مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

وإن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمين

وهذه الفوقية هو تفسير الاستواء المذكور في القرآن والسنة ، والجهمية يجعلون كونه فوق العرش بمعنى أنه خير من العرش أفضل منه كما يقال الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم ، والمعنى عندهم أنه أعلم الأمة بأن الله خير وأفضل من العرش.

فيا للعقول ؛ أين في لغة العرب حقيقة أو مجازا أو كناية واستعارة بعيدة أن يقال استوى على كذا إذا كان أعظم منه قدرا وأفضل ، هذا من لغة الطماطم لا من لغة القوم الذين بعث فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتاب الله لا يحتمل هذا التأويل الباطل الذي تنفر عنه العقول يوضحه :

الوجه الثامن والعشرون : أن تفضيل الرب تعالى على شيء من خلقه لا يذكر في شيء من القرآن إلا ردا على من اتخذ ذلك الشيء ندا لله تعالى فبين سبحانه أنه خير من ذلك الند كقوله تعالى (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ، آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل : ٥٩).

وقوله تعالى حاكيا عن السحرة (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا ، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه : ٧٢ ، ٧٣) وقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النمل : ١٧) فأما أن يفضل نفسه على شيء معين من خلقه ابتداء فهذا لم يقع في كلام الله ولا هو مما يقصد بالإخبار ، لأن قول القائل ابتداء : الله خير من ابن آدم وخير من السماء وخير من العرش ، من جنس قول : السماء فوق الأرض والثلج بارد والنار حارة ، وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، ولهذا لم يجيء هذا اللفظ في القرآن ، ولا في كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا مما جرت عادة الناس بمدح الرب تعالي به مع تفنن مدحهم ومحامدهم ، بل هو أرك كلام وأسمجه وأهجنه ، فكيف يليق بهذا الكلام الذي يأخذ بمجامع القلوب عظمة وجلالة ، ومعانيه

٥٠١

أشرف المعاني وأعظمها فائدة إن يكون معناه ان الله أفضل من العرش والسماء ، ومن المثل السائر نظما :

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وهذا بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي بذلك احتجاجا على مبطل وإبطالا لقول مشرك ، كما إذا رأيت رجلا يعبد حجرا فقلت له : الله خير أم الحجر فيحسن هذا الكلام في هذا المقام ما لا يحسن في قول الخطيب ابتداء : الحمد لله الذي هو خير من الحجارة ، ولهذا قال يوسف الصديق عليه‌السلام في احتجاجه على الكفار (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ، أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف : ٣٩) وقال تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل : ٥٩) يوضحه :

الوجه التاسع والعشرون : أن الرجل إذا تكلم بمثل هذا الكلام في حق المخلوق لكان مستهجنا جدا ، فلو قال الشمس أضوأ من السراج ، والمساء أكبر من الرغيف وأعلى من سقف الدار ونحو ذلك ؛ لكان مستهجنا مستقبحا مع قرب النسبة بين المخلوق والمخلوق ، فكيف إذا قيل ذلك بين الخالق تعالى والمخلوق ، مع تفاوت الذي بين الله وخلقه.

الوجه الثلاثون : إن الاستيلاء الذي فسروا به الاستواء ، إما أن يراد به الخلق أو القهر أو الغلبة أو الملك أو القدرة عليه ، ولا يصح أن يكون شيء منها مرادا ، أما الخلق فلأنه يتضمن أن يكون خلقه بعد خلق السموات والأرض ، وهذا بخلاف إجماع الأمة وخلاف ما دل عليه القرآن والسنة ، وإن ادعى بعض الجهمية المتأخرين أنه خلق بعد خلق السموات والأرض وادعى الإجماع على ذلك ، وليس العجب من جهله ، بل من إقدامه على حكاية الإجماع على ما لم يقله مسلم ، ولا يصح أن يراد بقية المعاني للوجوه التي ذكرناها وغيرها ، فلا يجوز تفسير الآية به ، ولهذا لم يقله عالم من علماء السلف بل صرحوا بخلافه كما قال أبو العالية علا وارتفع وقال مجاهد : استقر. وقال مالك : الاستواء معلوم.

٥٠٢

وقال يزيد بن هارون : من زعم أن الرحمن فوق العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي. وقد تقدم حكاية قول من قال : استوى بذاته واستوى بحقيقته ، فأوجدونا عمن يقتدى بقوله في تفسير أو عن رجل واحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو عن إمام له في الأمة لسان صدق أنه فسر اللفظ باستولى ، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا.

الوجه الحادي والثلاثون : إما أن يحيل العقل حمل الاستواء على حقيقته أو لا يحيله ، فإن أحاله العقل ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في تفسيره بخلاف ما يحيله العقل ، بل تفاسيرهم كلها مما يحيلها العقل لزم القدح في علم الأمة ونسبتها إلى أعظم الجهل لسكوتهم عن بيان الحق وتكلمهم بالباطل وهذا شر من قول الرافضة ، وإن لم يحله العقل وجب حمله على حقيقته لأنها الأصل والعقل لا يمنع منها.

الوجه الثاني والثلاثون : أن أئمة السنة متفقون علي أن تفسير الاستواء بالاستيلاء إنما هو متلقى عن الجهمية والمعتزلة والخوارج ، وممن حكى ذلك أبو الحسن الأشعري في كتبه ، وحكاه ابن عبد البر والطلمنكي عنهم خاصة. وهؤلاء ليسوا ممن يحكى أقوالهم في التفسير ولا يعتمد عليها. كما قال الأشعرى في تفسره الجبائي : كان القرآن قد نزل بلغة أهل جبّاء ، وقد علم أن هؤلاء يحرفون الكلم ويفسرون القرآن بآرائهم ، فلا يجوز العدول عن تفسير الصحابة والتابعين إلى تفسيرهم.

