مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

عنها : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك» يتأول القرآن (١). فهذا التأويل هو فعل نفس المأمور به.

فهذا هو التأويل في كلام الله ورسوله.

(٣ ـ معنى التأويل اصطلاحا)

وأما التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان. ومنه قول ابن جرير وغيره : القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ومنه قول الإمام أحمد في «الرد على الجهمية» فيما تأولته من القرآن على غير تأويله ، فأبطل تلك التأويلات التى ذكرها وهو تفسيرها المراد بها. وهو تأويلها عنده ، فهذا التأويل يرجع إلى فهم المؤمن ويحصل في الذهن ، والأول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج.

وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من المتكلمين فمرادهم بالتأويل صرف اللفظ عن ظاهره ، وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه.

ولهذا يقولون : التأويل على خلاف الأصل ؛ والتأويل يحتاج إلى دليل. وهذا التأويل هو الّذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين. فممن صنف في إبطال التأويل على رأى المتكلمين القاضى أبو يعلى والشيخ موفق الدين ابن قدامة ، وقد حكى غير واحد إجماع السلف على عدم القول به.

ومن التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» (٢) فقالوا : نحن لم نقتله ، إنما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا. وهذا التأويل مخالف لحقيقة اللفظ وظاهره ؛ فإن الّذي قتله هو الذي باشر قتله لا من استنصر به. ولهذا رد عليهم من هو أولى بالحق والحقيقة منهم فقالوا :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الآذان (٨١٧) ، ومسلم في (الصلاة / ٤٨٤).

(٢) أخرجه مسلم (الفتن / ٢٩١٦) من حديث أم سلمة ، وأخرجه البخاري من حديث أبي سعيد (٤٤٧) بلفظ : «ويح عمار تقتله الفئة الباغية».

٤١

أفيكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه هم الذين قتلوا حمزة والشهداء معه ، لأنهم أتوا بهم حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين؟

ومن هذا قول عروة بن الزبير لما روى حديث عائشة «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر» (١) فقيل له : فما بال عائشة أتمت في السفر؟ قال : تأولت كما تأول عثمان ، وليس مراده أن عائشة وعثمان تأولا آية القصر على خلاف ظاهرها. وإنما مراده أنهما تأولا دليلا قام عندهما اقتضى جواز الإتمام فعملا به ، فكان عملهما به هو تأويله ؛ فإن العمل بدليل الأمر هو تأويله كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأول قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) (النصر : ٣) بامتثاله بقوله «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» (٢) فكأن عائشة وعثمان تأولا قوله تعالى : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (النساء : ١٠٣) فإن إتمامها من إقامتها. وقيل : تأولت عائشة أنها أم المؤمنين وأن أمهم حيث كانت فكأنها مقيمة بينهم ، وإن عثمان كان إمام المسلمين فحيث كان فهو منزله ، أو أنه كان قد عزم على الاستيطان بمنى ، أو أنه كان قد تأهل بها ؛ ومن تأهل ببلد لم يثبت له حكم المسافر ، أو أن الأعراب كانوا قد كثروا في ذلك الموسم فأحب أن يعلمهم فرض الصلاة وأنها أربع ، أو غير ذلك من التأويلات التى ظناها أدلة مقيدة لمطلق القصر ، أو مخصصة لعمومه ؛ وإن كانت كلها ضعيفة. والصواب هدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه كان إمام المسلمين ؛ وعائشة أم المؤمنين في حياته ومماته وقد قصرت معه ؛ ولم يكن عثمان ليقيم بمكة وقد بلغه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما رخص في الإقامة بها للمهاجرين بعد قضاء نسكهم ثلاثا ، والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت به حكم الإقامة بمجرد التزوج ما لم يزمع الإقامة.

وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الصحيح وغيره هو الفاسد.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣٩٣٥) ، ومسلم (صلاة المسافرين / ٦٨٥) وغيرهما.

(٢) تقدم تخريجه قريبا.

٤٢

(٤ ـ أنواع التأويل الباطل)

والتأويل الباطل أنواع :

(أحدها) ما لم يحتمله اللفظ بوضعه الأول مثل تأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتى يضع رب العزة فيها رجله» (١) ـ بأن الرّجل جماعة من الناس ، فإن هذا الشيء لا يعرف في شيء من لغة العرب البتة.

(الثاني) ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع ، وان احتمله مفردا كتأويل قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) بالقدرة.

(الثالث) ما لم يحتمله سياقه وتركيبه وإن احتمله في غير ذلك السياق كتأويل قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨) ، بأن إتيان الرب إتيان بعض آياته التي هي أمره ، وهذا يأباه السياق كل الإباء فإنه يمتنع حمله على ذلك مع التقسيم والتنويع والترديد.

وكتأويل قوله : «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر صحوا ، ليس دونه سحاب ؛ وكما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب» (٢) فتأويل الرؤية في هذا السياق بما يخالف حقيقتها وظاهرها في غاية الامتناع : وهو رد وتكذيب يستتر صاحبه بالتأويل.

