مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

فهذا الذوق الباطن بالحاسة الباطنة ، وذوق الظاهر بالحاسة الظاهرة ، وهذا حقيقة في مورده ، وهذا حقيقة في مورده.

وكذلك الحلاوة والطعم هى بحسب المضاف إليه ، فحلاوة الإيمان وطعمه معنويان ، وحلاوة العسل وطعمه حسيان ، كل منهما حقيقة فيما أضيف إليه (١).

__________________

(١) جاء في الحديث أن للإيمان «حلاوة ، طعم» : أى لذة ومذاق ، فهل هذه اللذة وهذا المذاق ، شيء محسوس؟ أم هو شيء معنوى؟! قال بكل قوم : ـ

قال العلماء : إن اشتقاق «حلاوة الإيمان» من «الحلو» : الطعم ، وليس من «الحلى» : أي الزينة والحسن ، فهي شيء محسوس ، وهو ما اعتمده الأئمة كالنووى والحافظ ابن حجر العسقلانى ، القسطلانى ، والبدر العينى عند شرحهم للحديث ، قال القسطلاني : إن حلاوة الإيمان من ثمرات الإيمان ، فهى أصل زائد عليه ا ه ، فهي غير قوة الإيمان ، وشدة الإيمان.

وقال بعضهم إن كان من الحلى : فمعنى ذلك : حسن الإيمان قاله التيمى ، وقال الإمام القسطلانى : إن كان على القول الثانى ـ يعنى أنه معنوى ـ فهو على سبيل المجاز والاستعارة الموضحة للمؤلف ـ يعنى البخارى على استدلاله بزيادة الإيمان ونقصه ، لأن في ذلك تلميحا إلي قضية المريض والصحيح ، لأن المريض الصفراوى يجد طعم العسل مرا بخلاف الصحيح ، فكلما نقصت الصحة نقص ذوقه بقدر ذلك ، وتسمى هذه الاستعارة «تخيلية» ا ه (إرشاد السارى : ١ / ١٣٨).

قلت : وكقوله سبحانه وتعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (البقرة : ٢٦) فالقرآن هاد في ذاته ، ولكن المرض في السامع له.

وقال ابن أبي جمرة : إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) (إبراهيم : ٢٤).

فالكلمة هي : الإخلاص ، كلمة التوحيد ، والشجرة : أصل الإيمان ، وأغصانها : اتباع الأمر واجتناب النهى ، وورقها : ما يهتم به المؤمن من الخير ، وثمرها : عمل الطاعات ، وحلاوة الثمر : جنى الثمر ، وغاية كماله : تناهى نضج الثمرة ، وبه تظهر حلاوتها ا ه (أفاده الحافظ في «الفتح» ١ / ٧٧).

٤٤١

والمقصود بهذا الوجه أنه إن ظهر مراد المتكلم لم يجز أن يحمل على خلاف ظاهره ويدعى أنه مجاز بالنسبة إلى ذلك المحمل ؛ إذ حقيقته هو المفهوم منه ، فدعوى المجاز باطلة وإن ادعى صرفه عن ظاهره إلى خلافه وإن ذلك مجاز فهو باطل أيضا ، فبطلت دعوى المجاز على التقديرين ، فإن ظاهر اللفظ ومفهومه

__________________

ويشهد للقول الأول أى أن حلاوة الإيمان من الحلو : (الطعم والمذاق).

قول بلال رضي الله عنه : «أحد أحد» ، حين عذب في الله إكراها على الكفر ، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان ، وأيضا قوله عند موته : وا طرباه غذا القى الأحبة محمدا وصحبه ، وأهله يقولون : وا كرباه ، فمزج مرارة الموت بحلاوة الإيمان بلقاء الله (أفاده القسطلانى).

وكذلك موقف سحرة فرعون لما آمنوا وقد هددهم فرعون كما حكاه عنه المولى عزوجل في قوله : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).

فلم يهابوا منه مع جبروته خاصة وأنه في هذان الموقف كان في صولجان ملكه كله ـ ومع ذلك لما خالط الإيمان بشاشة قلوبهم ، وآثروا مرضاة الله وحبه على أي شيء كان ردهم ما حكاه عنهم سبحانه (قالُوا : لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه : ٧٢ ـ ٧٣).

وإذا افتقد المسلم شرط من هذه الخصال الثلاث ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .... الخ الحديث ـ لا يجد حلاوة الإيمان ، فعدم توافر هذه الخصال عند المسلمين اليوم جعلهم لا يجدون لذة حلاوة في الطاعة ويظهر ذلك في الصلوات ووقعها عليهم مثل جبل ، وكذا باقى الطاعات.

قال الإمام القسطلاني : فالقلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يذوق طعم الإيمان ويتنعم به ، كما يذوق الفم طعم العسل وغيره ، من ملذوذات الأطعمة ويتنعم بها ، ولا يذوق ذلك ويتنعم به إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، من نفس وولد وأهل ومال وكل شيء.

ومن هنا قال ـ في الحديث ـ «مما» ولم يقل «ممن» ليعم العاقل وغيره اه (إرشاد السارى) بتصرف وللمزيد راجع رسالتنا المسماة ب «السعادة والأمان».

٤٤٢

وحقيقته لا يكون مجازا البتة ؛ وهؤلاء تارة يجعلونه مجازا فيما لا ظاهر له غير معناه ، فيكون خطؤهم في اللفظ والتسمية ، وتارة يجعلونه مجازا في خلاف ظاهره والمفهوم منه ويدعون أنه المراد ، فيكونون مخطئين من وجهين ، من جهة اللفظ والمعنى.

(منهم من قال : إن أكثر ألفاظ القرآن واللغة مجازا)

الوجه الخمسون : إن القائلين بالمجاز ، منهم من أسرف فيه وغلا حتى ادعى أن أكثر ألفاظ القرآن بل أكثر اللغة مجاز ، واختار هذا جماعة ممن ينتسب إلي التحقيق والتدقيق ، ولا تحقيق ولا تدقيق ، وإنما هو خروج عن سواء الطريق ومفارقة للتوفيق ، وهؤلاء إذا ادعوا أن المجاز هو الغالب صار هو الأصل ، ولا يصح قولهم أصل الحقيقة ، وإذا تعارض المجاز والحقيقة تعينت الحقيقة ، إذ الإلحاق بالغالب الكثير أولى منه بالنادر الأقل.