الوجه الثالث والثلاثون : إن الاستيلاء يكون مع مزايلة المستولى للمستولى عليه ومفارقته كما يقال استولى عثمان بن عفان على خرسان ، واستولى عبد الملك بن مروان على بلاد المغرب. واستولى الجواد على الأمد ، قال الشاعر :

ألا لمثلك أو من أنت سابقه

سبق الجواد إذا استولى على الأمد

فجعله مستوليا عليه بعد مفارقته له وقطع مسافته ، والاستواء لا يكون إلا مع مجاورة الشيء الذي يستوى عليه كما استوت على الجودي (لِتَسْتَوُوا عَلى

٥٠٣

ظُهُورِهِ) (الزخرف : ١٣) (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) وهكذا في جميع مورده في اللغة التي خوطبنا بها ، ولا يصح أن يقال استوى على الدابة والسطح إذا نزل عنها وفارقها ، كما يقال استولى عليها ، هذا عكس اللغة وقلب الحقائق ، وهذا قطعى بحمد الله.

الوجه الرابع والثلاثون : إن نقل معنى الاستواء وحقيقته كنقل لفظه ، بل أبلغ ، فإن الأمة كلها تعلم بالضرورة أن الرسول أخبر عن ربه بأنه استوى على عرشه ، من يحفظ القرآن منهم ومن لا يحفظه ، وهذا المعنى عندهم كما قال مالك وأئمة السنة : الاستواء معلوم غير مجهول كما أن معنى ـ السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة وسائر ما أخبر به عن نفسه معلوم ، وإن كانت كيفيته غير معلومة للبشر ، فإنهم لم يخاطبوا بالكيفية ، ولم يرد منهم العلم بها ، فإخراج الاستواء عن حقيقته المعلومة كإنكار ورود لفظه بل أبلغ ، وهذا (مما) يعلم أنه مناقض لما أخبر الله به ورسوله يوضحه :

الوجه الخامس والثلاثون : إن اللفظ إنما يراد لمعناه ومفهومه فهو المقصود بالذات ، واللفظ مقصود قصد الوسائل ، والتعريف بالمراد ، فإذا انتفى المعنى وكانت إرادته محالا لم يبق في ذكر اللفظ فائدة ، بل كان تركه أنفع من الإتيان به ، فإن الإتيان به إنما حصل منه إيهام المحال والتشبيه ، وأوقع الأمة في اعتقاد الباطل ، ولا ريب أن هذا إذا نسب إلى آحاد الناس كان ذمه أقرب من مدحه فكيف يليق نسبته إلى من كلامه هدى وشفاء وبيان ورحمة ، هذا من أمحل المحال.

الوجه السادس والثلاثون : إن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه جميع أهل اللغة وأهل التفسير المقبول ، وقد صرح المنكرون للاستواء بأن الله لا يجوز أن يتكلم بشيء ويعني به خلاف ظاهره كما قال صاحب «المحصول» وغيره ، وهذا لفظه : «لا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويعني

٥٠٤

به خلاف ظاهره» والخلاف مع المرجئة ، ثم احتج على ذلك بأنه عبث وهو على الله محال ، والذي احتج به على المرجئة يحتج به عليه أهل السنة بعينه ، وهذا الذي قاله هو الحق وهو ما اتفق عليه العقلاء ، فلا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويريد به خلاف ظاهره إلا وفي السياق ما يدل على ذلك بخلاف المجمل ، فإنه يجوز عندهم أن يتكلم به لأنه لم يرد به خلاف ظاهره ، والفرق بينهما إيقاع الأول في اللبس واعتقاد الخطأ بخلاف المجمل ، فكيف إذا كان مع ظاهره من القرآن ما ينفي إرادة غيره ، فدعوى إرادة غير الظاهر حينئذ ممتنع من الوجهين.

الوجه السابع والثلاثون : إن حقيقة هذا المجاز أنه ليس فوق السموات رب ، ولا على العرش إلا العدم المحض ، وليس هناك من ترفع إليه الأيدي ويصعد إليه الكلم الطيب ، وتعرج الملائكة والروح إليه ، وينزل الوحى من عنده ويقف العباد بين يديه ، ولا عرج برسوله إليه حقيقة ، ولا رفع المسيح إليه حقيقة ، ولا يجوز أن يشير إليه أحدنا بإصبعه إلى فوق كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يجوز أن يقال أين هو كما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يجوز أن يسمع من يقول أين ويقره عليه ؛ كما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السائل وأقره عليه ، ولا يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا فوقهم ، ولا له حجاب حقيقة يحتجب به عن خلقه ولا يقرب منه شيء ولا يبعد منه شيء ، ونسبته من فوق السموات كلها إلي القرب منه كنسبه من في أسفل سافلين ، كلها في القرب من ذاته سواء ، فهذا حقيقة هذا المجاز وحاصله ، ومعلوم أن هذا أشد (مناقضة) لما جاءت به الرسل منه للمعقول الصريح ، فيكون من أبطل الباطل.

(أنواع تحريف الكلام)

الوجه الثامن والثلاثون : إن الله سبحانه ذم المحرفين للكلم ؛ والتحريف نوعان : تحريف اللفظ وتحريف المعنى ، فتحريف اللفظ العدول به عن جهته إلى غيرها ، أما بزيادة وإما بنقصان وإما بتغيير حركة إعرابية ، وأما غير إعرابية ، فهذه أربعة أنواع ؛ وقد سلك فيها الجهمية والرافضة ، فإنهم حرفوا نصوص الحديث

٥٠٥

ولم يتمكنوا من ذلك في ألفاظ القرآن ؛ وإن كان الرافضة حرفوا كثيرا من لفظه ، وادعوا أن أهل السنة غيروه عن وجهه.