(الرابع) ما لم يؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث ، وهذا موضع زلت فيه أقدام كثير من الناس حيث تأولوا كثيرا من ألفاظ النصوص بما لم يؤلف استعمال اللفظ له في لغة العرب البتة ؛

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤٨٥٠) ، ومسلم في (٤ / ٣٥ : ٣٨) من حديث أبي هريرة وأنس.

(٢) رواه البخاري (٧٤٣٥ ـ ٧٤٣٦) عن جرير ببعضه ، وأخرجه مطولا عن أبي هريرة برقم (٧٤٣٧ ، ٧٤٣٩) ، ورواه مسلم في (الإيمان / ١٨٣) من حديث أبي سعيد الخدرى وسيأتي شرحه في بابه إن شاء الله تعالى.

٤٣

وإن كان معهودا في اصطلاح المتأخرين. وهذا مما ينبغى التنبه له ؛ فإنه حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل ، كما تأولت طائفة قوله تعالى (فَلَمَّا أَفَلَ) بالحركة. وقالوا : استدل بحركته على بطلان ربوبيته ، ولا يعرف في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن الأفول هو الحركة في موضع واحد البتة. وكذلك تأويل الأحد بأنه الذي لا يتميز منه عن شيء البتة. ثم قالوا : لو كان فوق العرش لم يكن أحدا ؛ فإن تأويل الأحد بهذا المعنى لا يعرفه أحد من العرب ولا أهل اللغة ؛ إنما هو اصطلاح الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن رافقهم.

وكتأويل قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف : ٥٤) بأن المعنى أقبل على خلق العرش ؛ فإن هذا لا يعرف في لغة العرب ولا غيرها من الأمم ، لا يقال لمن أقبل على الرحل استوى عليه ، ولا لمن أقبل على عمل من الأعمال من قراءة أو دراسة أو كتابة أو صناعة قد استوى عليها ، وهذا التأويل باطل من وجوه كثيرة سنذكرها بعد إن شاء الله تعالى ، لو لم يكن منها إلا تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحب هذا التأويل لكفاه. فإنه ثبت في «الصحيح» «إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء» (١) فكان العرش موجودا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. فكيف يقال إنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم أقبل على خلق العرش؟ والتأويل إذا تضمن تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحسبه ذلك بطلانا.

(الخامس) ما ألف استعماله في غير ذلك المعني لكن في غير التركيب الذي ورد النص ؛ فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر كتأويل اليدين في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥). بالنعمة ، ولا ريب أن العرب تقول : لفلان عندي يد. وقال

__________________

(١) أخرجه مسلم في (القدر / ٢٦٥٣) من حديث عبد الله بن عمرو وأوله : «كتب الله مقادير الخلائق».

٤٤

عروة بن مسعود للصديق رضي الله عنه : لو لا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه ثم تعدى الفعل إلى اليد بالباء التى هى نظير كتبت بالقلم ، وجعل ذلك خاصة خص بها صفية آدم دون البشر كما خص المسيح. بأنه نفخ فيه من روحه وخص موسى بأنه كلمه بلا واسطة.

فهذا مما يحيل تأويل اليد في النص بالنعمة وإن كانت في تركيب آخر تصلح لذلك ، فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنى ما في تركيب صلاحيته له في كل تركيب.

كذلك قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٢ ـ ٢٣) يستحيل فيها تأويل النظر بانتظار الثواب (١) فإنه أضاف النظر إلى الوجوه بالنظرة

__________________

(١) وأخرجه عبد بن حميد بسند صحيح عن مجاهد : ناظرة تنظر الثواب ، وعن أبي صالح نحوه قال الحافظ : الأولى عندى بالصواب ما ذكرناه عن الحسن البصرى وعكرمة هو ثبوت الرؤية لموافقته الأحاديث الصحيحة ا ه ، وبالغ ابن عبد البر في رد الذي نقل عن مجاهد وقال : هو شذوذ وقد تمسك به بعض المعتزلة وتمسكوا أيضا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان ، وفيه «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، قال بعضهم : فيه إشارة إلى انتفاء الرؤية ، وتعقب بأن المنفى فيه رؤيته في الدنيا لأن العبادة خاصة بها ، فلو قال قائل إن فيه إشارة إلى جواز الرؤية في الآخرة لما أبعد ا ه (الفتح : ١٣ / ٤٣٤).

وقال مالك بن أنس ، وقد قيل له : يا أبا عبد الله قول الله تعالى (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) يقول قوم إلى ثوابه ، فقال : كذبوا فأين هم عن قوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، ومن حيث النظر : أن كل موجود يصح أن يرى ، وهذا على سبيل التنزل وإلا فصفات الخالق لا تقاس على صفات المخلوقين ... إلخ كلامه انظره في المصدر السابق.

وقال ابن بطال : ذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة ومنع الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة ، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئى محدثا وحالا في مكان ، وأولوا قوله «ناظرة» بمنتظرة وهو خطأ لأنه لا يتعدى بإلى ، ثم ذكر نحو ما تقدم أه المصدر السابق.

