مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

غير مضافة إليه ، وأن المستقبل لها هو موليها وجهه ، لا أن الله شرعها له وأمره بها ، ثم أمر أهل قبلته المبادرة والمسابقة إلى الخير الذي أدخره لهم وخصهم به ، ومن جملته هذه القبلة التي خصهم دون سائر الأمم فقال تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) إلى قوله : (قَدِيرٌ) (البقرة : ١٤٨).

فتأمل هذا السياق في ذكر الوجهات المختلفة التي توليها الأمم وجوههم ، ونزل عليه قوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وإلى قوله : (واسِعٌ عَلِيمٌ) وانظر هل يلائم السياق السياق والمعنى المعنى ويطابقه ، أم هما سياقان دل كل منهما على معنى الآخر ، فالألفاظ غير الألفاظ والمعنى غير المعنى.

الوجه الحادي والعشرون : إنه لو كان المراد بوجه الله قبلة الله لكان قد أضاف إلي نفسه القبل كلها ، ومعلوم أن هذه إضافة تخصيص وتشريف إلى إلهيته ومحبته ، لا إضافة عامة إلى ربوبيته ومشيئته ، وما هذا شأنها لا يكون المضاف اخلاص إلا كبيت الله وناقة الله روح الله ، فإن البيوت والنقوق والأرواح كلها لله ، ولكن المضاف إليه بعضها ، فقبلة الله منها هي قبلة بيته لا كل قبلة ، كما أن بيته هو البيت المخصوص لا كل بيت.

الوجه الثاني والعشرون : أن يقال حمل في الآية على الجهة والقبلة ، إما أن يكون هو ظاهر الآية أو يكون خلاف ظاهرها ، ويكون المراد بالوجه وجها حقيقة ، لأن الوجه إنما يراد به الجهة والقبلة إذا جاء مطلقا غير مضاف إلى الله تعالى كما في حديث الاستسقاء ، فلم يقدم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبر بالجود ، أم يكون ظاهر الآية الأمرين كليهما ولا تنافي بينهما ، فأينما ولي العبد وجهه في صلاة تولية مأمور بها فهو قبلة الله ، وثم وجه الله ، فهو مستقبل قبلته ووجهه أو تكون الآية مجملة محتملة للأمرين فإن كان الأول هو ظاهرها لم يكن حملها عليه مجازا ، وكان ذلك حقيقتها ، ومن يقول هذا يقول وجه الله في هذه الآية قبلته وجهته التي أمر باستقبالها بخلاف وجهه في قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٢٧) وتلك النصوص التي ذكرناها وغاية ذلك أن يكون لفظا مشتركا قد استعمل في هذا تارة وفي هذا تارة ، فمن

٥٤١

أين يلزم من ذلك أن يكون وجه الرب ذو الجلال والإكرام مجازا ، وأن لا يكون له وجه حقيقة؟ لو لا التلبيس والترويح بالباطل.

وإن كان الثاني فالأمر ظاهر ، وإن كان الثالث فلا تنافي بين الأمرين ، فأينما ولي المصلى فهي قبلة الله ، وهو مستقبل وجه ربه ، لأنه واسع ، والعبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه تعالى ، والله مقبل على كل مصل إلى جهة من الجهات المأمور بها بوجهه ، كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل قوله «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ، فإن الله قبل وجهه» وفي لفظ «فإن ربه بينه وبين القبلة» (١).

وقد أخبر أنه حيثما توجه العبد فإنه مستقبل وجه الله ، فإنه قد دل العقل والفطرة وجميع كتب الله السماوية على أن الله تعالى عال على خلقه فوق جميع المخلوقات ، وهو مستو على عرشه ، وعرشه فوق السموات كلها ، فهو سبحانه محيط بالعالم كله ، فأينما ولي العبد فإن الله مستقبله ، بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه ، فإن كل خط يخرج من المركز إلى المحيط فإنه يستقبل وجه المحيط ويواجهه ، والمركز يستقبل وجه المحيط ، وإذا كان عالى المخلوقات المحيط يستقبل سافلها المحاط به بوجهه من جميع الجهات والجوانب ، فكيف بشأن من هو بشكل شيء محيط وهو محيط ولا يحاط به ، كيف يمتنع أن يستقبل العبد وجهه تعالى حيث كان وأين كان.

وقوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) إشارة إلى مكان موجود والله تعالى فوق الأمكنة كلها ليس في جوفها ، وإن كانت الآية مجملة محتملة لأمرين لم يصح دعوى المجاز فيها ولا في وجه الله حيث ورد ، فبطلت دعواهم أن وجه الله على المجاز لا على الحقيقة. يوضحه :

الوجه الثالث والعشرون : إنه لو أريد بالوجه في الآية الجهة والقبلة لكان وجه الكلام أن يقال (فأينما تولوا فهو وجه الله) لأنه إذا كان المراد بالوجه الجهة فهي

__________________

(١) رواه البخارى (٤٠٥ ، ٤١٦ ، ٤١٧) ، مسلم (٥٤٧).

٥٤٢

التي تولي نفسها ، وإنما يقال ثم كذا إذا كان هناك أمران ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (الإنسان : ٢٠) فالنعيم والملك ثم لا أنه نفس الظرف لنفسه ، فإن الشيء لا يكون ظرفا لنفسه فتأمله.

