ولم يوجبه في حقه ، وكذلك النزول.

قال : وحكى شيخنا عن طائفة من أصحابنا أنهم قالوا : ينزل ، معناه قدرته ولعل هذا القائل ذاهب إلي ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل أنه قال يوم احتجوا على : يومئذ تجيء البقرة يوم القيامة ويجيء تبارك وتعالى. قلت لهم : هذا الثواب. قال الله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢) إنما يأتي قدرته ، وإنما القرآن أمثال ومواعظ وزجر.

وذكر أحمد أيضا فيما خرجه في الحبس : كلام الله لا يجيء ولا يتغير من حال إلى حال ووجه هذا أن النزول هو الزوال والانتقال : ولهذا قلنا في الاستواء إنه لا بمعنى المماسة والمباينة لأن ذلك من صفات الحدث والانتقال وهذا من صفات الحدث.

٦١٠

قال : وحكى شيخنا عن طائفة أخرى من أصحابنا أنهم قالوا نثبت نزولا ولا نعقل معناه : هل هو بزوال أو بغير زوال كما جاء الخبر ، ومثل هذا ليس بممتنع في صفاته ، كما نثبت ذاتا لا تعقل ، قال وهذه الطريقة هي المذهب ، قد نص عليها أحمد في مواضع ، فقال حنبل : قلت لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال نعم. قلت نزوله بعلمه أم ما ذا؟ فقال لي اسكت عن هذا وغضب غضبا شديدا ، وقال امض الحديث على ما روي.

قلت : أما قول ابن حامد إنه نزول انتقال فهو موافق لقول من يقول يخلو منه العرش ، والذي حمله على هذا إثبات النزول حقيقة وأن حقيقته لا تثبت إلا بالانتقال ورأى أنه ليس في العقل ولا في النقل ما يحيل الانتقال عليه ، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط ، هذه أنواع الفعل اللازم القائم به. كما أن الخلق والرزق والإماتة والإحياء والقبض والبسط أنواع للفعل المتعدي ، وهو سبحانه موصوف بالنوعين وقد يجمعهما كقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف : ٥٤) والانتقال جنس لأنواع المجيء والإتيان ، والنزول والهبوط ، الصعود والدنو والتدلي ونحوها ، وإثبات النوع مع نفي جنسه جمع بين النقيضين.

قالوا : وليس في القول بلازم النزول والمجيء والإتيان والاستواء والصعود محذور البتة ، ولا يستلزم ذلك نقصا ولا سلب كمال ، بل هو الكمال نفسه ، وهذه الأفعال كمال ومدح ، فهي حق دل عليه النقل ، ولازم الحق حق كما أن العقل والنقل قد اتفقا على أنه سبحانه حي متكلم قدير عليم مريد ، وما لزم من ذلك تعين القول به ، فإنه لازم الحق ، وكذلك رؤيته تعالى بالأبصار عيانا في الآخرة هو حق ، فلازمه حق كائنا ما كان. والعجب أن هؤلاء يدعون أنهم أرباب المعقولات ، وهم يجمعون بين إثبات الشيء ونفي لازمه ، ويصرحون بإثباته ، ويثبتون لوازمه باثباته ، ويصرحون بنفيه ، ولهذا عقلاؤهم لا يسمحون بإثبات شيء من ذلك ، فلا يثبتون لله نزولا ولا مجيئا ، ولا إتيانا ولا دنوا ،

٦١١

ولا استواء ولا صعودا البتة ، وإثبات هذه الحقائق عندهم في الامتناع كإثبات الأكل والشرب والنوم ونحوها ، والفرق بين هذا وهذا ثابت عقلا ونقلا وفطرة وقياسا واعتبار ، فالتسوية بينهما في غاية البطلان.

قالوا وقولنا إنه نزول لاعتبار لا محذور فيه ، فإنه ليس كانتقال الأجسام من مكان إلى مكان ، كما قلتم إن سمعه وبصره وحياته وقدرته وإرادته ليست كصفات الأجسام ، فليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

قالوا ونحن لم نتقدم بين يدي الله ورسوله ، بل أثبتنا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فألزمتم أنتم من أثبت ذلك القول بالانتقال ، ومعلوم أن هذا الإلزام إنما هو إلزام لله ورسوله ، فإنا لم نتعد ما وصف به نفسه ، فكأنكم قلتم من أثبت له نزولا ومجيئا وإتيانا ودنوا لزمه وصفه بالانتقال ، والله ورسوله وهو الذي أثبت ذلك لنفسه فهو حق بلا ريب ، فكان جوابنا إن الانتقال إن لزم من إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديقه في ذلك والإيمان به ، فلا بد من إثباته ضرورة ، وإن لم يلزم ، بطل إلزامكم ونظير هذا مناظرة جرت بين جهمي وسني.