فإن الأصل يطلق على معان أربعة : (أحدها) ما منه الشيء ، وهذا أولى معانيه باللغة كالخشب أصل السرير ، والحديد أصل السيف ، (الثاني) : دليل الشيء كأصول الفقه أى أدلته ، (الثالث) : الصور المقيس عليها ، والمقيسة هى الفرع ، (الرابع) : الأكثر أصل الأقل ، والغالب أصل المغلوب ، ومنه أصل الحقيقة ، فإذا كان المجاز هو الأكثر الغالب بقي هو الأصل ، وحينئذ فطرد قول هؤلاء إنه إذا ورد اللفظ يحتمل الحقيقة والمجاز يحمل على مجازه لأنه الأكثر والغالب ، وفي هذا من فساد العلوم والأديان وفساد البيان الذي علمه الرحمن الإنسان ، وعده عليه من جملة الإحسان والامتنان ما لا يخفى. وإذ قد انتهى الأمر إلى هذا فلا بد من ذكر قول هذا القائل وبيان فساده فنقول في :

* * *

٤٤٣

(فصل الرد على ابن جنى)

الوجه الحادى والخمسون : قال ابن جنى (١) إذا كثر (يعنى المجاز) ألحق بالحقيقة : اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة ، وذلك عامة الأفعال ، نحو قام زيد ، وقعد عمر ، وانطلق بشر ، وجاء الصيف ، وانهزم الشتاء ، ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية ، فقولك قام زيد ، أي هذا الجنس من الفعل ، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام ، وكيف يكون ذلك وهو جنس ، والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتى الكائنات من كل من جد منه القيام ، فمعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم. هذا محال عند كل ذي لب ، فإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة ، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتباع والمبالغة ، ونسبة القليل بالكثير ، ويدل على انتظام ذلك بجميع جنسه أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل ، فتقول قومة قومتين وقياما حسنا وقياما قبيحا ، فإعمالك إياه في جميع أجزائه يد على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها ، وإنما يعمل الفعل من المصادر فيما فيه عليه دليل ، ألا تراك لا تقول قمت جلوسا ولا ذهبت مجيئا ، ولا يجوز ذلك لما لم يكن فيه دليل عليه ، ألا ترى إلى قوله : لعمري لقد أحببتك الحب كله ، فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على اعترافه واستيعابه. وكذلك قول الآخر :

وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما

يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

فقوله كل الظن يدل على صحة ما ذهبنا إليه ، قال أبو علي : قولنا قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا الأسد ، (تعريفه هنا) تعريف الجنس ، كقولك :

__________________

(١) ابن جنى : هو أبو الفتح عثمان بن جنى الموصلى النحوي المشهور ، كان إماما في علم العربية والنحو ، له «الخصائص» ، و «سر الصناعة» ، و «التلقين في النحو» وغيرها من الكتب المفيدة في بابها ، توفي ببغداد (٣٩٢ ه‍) (وفيات الأعيان) بتصرف.

٤٤٤

الأسد أشد من الذئب ، وأنت لا تريد خرجت وجميع الأسد التى يتناولها الوهم علي الباب ، هذا محال واعتقاده اختلال ، وإنما أردت خرجت فإذا واحد من الجنس بالباب ، فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازا لما فيه من الاتساع والتوكيد. أما الاتساع فبأن وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد ، وأما التوكيد فلأنك عظمت قدر ذلك الواحد بالجماعة لأن كل واحد منها مثله في كونه أسدا ، وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر ، وانطلق محمد ، وجاء الليل ، وانصرم النهار.

وكذلك أفعال القديم سبحانه نحو خلق السماوات والأرض وما كان مثله ألا ترى أنه عز اسمه لم يكن بذلك خلق أفعالنا ولو كان خالقا حقيقة لا محالة لكان خالق الكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا ، وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضا لأنه ليست الحال التى علم الله عليها قيام زيد هي التي علم الله عليها قيام عمرو ، ولسنا نثبت له سبحانه علما لأنه عالم لنفسه إلا أنا مع ذلك نعلم أنه ليس حال علمه بقعود زيد هي حال علمه بجلوس عمرو ، ونحو ذلك.

وكذلك قولك ضربت عمرا مجاز أيضا من غير جهة التجوز في الفعل وأنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ، ولكن من جهة أخرى وهى أنك إنما فعلت بعضه لا جميعه ، ألا تراك تقول ضربت زيدا ، ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحي جسده ، ولهذا إذا احتاط الإنسان أو استظهر جاء ببدل البعض فقال ضربت زيدا رأسه أو وجهه ، نعم ثم أنه مع ذلك متجوز ألا تراه يقول ضربت زيدا رأسه فيبدل للاحتياط ، وهو إنما ضرب ناحية من نواحي رأسه لا رأسه كله ، ولهذا يحتاط بعضهم في نحو هذا فيقول ضربت زيدا جانب وجهه الأيمن أو ضربه على رأسه.

وإذا عرفت التوكيد ولم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكلهم وكليهما وما أشبه ذلك ، عرفت منه حال سعة المجاز في هذا الكلام ، ألا تراك تقول قطع الأمير اللص ، ويكون القطع بأمره لا بيده ، فإذا قلت قطع الأمير

٤٤٥

نفسه لصا رفعت المجاز من جهة الفعل وصرت إلى الحقيقة. لكن بقى عليك التجويز في مكان آخر وهو قطع اللص ، وإنما فعله قطع يده أو رجله فإذا احتطت قلت قطع الأمير نفسه يد اللص أو رجله.

«قلت» وبقي عليه أن يقول وذلك مجاز أيضا من جهة أخرى وهو أن اليد اسم للعضو إلى المناكب وهو لم يقطعها كلها إنما قطع بعضها ، فإذا احتاط ينبغى له أن يقول قطع الأمير نفسه من يد اللص ما بين الكوع والأصابع ، وذلك مجاز أيضا من وجه آخر وهو أنه سماه لصا.