ألا ترى إنك إذا أشرت إلى جهة الشرق والغرب لا يصح أن تقول : ثم جهة الشرق وثم جهة الغرب ، بل تقول : هذه جهة الشرق وهذه جهة الغرب ، ولو قلت : هناك جهة الشرق والغرب لكان ذكر اللفظ لغوا ، وذلك لأن ثم إشارة إلى المكان البعيد فلا يشار بها إلى القريب ، والجهة والوجهة مما يحاذيك إلى آخرها ، فجهة الشرق والغرب وجهة القبلة مما يتصل لك إلى حيث ينتهي ، فكيف يقال فيها ثم إشارة إلى البعيد بخلاف الإشارة إلى وجه الرب تبارك وتعالى ، فإنه يشار إلى حيث يشار ذاته ، لهذا قال غير واحد من السلف : فثم الله تحقيقا ، لأن المراد وجهه الذي هو من صفات ذاته والإشارة إليه بأنه ثم كالإشارة إليه بأنه فوق سماواته ، وعلى العرش وفوق العالم.

الوجه الرابع والعشرون : إن تفسير القرآن بعضه ببعض أولى التفاسير ما وجد إليه السبيل ، ولهذا كان يعتمده الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم ، والله تعالى ذكر في القرآن القبلة باسم القبلة والوجهة ، وذكر وجهه الكريم باسم الوجه المضاف إليه ، فتفسيره في هذه الآية بنظائره هو المتعين.

الوجه الخامس والعشرون : إن الآية لو احتملت كل واحد من الأمرين لكان الأولى بها إرادة وجهه الكريم ذي الجلال والإكرام ، لأن المصلي مقصوده التوجه إلى ربه ، فكان من المناسب أن يذكر أنه إلى أي الجهات صليت فأنت متوجه إلى ربك ، ليس في اختلاف الجهات ما يمنع التوجه إلى ربك. فجاءت الآية وافية بالمقصود فقال (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة : ١١٥) فأخبر أن الجميع ملكه وقد خلقه ؛ وقد علم بالفطرة والشرع أن الله تعالى فوق العالم محيط بالمخلوقات عال عليها بكل اعتبار ، فمن استقبل وجهة من الشرق إلى الغرب ، أو الشمال أو الجنوب أو بين ذلك ، فإنه متوجه إلى ربه حقيقة ، والله تعالى قبل وجهه إلى أي جهة صلى ، هو مع ذلك فوق سماواته عال على

٥٤٣

عرشه ، ولا يتوهم تنافي هذين الأمرين ، بل اجتماعهما هو الواقع ولهذا عامة أهل الإثبات جعل هذه الآية من آيات الصفات وذكرها مع نصوص الوجه ، مع قولهم إن الله تعالى فوق سماواته على عرشه.

الوجه السادس والعشرون : إنك إذا تأملت الأحاديث الصحيحة وجدتها مفسرة للآية ، مشتقة منه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه» (*) وقوله «فالله يقبل عليه بوجهه ما لم يصرف وجهه عنه» (*) وقوله «إن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم قبل وجهه» وقوله : «إن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا ، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت» (١) رواه ابن حبان فى صحيحه والترمذي ، وقال : «إن العبد إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فلا ينصرف عنه حتى ينصرف أو يحدث حدث سوء» (٢).

وقال جابر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قام العبد يصلي أقبل الله عليه بوجهه فإذا التفت أعرض الله عنه وقال : يا ابن آدم أنا خير ممن تلتفت إليه ، فإذا أقبل على صلاته أقبل الله عليه ، فإذا التفت أعرض الله عنه» (٣) وقال ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا صلى أحدكم فلا يتنخمن تجاه وجه الرحمن» (٤) وقال أبو

__________________

(*) تقدم تخريجها.

(١) [ضعيف] رواه الإمام أحمد (٥ / ١٧٢) ، والدارمي (١٤٢٣) ، وأبو داود (٩٠٩) بنحوه والنسائي (٣ / ٨). وضعفه الألباني في «ضعيف أبي داود» و «ضعيف الجامع» ، «ضعيف النسائي».

(٢) [صحيح الإسناد] أخرجه ابن ماجه (١٠٢٣) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال الإمام البوصيري في «الزوائد» (١ / ٣٤٤) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ، وله شاهد في «الصحيحين» والموطأ من حديث ابن عمر ا ه.

(٣) تقدم تخريجه قريبا.

(٤) رواه البخاري (٤٠٦ ، ٧٥٣) بلفظ : «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى ، وأخرجه مسلم بنحوه (٥٤٧).

٥٤٤

هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرحمن ، فإذا التفت قال له : ابن آدم إلى من تلتفت؟ إلى خير لك مني تلتفت؟!» (١).

* * *

__________________

(١) رواه الإمام أحمد (٥ / ١٤٧) ونختم هذا الفصل بما نقله الحافظ في «الفتح» كتاب «التوحيد» باب : قول الله عزوجل (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، وفيه حديث : «أعوذ بوجهك».

نقل عن ابن بطال أنه قال : في هذه الآية والحديث دلالة على أن لله وجها وهو من صفة ذاته ، وليس بجارحة ولا كالوجوه التي نشاهدها من المخلوقين ، كما نقول إنه عالم ولا نقول إنه كالعلماء الذين نشاهدهم.

وقال غيره : دلت الآية على أن المراد بالآية : الذات المقدسة ، ولو كانت صفة من صفات الفعل لشملها الهلاك كما شمل غيرها من الصفات وهو محال.