قال الجهمي : أنت تزعم أن الله يرى في الآخرة عيانا بالأبصار؟ قال السني : نعم. فقال له الجهمي : هذا يلزم منه إثبات الجهة والحد وكون المرئي مقابلا للرائي مواجها له ، وهذا تشبيه وتجسيم. قال له السني : قد دل القرآن والسنة المتواترة واتفاق الصحابة وجميع أهل السنة وأئمة الإسلام على أن الله يرى في الآخرة ، وقد شهد بذلك الرسول وبلغه الأمة ، وأعاده وأبداه ، فذلك حق لا ريب له ، فإذا لزم ما ذكرت فلازم الحق حق ، وإن لم يلزم بطل سؤالك.

وقال بعض الجهمية لبعض أصحابنا : أتقول إن الله ينزل إلي السماء الدنيا؟ فقال ومن أنا حتى أقول ذلك ، فقد قاله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغه الأمة ، فقال له الجهمي : هذا يلزم منه الحركة والانتقال ، فقال له السني : أنا لم أقل من عندي

٦١٢

شيئا ، وهذا الإلزام لمن قال ذلك هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديقه واجب علينا ، فإن كان تصديقه على ذلك بطل الإلزام به ، فبهت الجهمي.

قالوا وقد دل العقل والشرع على أن الله سبحانه حي فعال ، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل ، فالفعل الاختياري من لوازم الحياة فالإرادة والمشيئة من لوازم الفعل ، وللفعل لوازم لا يجوز نفيها ، إذ نفيها يستلزم نفي الفعل الاختياري ، ولهذا لما نفاها الدهرية والفلاسفة نفوا الفعل الاختياري من أصله.

قالوا : ومن لوازم الفعل والترك الحب والبغض وانتقال الفاعل من شأن إلى شأن ، والرب تبارك وتعالى كل يوم هو في شأن ، ومن كان على حال واحد قبل الفعل وحال الفعل وبعد الفعل لم يعقل كونه فاعلا باختياره ، بل ولا فاعلا البتة ، فليس مع نفاة لوازم الأفعال إلا إثبات ألفاظ لا حقائق لها.

والمقصود أن هؤلاء قالوا : نحن لم نصرح بالانتقال من عند أنفسنا ، ولكن الله ورسوله قالاه.

* * *

فصل

أما الذين نفوا الحركة والانتقال ، فإن نفوا ما هو من خصائص المخلوق فقد أصابوا ولكن أخطئوا في ظنهم أن ذلك لازم ما أثبته لنفسه ، فأصابوا في نفى خصائص المخلوقين وأخطئوا في ظنهم أنه لازم ما أثبته لنفسه وفي نفيهم للازم الذي يستحيل اتصاف المخلوق بنظيره ، وقد بينا فيما تقدم أن الصفة يلزمها لوازم لنفسها وذاتها ، فلا يجوز نفي هذه اللوازم عنها لا في حق الرب ولا في حق العبد ، ويلزمها لوازم من جهة اختصاصها بالعبد ، فلا يجوز إثبات تلك اللوازم للرب ، ويلزمها لوازم من حيث اختصاصها بالرب فلا يجوز سلبها عنه ولا إثباتها للعبد ، فعليك بمراعاة هذا الأصل والاعتصام به في كل ما يطلق على الرب تعالي ، وعلى العبد.

وأما الذين أمسكوا عن الأمرين وقالوا : لا نقول يتحرك وينتقل ، ولا ننفي

٦١٣

ذلك عنه ، فهم أسعد بالصواب والاتباع ، فإنهم نطقوا بما نطق به النص ، وسكتوا عما سكت عنه ، وتظهر صحة هذه الطريقة ظهورا تاما فيما إذا كانت الألفاظ التي سكت النص عنها مجملة محتملة لمعنيين : صحيح وفاسد ، كلفظ الحركة والانتقال والجسم والحيز والجهة والأعراض والحوادث والعلة والتغير والتركيب ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تحتها حق وباطل ، فهذه لا تقبل مطلقا ولا ترد مطلقا ، فإن الله سبحانه لم يثبت لنفسه هذه المسميات ولم ينفها عنه ، فمن أثبتها مطلقا فقد أخطأ ، ومن نفاها مطلقا فقد أخطأ ، فإن معانيها منقسمة إلى ما يمتنع إثباته لله ، وما يجب إثباته له ، فإن الانتقال يراد به انتقال الجسم والعرض من مكان هو محتاج إليها إلى مكان آخر يحتاج إليه ، وهو يمتنع إثباته للرب تعالى ، وكذلك الحركة إذا أريد بها هذا المعنى امتنع إثباتها لله تعالى ، ويراد بالحركة والانتقال حركة الفاعل من كونه فاعلا ، وانتقاله أيضا من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلا.