وأما تحريف المعنى فهذا الذي جالوا فيه وصالوا وتوسعوا وسموه تأويلا ، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد به استعمال في اللغة ، وهو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته ، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما ، وأصحاب تحريف الألفاظ شر من هؤلاء من وجه وهؤلاء شر من وجه ؛ فإن أولئك عدلوا باللفظ والمعنى جميعا عما هما عليه فأفسدوا اللفظ والمعنى ؛ وهؤلاء أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله ، فكانوا خيرا من أولئك من هذا الوجه ، ولكن أولئك لما أرادوا المعنى الباطل حرفوا له لفظا يصلح له لئلا يتنافر اللفظ والمعنى ، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ المحرف فهم منه المعنى المحرف ، فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء اللفظ على حاله مما لا سبيل إليه ؛ فبدءوا بتحريف اللفظ ليستقيم لهم حكمهم علي المعنى الذي قصدوا.

الوجه التاسع والثلاثون : إن استواء الرب المعدى بأداة (على) المعلق بعرشه المعرف باللام المعطوف بثم على خلق السموات والأرض المطرد في موارده على أسلوب واحد ونمط واحد لا يحتمل إلا معنى واحدا لا يحتمل معنيين البتة ؛ فضلا عن ثلاثة أو خمسة عشر كما قال صاحب (القواصم والعواصم) إذا قال لك المجسم (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فقل استوى على العرش يستعمل على خمسة عشر وجها فأيها تريد؟

فيقال له كلا والذي استوى على العرش لا يحتمل هذا اللفظ معنيين البتة ، والمدعى الاحتمال عليه بيان الدليل ، إذ الأصل عدم الاشتراك والمجاز ، ولم يذكر على دعواه دليلا ولا بين الوجوه المحتملة حتى يصلح قوله : فأيها تريدون وأيها تعنون ، وكان ينبغى له أن يبين كل احتمال ويذكر الدليل على ثبوته ، ثم يطالب حزب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعيين أحد الاحتمالات ، وإلا فهم يقولون لا نسلم احتماله لغير معنى واحد ، فإن الأصل في الكلام الإفراد والحقيقة ، دون الاشتراك والمجاز فهم في منعهم أولى بالصواب منك في تعدد الاحتمال ،

٥٠٦

فدعواك أن هذا اللفظ يحتمل خمسة عشر معنى ، دعوى مجردة ليست معلومة بضرورة ولا نص ولا إجماع ، يوضحه :

الوجه الأربعون : وهو أن يقال : الاحتمالات التي ادعيتها تتطرق إلى لفظ الاستواء وحده المجرد عن اتصاله بأداة أم إلى المقترن بواو المصاحبة أم إلى المقترن بإلى أم إلى المقترن بعلى ، أم إلى كل واحد من ذلك وكذلك العرش الذي أدعيت أنه يحتمل عدة معان هو العرش المنكر غير المعرف بأداة تعريف ولا إضافة أم المضاف إلى العبد كقول عمر كاد عرشي أن يعل ، أم إلى عرش الدار وهو سقفها في قوله (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) (البقرة : ٢٥٩) أم إلى عرش الرب تبارك وتعالى الذي هو فوق سماواته؟ أم إلى كل واحد من ذلك ، فأين مواد الاحتمال حتى يعلم هى صحيحة أم باطلة ، فلا يمكنك أن تدعى ذلك في موضع معين من هذه المواضع ، ودعواه بهت صريح وغاية ما تقدر عليه إنك تدعى مجموع الاحتمالات في مجموع المواضع بحيث يكون كل موضع له معنى ، فأي شيء ينفعك هذا في الموضع المعين ، فسبحان الله أين هذا من القول السديد الذي أوصانا الله به في كتابه حيث يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب : ٧٠) والسديد هو الذي يسد موضعه ويطابقه فلا يزيد عليه ولا ينقص منه ، وسداد السهم هو مطابقته وإصابته الغرض من غير علو ولا انحطاط ولا تيامن ولا تياسر.

(والمقصود) إن استواء الرب على عرشه المختص به الموصول بأداة (على) نص في معناه لا يحتمل سواه.

الوجه الحادي والأربعون : أنا نمنع الاحتمال في نفس لفظ الاستواء مع قطع النظر عن صلاته المقرون بها وأنه ليس له إلا معنى واحد وإن تنوع بتنوع صلاته كنظائره من الأفعال التي تنوع معانيها بتنوع صلاتها كملت عنه وملت إليه ورغبت عنه ورغبت فيه ، وعدلت عنه وعدلت إليه ، وفررت منه وفررت إليه ، فهذا لا يقال له مشترك ولا مجاز بل حقيقة واحدة تنوعت دلالتها بتنوع صلاتها ، وهكذا لفظ الاستواء هو بمعنى الاعتدال حيث استعمل مجردا أو مقرونا ، تقول سويته

٥٠٧

فاستوى كما يقال عدلته فاعتدل فهو مطاوع الفعل المتعدي ، وهذا المعنى عام في جميع موارد استعماله في اللغة ، ومنه استوى إلى السطح ، أي ارتفع في اعتدال ، ومنه استوى على ظهر الدابة ، أي اعتدال عليها ، قال تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) «وأهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استوى على راحلته» فهو يتضمن اعتدالا واستقرارا عند تجرده ويتضمن المقرون مع ذلك معنى العلو والارتفاع ، وهذا حقيقة واحدة تتنوع بتنوع قيودها كما تتنوع دلالة الفعل بحسب مفعولاته وصلاته ، وما يصاحبه من أداة نفي أو استفهام أو نهي أو إغراء فيكون له عند كل أمر من هذه الأمور دلالة خاصة والحقيقة واحدة.