وذلك يقتضي أنه وجد جميع أفراد اللصوصية كما قرره في أول كلامه ، وذلك محال فقد أوقع البعض موقع الكل وذلك مجاز ، فإذا احتاط قال قطع الأمير نفسه من يد ومن وجد منه بعض اللصوصية ما بين الكوع والأصابع ، ويبقى عليه مجاز آخر عنده من جهة أخرى وهو أن القطع عنده دال على جميع أفراد الجنس ولم يوجد ذلك فأوقع القطع على فرد من أفراد القطع لمن وجد منه بعض أفراد اللصوصية أوقعه في جزء من أجزاء يده.

فيا ضحكة العقلاء ويا شماته الأعداء بهذه العقول السخيفة التى كادها عدوها ويأبى الله أن يوفق عقل من أنكر علمه وقدرته ويكذب عليه حيث يزعم أن غالب كلامه مجاز لا حقيقة له لشهود هذا الّذي هو باقبح الهذيان أشبه منه بالفصاحة والبيان.

قال : وكذلك قولك «جاء الجيش أجمع» ، ولو لا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضهم وإن أطلقت المجىء على جميعهم لما كان لقولك أجمع معنى ، فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله عليها حتى إن أهل العربية أفردوا لذلك بابا لعنايتهم به.

وكونه مما لا يضاع ولا يهمل مثله ، كما أفردوا لكل معنى أهمهم بابا كالصفة والعطف والإضافة والنداء والندبة والقسم وغير ذلك.

قال ابن جنى : وكذلك أيضا حذف المضاف مجاز لا حقيقة وقد كثر حتى إن في القرآن وهو أفصح الكلام منه أكثر من مائة موضع بل ثلاثمائة موضع وفي

٤٤٦

الشعر منه ما لا أحصيه ؛ قال وهذا يدفع دفع أبي الحسن القياس عن حذف المضاف وإن لم يكن حقيقة ، أو لا يعلم أبو الحسن كثرة المجاز عليه وسعة استعماله وانتشار مواقعه كقام أخوك وجاء الجيش وضربت زيدا ونحو ذلك ، كل ذلك مجاز ، وهو على غاية الانقياد والاطراد فكذلك حذف المضاف.

فإن قيل : يجيء من هذا أن تقول ضربت زيدا وإنما ضربت غلاما وولده ، قيل هذا الذي شنعت به بعينه جائز ألا تراك تقول إنما ضربت زيدا لضربك لغلامه ، وأهنته بإهانتك ولده ؛ وهذا باب يصلحه ويفسده المعرفة به ، فإن فهم عنك في قولك ضربت زيدا أنك إنما أردت بذلك (ضربت) غلامه أو أخاه أو نحو ذلك جاز ، وإن لم يفهم عنك لم يجز كما أنك إن فهم بقولك (أكلت) الطعام أكلت بعضه لم يحتج إلى البدل.

وإن لم يفهم عنك وأوردت إفهام المخاطب إياه لم تجد بدا من البيان وأن تقول بعضه أو نصفه أو نحو ذلك : ألا ترى أن الشاعر لما فهم عنه ما أراد بقوله :

صبحن من كاظمة الحصن الخرب

يحملن عباس بن عبد المطلب

وإنما أراد عبد الله بن عباس ، ولو لم يكن من الثقة يفهم ذلك لم يجد بدا من البيان ، وعلى ذلك قول الآخر : عليم بما أعيا النطاسي حذيما.

وإنما أراد ابن حذيم قال : ويدل على إلحاق المجاز بالحقيقة عندهم وسلوكه طريقتهم في نفوسهم أن العرب قد وكدته كما وكدت الحقيقة ، وذلك قول الفرزدق :

عيشة سال المربدان كلاهما

سحابة موت بالسيوف الصوارم

وإنما هو مربد واحد فثناه مجازا لما يتصل به من مجاوره ؛ ثم إنه رفع ذلك ووكده وإن كان مجازا ، وقد يجوز أن يكون سمى كل واحد من جانبيه مربدا.

وقال الآخر :

إذا البيضة الصماء عضت صفيحة

بحرباتها صاحت صياحا وصلت

فأكد صاحت وهو مجاز بقوله (صياحا) وأما قول الله عزوجل (وَكَلَّمَ اللهُ

٤٤٧

مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ٦٤) فليس هو من باب المجاز ، بل هو حقيقة قال أبو الحسن : خلق الله كلاما في الشجرة فكلم به موسى ، وإذا أحدثه كان متكلما به ، وأما أن يحدثه في فم أو شجرة أو غيرهما فهو شيء آخر ، لكن الكلام واقع ، ألا ترى أن المتكلم منا إنما يستحق هذه الصفة لكونه متكلما لا غير ، لا لأنه أحدثه من آلة نطقه ، وإن كان لا يكون متكلما حتى يحرك به آلة نطقه.

فإن قلت : أرأيت لو أن أحدنا عمل له مصوتة وحركها واجتزأ بأصواتها عن أصوات الحروف المتقطعة المسموعة في كلامنا ، أكنت تسمية متكلما وتسمى تلك الأصوات كلاما وذلك المصوت به متكلما ، وذلك أنه ليس في قوة البشر أن يوردوا الكلام بالآلات التي يصنعوها على سمت الحروب المنطوق بها وصورتها لعجزهم عن ذلك ، وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه اليسير من حروفها فلا يستحق لذلك أن تكون كلاما ، ولا يكون الناطق بها متكلما ، كما أن الّذي يصور الحيوان تجسيما وتزويقا لا يقال خالقا للحيوان ، وإنما يقال مصورا وحاك ومشبه ، وأما القديم سبحانه فإنه قادر على إحداث الكلام على صورته الحقيقية وأصواته الحيوانية في الشجرة والهواء وما شاء. وهذا فرق.

فإن قلت : فقد أحال سيبويه قولنا : اشرب ماء البحر ، وهذا منه حظر للمجاز الذي أنت مدع شياعه وانتشاره.

