مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

شيخ شيوخ ومشيوخاء مشيخة

شيخة شيخة شيخان أشياخ

وكذلك «عبد» فإنه يجمع على عبيد وعباد وعبدان ، وهذا أكثر من أن يذكر فإذا اختلفت صيغة الجمع باعتبار المدلول الواحد لم يدل اختلافها على خروج الفرد عن حقيقته ، فكيف يدل اختلافها مع تعدد المدلول على المجاز. وأيضا فإن المشترك قد يختلف جمعه باختلاف مفهوماته ، ولا يدل ذلك على المجاز ، وأيضا فإنه ليس ادعاء كون أحدهما مجازا لمخالفة جمعه الآخر أولى من العكس.

(فإن قلتم) بل إذا علمنا أن أحدهما حقيقة علمنا أن الآخر الذي خالفة في صفة جمعه مجاز ، فحينئذ يكون اعتبار مخالفة الجمع لا فائدة فيه ، فإنا متى علمنا كون أحدهما حقيقة ، وأنه ليس مشتركا بينه وبين الآخر كان استعماله فيه مجازا ، فالحاصل أنه إن توقف ذلك على اختلاف الجمع لم يكن معرفا ، وإن لم يتوقف عليه لم يكن معرفا ، فلا يحصل به التفريق على التقديرين.

وأيضا فإن رأس مالكم في هذا التعريف هو لفظ أوامر ، وأمور ، فادعيتم أن أوامر جمع أمر القول وأمور جمع أمر الفعل وغركم في ذلك قول الجوهري في «الصحاح» تقول أمرته أمرا وجمعه أوامر وهذا من إحدى غلطاته فإن هذا لا يعرف عند أهل العربية واللغة ، وفعل له جموع عديدة ليس منها فواعل البتة.

وقد اختلف طرق المتكلمين لتصحيح ذلك ، فقالت طائفة منهم جمعوا أمرا على أأمر كأفلس ، ثم جمعوا هذا الجمع على أفاعل لا فواعل فكان أصلها أأمر فقلبوا الهمزة الثانية واوا كراهية النطق بالهمزتين فصار في هذا أوامر وفي هذا من التكلف ودعوى التكلف ودعوى ما لم تنطق به العرب عليهم ما فيه ، فإن العرب لم يسمع منهم أأمر على أفعل البتة ، ولا أوامر أيضا فلم ينطقوا بهذا ولا هذا.

ولما علم هؤلاء أن هذا لا يتم في النواهى تكلفوا لها تكلفا آخر ، فقالوا حملوها علي نقيضها ، كما قالوا الغدايا والعشايا ، وقالوا قدم وحدث ، فضموا الدال من حدث حملا على قدم.

٤٠١

وقالت طائفة أخرى : بل أوامر ونواه جمع آمر وناه ، فسمى القول آمرا وناهيا توسعا ثم جمعوا على فواعل. كما قالوا فارس وفوارس وهالك وهوالك وهذا أيضا متكلف ، فإن فاعلا نوعان : صفة واسم ، فإن كان صفة لا يجمع على فواعل فلا يقال : قائم وقوائم وآكل وأؤاكل وضارب وضوارب وعابد وعوابد ، وإن كان اسما فإنه يجمع على فواعل نحو خاتم وخواتم وقد شذ فارس وفوارس وهالك وهوالك فجمعا على فواعل مع كونهما صفتين ، أما فارس فلعدم اللبس لأنه لا يتصف به المؤنث وأما هالك فقصدوا النفس وهى مؤنثة ، فهو في الحقيقة جمع هالكة ، فإن فاعلة يجمع على فواعل بالأسماء والصفات كفاطمة وفواطم وعابدة وعوابد ، فسمعت هذا طائفة أخرى قالت أوامر ونواه جمع آمرة وناهية. أي كلمة أو وصية آمرة وناهية.

والتحقيق أن العرب سكتت عن جمع الأمر والنهي فلم ينطقوا لهما بجمع لأنها في الأصل مصدر فالمصادر لا حظ لها في التثنية والجمع (إلا إذا تعددت أنواعها) والأمر والنهى وإن تعددت متعلقاتهما ومحالهما فحقيقتهما غير متعددة (فتعدد) المحال لا يوجب تعدد الصفة ، وقد منع سيبويه جمع العلم ولم يعتبر تعدد المعلومات فتبين بطلان هذا الفرق الذي اعتمدتم عليه من جميع الوجوه.