٤٥

التى لا تحصل إلا مع حضور ما يتنعم به لا مع التنغيص بانتظاره ، ويستحيل مع هذا التركيب تأويل النظر بغير الرؤيا وإن كان النظر بمعنى الانتظار في قوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (الحديد : ١٣) وقوله (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل : ٣٥).

ومثل هذا قول الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) فقل له : العرش له عدة معان والاستواء له خمسة معان فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول :

فيقال لهذا الجاهل : ويلك ما ذنب الموحد الذي سميته أنت وأصحابك مشبها؟ وقد قال لك نفس ما قال الله تعالى. فو الله لو كان كما تزعم لكان أولى الله ورسوله منك لأنه لم يتعد النص.

(وأما قولك) العرش له سبعة معان ونحوها ، والاستواء له خمسة معان ، فتلبيس منك على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه ليس لعرش الرحمن الّذي استوى عليه إلا معنى واحد ؛ وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد ، وقد صار بها العرش معينا وهو عرش الرب تعالى الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل ؛ وأقرت به الأمم إلا من نابذ الرسل.

وقولك الاستواء له عدة معان تلبيس آخر منك ، فإن الاستواء المعدّى بأداة «على» ليس له إلا معنى واحد. وأما الاستواء المطلق فله عدة معان فإن العرب تقول : استوى كذا : انتهى وكمل ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) (القصص : ١٤) وتقول : استوى إلى كذا ، إذا ساواه ؛ نحو قولهم : استوى الماء والخشبة ، واستوى الليل والنهار. وتقول : استوى إلى كذا إذا قصد إليه علوا وارتفاعا نحو استوى إلى السطح والجبل ؛ واستوى على كذا أي ارتفع عليه وعلا عليه. ولا تعرف العرب غير هذا. فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه كما هو نص في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم استوى الليل والنهار في معناه ولا يحتمل غيره.

٤٦

(السادس) اللفظ الذي اطرد استعماله في معنى هو ظاهر فيه ولم يعهد استعماله في المعنى المؤول أو عهد استعماله فيه نادرا ، فحمله على خلاف المعهود من استعماله باطل ، فإنه يكون تلبيسا يناقض البيان والهداية ، بل إذا أرادوا استعمال مثل هذا في غير معناه المعهود حفوا به من القرائن ما يبين للسامع مرادهم به لئلا يسبق فهمه إلى معناه المألوف. ومن تأمل كمال هذه اللغة وحكمة واضعها تبين له صحه ذلك.

(السابع) كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل كتأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل» (١) فيحمله على الأمة ؛ فإن هذا التأويل مع شدة مخالفته لظاهر النص يرجع على أصل النص بالإبطال وهو قوله : «فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها» ومهر الأمة إنما هو للسيد ، فقالوا : نحمله على المكاتبة ، وهذا يرجع على النص بالإبطال من وجه آخر ، فإنه أتى فيه ب «أى» الشرطية التى هي من أدوات العموم ، وأتى بالنكرة في سياق الشرط وهى تقتضى العموم ؛ وعلق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضى لوجود الحكم بوجوده ؛ وهو إنكاحها نفسها فرتبه على العلة المقتضية للبطلان وهو افتئاتها على وليها. وأكد الحكم بالبطلان مرة بعد مرة ؛ ثلاث مرات ؛ فحمله على صورة لا تقع في العالم إلا نادرا يرجع إلى مقصود النص بالإبطال ؛ وأنت إن تأملت عامة تأويلات الجهمية رأيتها من هذا الجنس بل أشنع.

(الثامن) تأويل اللفظ الذي له ظاهر لا يفهم منه عند إطلاقه سواه إلا بالمعنى الخفي الذي لا يطلع عليه إلا فرادى من أهل النظر والكلام ؛ كتأويل لفظ الأحد الذي يفهمه الخاصة والعامة بالذات المجردة عن الصفات التى لا يكون فيها معنيان

__________________

(١) [صحيح] أخرجه أحمد (٦ / ٦٦) ، وأبو داود (٢٠٨٣) ، والترمذي (١١٠٢) وقال : حديث حسن ، وابن ماجه (١٨٧٩) ، والحاكم (٢ / ١٦٨) وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» وانظر «الإرواء» (١٨٤٠).

٤٧

بوجه ، فإن هذا لو أمكن ثبوته في الخارج لم يعرف إلا بعد مقدمات طويلة صعبة جدا ؛ فكيف وهو محال في الخارج وإنما يفرضه الذهن فرضا ؛ ثم استدل على وجوده الخارجي ؛ فيستحيل وضع اللفظ المشهور عند كل أحد لهذا المعنى الذي هو في غاية الخفاء.

(التاسع) التأويل الذي يوجب تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلو والشرف ؛ ويحطه إلى معنى دونه بمراتب ؛ مثاله تأويل الجهمية (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (الأنعام : ١٨) ونظائره بأنها فوقية الشرف ، كقولهم الدراهم فوق المفلس. فعطلوا حقيقة الفوقية المطلقة التى هي من خصائص الربوبية المستلزمة لعظمة الرب تعالى ، وحطوها إلى كون قدره فوق قدر بنى آدم ؛ وكذلك تأويلهم استواءه على عرشه بقدرته عليه وأنه غالب عليه.