قيل : إنما أحال ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة ، وهذا مستقيم ، إذ الإنسان الواحد لا يشرب ماء البحر كله ، فأما إن أراد بعضه ثم أطلق اللفظ ولا يريد به جميعه فلا محالة في جوازه ، ألا ترى إلى قوله :

نزلوا بالعرة يسيل عليهم

ماء الفرات يجيء في أطواد

إنه لم يرد جميعه لأنه قد يمكن أن يكون بعض مائه مختلجا قبل وصوله إلى أرضه بشرب أو سقى زرع ونحوه ، فسيبويه إنما وضع اللفظ في هذا الموضع على أصل وضعه في اللغة من العموم ، واجتنب المستعمل فيه من الخصوص ، مثل توكيده المجاز فيما مضى ، قولنا قام زيد قياما وجلس جلوسا ، فقد قدمنا

٤٤٨

الدليل على أن قام وقعد مجاز ، وهو مع ذلك يؤكد بالمصدر ، وكذلك يكون قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) من هذا الوجه مجازا على ما مضى.

ومن التوكيد في المجاز قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ولم تؤت لحية رجل ولا ذكره. قال : ووجه هذا عندى أن يكون مما حذفت صفته ، حتى كأنه قال : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (النمل : ٢٣) تؤتاه المرأة الملكة ، ألا ترى لو أوتيت لحية وذكرا لم تكن امرأة أصلا ، ولما قيل فيها (وأوتيت) وقيل فيها (وأوتى) ومنه قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وهو سبحانه شيء ، وهو ما يستثنيه العقل ببديهته ولا يحوج إلى التشاغل باستثنائه ، فإنه الشيء كائنا ما كان لا يخلق نفسه.

فأما قوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف : ٧٦) فحقيقة لا مجاز ، وذلك أنه سبحانه ليس عالما بعلم ، فهو إذا العليم الذي فوق ذوي العلوم أجمعين ، ولذلك لم يقل وفوق كل عالم عليم ، لأنه سبحانه عالم ولا عالم فوقه.

فإن قلت : ليس قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) اللفظ المعتاد للتوكيد (قيل) هو إن لم يأت نابعا على سمة التوكيد فإنه بمعنى التوكيد. ألا ترى أنك إذا قلت عممت بالضرب جميع القوم ، ففائدته فائدة قولك ضربت القوم كلهم ، فإذا كان المعنيان واحدا كان ما وراء ذلك لغوا غير معتد به «هذا آخر كلامه».

الرد على ذلك :

والكلام عليه من وجوه (أحدها) أن تعلم أن هذا الرجل وشيخه أبا علي من كبار أهل البدع والاعتزال المنكرين لكلام الله تعالى وتكليمه فلا يكلم أحدا البتة ، ولا يحاسب عباده يوم القيامة بنفسه وكلامه ، وأن القرآن والكتب السماوية مخلوق من بعض مخلوقاته ، وليس له صفة تقوم به ، فلا علم له عندهم ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ، وإنه لا يقدر على خلق أفعال العباد ، وأنها واقعة منهم بغير اختياره ومشيئته ، وأنه شاء منهم خلافها وشاءوا

٤٤٩

هم خلاف ما شاء ، فغلبت مشيئتهم ، وكان ما شاءوه هم دون ما شاء هو فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون ، (وهو خالق) عند هذا الضال المضل ، وعالم مجازا لا حقيقة ، والمجاز يصح نفيه ، فهو إذا عنده لا خالق ولا عالم (إلا) على وجه المجاز ، فمن هذا خطؤه وضلاله في أصل دينه ومعتقده في ربه وإلهه ، فما الظن بخطئه وضلاله في ألفاظ القرآن ولغة العرب ، فحقيق بمن هذا مبلغ علمه ونهاية فهمه أن يدعى أن أكثر اللغة مجاز ويأتى بذلك الهذيان ولكن سنة الله جارية أن يفضح من استهزأ بحزبه وجنده ، وكان الرجل وشيخه في زمن قوة شوكة المعتزلة ، وكانت الدولة دولة رفض واعتزال ، وكان السلطان عضد الدولة ابن بويه وله صنف أبو علي «الإيضاح» وكان الوزير اسماعيل بن عباد معتزليا وقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد معتزليا (وأول) من عرف منه تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز هم المعتزلة والجهمية. وهذا الوجه مقدمة بين يدى رد ما في كلامه باطل ، فإنه يشتمل على حق وباطل.

الوجه الثاني : إن ما ادعى فيه إنه مجاز دل على المراد منه مطلقا من غير توقفه على قرينة ، وهذا حد الحقيقة عندهم ، فإن المعنى يسبق إلى الفهم من هذا اللفظ بمجره ولا يصح نفيه ولا يتوقف على قرينة ، فكيف يكون مجازا ، فإن قال بل تركيبه مع المسند إليه واتصاله بالمفعول والحال والتمييز والتوابع والاستثناء ونحوها من القرائن التي تدل على المعنى ، قيل له : فلا يخلوا كلام مفيد من هذا التركيب البتة ، أفنقول إن الجميع مجاز أو النصف مجاز والنصف حقيقة فإن قلت في الجميع مجاز كنت مبطلا رافعا للحقيقة بالكلية ومدع على خطاب الله ورسوله وخطاب الأمم أنه كله مجاز لا حقيقة ، ويكفيك هذا جهلا وكذبا.

وإن قلت : بل البعض حقيقة والبعض مجاز قيل لك : فما ضابط ذلك ولا يمكنك أن تأتي بضابط أبدا ، وقد أغلقت على نفسك باب الحقيقة بالكلية ، فإن كل لفظ تقر بأنه حقيقة يلزمك فيه نظير ما ادعيت انه مجاز ، ولا شيء أبلغ من خلق الله تعالى وعلم الله ، والله خالق كل شيء ، وقد ادعيت أنه مجاز لا حقيقة ولا شيء أظهر من طلوع الشمس على الخلائق عيانا جهرة ، فإذا رآها

٤٥٠

الناس وقالوا طلعت الشمس ، كان هذا عندك مجازا على أن الشمس لم يحصل منها جميع أفراد طلوع الماضى والحاضر والآتي في آن واحد ، وذلك عندك هو الحقيقة ، فإذا كان هذا كله مجازا عندك فما الظن بغير ذلك من الألفاظ.