فهذا هو التحقيق لا الترويج والتزويق ، وادعاء خمسة عشر معنى لما ليس له إلا معنى واحد ، وهذا شأن جميع الألفاظ المطلقة إذا قيدت فإنها تتنوع دلالالتها بحسب قيودها ولا يخرجها ذلك من حقائقها (فضرب) مع المثل له معنى وفي الأرض له معنى ، والبحر له معنى والدابة له معنى إذ هو إمساس بإيلام ، فإن صاحبته أداة النفي صار له معنى آخر ، وإن كانت أداة استفهام أو نهى أو تمن أو تخصيص اختلفت دلالته وحقيقته واحدة في كل وضع يقترن به ما بين المراد.

فإذا قال قائل في قوله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) (النساء : ٣٤) أن الضرب له عدة معان فأيها المراد كان كالنظائر قول هذا القائل إن الرحمن على العرش استوى له خمسة عشر وجها ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن في الوجه الأول يتبين أن مجموع اللفظ وصلته يدلان علي غير ما دل عليه اللفظ مع الصلة الأخرى ، وفي هذا الوجه يتبين أن مطلق اللفظ يدل علي المعنى المشترك وإن اختصاصه في محاله هو من اقترانه بتلك الصلة ولا منافاة بينهما ، فالتركيب بحدث للمركب حالة أخرى سواء كان المركب من المعانى أو من الألفاظ أو الأعيان أو الصفات مخلقوها ومصنوعها.

فعلى هذا إذا اقترن استوى بحرف الاستعلاء دل على الاعتدال بلفظ الفعل

٥٠٨

وعلى العلو بالحرف الذي وصل به ، فإن اقتران بالواو دل على الاعتدال بنفسه وعلى معادلته بعد الواد بواسطتها ، وإذا اقترن بحرف الغاية دل على الاعتدال بلفظه وعلى الارتفاع قاصدا لما بعد حرف الغاية بواسطتها ، وزال بحمد الله الاشتراك والمجاز ووضح المعنى وأسفر صبحه ، وليس الفاضل من يأتي إلى الواضح فيعقده ويعميه ، بل من يأتى إلي المشكل فيوضحه ويبينه ، ومن الله سبحانه وتعالى البيان وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البلاغ وعلينا التسليم.

ونحن نشهد أن الله قد بين غاية البيان الذي لا بيان فوقه ، وبلغ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البلاغ المبين ، فبلغ المعانى كما بلغ الألفاظ ، والصحابة بلغوا عنه الأمرين جميعا ، وكان تبليغه للمعانى أهم من تبليغه للألفاظ ، ولهذا اشترك الصحابة في فهمها ، وأما حفظ القرآن فكان في بعضهم.

قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان وعبد الله بن مسعود أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات لم يجازوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل جميعا.

وهذه الآثار المحفوظة عن الصحابة والتابعين كلها متفقة على أن الله نفسه فوق عرشه ، وقال أئمة السنة بذاته فوق عرشه وأن ذلك حقيقة لا مجاز وأكثر من صرح أئمة المالكية كما تقدم حكاية ألفاظهم.

الوجه الثاني والأربعون : إنا لو فرضنا احتمال اللفظ في اللغة لمعنى الاستيلاء والخمسة عشر معنى فالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عين بكلامه منها معني واحدا ، ونوّع الدلالة عليه أعظم تنويع حتى يقام بذلك ألف دليل ، فالصحابة كلهم متفقون لا يختلفون في ذلك المعنى ولا التابعون وأئمة الإسلام ، ولم يقل أحد منهم أنه بمعنى استولى ، وإنه مجاز ، فلا يضر الاحتمال بعد ذلك في اللغة لو كان حقا ، ولما سئل مالك وسفيان بن عيينة وقبلهما ربيعة بن عبد الرحمن عن الاستواء فقالوا : الاستواء معلوم ، تلقى ذلك عنهم جميع أئمة الإسلام ، ولم

٥٠٩

يقل أحد منهم أنه يحتاج إلى صرفه عن حقيقته إلى مجازه ، ولا إنه مجمل له مع العرش خمسة عشر معنى ، وقد حرف بعضهم كلام هؤلاء الأئمة على عادته فقال معناه الاستواء معلوم لله ، فنسبوا السائل إلى أنه كان يشك هل يعلم الله استواء نفسه أو لا يعلمه ولما رأى بعضهم فساد هذا التأويل قال إنما أراد به أن ورد لفظه في القرآن معلوم ، فنسبوا السائل والمجيب إلى اللغة فكأن السائل لم يكن يعلم أن هذا اللفظ في القرآن وقد قال يا أبا عبد الله : الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فلم يقل هل هذا اللفظ في القرآن أو لا؟ ونسبوا المجيب إلى أنه أجابه بما يعلمه الصبيان في المكاتب ولا يجهله أحد ، ولا هو مما يحتاج إلى السؤال عنه ولا استشكله السائل ، ولا خطر بقلب المجيب إنه يسأل عنه ، والله تعالى أعلم.

* * *

٥١٠

(٤) المثال الرابع في : اليدين

(المثال الرابع) قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤).

قالت الجهمية : مجاز في النعمة أو القدرة ، وهذا باطل من وجوه :

أحدها : أن الأصل الحقيقة فدعوى المجاز مخالفة للأصل.

الثاني : إن ذلك خلاف الظاهر فقد اتفق الأصل والظاهر على بطلان هذه الدعوى.