فيا لله العجب ، هل شك عاقل في كونه غالبا لعرشه ؛ قادرا عليه ؛ حتى يخبر به سبحانه في سبعة مواضع من كتابه مطّردة بلفظ احد ؛ ليس فيها موضع واحد يراد به المعنى الذي أبداه المتأولون؟ وهذا التمدح والتعظيم كله لأجل أن يعرفنا أنه غلب على عرشه وقدر عليه بعد خلق السموات والأرض؟ أفترى لم يكن غالبا لعرش قادرا عليه في مدة تزيد عن خمسين ألف سنة ثم تجدد له ذلك بعد خلق هذا العالم؟

(العاشر) تأويل اللفظ بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق ولا قرينة تقتضيه. فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه ، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس ، فإن الله تعالى أنزل كلامه بيانا وهدى ، فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى كل أحد لم يكن بيانا ولا هدى.

* * *

٤٨

فصل

(عدم تنازع الصحابة في آيات الصفات)

تنازع الناس في كثير من الأحكام ، ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد ، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها ، وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا وأن العناية ببيانها أهم ، لأنها من تمام تحقيق الشهادتين ، وإثباتها من لوازم التوحيد. فبيّنها الله سبحانه وتعالى ورسوله بيانا شافيا لا يقع فيه لبس يوقع الراسخين في العلم.

وآيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس. وأما آيات الصفات فيشترك في فهم معناها الخاص والعام ، أعنى فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية. ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة : ١٧٨). حتى يبين لهم بقوله (مِنَ الْفَجْرِ) ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ...) الآية (البقرة : ١٨٦) وغيرها من آيات الصفات.

وأيضا فإن آيات الأحكام مجملة عرف بيانها بالسنة كقوله تعالى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (البقرة : ١٩٦) فهذا مجمل في قدر الصيام والإطعام ، فبينته السنة بأنه صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين ، أو ذبح شاة (١). ونظائره كثيرة كآية السرقة وآية الصلاة والزكاة والحج. وليس في آيات الصفات وأحاديثها مجمل يحتاج إلى بيان من خارج ، بل بيانها فيها وإن جاءت السنة بزيادة في البيان والتفصيل.

__________________

(١) أخرجه مسلم في (الحج / ٢ : ٨٠) من حديث كعب بن عجرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف عليه ورأسه يتهافت قملا ، فقال : «أيؤذيك هوامك؟» قلت : نعم ، قال : «فاحلق رأسك» قال : ففيّ نزلت هذه الآية : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق أو انسك ما تيسر لك».

٤٩

فصل

في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات

الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ

لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات ، وسمى نفسه بأسماء ، أخبر عن نفسه بأفعال ، وأخبر أنه يحب ويكره ، ويمقت ويرضى ، ويغضب ، ويسخط ، ويجيء ويأتى ، وينزل إلى السماء الدنيا ، وأنه استوى على عرشه ، وأن له علما ، وحياة ، وقدرة ، وإرادة ، وسمعا ، وبصرا ، ووجها ، وأن له يدين ، وأنه فوق عباده ، وأن الملائكة تعرج إليه ، وتنزل بالأمر من عنده ، وأنه قريب ، وأنه مع المحسنين ، ومع الصابرين ، ومع المتقين ، وأن السموات مطويات بيمينه. ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك ، وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك.

فيقال للمتأول : تتأول هذا كله على خلاف ظاهره ، أم تفسر الجميع على ظاهره وحقيقته ، أم تفرق بين بعض ذلك وبعضه؟ فإن تأولت الجميع وحملته على خلاف حقيقته كان ذلك عنادا ظاهرا وكفرا صراحا ، وجحدا لربوبيته. وهذا مذهب الدهرية الذين لا يثبتون للعالم صانعا (فإن قلت) أثبت للعالم صانعا ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه. وحيث وصف بما يقع على المخلوق تأولته (قيل له) فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه ، هل تدل على معانى ثابتة هي حق في نفسها أو لا تدل؟ فإن نفيت دلالتها على معنى ثابت كان ذلك غاية التعطيل. وإن أثبت دلالتها على معنى هي حق في نفسها ثابت ، قيل لك : فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض؟ وما الفرق بين ما أثبتها ونفيتها من جهة السمع أو العقل ، ودلالة النصوص على أن له سمعا وبصرا وعلما وقدرة وإرادة وحياة وكلاما كدلالتها على أن له محبة ورحمة وغضبا ورضا وفرحا وضحكا ووجها ويدين. فدلالة النصوص على ذلك سواء ، فلم نفيت حقيقة رحمته ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه ، وأوّلتها نفس الإرادة؟.

٥٠

فإن قلت : إن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما ، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم الشبيه والتجسيم ، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام ، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان ، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها ، والغضب غليان دم القلب لورود ما يرد عليه.