الوجه الثالث : إن الفعل لا عموم له ولا دلالة له علي وحدة ولا كثرة ولا عموم ولا خصوص ، بل هو دال على القدر المشترك من ذلك كله وهو مطلق الحقيقة ، فإذا أرادوا تقييده بشيء ، من ذلك أتوا بما يدل على مرادهم ، فيأتون في المرأة بتاء التأنيث نحو ضربت ، وفي المرأتين بلفظ التثنية ، وفي الجمع بما يدل على ذلك ، والجمع حقيقة ، فدعواك إن ضربت موضوع لجميع أفراد الضرب الموهومة التي لا تدخل تحت الحصر ، كذب على اللغة ، فإن العرب لم تضع الفعل كذلك البتة ولا أفادته به ولا دلت عليه ، وإنما وضعت الفعل بالإخبار عن فعل صدر عن الفاعل أو يصدر منه أو يطلبه ، يوضحه :

الوجه الرابع : إن دلالة الماضى والمضارع والأمر على المصدر واحدة ، فلو كان (ضربت) موضوعا لجميع أفراد الضرب كلها من أولها إلى آخرها لكان الضرب كذلك فيكون موضوعة لفظة اضرب أوقع كل فرد من أفراد الضرب كلها من أولها إلي آخرها الموهومة في جميع الماضى والحاضر والمستقبل إلى ما لا نهاية له ، وأى فرية على اللغة وأوضاعها أعظم من ذلك؟ وهذا أمر يقطع العاقل بأن هذا لم يخطر على بال المتكلم ولا السامع ، ولا قصده الواضع أصلا ، ومن نسب الأمر به إلى ذلك فقد نسبه إلى أعظم الجهل وإلي العجز عن التكلم بالحقيقة ، فإنه لا سبيل له عند هذا القائل إلى التخلص من المجاز المتكلم بالحقيقة البتة ، فإن غاية ما يقدر أن يقال أوقع فردا من أفراد الضرب على جزء من المضروب ، ومع هذا فلم يخلص عنده لأن أوقع فعل وهو دال عنده على جميع أنواع الإيقاع في الماضى والحاضر والأمر. يوضحه :

الوجه الخامس : إن هذا يستلزم تعجيز الخالق عن التكلم بالحقيقة أمرا أو خبرا ، فإن أوامره سبحانه كلها بالأفعال ، وإخباره عن نفسه وخلقه عامة بالأفعال ، وقد صرح هذا بأنها مجاز ، فقد عجز الله بأن يأمر بلفظ الحقيقة أو يخبر عن نفسه

٤٥١

أو عن أحد من خلقه بلفظ حقيقة ، فإن قوله : / أقيموا الصلاة / واتقوا الله / وآمنوا / واسمعوا / وجاهدوا / واصبروا / واذكروا الله / وارهبون / واخشون / وادعونى / وأمثال ذلك عندهم مجاز فلو أراد أن يأمر بلفظ الحقيقة أو يخبر عن نفسه أو عن فعله أو عن فعل خلقه بها ، ما ذا يقول سبحانه حتى يكون متكلما بالحقيقة ، وكذلك قوله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وأضعاف ذلك كله مجاز ، كذلك في جانب الخبر نحو / وإذ قال ربك للملائكة / وقالت الملائكة / وعلم آدم الأسماء كلها / وقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) وأكثر من مائة ألف فعل ومائة ألف خبر فإذا (كانت) هذه مجازا عندك فكيف يصنع من (أراد أن) يتكلم بالحقيقة.

الوجه السادس : قوله ويدل على انتظامه لجميع جنس المصدر أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل نحو (قمت) قومة وقومتين ومائة قومة ، وقياما حسنا وقبيحا.

وهذا من أعظم ما يبطل قوله ، فإن العرب وضعته مطلقا غير عام بل صالحا للعمل في الواحد والاثنين ، والكثير والقليل ، وهو في كل ذلك حقيقة لم يخرج عن موضوعه ويستعمل في غيره ، والعجب إنك صرحت في آخر كلامك بأنه موضوع لصلاحيته لذلك كله ، فدل على أنه ليس بموضوع للعموم فبطل قولك إنه موضوع لجميع الجنس بقولك إنه موضوع لأن يكون صالحا للواحد والقليل والكثير ، وهذا هو الحق وهو ينفى المجاز ويبين إنه حقيقة في الجميع ، وهذا الذي يعقله بنو آدم.

وأما استدلالك على ذلك بإعمال الفعل فيه فمن أعجب العجب فإنه يعمل في المرة الواحدة والمرتين والمرات والمطلق والعام ، فإن كان أعماله في العام نحو يظنان كل الظن ، وبابه دليل على أنه موضوع له ، فهل كان إعماله في الخاص دليلا على أنه موضوع له ، فما خرج عن موضوعه حيث أعمل ، وهذا ظاهر بحمد الله.

٤٥٢

الوجه السابع : قول أبي علي إن قام زيد بمنزلة خرجت فإذا الأسد ، تعريفه هنا تعريف جنس ، كقولك الأسد أشد من الذئب ، وإنك لا تريد خرجت وجميع الأسد التى يتناولها الوهم على الباب وإنما فإذا واحد من هذا الجنس بالباب ، فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازا.

خطأ منه ووهم ظاهر ينقض آخر كلامه فيه أوله ، فإنه صرح أولا بأن التعريف المذكور هنا تعريف الجنس وهذا حق ، فإن التعريف ثلاثة أنواع : تعريف الشخص ، وتعريف الجنس وتعريف العموم ، وليس المراد تعريف الشخص ولا تعريف العام قطعا ، وكل واحد من هذه الأنواع حقيقة فيما استعمل فيه ، وليس لفظ الأسد في قولك خرجت فإذا الأسد لفظ جماعة وضع على الواحد حتى يكون مجازا ، فإن اسم الجنس المعرف باللام لم يوضع للجماعة حتى يكون استعماله في الواحد المطلق مجازا ، ولو كان استعماله في التعريف المطلق مجازا لكان استعماله في التعريف الشخصي أولى بالمجاز لأنه أبعد عن العموم من تعريف الجنس ، فيكون كل اسم معروف باللام التي للعهد وللجنس مجازا ، وهذا لا يقوله من يدري ما يقول. يوضحه :