الثالث : إن مدعى المجاز المعين يلزمه أمور (أحدها) إقامة الدليل الصارف عن الحقيقة إذ مدعيها معه الأصل والظاهر ، ومخالفها مخالف لهما جميعا (ثانيهما) بيان احتمال اللفظ لما ذكره من المجاز لغة وإلا كان منشئا من عنده وضعا جديدا (ثالثهما) احتمال ذلك المعنى في هذا السياق المعين ، فليس كل ما احتمله اللفظ من حيث الجملة يحتمله هذا السياق الخاص ، وهذا موضع غلط فيه من شاء الله ولم يبين أو يميز بين ما يحتمله اللفظ بأصل اللغة وإن لم يحتمله في هذا التركيب الخاص وبين ما يحتمله فيه (رابعها) بيان القرائن الدالة على المجاز الذي عينه بأنه المراد ، إذ يستحيل أن يكون هذا هو المراد من غير قرينة في اللفظ تدل عليه البتة ، وإذا طولبوا بهذه الأمور الأربعة تبين عجزهم (١).

__________________

(١) قال ابن بطال في قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) : في هذه الآية إثبات يدين لله ، وهما صفتان من صفات ذاته وليستا بجارحتين خلافا للمشبهة من المثبتة ، وللجهمية من المعطلة ، ويكفي في الرد على من زعم أيهما بمعنى القدرة ، أنهم أجمعوا على أن له قدرة واحدة في قول المثبتة ولا قدرة له في قول النفاة ، لأنهم يقولون إنه قادر لذاته.

ويدل على أن اليدين ليستا بمعنى القدرة أن في قوله تعالى لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) إشارة إلى المعنى الذي أوجب السجود فلو كانت اليد بمعنى القدرة

٥١١

الوجه الرابع : إن اطراد لفظها في موارد الاستعمال وتنوع ذلك وتصريف استعماله يمنع المجاز ، ألا ترى إلي قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر : ٦٧) فلو كان مجازا في القدرة والنعمة لم يستعمل منه لفظ يمين ، وقوله في الحديث الصحيح «المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين» (١) فلا يقال هذا يد النعمة والقدرة.

وقوله «يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزمن ثم يقول أنا الملك» (٢).

فهنا هز وقبض وذكر يدين. ولما أخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل يقبض يديه ويبسطها تحقيقا للصفة لا تشبيها لها كما قرأ (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء : ١٣٤) ووضع يديه على عينيه (٣) وأذنيه تحقيقا لصفة السمع والبصر ، وأنهما حقيقة لا مجازا وقوله : «ولما خلق الله آدم قبض بيديه قبضتين وقال اختر ،

__________________

لم يكن بين آدم وإبليس فرق لتشاركهما فيما خلق كل منهما به وهى قدرته ، ولقال إبليس : وأى فضيلة له عليّ وأنا خلقتنى بقدرتك كما خلقته بقدرتك ، فلما قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) دل على اختصاص آدم بأن الله خلقه بيديه.

قال : ولا جائز أن يراد باليدين : «النعمتان» ، لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق ، لأن النعم مخلوقة ولا يلزم من كونهما صفتى ذات أن يكونا جارحتين ا ه أفاده الحافظ في «الفتح» (١٣ / ٤٠٥).

(١) رواه مسلم (١٨٢٧) ، والنسائي (٨ / ٢٢).

(٢) رواه البخاري (٧٤١٢) ، ومسلم (٢٧٨٨).

(٣) قال البيهقي : وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله ببيان محلهما من الإنسان ، يريد أن له سمعا وبصرا لا أن المراد به العلم ، فلو كان كذلك لأشار إلى القلب لأنه محل العلم ، ولم يرد بذلك الجارحة فإن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين ا ه أفاده الحافظ في «الفتح» (١٣ / ٣٨٥).

٥١٢

فقال : اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين ، ففتحها فإذا فيها أهل اليمين من ذريته» (١).

وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة في ثبوت هذه الصفة ، كقوله في الحديث «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (٢) وقوله في الحديث المتفق على صحته «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، تقبلها بيمينه» (٣) وقوله : «ما السموات السبع في كف الرحمن ، إلا كخردلة في كف أحدكم» (٤) وقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في «مسنده» من حديث أبي رزين «فيأخذ ربك غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فلا يخطئ وجه أحدكم» (٥) يعنى في الموقف ، فهل يمكن أن يكون هذا من أوله إلى آخره وأضعاف أضعافه مجازا لا حقيقة ، وليس معه قرينة واحدة تبطل الحقيقة وتبين المجاز.

الوجه الخامس : إن اقتران لفظ الطي والقبض والإمساك باليد يصير المجموع حقيقة ، هذا في الفعل ، وهذا في الصفة ، بخلاف اليد المجازية فإنها إذا أريدت لم يقترن بها ما يدل على اليد حقيقة ، بل ما يدل علي المجاز كقوله : له عندي يد ، وأنا قمت يدهم ونحو ذلك ، وأما إذا قيل : قبض بيده ، وأمسك بيده ، أو قبض بإحدى يديه كذا وبالأخرى كذا ، وجلس عن يمينه ، أو كتب كذا وعمله بيمينه أو بيديه ، فهذا فهذا لا يكون إلا حقيقة ، وإما أتى هؤلاء من

__________________

(١) [صحيح] رواه الترمذي (٣٣٦٨) ، الحاكم (١ / ٦٤) وابن حبان في «صحيحه» (٨ / ٦١٣١ ـ ٦١٣٢) ، وقال الترمذي : حسن غريب ا ه وصححه الألباني في «صحيح الجامع».

(٢) رواه مسلم (٢٧٥٩) ، وأحمد (٤ / ٣٩٥ ، ٤٠٤).

(٣) رواه البخاري (١٤١٠) ، ومسلم (١٠١٤).

(٤) تقدم تخريجه في الجزء الأول وهو ضعيف.

(٥) رواه الإمام أحمد (٤ / ١٤).