قيل لك : وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب له ينفعها ودفع ما يضرها ، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد. فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم ، أو صفة عرضية قائمة به. وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف. فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟

فإن قلت : أنا أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشبهها.

قيل لك : فهلا أثبت الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين؟

فإن قلت : هذا لا يعقل. قيل لك فكيف عقلت سمعا وبصرا وحياة وإرادة ومشيئة ليست من جنس صفات المخلوقين؟ فإن قلت : أنا أفرق بين ما يتأول وما لا يتأول بأن ما دل العقل على ثبوته يمتنع تأويله كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر ، وما لا يدل عليه العقل يجب أو يسوغ تأويله كاليد والوجه والضحك والفرح والغضب والرضى ، فإن الفعل المحكم دل على الإرادة فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل.

قيل لك : وكذلك الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة سواء. والتخصيص بالكرامة والاصطفاء والاختيار دل على المحبة كدلالة ما ذكرت على الإرادة ، والإهانة والطرد والإبعاد والحرمان دال على المقت والبغض كدلالة ضده على الرضى والحب. والعقوبة والبطش والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده على الرضى.

(ونقول ثانيا) هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها فإنه

٥١

لا ينفيها ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل ، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله؟

(ويقال ثالثا) إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيها وتجسيما فهو يقتضيه في الجميع ، فأول الجميع ، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يجز تأويل شيء منه ، وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه طولبت بالفرق بين الأمرين.

ولما تفطن بعضهم لتعذر الفرق قال : ما دل عليه الإجماع كصفات السمع لا يتأول وما لم يدل عليه الإجماع فإنه يتأول. وهذا كما تراه من أفسد الفروق ، فإن مضمونه أن الإجماع أثبت ما يدل عليه رأي التجسيم والتشبيه ، وهذا قدح في الإجماع ، فإنه لا ينعقد على باطل.

(ثم يقال) إن كان الإجماع دل على هذه الصفات وظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم بطل نفيكم لذلك ، وإن لم ينعقد عليه بطل التفريق به.

(ثم يقال) خصومكم من المعتزلة لم تجمع على ثبوت هذه الصفات ، فإن قلتم : انعقد الإجماع قبلهم قيل : صدقتم والله ، والذين أجمعوا قبلهم على إثبات هذه الصفات أجمعوا على إثبات سائر الصفات ولم يخصوها بسبع ، بل تخصيصها بالسبع خلاف قول السلف ، وقول الجهمية والمعتزلة. فالناس كانوا طائفتين : سلفية وجهمية (١) ، فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولا بين قولين فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا.

__________________

(١) الجهمية : هم ، أتباع جهم بن صفوان الّذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال ، وأنكر الاستطاعات كلها ، وزعم أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ، وزعم أيضا أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط ، وأن الكفر هو الجهل به فقط ، وقال : لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز ... إلى آخر ضلالاته في مسألة الجبر وإنكار الصفات ... إلخ.

وثبت عن أبي حنيفة أنه قال : بالغ جهم في نفى التشبيه حتى قال إن الله ليس بشيء.

أفاده الحافظ في «الفتح» وقال : وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة ، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات ، حتى قالوا إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق. ا ه (الفتح : ١٣ / ٣٥٧).

وأخرج ابن خزيمة في «التوحيد» ، ومن طريقه البيهقي في «الأسماء والصفات»

٥٢

وقالت طائفة أخرى : ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاضا ، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام ، ولا يتأول ، وما كان ظاهره جوارح وأبعاضا كالوجه واليدين والقدم فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم.

قال المثبتون : جوابنا لكم هو عين الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات ، فهم قالوا لكم : لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة الحياة لكان محلا للأعراض ، ولزم التركيب والتجسيم والانقسام ، كما قلتم : لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام وحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به.

فإن قلتم : نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضا ولا نسميها أعراضا فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيما.

قيل لكم : ونحن نثبت الصفات التى أثبتها الله لنفسه ونفيتموها أنتم عنه على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ، ولا يسمى المتصف بها مركبا ولا جسما ولا منقسما.

فإن قلتم : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض. قلنا لكم : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض.

فإن قلتم : العرض لا يبقى زمانين ، وصفات الرب تعالى باقية دائمة أبدية فليست أعراضا. قلنا : وكذلك الأبعاض هى ما جاز مفارقتها وانفصالها وذلك

__________________

عن معاذ البلخي يقول : كان جهم على معبر ترمذ ، وكان كوفى الأصل فصيحا ، ولم يكن له علم ولا مجالسة أهل العلم ، فقيل له : صف لنا ربك فدخل البيت لا يخرج كذا ، ثم خرج بعد أيام فقال : هو هذا الهواء مع كل شيء ، وفي كل شيء ، ولا يخلو منه شيء.

وأخرج البخاري من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال : كلام جهم صفة بلا معنى ، وبناء بلا أساس ، ولم يعدّ قط في أهل العلم ، وقد سئل عن رجل طلق قبل الدخول؟! فقال : تعتد امرأته.