الوجه الثامن : إن هذا قلب للحقائق ، فإن الأصل في اللام أن تفيد تعريف الماهية فالعهد بها أولى من الجنس لكمال التعريف به ، والجنس أولى بها من العموم لأنها تفيد الماهية الذهنية ، فهي في الحقيقة للعهد الذهنى ، فإنه نوعان :

شخصي وجنسي ، فالقائل اشتر اللحم واستق الماء يريد باللام تعريف الجنس المعهود بينه وبين المخاطب ؛ كما أن القائل إذا قال : قال الرجل : ودخلت البيت يريد تعريف الشخص المعهود بينه وبين المخاطب ، فمن ادعى أنهم نقلوا هذا اللفظ من الجمع إلى الواحد فهو مخطئ يوضحه :

الوجه التاسع : وهو أن أكثر الناس لا يرون المفرد المعرف باللام من ألفاظ العموم بحال ، وإنما يثبتون العموم للجمع المعرف باللام سواء كان جمع قلة نحو المسلمين والمسلمات أو جمع كثرة نحو الرجال والعباد ، فالأسد بمنزلة

٤٥٣

الرجل وإذا كان ليس من ألفاظ العموم فلم يوضع في غير موضعه ، ولا استعمل إلا في موضوعه ، ومن يجعله للعموم من أهل الأصول والفقهاء يقولون إنما يكون للعموم حيث يصلح أن تخلف اللام فيه كل نحو قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر : ٢) ، ونحو قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (المعارج : ١٩) ، ولهذا صح الاستثناء منه ، وذلك حيث لا يكون عهد القرينة والسياق دالا على إرادة جميع أفراد الجنس ، وهذا منتف في قوله : خرجت فإذا الأسد ، فهو إنما يدل على العموم بقرينة ، كما يدل على العهد بقرينة ، فدعوى المجاز في بعض موارده دون بعض تحكم بارد لا معنى له ، ودعوى المجاز في جميعها باطل ، فلم يبق إلا أنه حقيقة حيث استعمل وهو الصواب.

الوجه العاشر : قوله : (خرجت فإذا الأسد) اتساع وتوكيد وتشبيه ، أما الاتساع فإنه وضع اللفظة المعتادة للجماعة على الواحد ، وأما التوكيد فلأنه عظم قدر (ذلك) الواحد بأن جاء باللفظة على اللفظ المعتاد للجماعة. وأما التشبيه فلأنه شبه الواحد بالجماعة.

ثم قال : وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر وانطلق محمد ، وجاء الليل وانصرم النهار ـ خطأ من وجهين : (أحدهما) أنه مبني على أن الأسد دل على الجمع ؛ وأنه تجوز فاستعمله في الواحد ، وقد عرفت ما فيه ، (الثاني) إنه لو صح له ذلك لم يكن قعد جعفر ، وانطلق محمد ، وجاء الليل مثله ، فإن هذه الأفعال لا تدل على قعود وانطلاق ومجيء عام لكل فرد البتة ؛ بحيث يكون استعمالها فيمن وجد منه بعض ذلك الجنس مجازا ، فليس ثم دلالتان عامة وخاصة بخلاف الأسد ، فإنه يمكن تقدير دلالته عامة وخاصة له ، فإذا استعمل في أحدهما يكون استعماله له في غير مدلوله الآخر ، فكيف يمكن مثل ذلك في الأفعال؟ فهل يعقل ذو تحصيل لقام وقعد وانطلق دلالتين قط عامة وخاصة ، وليس العجب من تسويد الورق بهذا الهذيان. وإنما العجب من أذهان تقبله وتستحسنه.

٤٥٤

الوجه الحادي عشر : قوله وكذلك أفعال القديم نحو : خلق الله السموات والأرض وما كان مثله.

(فيقال) الله أكبر كبيرا. وسبحان الله عما يقوله الجاحدون لخلقه وربوبيته ، وتعالى علوا كبيرا ، وقبح الله قولا يتضمن أن يكون خالقا مجازا لا حقيقة ، وأن يكون خلق الله السموات والأرض مجازا لا حقيقة ، ومن هنا قال السلف الذين بلغتهم مقالة هؤلاء أنهم شر قولا من اليهود والنصارى ، وقالوا إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ، ولا نستطيع أن نحكى كلام هؤلاء. وقالوا إنهم مليشون معطلون نافون للمعبود عزوجل ، «مليشون» أى يصفونه بصفة لا شيء.

الوجه الثاني عشر : إن المجاز لا بد أن يكون له استعمال في الحقيقة أو وضع سابق وإن لم يستعمل عند القائلين به ، فيكون للفظ جهتان (جهة) حقيقة (وجهة) مجاز كالأسد والحمار ونحو ذلك يتجوز به من حقيقته التي وضع لها أولا إلى مجازه الذي استعمل فيه ثانيا لعلاقة بينهما. فأين سبق لقولنا خلق الله السموات والأرض ، وعلم الله ما تكسب كل نفس استعماله في غير هذا المفهوم ليكون إطلاقه عليه بطريق المجاز ؛ فلم يستعمل خلق إلا في موضوعه الأصلي ولا اسم الله إلا في موضوعه ، ولا السموات والأرض إلا في موضوعاتهما ، فإما أن يكون هذا القائل يرى المجاز (في النسبة) كما يختاره جماعة من الناس ، أو ليس ممن يرى المجاز في النسبة فإن لم ير في النسبة مجازا ، فالمفردات مستعملة في موضوعاتها ولا مجاز في النسبة فكيف يكون خلق الله مجازا. أو إن كان ممن يرى المجاز في النسبة ، كأنبت الماء البقل ، فأضاف الإنبات إلى الماء وليس له في الحقيقة فهذه النسبة في قولنا خلق الله أصدق (النسب) الحقيقية التي إن كانت مجازا لم يتصور أن يكون في الكلام نسبة حقيقة البتة. لا في القديم ولا في الحديث. وهذا من أعظم الضلال.