٥١٣

جهة أنهم رأوا اليد تطلق على النعمة والقدرة في بعض المواضع ، فظنوا أن كل تركيب وسياق صالح لذلك ، فوهموا وأوهموا ، فهب أن هذا يصلح في قوله : لو لا يد لك لم أجزك بها ، أفيصلح في قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) (العنكبوت : ٤٨) وفي قول عبد الله بن عمر : وإن الله لم يباشر بيده أو لم يخلق بيده إلا ثلاثا : خلق آدم بيده ، وغرس جنة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده (١) ، أفيصح في عقل أو نقل أو فطرة أن يقال : لم يخلق بقدرته أو بنعمته إلا ثلاثا.

الوجه السادس : إن مثل هذا المجاز لا يستعمل بلفظ التثنية ، ولا يستعمل إلا منفردا أو مجموعا كقولك : له عندي يد يجزيه الله بها وله عندي أياد ، وأما إذا جاء بلفظ التثنية لم يعرف استعماله قط إلا في اليد الحقيقية ، وهذه موارد الاستعمال أكبر شاهد فعليك بتتبعها.

الوجه السابع : إنه ليس من المعهود أن يطلق الله على نفسه معنى القدرة والنعمة بلفظ التثنية بل بلفظ الإفراد الشامل لجميع الحقيقة ، كقوله : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (البقرة : ١٦٥) وكقوله (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (إبراهيم : ٣٤) وقد يجمع النعم كقوله (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (لقمان : ٢٠) وأما أن يقول : خلقتك بقدرتين أو بنعمتين ، فهذا لم يقع في كلامه ولا كلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الوجه الثامن : إنه لو ثبت استعمال ذلك بلفظ التثنية لم يجز أن يكون المراد به هاهنا القدرة ، فإنه يبطل فائدة تخصيص آدم ، فإنه وجميع المخلوقات حتى

__________________

(١) [صحيح الإسناد] ذكره الحافظ الذهبي في «العلو للعلى الغفار» بلفظ : «خلق الله أربعة أشياء بيده : العرش ، والقلم ، وآدم وجنة عدن : ثم قال لسائر الخلق ، كن ، فكان» ، قال الذهبي : إسناده جيد ا ه.

وقال الشيخ الألباني في «المختصر» : أخرجه الدارمي (ص ٣٥ ، ٩٠) ، وأبو الشيخ في «العظمة» (٣٥ / ٢ ، ٢٠٩ / ٢) ، واللالكائي (١ / ٩٧ / ١) بسند صحيح على شرط مسلم.

٥١٤

إبليس مخلوق بقدرته سبحانه ، فأى مزية ولآدم على إبليس في قوله (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) يوضحه :

(خلق آدم باليدين ينفي المجاز عنهما)

الوجه التاسع : إن الله جعل ذلك خاصة خص بها آدم دون غيره ، ولهذا قال له موسى وقت المحاجة : أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ؛ وكذلك يقول له أهل الموقف إذا سألوه الشفاعة ، فهذه أربع خصائص له ؛ فلو كان المراد باليد القدرة لكان بمنزلة أن يقال له : خلقك الله بقدرته فأي فائدة في ذلك ، يوضحه :

الوجه العاشر : إنك لو وضعت الحقيقة التي يدعي هؤلاء أن اليد مجاز فيها موضع اليد لم يكن في الكلام فائدة ، ولم يصح وضعها هناك فإنه سبحانه لو قال : ما منعك أن تسجد لما خلقت بقدرتي ، وقال له موسى : أنت أبو البشر الذي خلقك الله بقدرته ، وقال له أهل الموقف ذلك : لم يحسن ذلك الكلام ولم يكن فيه من الفائدة شيء ، وتعالى الله أن ينسب إليه مثل ذلك فإن مثل هذا التخصيص إنما خرج مخرج الفضل له على غيره وأن ذلك أمر اختص به لم يشاركه فيه غيره ، فلا يجوز حمل الكلام على ما يبطل ذلك.

الوجه الحادي عشر : إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) يأبى حمل الكلام على القدرة لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه ثم عدى الفعل إلى اليد ثم ثناها ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قوله : كتبت بالقلم. ومثل هذا النص صريح لا يحتمل المجاز بوجه ، بخلاف ما لو قال : عملت كما قال تعالى : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى : ٣٠) ـ (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (الحج : ١٠) فإن نسب الفعل إلى اليد ابتداء ، وخصها بالذكر لأنها آلة الفعل في الغالب ، ولهذا لما لم يكن خلق الأنعام مساويا لخلق أبي الأنام قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (يس : ٧١) فأضاف الفعل إلى الأيدى وجمعها ولم يدخل عليها الباء فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد الموضعين بالآخر ، ويتضمن التسوية بينهما عدم مزية أبينا آدم على الأنعام ، وهذا

٥١٥

من أبطل الباطل وأعظم العقوق للأب ، إذ ساوى المعطل بينه وبين إبليس والأنعام في الخلق باليدين.

الوجه الثاني عشر : إن يد النعمة والقدرة لا يتجاوز بها لفظ اليد فلا يتصرف فيها بما يتصرف في اليد الحقيقة ، فلا يقال كف لا للنعمة ولا للقدرة. ولا إصبع وإصبعان ولا يمين ولا شمال ، وهذا كله ينفي أن يكون اليد نعمة أو يد قدرة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة» (١) قال : «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن» (٢) وفي حديث الشفاعة «فأقوم عن يمين الرحمن مقاما لا يقومه غيري» (٣) وإذا ضممت قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (الزمر : ٦٧) إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده ثم يهزهن» وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبض يده ويبسطها (٤).