وأورد آثارا كثيرة عن السلف في تكفير جهم. ا ه. المصدر السابق.

٥٣

في حق الرب تعالى محال فليست أبعاضا ولا جوارح ، فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقا في نوعين ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أبعاضه وأعراضه.

فإن قلتم : إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والأصبع فهو محال ، وإن كان غيره يلزم التميز ويلزم التركيب قلنا لكم : وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهى نفس الحياة والقدرة فهو محال وإن تميز لزم التركيب. فما هو جوابكم فالجواب مشترك.

فإن قلتم : نحن نعقل صفات ليست أعراضا تقوم بغير جسم وإن لم يكن له في الشاهد نظير. ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة ، ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين وإن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه.

ولما أخذ هذا الإلزام بخناق الجهمية قالوا : الباب كله عندنا واحد ونحن ننفي الجميع.

فتبين أنه لا بد لكم من واحد من أمرين : إما هذا النفي والتعطيل ، وإما أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ، وتتبعوا في ذلك سبيل السلف الذين هم أعلم الأمة بهذا الشأن نفيا وإثباتا ، وأشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بجلاله ، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، ولا يترك تدبرها ومعرفتها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أمانى ، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها ، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل ؛ كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك. فكان الباب عندهم بابا واحدا ، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات ، فكما ذاته لا تشبه الذوات ، فكذا صفاته لا تشبه الصفات.

قال الإمام أحمد : التشبيه أن تقول يد كيد أو وجه كوجه ، فأما إثبات يد ليست كالأيدى ووجه ليس كالوجوه فهو إثبات ذات ليست كالذوات وحياة ليست

٥٤

كغيرها من الحياة وسمع وبصر ليسا كالأسماع والأبصار ، وليس إلا هذا المسلك ، ومسلك التعطيل المحض والتناقض الذي لا يثبت لصاحبه قدم في النفي ولا في الإثبات وبالله التوفيق ، وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول كل ما يخالف نحلتها وأصلها ، فالعيار عندهم فيما يتأول وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه ، ما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما خالفها تأولوه.

* * *

فصل

في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه

وهو فصل بديع يعلم منه أن المتأولين لم يستفيدوا بتأويلهم إلا بتعطيل حقائق النصوص ، وأنهم لم يتخلصوا مما ظنوه محذورا بل هو لازم لهم فيما فروا إليه كلزومه فيما فروا منه ، بل قد ينفون ما هو أعظم محذورا كحال الذين تأولوا نصوص العلو والفوقية والاستواء فرارا من التحيز والحصر. ثم قالوا : هو في كل مكان بذاته. فنزهوه عن استوائه على عرشه ومباينته لخلقه وجعلوه في أجواف البيوت والآبار والأواني والأماكن التي يرغب عن ذكرها.

ولما علم متأخرو الجهمية فساد ذلك قالوا : ليس وراء العالم ولا فوق العرش إلا العدم المحض ، وليس هناك رب يعبد ولا إله يصلّى له ويسجد ، ولا هو أيضا في العالم. فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخس مكان.

فإذا تأول المتأول المحبة والرحمة والرضى والغضب بالإرادة ، وقيل له : يلزمك في الإرادة ما لزمك في هذه الصفات كما تقدم تقريره. وإذا تأول الوجه بالذات لزمه في الذات ما يلزمه في الوجه ، فإن لفظ الذات يقع على القديم والمحدث. وإذا تأول لفظ اليد بالقدرة ، يوصف بها الخالق والمخلوق ، وإذا تأول السمع والبصر بالعلم : لزمه ما فر منه في العلم. وإذا تأول الفوقية بفوقية القهر ، لزمه فيها ما فر منه من فوقية الذات. فإن القاهر من اتصف بالقوة

٥٥

والغلبة ، ولا يعقل هذا إلا جسما ، فإن أثبته العقل غير جسم لم يعجز عن إثبات فوقية الذات لغير جسم. وكذلك من تأول الأصبع بالقدرة فإن القدرة أيضا صفة قائمة بالموصوف عرض من أعراضه ، ففر من صفة إلى صفة. وكذلك من تأول الضحك بالرضى بالإرادة ، إنما فر من صفة إلى صفة ، فهلا أقر النصوص على ما هى عليه ولم ينتهك حرمتها؟ فإن المتأول إما أن يذكر معنى ثبوتيا أو يتأول اللفظ بما هو عدم محض ، فإن تأوله بمعنى ثبوتى كائن لزمه فيه نظير ما فر منه (والله أعلم).

* * *

فصل

(هل لله يد واحدة أم أياد وعين واحدة أم أعين ..)

قال الجهمي : ورد في القرآن ذكر الوجه والأعين والعين الواحدة. فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخص له وجه ؛ وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة وله جنب واحد ، وعليه أيد كثيرة ، وله ساق واحد ولا نرى في الدنيا شخصا أقبح من هذه الصورة المتخيلة.