وقال الراغب : أصل الوجه : الجارحة المعروفة ، ولما كان الوجه أول ما يستقبل وهو أشرف ما في ظاهر البدن ، استعمل في مستقبل كل شيء وفي مبدئه وفي إشراقه ، فقيل وجه النهار ، وقيل وجه كذا أى ظاهره ، وربما أطلق الوجه على الذات كقولهم : كرم الله وجهه ، وكذا قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ا ه.

٥٤٥

(٦) المثال السادس في : اسمه تعالى «النور»

(المثال السادس) : قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (النور : ٣٥) ومن أسمائه «النور» وقالت المعطلة ذلك مجاز ، معناه منور السموات والأرض بالنور المخلوق ، قالوا ويتعين المجاز لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الله تعالى ليس هو هذا النور المنبسط على الجدران ، ولا هو النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار ، فإما أن يكون مجازه منور السموات ، أو هادي أهلها.

وبطلان هذا يتبين بوجوه :

الأول : أن النور جاء في أسمائه تعالى ، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول وأثبتوه في أسمائه الحسنى ، وهو في حديث أبي هريرة والذي رواه الوليد بن مسلم ، ومن طريقه رواه الترمذي والنسائي ولم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة ، ومحال أن يسمي نفسه نورا وليس له نور ولا صفة النور ثابتة له ، كما أن من المستحيل أن يكون عليما قديرا سميعا بصيرا ، ولا علم له ولا قدرة ، بل صحة هذه الأسماء عليه مستلزمة لثبوت معانيها له ، وانتفاء حقائقها عنه مستلزم لنفيها عنه ، والثاني باطل قطعا فتعين الأول.

الوجه الثاني : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سأله أبو ذر هل رأيت ربك؟ قال : «نور أنى أراه» رواه مسلم فى «صحيحه» (١) وفي الحديث قولان (أحدهما) أن معناه ثم نور ، أي فهناك نور منعني رؤيته ، ويدل على هذا المعنى شيئان (أحدهما) قوله في اللفظ الآخر في الحديث : «رأيت نورا» (٢) فهذا النور الذي رآه هو الذي حال بينه وبين رؤية الذات ، (الثاني) قوله في حديث أبي موسى : «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه

__________________

(١) تقدم تخريجهما ولقد توسعنا في التعليق على هذا الباب في كتاب «اجتماع الجيوش» للمصنف ، انظره طبعة «نزار الباز» مكة المكرمة بتحقيقنا.

(٢) تقدم تخريجهما ولقد توسعنا في التعليق على هذا الباب في كتاب «اجتماع الجيوش» للمصنف ، انظره طبعة «نزار الباز» مكة المكرمة بتحقيقنا.

٥٤٦

عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» رواه مسلم في «صحيحه» (١).

وقال عثمان بن سعيد الدارمي : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال : «احتجب الله عن خلقه بأربع : بنار وظلمة ونور وظلمة» (٢).

وقال : حدثنا موسى بن اسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن زرارة بن أوفى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل : «هل رأيت ربك؟» فانتفض جبريل وقال : يا محمد إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور ، لو دنوت من أدناها لاحترقت» (٣).

(المعنى الثاني) في الحديث : أنه سبحانه نور فلا يمكن رؤيته ، لأن نوره الذي لو كشف الحجاب عنه لاحترقت السموات والأرض وما بينهما مانع من رؤيته ، فإن كان المراد هو المعنى الثاني. فظاهر ، وإن كان الأول فلا ريب أنه إذا كان نور الحجاب مانعا من رؤية ذاته فنور ذاته سبحانه أعظم من نور الحجاب ، بل الحجاب إنما استنار بنوره ، فإن نور السموات إذا كان من نور وجهه كما قال عبد الله بن مسعود ، فنور الحجاب الذي فوق السموات أولى أن يكون من نوره ، وهل يعقل أن يكون النور حجاب من ليس له نور ، هذا أبين المحال وعلى هذا فلا تناقض بين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت نورا» وبين قوله : «نور أنى أراه» فإن المنفى مكافحة الرؤية للذات المقدسة ، والمثبت رؤية ما ظهر من نور الذات ، يوضحه :

الوجه الثالث : وهو أن ابن عباس جمع بين الأمرين فقال : رأى محمد ربه

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) [ضعيف الإسناد] رواه الدارمي في «الرد على المريسي» ص ١٧٣ وفي إسناده المثنى بن الصباح ، قال الحافظ في «التقريب» : ضعيف اختلط بآخره ا ه.

(٣) المصدر السابق.

٥٤٧

عزوجل فقيل له : أليس الله تعالى يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣) فقال : ويحك ، ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، لم يقم له شيء ، فأخبر أن الأبصار لا تدرك نفس ذاته إذا تجلى بنوره الّذي هو نوره فهذا موافق لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نور أنى أراه» ولقوله : «رأيت نورا».

الوجه الرابع : إن الرب سبحانه أخبر أنه لما تجلى للجبل وظهر له أمر ما من نور ذاته المقدسة صار الجبل دكا. فروى حميد عن ثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) أشار أنس بطرف إصبعه على طرف خنصره ، وكذلك أشار ثابت ، فقال له حميد الطويل : ما تريد يا أبا محمد؟ فرفع ثابت يده فضرب صدره ضربة شديدة وقال : من أنت يا حميد ، يحدثني أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول أنت ما تريد بهذا ومعلوم أن الذي أصار الجبل إلى هذا الحال ظهور هذا القدر من نور الذات له بلا واسطة ، بل تجلي ربه له سبحانه.