وفي «صحيح مسلم» يحكى عن ربه بهذا اللفظ وقال : «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه» (٥) ، ولفظة «بين» لا تقتضى المخالطة ولا المماسة والملاصقة لغة ولا عقلا ولا عرفا ، قال تعالى : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (البقرة : ١٦٤) وهو لا يلاصق السماء ولا الأرض ، وقال في حديث الشفاعة ««وعدنى ربي أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف» فقال أبو بكر : زدنا يا رسول الله. قال : «وثلاث حثيات من حثيات ربي ، فقال عمر ، حسبك يا أبا بكر ، فقال أبو بكر ، دعني يا عمر ، وما عليك أن يدخلنا الجنة كلنا ، فقال عمر : إن شاء الله

__________________

(١) رواه البخاري (٤٦٨٤).

(٢) تقدم تخريجه قريبا وهو في «صحيح مسلم».

(٣) رواه البخاري (٤٤٧٦).

(٤) رواه مسلم في (صفات المنافقين ٤ / ٢٥).

(٥) رواه مسلم (٢٦٥٤).

٥١٦

أدخل خلقه الجنة بكف واحدة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق عمر» (١). فصدقه في إثبات الكف لله وسعتها وعظمتها.

فهذا القبض والبسط والطي باليمين والأخذ والوقوف عن يمين الرحمن والكف وتقليب القلوب بأصابعه ووضع السموات على إصبع والجبال على إصبع ، فذكر إحدى اليدين. ثم قوله : «وبيده الأخرى» ممتنع فيه اليد المجازية سواء كانت بمعنى القدرة أو بمعنى النعمة ، فإنها لا يتصرف فيها هذا التصرف. هذه لغة العرب ، نظمهم ونثرهم ، هل تجدون فيها ذلك أصلا؟!.

الوجه الثالث عشر : إن الله تعالى أنكر على اليهود نسبة يده إلى النقص والعيب ولم ينكر عليهم إثبات اليد له تعالى فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤) فلعنهم على وصف يده بالعيب دون إثبات يده وقدر إثباتها به زيادة على ما قالوه بأنهما يدان مبسوطتان وبهذا يعلم تلبيس الجهمية المعطلة على أشباه الأنعام حيث قالوا إن الله لعن اليهود على إثبات اليد له سبحانه ، وأنهم مشبهة وهم أئمة المشبهة. فتأمل هذا الكذب من هذا القائل والتلبيس ، وأن الآية صريحة بخلاف قوله.

الوجه الرابع عشر : إن يد القدرة لا يعرف في الاستعمال أن يقال فيها يد فلان كذا هكذا ، فضلا أن يقال فعل هذا بيمينه ، فضلا عن أن يقال فعله بيديه ، فضلا عن أن يقال فعله بيمينه ، وإنما المستعمل في يد القدرة والنعمة أن تكون مجردة عن الإضافة وعن التثنية وعن نسبة الفعل إليها ، فيقال : لفلان عندي يد ، ولو لا يد له عندي ، ولا يكادون يقولون يده أو يداه عندي ، وله عندي يده ويداه ، يوضحه :

الوجه الخامس عشر : إن اليد حيث أريد بها النعمة أو القدرة فلا بد أن يقترن باللفظ ما يدل على ذلك ليحصل المراد : فأما أن تطلق ويراد بها ذلك فهذا لا

__________________

(١) [حسن] رواه عبد الرزاق في «الصنف» (٢٠٥٥٦) ، وذكره الحافظ الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٤٠٤) وعزاه لأحمد والطبراني في «الأوسط» وقال : وإسناده حسن ا ه.

٥١٧

يجوز ؛ كما إذا أطلق البحر والأسد وادعى بذلك أنه أريد به الرجل الجواد والشجاع ، فهذا لا يجيزه عاقل ، ولا يتكلم به إلا من قصده التلبيس والتعمية ، وحيث أراد تلك المعاني فإنه يأتي من القرائن بما يدل على مراده ، فأين معكم في قوله (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وقوله (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وقوله «يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى» : «فأقوم عن يمين ربي» وقوله : «فيوقف بين يدي الرحمن» ما يدل على إرادة المجاز.

الوجه السادس عشر : إن يد القدرة والنعمة لا يعرف استعمالها البتة إلا في حق من له يد حقيقة ؛ فهذه موارد استعمالها من أولها إلى آخرها مطردة في ذلك ، فلا يعرف العربي خلاف ذلك ، فاليد المضافة إلى الحي إما أن تكون يدا حقيقة أو مستلزمة للحقيقة ، وأما أن تضاف إلى من ليس له يد حقيقة ، وهو حي متصف بصفات الأحياء فهذا لا يعرف البتة.

وسر هذا أن الأعمال والأخذ والعطاء والتصرف لما كان باليد وهي التي تباشره عبروا بها عن الغاية الحاصلة بها ، وهذا يستلزم ثبوت أصل اليد حتى يصح استعمالها في مجرد القوة والنعمة الإعطاء ، فإذا انتفت حقيقة اليد امتنع استعمالها فيها فيما يكون باليد فثبوت هذا الاستعمال المجازى من أدل الأشياء على ثبوت الحقيقة ، فقوله تعالى في حق اليهود (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) (التوبة : ٦٧) هو دعاء عليهم بغل اليد المتضمن للجبن والبخل ، وذلك لا ينفي ثبوت أيديهم حقيقة ، وكذلك قوله في المنافقين (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) كناية عن البخل ولا ينفي أن يكون لهم أيد حقيقة ، كذلك قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء : ٢٩) المراد به النهي عن البخل والتقتير والإسراف ، وذلك مستلزم لحقيقة اليد ، وكذلك قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (البقرة : ٢٣٧) أي يتولى عقدها ، وهو إنما يعقدها بلسانه ولكن لا يقال ذلك إلا لمن له يد حقيقة ، وكذلك قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) (الأعراف : ١٤٩) هو كناية عن الندم وتيقن التفريط والإضاعة بمنزلة من سقط منه الشيء فحيل بينه وبينه وأتى في هذا بلفظ (وفي) دون (من) لأن الندم سقط في أيديهم وثبت فيها واستقر ولو قيل : سقط من أيديهم لم يدل على هذا المعنى. وعين لفظ اليد لهذا المعنى لوجهين (أحدهما) أنه يقال لمن

٥١٨

حصل له شيء وإن لم يقع في نفس يده حصل في يده كذا وكذا من الخير والشر ، كما يقال : كسبت يده وفعلت يده ، وإن كان لغيرها من الجوارح.