فهذا المعنى حق في نفسه لا يعقل كون الفاعل إلا به ، فنفيه عن الفاعل نفي لحقيقة الفاعل وتعطيل له ، وقد يراد بالحركة والانتقال ما هو أعم من ذلك ، وهو فعل يقوم بذات الفاعل يتعلق بالمكان الذي قصد له ، وأراد إيقاع الفعل بنفسه فيه ، وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة ، وينزل لفصل القضاء بين عباده ، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة ، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وينزل عشية عرفة ، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ، وينزل إلى أهل الجنة ، وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة ، فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين ، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به. فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه ، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له ، وحركة الحي من لوازم ذاته ولا فرق بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور ، فكل حي متحرك بالإرادة ، وله شعور ، فنفي الحركة عنه كنفي الشعور ، وذلك يستلزم نفي الحياة.

٦١٤

ونظير ذلك قول الجهمية : لو قامت به الصفات لقامت به الأعراض ، قيام الأعراض به يستلزم كونه جسما ، فقالت الصفاتية (١) : قد دلل الدليل على قيام الصفات به ، فلا يجوز نفيها عنه بتسميتها أعراضا ، فإن أردتم بالأعراض الصفات فإثبات الصفات حق ، وإن أردتم به ما هو من خصائص المخلوق فلا يلزم ذلك من إثباتها للرب تعالى.

وكذلك قولهم : لو كان فوق سماواته على عرشه يصعد إليه الكلم الطيب لكان جسما وجوابهم بأنه قد ثبت بالعقل والنقل والفطرة أنه سبحانه فوق سماواته عال على خلقه ، فلا يجوز نفيه بتسميته تجسميا ، فإن كان التجسيم اللازم من ذلك كونه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه ، فهذا اللازم حق فسموها ما شئتم ، وإن كان المدعى لزوم تركيبه من الجواهر الفردة والمادة والصورة ، أو كونه مماثلا للأجسام المخلوقة فدعوى هذه الملازمة كذب فلا يجوز أن ينفى عن الله ما دل عليه العقل والنقل والفطرة بألفاظ مجملة تنقسم معانيها إلى حق وباطل.

وأما قول من قال يأتي أمره وينزل رحمته ، فإن أراد أنه سبحانه إذا نزل وأتى حلت رحمته وأمره فهذا حق ، وإن أراد أن النزول والمجيء والإتيان للرحمة والأمر ليس إلا ، فهو باطل من وجوه عديدة قد تقدمت ؛ ونزيدها وجوها أخر ، منها أن يقال : أتريدون رحمته وأمره صفته القائمة بذاته؟ أم مخلوقا منفصلا سميتموه رحمة وأمرا؟ فإن أردتم الأول فنزوله يستلزم نزول الذات ومجيئها قطعا ، وإن أردتم الثاني كان الذي يأتي وينزل ويأتي لفصل القضاء مخلوقا محدثا لا رب العالمين ، وهذا معلوم البطلان قطعا وهو تكذيب صريح للخبر ، فإنه يصح معه أن يقال : لا ينزل إلى سماء الدنيا ، ولا يأتي لفصل القضاء ، وإنما الذي ينزل ويأتي غيره.

ومنها : كيف يصح أن يقول ذلك المخلوق : لا أسأل عن عبادي غيري ،

__________________

(١) الصفاتية : هم الذين قالوا : لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا ، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته ، قديمة أزلية ، فلا يرضى في وقت دون وقت ، ولا يغضب في وقت دون وقت. (الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٩٧).

٦١٥

ويقول : من يستغفرني فأغفر له؟ ونزول رحمته وأمره مستلزم لنزوله سبحانه ومجيئه ، وإثبات ذلك للمخلوق مستلزم للباطل الذي لا يجوز نسبته إليه سبحانه مع رد خبره صريحا.

ومنها : أن نزول رحمته وأمره لا يختص بالثلث الأخير ولا بوقت دون وقت ينزل أمره ورحمته فلا تنقطع رحمته ولا أمره عن العالم العلوي والسفلي طرفة عين.