الوجه الخامس : ما ثبت في «الصحيحين» عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا قام من الليل : «اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات والأرض» (١) الحديث وهو يقتضي أن كونه نور السموات والأرض مغاير لكونه رب السموات والأرض. ومعلوم أن إصلاحه السموات والأرض بالأنوار وهدايته لمن فيهما هي ربوبيته ، فدل على أن معنى كونه نور السموات والأرض أمر وراء ربوبيته يوضحه :

الوجه السادس : وهو أن الحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسماوات والأرض أمر وراء ربوبيتها وقيوميتها ونورهما ، فكونه سبحانه ربا لهما وقيوما لهما ، ونورا لهما : أوصاف له ؛ فآثار ربوبيته وقيوميته ونوره قائمة بهما ، وصفة الربوبية ومقتضاها هو المخلوق المنفصل ، وهذا كما أن صفة الرحمة

__________________

(١) رواه البخاري (١١٢٠) ، ومسلم (٧٦٩).

٥٤٨

والقدرة والإرادة والرضى والغضب قائمة به سبحانه ، والرحمة الموجودة في العالم والإحسان والخير ، والنعمة والعقوبة آثار تلك الصفات ، وهي منفصلة عنه ، وهكذا علمه القائم به هو صفته. وأما علوم عباده فمن آثار علمه ، وقدرتهم من آثار قدرته ، فالتبس هذا الموضع على منكري نوره سبحانه ، ولبسوا من جرم الشمس والقمر والنار ، فلا بد من حمل قوله نور السموات والأرض على معنى أنه منور السموات والأرض ، وهاد لأهل السموات والأرض وحينئذ فنقول في :

الوجه السابع : أسأتم الظن بكلام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث فهمتهم أن حقيقة مدلوله أن سبحانه هو هذا النور الواقع على الحيطان والجدران ، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أوجب لكم إنكار حقيقة نوره وجحده ، وجمعتم بين الفهم الفاسد وإنكار المعنى الحق ، وليس ما ذكرتم من النور هو نور الرب القائم به الّذي هو صفته ، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه ، فإن هذه الأنوار المخلوقة إنما تكون في محل دون محل ، فالنور الفائض عن النار أو الشمس أو القمر إنما هو نور لبعض الأرض دون بعض ، فإنا نعلم أن نور الشمس الذي هو أعظم من نور القمر والكواكب والنار ، ليس هو نور جميع السموات والأرض ومن فيهن ، فمن ادعى أن ظاهر القرآن وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نور الرب سبحانه هو هذا النور الفائض فقد كذب على الله ورسوله فلو كان لفظ النص : الله هو النور الذي تعاينونه وترونه في السموات والأرض لكان لفهم هؤلاء وتحريفهم مستندا ما ، أما ولفظ النص : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فمن أين يدل هذا بوجه ما أنه النور الفائض عن جرم الشمس والقمر والنار ، فإخراج نور الرب تعالى عن حقيقته وحمل لفظه على مجازه إنما استند إلى هذا الفهم الباطل الذي لم يدل عليه اللفظ بوجه.

الوجه الثامن : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر هذه الآية بقوله : «أنت نور السموات والأرض» ولم يفهم منها أنه هو النور المنبسط على الحيطان والجدران ، ولا فهمه الصحابة عنه ، بل علموا أن لنور الرب تعالى شأنا آخر هو أعظم من أن يكون

٥٤٩

له مثال. قال عبد الله بن مسعود : ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السموات والأرض من نور وجهه (١) ، فهل أراد ابن مسعود أن هذا النور الذي على الحيطان ووجه الأرض هو عين نور الوجه الكريم ، أو فهم هذا عنهم ذو فهم مستقيم ، فالقرآن والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم متطابقة يوافق بعضها بعضا ، وتصرح بالفرق الذي بين النور الذي هو صفته ، والنور الذي هو خلق من خلقه ، كما تفرق بين الرحمة التي هي صفته ، والرحمة التي هي مخلوقة ، ولكن لما وجدت في رحمته سميت برحمته ، وكما أنه لا يماثل في صفة من صفات خلقه ، فكذلك نوره سبحانه ، فأي نور من الأنوار المخلوقة إذا ظهر للعالم وواجهه أحرقه؟ وأي نور إذا ظهر منه للجبال الشامخة قدرا ما جعلها دكا ، وإذا كانت أنوار الحجب لو دنا جبرائيل من أدناها لاحترق ، فما الظن بنور الذات.

الوجه التاسع : أنه قال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) (الزمر : ٦٩) فأخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره ، وهو نوره الذي هو نوره ، فإنه سبحانه يأتي لفصل القضاء بين عباده وينصب كرسيه بالأرض ، فإذا جاء الله تعالى أشرقت الأرض ، وحق لها أن تشرق بنوره ، وعند المعطلة لا يأتي ولا يجيء ، ولا له نور تشرق به الأرض.

الوجه العاشر : ما رواه محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله وقد أشرق عليهم من فوقهم وقال : يا أهل الجنة السلام عليكم» فذلك قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم ، رواه الحاكم في «صحيحه» وابن ماجه في «سننه» (٢) فهذا نور مشاهد قد سطع لهم حتى حركهم واستفزهم إلى رفع رءوسهم إلى فوق.