قال السني المعظم حرمات الله تعالى : قد ادعيت أيها الجهمي أن ظاهر القرآن الذي هو حجة الله على عباده ، والذي هو خير الكلام وأصدقه وأحسنه وأفصحه وهو الذي هدى الله به عباده وجعله شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين ، ولم ينزل كتابا من السماء أهدى منه ولا أحسن ولا أكمل. فانتهكت حرمته وعظمته ونسبته إلى أقبح النقص والعيب ، وادعيت أن ظاهره ومدلوله إثبات شخص له وجه وله أعين كثيرة ، وله ساق واحد ، وادعيت أن ظاهر ما وصف الله به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة ، فيكون سبحانه قد وصف نفسه بأقبح الصفات في ظاهر كلامه. فأي طعن في القرائن أعظم من طعن من يجعل هذا ظاهره؟ ولم يدّع أحد من أعداء الرسول الذين ظاهروه بالمحاربة أن ظاهر كلامه أبطل الباطل ، فلو كان ذلك ظاهر القرآن لكان

٥٦

ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه. وقالوا : كيف تدعونا إلى عبادة رب صورته هذه الصورة الشنيعة؟ وهم يوردون عليه ما هو أقل من هذا بكثير. كما أوردوا عليه المسيح لما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ؛ فتعلقوا بظاهر ما لم يدل عليه ما أورده ، وهو دخول المسيح فيما عبد من دون الله إما بعموم لفظ (ما) وإما بعموم المعنى. وأورد أهل الكتاب على قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) (سورة مريم : ٢٨) أن بين هارون وعيسى ما بينهما وليس ظاهر القرآن أنه هارون بن عمران بوجه ، وكانوا يتعنتون فيما يوردونه على القرآن بهذا ودونه. فكيف يجدون ظاهره إثبات رب شأنه هذا ولا ينكرونه؟

والجواب أن قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [سورة القمر] ودعوى الجهمي أن ظاهر هذه إثبات أعين كثيرة كذب ظاهر. فإنه إن دل ظاهره على أعين كثيرة وأيد كثيرة ، دل على خلقين كثيرين ، فإن لفظ الأيدي مضاف إلى ضمير الجمع ، فادّع أيها الجهمي أن ظاهره إثبات أيد كثيرة لآلهة متعددة ، وإلا فدعواك أن ظاهره أيد كثيرة لذات واحدة خلاف الظاهر ، وكذلك قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (سورة القمر : ١٤) إنما ظاهره بزعمك أعين كثيرة على ذوات متعددة لا على ذات واحدة.

(الثاني) أن دعواك أن ظاهر القرآن إثبات أيد كثيرة في جنب واحد كذب آخر. فأين في ظاهر القرآن أن الأيدي في الجنب؟ وكذلك إنما أخذت هذا من القياس على بني آدم فشبهت أولا ، وعطلت ثانيا ، وكذلك جعلك الأعين الكثيرة في الوجه الواحد ليس في ظاهر القرآن ما يدل على هذا ، وإنما أخذته من التشبيه بالآدمي. ولهذا قال بعض أهل العلم : إن كل معطل مشبه ، ولا يستقيم لك التعطيل إلا بعد التشبيه.

(الثالث) أين في القرآن إثبات ساق واحدة لله تعالى وجنب واحد؟ فإنه سبحانه وتعالى قال : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (القلم : ٤٢) وقال : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الزمر : ٥٦) فعلى تقدير أن يكون الساق والجنب من الصفات فليس في ظاهر القرآن ما يوجب ألا يكون له إلا جنب واحد وساق واحد. ولو دل على ما ذكرت لم يدل على نفي ما زاد على ذلك لا بمنطوقه ولا بمفهومه ، حتى القائلين بمفهوم اللقب لا يدل ذلك

٥٧

عندهم على نفي ما عدا المذكور ، لأنه متى كان للتخصيص بالذكر سبب غير الاختصاص بالحكم لم يكن المفهوم مرادا بالاتفاق ، وليس المراد بالآيتين إثبات الصفة حتى يكون تخصيص أحد الأمرين بالذكر مرادا ، بل المقصود حكم آخر وهو إثبات تفريط العبد في حق الله تعالى ، وبيان سجود الخلائق إذا كشف عن ساق. وهذا حكم قد يختص بالمذكور دون غيره فلا يكون له مفهوم.

(الرابع) هب أنه سبحانه أخبر أنه يكشف عن ساق واحدة هى صفة ، فمن أين في ظاهر القرآن أنه ليس له سبحانه إلا تلك الصفة الواحدة ، وأنت لو سمعت قائلا يقول : كشفت عنى عيني وأبديت عن ركبتي وعن ساقي ، هل يفهم منه أنه ليس له إلا ذلك الواحد فقط ، فلو قال لك أحد لم يكن هذا ظاهر كلامه فكيف يكون ظاهر أفصح الكلام وأبينه ذلك.

(الخامس) إن المفرد المضاف يراد به أكثر من واحد ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة إبراهيم : ٣٤] وقوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) (سورة التحريم : ١٢) وقوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (سورة البقرة : ١) فلو كان الجنب والساق صفة لكان بمنزلة قوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (سورة الملك : ١) و (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (آل عمران : ٢٦) و (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (سورة طه : ٣٩).