(ما نقل عن الإمام أحمد من تأويل النزول والجواب عنه)

وأما الرواية المنقولة عن الإمام أحمد فاختلف فيها أصحابه على ثلاث طرق (أحدها) إنها غلط عليه. فإن حنبلا تفرد بها عنه ، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبة وإذا تفرد بما خالف المشهور عنه : فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية ، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية ، والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه ، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع فكيف في هذه المسألة؟

وقالت طائفة أخرى : بل ضبط حنبل ما نقل وحفظه ، ثم اختلفوا في تخريج هذا النص فقالت طائفة منهم : إنما قاله أحمد على سبيل المعارضة لهم فإن القوم كانوا يتأولون في القرآن من الإتيان والمجيء بمجيء أمره سبحانه ، ولم يكن في ذلك ما يدل على أن من نسب إليه المجيء والإتيان مخلوق فكذلك وصف الله سبحانه كلامه بالإتيان والمجيء هو مثل وصفه بذلك فلا يدل على أن كلامه مخلوق بحمل مجيء القرآن على مجيء ثوابه ، كما حملتم مجيئه سبحانه وإتيانه على مجيء أمره وبأسه.

فأحمد ذكر على وجه المعارضة والإلزام لخصومه بما يعتقدونه في نظير ما احتجوا به عليه لا أنه يعتقد ذلك ، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به.

وقالت طائفة أخرى : بل ثبت عن أحمد بمثل هذا رواية في تأويل المجيء

٦١٦

والإتيان ونظائر ذلك من أنواع الحركة ، ثم اختلفوا في ذلك ، فمنهم من قصد التأويل على هذا النوع خاصة ، وجعل فيه روايتين ، ومنهم من حكى روايتين في باب الصفات الخبرية بالنقل والتخريج. والرواية المشهورة من مذهبه ترك التأويل في الجميع ، حتى أن حنبلا نفسه ممن نقل عنه ترك التأويل صريحا فإنه لما سأله عن تفسير النزول هل هو أمره أم ما ذا؟ نهاه عنه.

وطريقة القاضي وابن الزاغوني تخصيص الروايتين بتأويل النزول ونوعه وطريقة ابن عقيل تعميم الروايتين لكل ما يمنع عندهم إرادة ظاهرة ، وطريقة الخلال وقدماء الأصحاب امتناع التأويل في الكل ، وهذه رواية إما شاذة أو أنه رجع عنها ، كما هو صريح عنه في أكثر الروايات ، وإما أنها إلزام منه ومعارضة لا مذهب ، وهذا الاختلاف وقع نظيره في مذهب مالك ، فإن المشهور عنه وعن أئمة السلف إقرار نصوص الصفات والمنع من تأويلها ، وقد روى عنه أنه تأول قوله : «ينزل ربنا» بمعنى نزول أمره وهذه الرواية لها إسنادان (أحدهما) من طريق حبيب كاتبه ، وحبيب هذا غير حبيب ، بل هو كذاب وضاع باتفاق أهل الجرح والتعديل ، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله ، والإسناد (الثاني) فيه مجهول لا يعرف حاله ، فمن أصحابه من أثبت هذه الرواية ، ومنهم من لم يثبتها ، لأن المشاهير من أصحابه لم ينقلوا عنه شيئا من ذلك.

* * *

فصل

وهاهنا قاعدة يجب التنبيه عليها ، وهي أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما تأويل شيء في موارد النزاع لم يكن فيه أكثر من أنه وقع بينهم نزاع في معنى الآية أو الحديث ، وهو نظير اختلافهم في تفسير آيات وأحاديث ، مثل تنازع ابن عباس وعائشة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (النجم : ١٣) فقال ابن عباس رأى ربه ، قالت عائشة بل رأى جبرائيل ، وكتنازع ابن مسعود

٦١٧

وابن عباس في قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (الدخان : ١٠) فقال ابن مسعود : هو ما أصاب قريشا من الجوع حتى كان أحدهم يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، وقال ابن عباس : هو دخان قبل يوم القيامة وهذا هو الصحيح ، ونظائر ذلك ، فالحجة هي التي تفصل بين الناس.

* * *

٦١٨

(٩) المثال التاسع : في المعية

(المثال التاسع) : مما ادعي فيه قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (الحديد : ٤) قوله تعالي : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) (النحل : ١٢٨) وقوله تعالي : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (طه : ٤٦) وقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (الشعراء : ١٥) وقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق : ١٦) ، وقوله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة : ١٦٨) وقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (المجادلة : ٧) الآية ونحو ذلك.