__________________

(١) أورده ابن كثير في «تفسيره» مطولا ، وانظر «اجتماع الجيوش» للمصنف بتحقيقنا.

(٢) [ضعيف الإسناد] رواه ابن ماجه (١٨٤) في «مقدمة سنه» ، وفي إسناده أبو عاصم العباداني وفيه ضعف.

٥٥٠

الوجه الحادي عشر : إن النص قد ورد بتسمية الرب نورا ، وبأن له نورا مضافا إليه وبأنه نور السموات والأرض ، وبأن حجابه نور ، فهذه أربع أنواع (فالأول) يقال عليه سبحانه بالإطلاق ، فإنه النور الهادي (والثاني) يضاف إليه كما يضاف إليه حياته وسمعه وبصره وعزته ، وقدرته وعلمه ، وتارة يضاف إلى وجهه تارة ويضاف إلى ذاته (فالأول) إضافته كقوله : «أعوذ بنور وجهك» وقوله : «نور السموات والأرض من نور وجهه» (والثاني) إضافته إلي ذاته كقوله «وأشرقت الأرض بنور ربها» وقول ابن عباس : «ذلك نوره الذي إذا تجلى به» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عبد الله بن عمرو : «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره» (١) الحديث. (والثالث) وهو إضافة نوره إلى السموات والأرض ، كقوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (والرابع) كقوله «حجابه النور» فهذا النور المضاف إليه يجيء على أحد الوجوه الأربعة ، والنور الذي احتجب به سمي نورا ونارا ، كما وقع التردد في لفظه في الحديث الصحيح ، حديث أبي موسى الأشعري وهو قوله : «حجابه النور أو النار» (٢) فإن هذه النار هي نور وهي التي كلم الله كليمه موسى فيها ، وهي نار صافية لها إشراق بلا إحراق.

فالأقسام ثلاثة : إشراق بلا إحراق ، كنور القمر ، وإحراق بلا إشراق ، وهي نار جهنم ، فإنها سوداء محرقة لا تضيء ، وإشراق بإحراق ، وهي هذه النار المضيئة ، وكذلك نور الشمس له الإشراق والإحراق ، فهذا في الأنوار

__________________

وقال البوصيري في «الزوائد» (١ / ٨٥) : هذا إسناد ضعيف لضعف الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي ا ه وقال الحافظ في «التقريب» : منكر الحديث وضعفه الشيخ الألباني ، وتقدم تخريجه في الجزء الأول.

(١) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٢ / ١٧٦ ، ١٩٧) ، والحاكم (١ / ٣٠) وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه ابن حبان في «صحيحه» (٦١٣٦ ـ إحسان) والحديث ذكره الألباني في «الصحيحة» (١٠٧٦) فانظره.

(٢) رواه مسلم (١٧٩).

٥٥١

المشهودة المخلوقة ، وحجاب الرب تبارك وتعالى نور وهو نار ، وهذه الأنواع كلها حقيقة بحسب مراتبها ، فنور وجهه حقيقة لا مجاز ، وإذا كان نور مخلوقاته كالشمس والقمر والنار حقيقة ، فكيف يكون نوره الذي نسبة الأنوار المخلوقة إليه أقل من نسبة سراج ضعيف إلي قرص الشمس ، فكيف لا يكون هذا النور حقيقة.

الوجه الثاني عشر : إن إضافة النور إليه سبحانه لو كان إضافة ملك وخلق لكانت الأنوار كلها نوره فكان نور الشمس والقمر والمصباح نوره ، فإن كانت حقيقة هذه الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه كان نوره حقيقة ، فيا عجبا لكم : أنكرتم أن يكون الله سبحانه نور السموات والأرض حقيقة ، وأن يكون لوجهه نور حقيقة ثم جعلتم نور الشمس والقمر والمصابيح نوره حقيقة ، وقد علم الناس بالضرورة فساد هذا ، وأن نوره المضاف إليه يختص به لا يقوم بغيره ، فإن نور المصباح قام بالفتيلة منبسطا على السقوف والجدران ، وليس ذلك هو نور الرب تعالى الذي هو نور ذاته ووجهه الأعلى ، بل ذلك هو المضاف إليه حقيقة ، كما أن نور الشمس والقمر والمصابيح مضاف إليها حقيقة. قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (يونس : ٥٠) وقال تعالى : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (الفرقان : ٦١) وقال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (الأنعام : ١) فهذا نور مخلوق قائم بجرم مخلوق لا يسمى به الرب تعالى ولا يوصف به ، ولا يضاف إليه إلا على جهة أنه مخلوق له مجهول لا على أنه وصف له قائم به فالتسوية بين هذا وبين نور وجهه الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة واستعاذ به العائذون من أبطل الباطل.

الوجه الثالث عشر : إن مثبتي الصفات كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأئمة أتباعهما لم يذكروا الخلاف في ذلك إلا عن المعتزلة فإنكار كونه نورا هو قول المبتدعة قال ابن فورك في كتابه الذي سماه «مقالات

٥٥٢

أبي محمد بن كلاب ، وأبي الحسن الأشعرى» وذكر اتفاقهما إلا فيما ندر من الأمور اللفظية إلى أن قال :

إن المشهور من مذهبه بأن الله سبحانه نور لا كأنوار حقيقة لا بمعنى أنه هاد ، وعلى ذلك نص في كتاب «التوحيد» في باب مفرد لذلك تكلم فيه على المعتزلة إذ تأولوا ذلك على معنى أنه هاد ، فقال : إن سأل سائل عن الله عزوجل أنور هو؟ قيل له كلامك يحتمل وجهين : إن كنت تريد أنه نور يتجزأ تجوز عليه الزيادة والنقصان فلا ، وهذه صفة النور المخلوق ، وإن كنت تريد معنى ما قاله الله سبحانه (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالله سبحانه نور السموات والأرض على ما قال.