الوجه الثالث عشر : إنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله خالقا ولهذا أقرت به جميع الأمم ، مؤمنهم وكافرهم. ولظهور ذلك وكون العلم به بديهيا

٤٥٥

فطريا احتج الله به على من أشرك به في عبادته فقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) في غير موضع من كتابه فعلم أن كونه سبحانه خالقا من أظهر شيء عند العقول فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازا وهو أصل كل حقيقة ؛ فجميع الحقائق تنتهي إلى خلقه وإيجاده ، فهو الذي خلق وهو الذي علم كما قال تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (القلم : ١ ـ ٥) فجميع الموجودات انتهت إلى خلقه وتعليمه. فكيف يكون كونه خالقا عالما مجازا؟ وإذا كان كونه خالقا عالما مجازا لم يبق له فعل حقيقة ولا اسم حقيقة ، فصارت أفعاله كلها مجازات ، وأسماؤه الحسنى كلها مجازات (١).

الوجه الخامس عشر : قوله : ألا ترى أنه لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا. لو كان خالقا حقيقة لا محالة لكان خالقا للكفر والعدوان وغيرها من أفعالنا.

كلام باطل على أصل أصحابه القدرية وعلى أصل أهل السنة ، بل على أصول جميع الطوائف فإن جميع أهل الإسلام متفقون على أن الله خالق حقيقة لا مجازا بل وعباد الأصنام وجميع الملل. وأما إخوانه القدرية فإنهم قالوا أنه غير خالق لأفعال الحيوان الاختيارية فإنه لا يقول أحد منهم أنه خالق السموات والأرض وما بينهما مجازا لكونه غير خالق لأفعال الحيوان فإنها لم تدخل تحت قوله : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (العنكبوت : ٤٤) بل لم تدخل عندهم تحت قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الرعد : ١٦) وإن دخلت تحت هذا اللفظ فهو عندهم عام مخصوص بالعقل نحو قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (النمل : ٢٣) ، و (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) (الأحقاف : ٢٥) فإن ادعوا المجاز فهم يدعونه في مثل هذا لكونه عاما مخصوصا وأما نحو قوله : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فلم يقل أحد قط أنه مجاز قبل ابن جنى بناء على ما أصله

__________________

(١) وما قرره مؤخرا هنا هو الوجه الرابع عشر.

٤٥٦

من الأصل الفاسد : أن الفعل موضوع لجميع أفراد المصدر ؛ فإذا استعمل في بعضها كان مجازا.

الوجه السادس عشر : أنه أثبت المجاز بإنكار عموم قدرة الله تعالى ومشيئته للكائنات ، إثبات عدة خالقين معه فكان دليلة أخبث من الحكم المستدل عليه ، وقد اتفقت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجميع كتب الله المنزلة على إثبات القدر ، وأن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء ، وأنه بكل شيء عليم ، وأنه كتب في الذكر كل شيء ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا يكون في ملكه ما لا يشاء ، وأنه لو شاء لما عصاه حد ، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم ، وأنه أعان أهل طاعته بما لم يعن به أهل معصيته ، ووفق أهل الإيمان لما لم يوفق له أهل الكفر ، وأنه هو الذي جعل المسلم مسلما ، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

وبالجملة فلا يخرج حادث من الأعيان والأفعال عن قدرته وخلقه كما لا يخرج عن علمه ومشيئته. هذا دين جميع المرسلين ، فاستدل هذا القائل على أن خلق الله السموات والأرض مجاز بإنكار ذلك ودفعه وإخراج أشرف ما في ملكه عن قدرته وهو طاعات أنبيائه ورسله وأوليائه وملائكته ، فلم يجعله قادرا عليها ولا خالقا لها ، وكان سلفه الأولون يقولون لا يعلمها قبل كونها ، فانظر إلى إثبات المجاز ما ذا جنى على أهله ، وإلى أين ساقهم ، وما ذا قدم من معاقل الإيمان ، وأعجب من هذا الحكم ودليله :

والوجه السابع عشر : قوله : وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضا لأنه ليست الحال التى علم الله عليها قيام زيد هي الحالة التي علم عليها قعود عمر.

يريد أنه ليس لله علم في الحقيقة كما صرح به بقوله : ولسنا نثبت لله سبحانه علما لأنه عالم بنفسه ، وهذه مسألة إنكار صفات الرب سبحانه وأنه لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا إرادة فلا يقولون عالم بعلم ولا قادر بقدرة ولا سميع بسمع ، ويقولون يعلم ويسمع ويقدر بلا علم ولا قدرة ولا

٤٥٧

سمع ، وإذا كان كذلك فكان قولنا علم الله قيام زيد مجازا عندهم إذ لا علم له وعلمه فعل يدل على المصدر والصفة وليس في نفس الأمر عندهم لله علم ولا قدرة فجاء المجاز وانتفت الحقيقة.

فيقال لهم : قولكم أن الحال التي علم الله عليها قيام زيد ليست هي الحال التي علم عليها قيام عمر ، هذه الحال أمر وجودي أم عدمي ؛ فإن كانت عدمية فهي لا شيء كاسمها ، وإن كانت وجودية فإما أن تقوم بالعالم أو المعلوم أو بنفسها ، وقيامها بنفسها محال لأنها معنى ، وقيامها أيضا بالمعلوم محال لأنها لو قامت منه لكان هو العالم المدرك فتعين قيامها بالعالم ، هذه هى صفة العلم التي أنكرتموها ، وهذا مما لا سبيل لكم إلى دفعه ؛ ولهذا لما أقر به ابن سينا ألزمه ابن الخطيب بثبوت الصفات إلزاما لا محيد له عنه ، فجاء ثور طوس وعلم أن ذلك يلزمه ففر إليه ما أضحك منه العقلاء وقال : أقول إن العلم هو نفس المعلوم ، فأعجب من ضلال هؤلاء القوم وفساد عقولهم أيكون الضارب هو نفس المضروب والشاتم نفس المشتوم ؛ والذابح هو نفس المذبوح ؛ والناكح هو نفس المنكوح؟ هذا أشد مناقضة للعقول من قول من قال الخالق نفس المخلوق ، فهؤلاء جعلوا الفعل هو عين المفعول ؛ ولم يثبتوا للفاعل فعلا يقوم به ؛ وهذا جعل العلم نفس المعلوم ؛ لم يجعل للعالم علما يقوم به.

الوجه الثامن عشر : قولك : وكذلك أيضا ضربت عمر مجاز من غير جهة التجوز في الفعل وإنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ولكن من جهة أخرى وهى أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه.