قالت المجازية : هذا كله مجاز يمتنع حمله على الحقيقة ، إذ حقيقته المخالطة والمجاورة ، وهي منتفية قطعا ، فإذا معناها معية العلم والقدرة والإحاطة ، ومعية النصر والتأييد والمعونة ، وكذلك القرب.

قال أصحاب الحقيقة : والجواب عن ذلك من وجوه.

أحدها : لا تخلو هذه الألفاظ إما أن يكون ظاهرها أن ذاته تعالى في كل مكان ، أو لا يكون ذلك ظاهرها ، فإن كان ذلك ظاهرها فهو قول طوائف من إخوان هؤلاء ، وهم الجهمية الأول ، الذين كانوا يقولون : إن الله بذاته في كل مكان ، ويحتجون بهذه الآيات وما أشبهها.

وهؤلاء الجهمية المستأخرون الذين يقولون : ليس فوق السموات رب ، ولا على العرش إله ، عاجزون عن الرد على سلفهم الأول ، وسلفهم خير منهم فإنهم أثبتوا له وجودا بكل مكان وهؤلاء نفوا أن يكون داخل العالم أو خارجه ، والرسل وأتباعهم أثبتوا أنه خارج العالم ، فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ، فنفاة النقيضين لا يمكنهم الرد على من أثبت النقيضين ، فإنهم إن قالوا إثبات النقيضين محال ، قالوا لهم ونفيهما محال ، وإن قالوا كونه داخل العالم ينافي كونه خارجا عنه ، قالوا لهم : وكونه غير داخل العالم ينافي كونه غير خارج عنه ، فإن قالوا وصفه بدخوله في العالم وخروجه منه يستلزم التجسيم.

٦١٩

قالوا : وصفه بكونه ليس في العالم ولا خارجا عنه يستلزم التعطيل ، والحكم بعدمه والتجسيم خير من التعطيل ، ونفي حقيقة الرب لو كان لازما ، كيف ولزومه من جانبكم أقوى ، فأنكم تصفونه بالصفات التي هي أعراض لا تقوم إلا بالأجسام ، وقد ألزمكم النفاة التجسيم بإثباتها فما كان جوابكم لهم فهو بعينه جوابنا لكم.

وإن قالوا إثبات دخوله في العالم يقتضي مجاورته ومخالطته لما ينزه عنه ، قالوا لهم : ونفي دخوله في العالم وخروجه عنه يقتضي امتناع وجوده وهو انقص من مجاورته للعالم ، فإن كان نقصا فالحكم عليه بما يمنع وجوده أدخل في النقص ، وإن لم يكن ذلك النفي نقصا ولا مستلزما للنفس لم يكن في الإثبات نقص.

فإن قلتم دخوله وخروجه يقتضي انحصاره في الأمكنة ، قال سلفكم بل يقتضي عدم انحصاره ، فإنا لم نخصه بمكان دون مكان ، ولو اقتضى حصره لكان ذلك أقرب إلى المعقول من الحكم عليه بما يقتضي امتناع وجوده.

فظهر أنه لا يمكن خلف الجهمية أن يرد على سلفهم البتة إلا أن يتركوا تعطيلهم ويتحيزوا إلى أهل الإثبات ، فإذا قال هؤلاء : حقيقة هذه الألفاظ تقتضي المجاورة (والمخالطة) ونحن نقول بذلك لم يمكنهم إبطال قولهم ، وأهل الإثبات براء من الفريقين. هذا إن كان ظاهر القرآن يدل على المخالطة والمجاورة ، وإن لم يدل على ذلك ولم يكن حقيقة فيه لم يكن خارجا عن حقيقته.

الوجه الثاني : إن الله سبحانه قد بين في القرآن غاية البيان أنه فوق سماواته وأنه مستو على عرشه ، وأنه بائن عن خلقه ، وأن الملائكة تعرج إليه ، وتنزل من عنده ، وأنه رفع المسيح إليه ، وأنه يصعد إليه الكلم الطيب ، إلى سائر ما دلت عليه النصوص من مباينته لخلقه وعلوه على عرشه ، هذه نصوص محكمة فيجب رد المتشابه إليها ، فتمسكتم بالمتشابه ورد المحكم متشابها وجعلتم الكل مجازا.

الوجه الثالث : إن الله تعالى قد بين في غير موضع أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ، وأن له ملك السموات والأرض وما بينهما ، وأن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ، وأن كرسيه وسع السموات الأرض ، وأنه يمسك السموات والأرض ، وهذه نصوص صريحة في أن الرب تعالى ليس هو

٦٢٠