فإن قال : فما معنى قولك نور؟ قيل له : قد أخبرناك ما معنى النور المخلوق وما معنى النور الخالق ، وهو الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء ، ومن تعدى أن يقول الله نور فقد تعدى إلى غير سبيل المؤمنين لأن الله لم يكن يسمي نفسه لعباده بما ليس هو به ، فإن قال : لا أعرف النور إلا هذا النور المضيء المتجزئ. قيل له : فإن كان لا يكون نور إلا كذلك ، فكذلك لا يكون شيئا إلا وحكمه حكم ذلك الشيء.

ثم قال ابن فورك : فإذا قال الله عزوجل إني نور ، قلت أنا هو نور على ما قاله سبحانه وتعالى ، وقلت أنت ليس هو نور ، فمن المثبت له على الحقيقة أنا أو أنت ، وكيف يتبين الحق فيه إلا من جهة ما أخبر الله سبحانه والدافع لما قال الله كافر بالله وإن لزمنا أن لا نقول إن الله نور لأن ذلك موجود في الخلق لزمنا أن لا نقول إن الله حي سميع بصير موجود ، لأن ذلك موجود في الخلق ، ومعناها في هذا الباب خلاف معناكم ، لأن معناكم في ذلك التعطيل ومعنانا في قولنا : الله نور ، نثبت الله تعالى على ما ورد به في كتابه بما يسمى به عندنا فنحن متبعون ما أخبرنا به في كتابه ، فإن جاز لكم أن تقولوا شيئا لا كالأشياء جاز لنا أن نقول نور لا كالأنوار ، وأنتم ظلمة فيما سألتم ، جحدة لما أخبر به عن نفسه في كتابه ، ونحن وأنتم متفقون إن أقررتم بالكتاب أن الله نور السموات

٥٥٣

والأرض ، ومختلفون في أن نقول نور فقلنا نحن نور ، وقلتم أنتم لا نقول نور فإن زعمتم أن معنى نور معنى هاد قلنا لكم فيجوز أن يكون غير نور بمعنى أنه هاد ، فإن قلتم : لا كذبتم القياس واللغة ، وإن قلتم نعم قلنا لكم سويتم بين النور والهادي الذي هو غير الله وبينه إن كان هو النور الهادي ، ومعنى هذا نور ، معنى كون هذا فقد استويا في معنيهما وأسمائهما فدخلتم فيما عبتم على مخالفيكم.

فإن قلتم : فالنور لا يكون إلا جسدا مجسدا أو ضياء ساطعا ، قلنا ولا يكون عالم بصير إلا لحما ودما متجزئا متبعضا ، فإن جاز قياسكم على مخالفيكم جاز قياسه عليكم ، فإن قلتم يجوز أن يكون عالم لا لحم ولا دم قيل لكم كذلك يجوز أن يكون نور لا جسد ولا ضوء ساطع وليس لكم إلا التعطيل والنفي لله سبحانه.

قال ابن فورك : وإنما استوفيت هذا الفصل من كتابه رحمه‌الله بألفاظه لتحقيقه هذا الوصف لله تمسكا بحكم الكتاب ، وإنه لا يرى أن يعدل عن الكتاب ما وجد السبيل إلى التمسك به لرأى وهوى لا يوجبه أصل صحيح قال :

فقد كشفت عن ذلك بغاية البيان ، وأزال اللبس فيه ، وأن السمع هو الحجة في تسمية الله سبحانه ؛ ولا يجب أن يحمل على المجاز ، لأنه يوجب أن يحمل ما ورد به السمع من إيمائه تعالى على المجاز.

وقال أبو بكر بن العربي : قد اختلف الناس بعد معرفتهم بالنور على ستة أقوال الأول : معناه هاد ، قاله ابن عباس ، والثاني : معناه منور قاله ابن مسعود ، وروي أن في مصحفه منور السموات والأرض ، والثالث : مزين وهو يرجع إلى معنى منور ، قاله أبي بن كعب ، الرابع : أنه ظاهر ، الخامس : ذو النور ، السادس : أنه نور لا كالأنوار قاله أبو الحسن الأشعري.

قال : وقالت المعتزلة : لا يقال له نور إلا بإضافة ، قال والصحيح عندنا إنه نور لا كالأنوار ، لأنه حقيقة ، والعدول عن الحقيقة إلى أنه هاد ومنور ، وما أشبه ذلك هو مجاز من غير دليل لا يصح.