فيقال : الأمر ، إن كان كذلك فإن العرب لم تضع لفظة ضربت زيدا لغير هذا المعنى ثم نقلته إلى غيره حتى يكون مجازا فيه ؛ بل لم تضعه ولم تستعمله قط إلا فيما يفهم منه كل أحد ؛ فدعوى أن ذلك مجاز كذب ظاهر على اللغة ، فلو أنهم وضعوا ضربت زيدا لوقوع الضرب على جميع أجزائه الظاهرة والباطنة ثم نقلوه إلى استعماله في إيقاعه على جزء من أجزاء بدنه أمكن أن يكون مجازا

٤٥٨

فيه ؛ بل استعماله في هذا المفهوم لا يختص باللغة العربية بل جميع الأمم على اختلاف لغاتها لا يريدون غير هذا المفهوم فدعوى أن الحقيقة التي وضع لها اللفظ تخالف ذلك دعوى كاذبة ، بل حقيقة هذا اللفظ التى وضع واستعمل في كل لسان هى إمساس بعض المضروب بآلة الضرب ؛ لا يعرف له حقيقة غير ذلك البتة.

(اختلاف الأفعال بحسب متعلقها)

الوجه التاسع عشر : أن الأفعال تختلف محالها ومتعلقاتها فمنها ما يكون الفعل فيه شاملا لجميع أجزاء المفعول ظاهره وباطنه كقولك خلق الله زيدا وأوجده وكونه وأحدثه ، ومنها ما يقع الفعل فيه على ظاهر المحل دون باطنه كقولك اغتسل زيد ، ومنها : ما يقع باطنه دون ظاهره نحو : فرح زيد ، ورضي ، وغضب ، وأحب ، وأبغض ، ومنها : ما يقع على بعض جوارحه نحو : قام ، وتكلم ، وأحدث ، وأبصر ، وجامع ، وقبّل وخالط ، وكتب ، فينسب الفعل في ذلك كله إلى جملته وهو حاصل ببعض أعضائه ، ومن قال أن كل ذلك مجاز جاهر بالبهت والكذب ، فإن العرب لم تضع هذه الألفاظ قط لغير معانيها المفهومة منها ولم تنقلها عن موضعها إلى غيره.

ونظير هذا أن الصفات تجري على موصوفاتها حقيقة فمنها ما يكون لباطنه دون ظاهره كعالم وعاقل ومحب ومبغض وحسود ونحو ذلك ، ومنها : ما يكون صفة للظاهر دون الباطن كأسود ، وأبيض ، وأحمر ، وطويل ، وقصير ، ومنها ما يعم الظاهر كله لهذه الصفات ، ومنها : ما يخص بعضه كأعرج ، وأحدب ، وأشهل ، وأقرع ، وأخرس ، وأعمى ، وأصم ، وكذلك أسماء الفاعلين منها : ما يعم جميع الذات كالمسافر ومنتقل ، ومنها : ما يخص بعض الذات ككاتب وصانع ، والفعل صادق في ذلك كله واسم الفعل حقيقة لا مجاز باتفاق العقلاء ، ولم يشترط أحد في وجود النسبة حقيقة أن يصدر الفعل عن اليد والرجل وجميع الأجزاء الظاهرة والباطنة وهذا كما أنه لا يشترط في الفاعل فلا

٤٥٩

يشترط في المفعول أن يعم الفعل أجزاءه جميعا ؛ بل من الأفعال ما يعم جميع المفعول نحو أكلت الرغيف ، ومنها : ما يختصر بجزء من أجزائه نحو قطعت الخشب والعمامة إذا أوقعت القطع في وسطها أو جزء منها ، ولو حاول إنسان في ذلك لكونه مجازا وقال ما قطع الخشبة ولا العمامة لعد كاذبا ، ولما قال الله تعالى لموسى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) (الشعراء : ٦٣) لم يفهم موسى أن حقيقة ذلك ضرب جميع أجزاء البحر بعصاه بل الذي امتثله هو حقيقة الضرب المأمور به ، وعندهم أن هذا مجاز من جهة الضرب ومن جهة العصا ومن جهة المضروب ، وطريق التخلص إلى الحقيقة عندهم في مثل هذا أن يأتي كلام في غاية الغي والاستكراه تعالى الله عنه علوا كبيرا ؛ فيقول : أوقع فردا من أفراد الضرب بجزء من أجزاء (عصاك على جزء من أجزاء) البحر ؛ فهذه السماجة والغثاثة عندهم هي الحقيقة ـ وتلك الفصاحة والبلاغة عندهم هي المجاز.

وقد زعم بعض المتحذلقين أن قولك : جاء زيد ، وكلمت زيدا ، ونحوه مجاز من وجه آخر وهو : أن زيدا اسم لهذا الموجود وهو من وقت الولادة إلى الآن قد ذهبت أجزاؤه واستخلف غيرها فإنه لا يزال في تحلل واستخلاف فليس زيد الآن هو الموجود وقت التسمية فقد أطلق الاسم على غير ما وضع له اللفظ أولا ، وأثبت هذا المتحذلق المجاز في الإعلام بهذه الطرائف ؛ وعلى هذا التقدير فيكون محمد رسول الله مجازا أيضا من هذا الوجه ، ويكون كل اسم لمسمى من بنى آدم مجازا ولا يتصور أن يكون حقيقة البتة ؛ وكفى بهذا القول سخفا وحمقا.

وتكايس بعضهم وأجاب عنه بأن قال : زيد اسم للنفس الناطقة وهى لا تتحلل ولا تتغير بل هي ثابتة من حين الولادة إلى حين الموت ، فلزمه ما هو أعظم من ذلك ، وهو أن يكون رأيت زيدا وضربت زيدا أو مرض زيد وأكل وشرب وركب وقام وقعد كله مجاز فإن الرؤية إنما وقعت على البدن لا على النفس وكذلك الضرب وبقية الأفعال.

والمقصود أن جعل ذلك كله مجازا خبط محض فإنه لا حقيقة للفظ سوى ذلك ولا يعرف له حقيقة خرج عنها إلى هذا الاستعمال حتى تصح دعوى

٤٦٠