(السادس) أن يقال : من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد هو صفة لله؟ ومن المعلوم أن هذا لا يثبته أحد من بنى آدم ، وأعظم الناس إثباتا للصفات هم أهل السنة والحديث ، لا يثبتون أن الله تعالى جنبا واحدا ، ولا ساقا واحدا.

قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي (١) :

__________________

(١) المريسى : هو بشر بن غياث المريسى ، مبتدع ضال ، تفقه أول أمره على قاضى القضاة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، غير أنه لما أظهر قوله بخلق القرآن هجره أبو يوسف ، وأتقن علم الكلام ، ولم يدرك جهم بن صفوان ، ولكنه أخذ مقالته واحتج بها ، ودعا إليها ، وزعم أن السجود للصنم ليس بكفر ولكنه دلالة على الكفر ، وحدث البويطي قال : سمعت الشافعي يقول : ناظرت المريسي في القرعة فذكرت له فيها حديث عمران بن حصين ، فقال : هذا قمار ، فأتيت أبا البختري القاضي وحكيت له ذلك ، فقال : يا أبا عبد الله ، شاهد آخر وأصلبه ، وأخذ في أيام دولة الرشيد رحمه‌الله ، وأوذى لأجل

٥٨

وادعاء المعارض زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (سورة الزمر : ٥٦) أنهم يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو ، وليس ذلك على ما يتوهمونه. قال الدارمي : فيقال لهذا المعارض : ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك فإن كنت صادقا في دعواك فأشر بها إلى أحد من بنى آدم. قال : وإلا فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك ، إنما تفسيرها عندهم : تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله واختاروا عليها الكفر والسخرية. فمن أنبأك أنهم قالوا : جنب من الجنوب؟ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلا عن علمائهم. وقد قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه : «الكذب مجانب للإيمان» (١) وقال ابن مسعود رضي الله عنه «لا يجوز الكذب جدا ولا هزلا» وقال الشعبي «من كان كذابا فهو منافق» (٢). والتفريط فعل أو ترك فعل ، وهذا لا يكون قائما بذات الله لا بجنب ولا غيره ، بل لا يكون منفصلا عن الله تعالى ، وهو معلوم بالحس والمشاهدة.

__________________

مقالته ، مات سنة (٢١٨ ه‍) ، وذكر ابن الجوزي في «التلبيس» عن بشر بن الحارث أنه قال : جاء موت هذا الذي يقال له : المريسى وأنا في السوق فلو لا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكرا ، الحمد لله الّذي أماته ؛ هكذا قولوا. ا ه.

وانظر في ترجمته وأحواله (الفرق بين الفرق : فقرة / ١١٢ ، وميزان الاعتدال للذهبي ١٢١٤ وابن خلكان رقم / ١١٢ ، وتاريخ بغداد للخطيب / ٧ : ٥٦)

(١) رواه البيهقي في «الشعب» (٤ / ٤٨٠٤ ـ ٤٨٠٧) مرفوعا وقال : هذا إسناد ضعيف والصحيح أنه موقوف. أه.

(٢) وورد في «صحيح البخاري» من حديث أبي هريرة يرفعه : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ...» الحديث في كتاب الإيمان برقم (٣٣) ، وحديث عبد الله بن عمرو ، يرفعه : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ، رواه البخاري (٣٤).

٥٩

(السابع) هب أن القرآن دل على إثبات جنب هو صفة ، فمن أين لك ظاهره أو باطنه على أنه جنب واحد وشق واحد؟ ومعلوم أن إطلاق مثل هذا لا يدل على أنه شق واحد ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمران بن حصين : «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» (١) وهذا لا يدل على أنه ليس للمرء إلا جنب واحد.

فإن قيل : المراد على جنب من جنبيك. قلنا فقد علم أن ذكر الجنب مفردا لا يدل على نفى أن يكون له جنب آخر. ونظير هذا القدم إذا ذكر مفردا لا يدل على نفي قدم آخر ، كما في الحديث الصحيح : «حتى يضع رب العزة عليها قدمه» (٢).

(الثامن) من أين في ظاهر القرآن أن لله ساقا وليس معك إلا قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (القلم : ٤٢) والصحابة متنازعون في تفسير الآية على المراد بها : إن الرب تعالى يكشف عن ساقه ، ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع؟ وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله تعالى ، لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه وإنما ذكره مجردا عن الإضافة منكرا ، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن ، إنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته ، وهو حديث الشفاعة الطويل. وفيه «فيكشف الرب عن ساقه» الحديث (٣) ومن حمل الآية على ذلك قال قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) :

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١١٧) ، والإمام أحمد (٤ / ٤٢٦) ، والترمذي (٣٧٢) ، وابن ماجه (١٢٢٣).

(٢) أخرجه البخاري (٧٤٣٩) ، ومسلم في (الإيمان / ١٨٣) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.

(٣) أخرجه البخاري (٧٤٣٩) ، ومسلم في (الإيمان / ١٨٢) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.

٦٠