٥٥٤

(قلت) أما حكايته عن ابن عباس أنه بمعنى هاد فعمدته على التفسير الذي رواه الناس عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس وفي ثبوت ألفاظه عن ابن عباس نظر ، لأن الوالبي لم يسمعها من ابن عباس فهو منقطع ، وأحسن أحواله أن يكون منقولا عن ابن عباس بالمعنى ، ولو صح ذلك عن ابن عباس فليس مقصوده به نفي حقيقة النور عن الله ، وأنه ليس بنور ، ولا نور له كيف وابن عباس هو الذي سمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله في صلاة الليل : «اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن» (١) وهو الذي قال لعكرمة لما سأله عن قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣) قال ويحك ذاك نور ، إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء ، كيف ولفظ الآية والحديث ينبو عن تفسير النور بالهادي ، لأن الهداية تختص بالحيوان ، وأما الأرض نفسها والسماء فلا توصف بهدى ، والقرآن والحديث وأقوال الصحابة صريح بأنه سبحانه وتعالى نور السموات والأرض ، ولكن عادة السلف أن يذكر أحدهم في تفسير اللفظة بعض معانيها ولازما من لوازمها أو الغاية المقصودة منها ، أو مثالا ينبه السامع على نظيره ، وهذا كثير في كلامهم لمن تأمله ، فكونه سبحانه هاديا لا ينافي كونه نورا.

وأما ما ذكره عن ابن مسعود أنه بمعنى منور ، وأنها في مصحفه كذلك ، فهذا لا ينافي كونه في نفسه نورا ، وأن يكون النور من أسمائه وصفاته بل يؤكد ذلك ، فإن الموجودات النورانية نوعان (منها) ما هو في نفسه مستنير ولا ينير غيره كالجمرة مثلا ، فهذا لا يقال له نور ، ومنها ما هو مستنير في نفسه وهو منير لغيره كالشمس والقمر والنار ، وليس في الموجودات ما هو منور لغيره ، وهو في نفسه ليس بنور ، بل إنارته لغيره فرع كونه نورا في نفسه ، فقراءة ابن مسعود منور تحقيق لمعنى كونه نورا ، وهذا مثل كونه متكلما معلما مرشدا : مقدرا لغيره ، فإن ذلك فرع كونه في نفسه متكلما عالما رشيدا قادرا ، وقد صرح ابن مسعود بأن نور السموات والأرض من نور وجهه تبارك وتعالى.

__________________

(١) تقدم تخريجه قريبا.

٥٥٥

وأما ما حكاه عن أبي بن كعب أنه بمعنى مزين فلا أصل له عن أبي ، وهو بالكذب عليه أشبه ، فإن تفسير أبي لهذه الآية معروف ، رواه عنه أهل الحديث من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي ، ذكره ابن جريح ومعمر ووكيع وهشيم وابن المبارك وعبد الرزاق والإمام أحمد وإسحاق وخلائق غيرهم.

وذكر ابن جرير وسعيد وعبد بن حميد وابن المنذر في تفاسيرهم من طريق عبد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال فبدأ بنور نفسه فذكره ، ثم ذكر نور المؤمن فقال (مثل نوره) يقول مثل نور المؤمن ، قال : وكان أبي بن كعب يقرؤها كذلك (مثل نور المؤمن) قال : فهو عبد جعل الإيمان والقرآن في صدره كالمشكاة ، قال : المشكاة صدره فيها مصباح ، قال : المصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره : (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) قال : الزجاجة قلبه (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) قال : قلبه لما استنار فيه الإيمان والقرآن كأنه كوكب دري ، يقول مضي (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قال : فالشجرة المباركة الإخلاص لله وحده لا شريك له : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجرة ، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت. قال : فذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن وقد ابتلي بها فثبته الله ، فها هو بين أربع خلال : إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن قال صدق ، وإن حكم عدل ؛ فهو في الناس كرجل يمشي في قبور الأموات ، نور على نور ، فهو يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه نور ، وعلمه نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.

قال ثم ضرب مثلا آخر للكافر : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) (النور : ٣٩) الآية قال : فكذلك الكافر في يوم القيامة ، وهو يحسب أن له عند لله خيرا فلا يجده فيدخله النار.

قال وضرب مثلا آخر للكافر قال : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) (النور : ٤٠)

٥٥٦

الآية فهو يتقلب في خمسة من الظلم : فكلامه ظلمة. ومدخله ظلمة. ومخرجه ظلمة. ومصيره إلى الظلمات إلى النار.

فهذا التفسير المعروف عن أبي لا ما ذكره.

وأما قوله يصح أن يكون النور صفة فعل على معنى أنه ظاهر ، فما أبعده عن الصواب وكونه ظاهر ليس بصفة فعل ، فإنه الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وتلك صفات ذاته المقدسة لا أنها أفعال.

قال الأشعري في «الإبانة» ، قال الله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) (النور : ٣٥) فسمي نفسه نورا ، والنور عند الأمة لا يخلو من أحد معنيين : إما أن يكون نورا يسمع أو نورا يرى ، فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى كان مخطئا في نفيه رؤية ربه وتكذيبه بكتابه عزوجل وقول نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا لفظه.

وقال القاضي أبو يعلى : فأما قوله في حديث جابر : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوق رءوسهم ، فإذا الرب قد أشرق عليهم من فوقهم قال السلام عليكم يا أهل الجنة. قال فذلك قوله تعالى» (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) «قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه» (١) ، قال : فلا يمتنع حمله على ظاهره وأنه نور ذاته ، لأنه إذا جاز أن تظهر لهم ذاته فيرونها ، جاز أن يظهر لهم نورها فيرونه ، لأن النور من صفات ذاته ، وهو قوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) وذكر في موضع آخر قولين في ذلك ، ورجح هذا القول ، قال : وهو أشبه بكلام أحمد.