الوجه الثاني : إن الندم حدث يحصل في القلب وأثره يظهر في اليد ، لأن النادم يعض يديه تارة ، ويضرب أحدهما بالأخرى تارة ، قال تعالى : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) (الكهف : ٤٢) وقال تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) (الفرقان : ٢٧) فلما كان أكثر الندم يظهر على اليد أضيف سقوط الندم إليها ، لأن الذي يظهر للعيان من فعل الندم هو تقليب الكف وعض الأنامل ، وأتى بهذا الفعل على بناء ما لم يسم فاعله إيهاما لشأن الفعل كقولهم : دهى فلان وأصيب بأمر عظيم.

والمقصود أن مثل ذلك لا يقال إلا لمن له يد حقيقة ؛ فإذا قيل سقط في يده عرف السائل أن هذا الكلام مستلزم لحقيقة اليد ، ومن هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا» (١) فكن يخرجن أيديهن ليعلمن أيهن أطول يدا ، فلما سبقتهن زينب إلى اللحاق به ولم تك يدها الذاتية أطول من أيديهن علموا أنه أراد طولها بالصدقة ، وكانت تسمى أم المساكين لكثرة صدقتها ، ومثل هذا اللفظ يحتمل المعنيين ولهذا فهم نساؤه منه ؛ وهن أفصح نساء العرب اليد الحقيقية ، حتى تبين لهن أخيرا أنه طولها بالصدقة ، وهذا من التعريض المباح بأن يذكر لفظا محتملا لمعنيين ، ومراده أحدهما كقوله : «نحن من ماء» (٢) وقوله : «ذاك الذي في عينيه بياض» (٣) وقوله : «الجنة لا يدخلها العجزة» (٤) وقول

__________________

(١) رواه البخاري (١٤٢٠) ، ومسلم (٢٤٥٢).

(٢) انظر «البداية والنهاية» لابن كثير (٣ / ٢٦٤) ، «السيرة النبوية» له (٢ / ٣٩٦).

(٣) قال الحافظ العراقي : رواه الزبير بن بكار في كتاب «الفكاهة والمزاح» ، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن سهم الفهري مع اختلاف ا ه وانظر «الإتحاف» للإمام الزبيدي (٧ / ٥٠٠).

(٤) [ضعيف الإسناد وهو حسن لغيره] أخرجه الترمذي في «الشمائل» (٢٣٠) عن الحسن البصرى مرسلا : أتت عجوز إلى النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : يا أم فلان ، إن الجنة لا تدخلها عجوز ، قال : فولت تبكي ، فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً).

٥١٩

الصديق هذا هاد يهديني السبيل ، ولكن لا يستعمل طول اليد بالصدقة إلا في حق من له يد ذاتية ، فسواء كان المراد بقوله أطولكن يد «اليد الذاتية» أو «اليد المعنوية» فهو مستلزم لثبوت يد الذات ، وإن أطلق على ما تباشره يكون بها من الصدقة الإحسان ، فإن كان في اللفظ ما يعين ذلك (فهو) حقيقة في المراد ، وإن لم يكن في اللفظ ما يعينه فهو للكناية المستعملة في المصلحة ، فليس في ذلك ما ينفي حقيقة اليد لله بوجه من الوجوه.

فإن قيل : كيف تصنعون بيد الحائط في قول لبيد : إذا أصبحت بيد الشمال ذمامها.

وقول المتنبى :

وكم لظلام الليل عندي من يد

تخبر أن المانوية تكذب (١)

وقد استعملت اليد في ذلك كله في مواضع حقيقة.

قيل : لا يلزمنا هذا السؤال لأنا قلنا متى أضيفت يد القدرة والنعمة إلى الحى استلزمت اليد الحقيقية ، وهذا استعمال مطرد غير متنقض وهذا يتعين :

__________________

قال الحافظ العراقي : رواه الترمذي في «الشمائل» هكذا مرسلا ، وأسنده ابن الجوزي في «الوفاء» من حديث أنس بسند ضعيف ا ه.

وقال الزبيدى : وتأمل مزحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجده لا يخلو من بشرى عظيمة ، أو فائدة عزيزة ، أو مصلحة تامة ، فهو في الحقيقة غاية الجد ، وليس مزاحا إلا باعتبار الصورة فقط ا ه (الاتحاف : ٧ / ٥٠٠).

والحديث ذكر له الألباني شواهد قواه بها وحكم عليه بالحسن فانظره في «غاية المرام» (المقدمة ص ١١) وحديث رقم (٣٧٥).

(١) المانوية : أتباع مانى بن هامش ، زعم أن صانع العالم اثنان ، أحدهما فاعل وهو نور ، وثانيهما فاعل الشر وهو ظلمة ، وفي الأمثال (أكذب من مانى) وانظر [«هداية الحيارى» للمصنف بتحقيقنا طبعة نزار الباز بمكة المكرمة ، والفرق بين الفرق ٢٧١ ، والملل والنحل ١ / ٢٤٤)].

٥٢٠