الوجه الرابع عشر : إن النور صفة الكمال ، وضده صفة نقص ، ولهذا سمى الله نفسه نورا ، وسمى كتابه نورا وجعل لأوليائه النور ، ولأعدائه الظلمة فقال : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (البقرة : ٢٥٧) ويجيء

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو ضعيف.

٥٥٧

الأنبياء يوم القيامة وأممهم لكل نبي نوران ، ولكل واحد من أتباعهم نور ، وتجيء هذه الأمة لكل منهم نوران ولنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل شعرة نور ، ولما كانت مادة الملائكة التي خلقوا منها نورا كانوا بالمحل الذي أحلهم الله به ، وكانوا خيرا محضا ، وللنور ظاهر وباطن ، فمتى حل ظاهره بجسم كساه من الجمال والجلال والمهابة والضياء ، والحسن والبهجة والسناء بحسب ما كسى من النور وزالت عنه الوحشة والثقل ، وكان مفرحا لرائيه سارا لناظريه ، وإذا حل باطنه بالباطن اكتسى من الخير والعلم ، والرحمة والهداية والعفو والجود ، والصبر والحلم ، والتواضع والنصيحة بحسب ذلك النور ، فالنور في الحقيقة (هو) كمال العبد في الظاهر والباطن.

ولما كان ليوسف الصديق من هذا النور النصيب الوافر ظهر في جماله الظاهر والباطن فكان على الصفة التي ذكرها الله في كتابه ، وكذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان نصيبه من هذا النور أكمل نصيب كان أجمل الخلق ظاهرا وباطنا ، فكان وجهه يتلألأ تلألأ القمر ليلة البدر ، وكان كلامه كله نورا ومدخله ومخرجه نورا ، فإذا تكلم رؤي النور يخرج من بين ثناياه فكان أكمل الخلق في نور الظاهر والباطن ، وكان نوره من أكبر آيات نبوته.

وقال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة انجفل الناس إليه فجئت حتى رأيته ، فلما وقع بصري عليه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول : «يا أيها الناس أفشوا السلام ، وصلوا الأرحام واطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (١) فاستدل على نبوته بنور وجهه ونور كلامه بنوره المرئي ونوره المسموع ، كما قال حسان بن ثابت.

لو لم تكن فيه آيات مبينة

كانت بداهته تأتيك بالخبر

__________________

(١) [صحيح] رواه أحمد (٥ / ٤٥١) ، والترمذي (٢٤٨٥) وقال : هذا حديث صحيح ا ه ، ورواه ابن ماجه (١٣٣٤) ، وصححه الألباني.

٥٥٨

أي ما يبدهك من وجهه ومنظره ونوره وبهائه ، وأخذه الصرصري فقال :

لو لم يقل إني رسول أما

شاهده في وجهه ينطق

فإذا كان هذا نور عبده فكيف بنوره سبحانه ، والرب تعالى هو الخالق للنور والظلمة كما استفتح سبحانه سورة الأنعام بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام : ١) فاستفتح السورة بإبطال قول أهل الشرك أجمعين ، من الثنوية المجوس القائلين بأن للعالم نورين : نور وظلمة. فأخبر أنه وحده رب النور والظلمة ، وخالقهما كما أنه وحده خالق السموات والأرض ، والله تعالى جعل الموجودات عاليا وسافلا ومتوسطا بينهما ، وجعل لسافلها الظلمة وهي مسكن أهل الظلمات من خلقه ، وجعل لعاليها النور ، وهو مسكن أهل النور منهم ، وجعل هذه الأرض وما فوقها إلى العلو متوسطا بينهما ، فكلما كان أقرب إلى العرش والكرسي كان أعظم نورا ، ولهذا كان فضل نور العرش والكرسي على ما تحته كفضل نور الشمس والقمر على أخفى الكواكب ، وكلما كان أقرب إلى إلى السفلي المطلق كان أشد ظلمة ، ولهذا لما كان محبس أهل الظلمات سجين كانت سوداء مظلمة لا نور فيها بوجه ، فكلما كان أقرب إلى الرب تعالى كان أعظم نورا ظاهرا وباطنا ، وكلما بعد عنه كان أشد ظلمة بحسب بعده عنه.

وذكر الإمام أحمد في كتاب «الزهد» أن موسى أقام أياما لا يحدث بني إسرائيل إلا متبرقعا من النور الذي غشي وجهه حين كلمه ربه ، فلم يكن أحد ينظر إليه. فنسبة الأنوار كلها إلى نور الرب كنسبة العلوم إلى علمه ، والقوى إلى قوته ، والغنى إلى غناه ، والعزة إلى عزته ، وكذلك باقي الصفات والعبد إذا سما بصره صعودا إلى نور الشمس غشى دون إدراكه وتعذر عليه غاية التعذر ، وأي نسبة لنور الشمس إلى نور خالقها ومبدعها ، وإذا كان نور البرق يكاد يلتمع البصر ويخطفه ولا يقدر العبد على إدراكه ، فكيف بنور الحجاب فكيف بما فوقه ، والأمر أعظم من أن يصفه واصف أو يتصوره عاقل ، فتبارك الله رب

٥٥٩

العالمين الذي أشرقت الظلمات بنور وجهه ، وعجزت الأفكار عن إدراك كنهه ، ودلت الآيات وشهدت الفطر باستحالة شبهه ، فلو لا وصف نفسه لعباده لما أقدموا على وصفه ، فهو كما وصف نفسه وأثنى على نفسه وفوق ما يصفه الواصفون.

* * *

٥٦٠