الوجه الثالث والعشرون : تفريقكم بين الحقيقة والمجاز بالتزام التقييد في أحد اللفظين كجناح الذل ونار الحرب ونحوهما فإن العرب لم تستعملهما إلا مقيدة. وهذا الفرق من أفسد الفروق فإن كثيرا من الألفاظ التي لم تستعمل إلا في موضوعها قد التزموا تقييدها كالرأس والجناح واليد والساق والقدم ؛ فإنهم لم يستعملوا هذه الألفاظ وأمثالها إلا مقيدة بمحالها وما تضاف إليه كرأس الحيوان ورأس الماء ورأس المال ورأس الأمر. وكذلك الجناح لم يستعملوه إلا مقيدا بما يضاف إليه كجناح الطائر وجناح الذل فإن أخذتم الجناح مطلقا مجردا عن الإضافة لم يكن مفيدا لمعناه الإفرادى أصلا عن أن يكون حقيقة أو مجازا ، وإن اعتبرتموه مضافا مقيدا فهو حقيقة فيما أضيف إليه فكيف يجعل حقيقة في مضاف ،

٤٠٢

مجازا في مضاف آخر ، ونسبته إلى هذا المضاف كنسبة الآخر إلى المضاف الآخر. فجناح الملك حقيقة فيه ، قال الله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (فاطر : ١٠) فمن قال ليس للملك جناح حقيقة ، فهو كاذب مفتر ناف لما أثبته الله تعالى ؛ وإن قال : ليس له جناح من ريش. قيل له. من جهلك اعتقادك أن الجناح الحقيقي هو ذو الريش وما عداه مجاز ، لأنك لم تألف إلا الجناح الريش ، وطرد هذا الجهل العظيم أن يكون كل لفظ أطلق على الملك وعلى البشر أن يكون مجازا في حق الملك كحياته وسمعه وبصره وكلامه. فكيف بما أطلق على الرب سبحانه من الوجه واليدين والسمع والبصر والكلام والغضب والرضى والإرادة ، فإنها لا تماثل المعهود في المخلوق ، ولهذا قالت الجهمية المعطلة إنها مجازات في حق الرب لا حقائق لها وهذا هو الّذي حدانا على تحقيق القول في المجاز ، فإن أربابه ليس لهم فيه ضابط مطرد ولا منعكس وهم متناقضون غاية التناقض ، خارجون عن اللغة والشرع وحكم العقل ، إلى اصطلاح فاسد يفرقون به بين المتماثلين ، ويجمعون بين المختلفين ، فهذه فروقهم قد رأيت حالها وتبينت محالها. يوضحه :

الوجه الرابع والعشرون : إن العرب لم تضع جناح الذل لمعنى ثم نقلته من موضعه إلى غيره. ومن زعم ذلك فهو غالط ، فليس لجناح الذل مفهومان وهو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر كما يمكن ذلك في لفظ أسد وبحر وشمس ونحوها ، وإنما ينشأ الغلط في ظن الظان إنهم وضعوا لفظ جناح مطلقا هكذا غير مقيد ، ثم خصوه في أول وضعه بذوات الريش ثم نقلوه إلى الملك والذل فهذه ثلاث مقدمات لا يمكن بشر على وجه الأرض إثباتها. ولا سبيل إلى العلم بها إلا بوحي من الله تعالى.

الوجه الخامس والعشرون : قولكم نفرق بين الحقيقة والمجاز يتوقف المجاز على المسمى الآخر بخلاف الحقيقة ؛ ومعنى ذلك أن اللفظ إذا كان إطلاقه على أحد مدلوليه متوقفا على استعماله في المدلول الآخر كان بالنسبة إلى مدلوله الّذي يتوقف على المدلول الآخر مجازا. وهذا مثل قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ)

٤٠٣

(آل عمران : ٥٤) فإن إطلاق المكر على المعنى المتصور من الرب سبحانه يتوقف على استعماله في المعنى المتصور من الخلق. فهو حينئذ مجازيا بالنسبة إليه ، حقيقة بالنسبة إليهم ، وهذا أيضا من النمط الأول في الفساد. أما (أولا) فإن دعواكم أن إطلاقه على أحد مدلوليه متوقف على استعماله في الآخر دعوى باطلة مخالفة لصريح الاستعمال. ومنشأ الغلط فيها أنكم نظرتم إلى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) ، وقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) (النمل : ٥٠) وذهلتم عن قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (الأعراف : ٩٩) فأين المسمى الآخر. وكذلك قوله تعالى : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (الرعد : ١٣) فسر بالكيد والمكر. وكذلك قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف : ١٨٢ ، ١٨٣).

(فإن قلتم) يتعين تقدير المسمى الآخر ليكون إطلاق المكر عليه سبحانه من باب المقابلة ، كقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) (الطارق : ١٥ ، ١٦) ، وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (النساء : ١٤٢) ، وقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة : ٦٧) فهذا كله إنما يحسن على وجه المقابلة ، ولا يحسن أن يضاف إلى الله تعالى ابتداء فيقال إنه يمكر ويكيد. ويخادع وينسى ولو كان حقيقة لصلح إطلاقه مفردا عن مقابلة ، كما يصح أن يقال : يسمع ويرى. ويعلم ويقدر.

(فالجواب) أن هذا الّذي ذكرتموه مبني على أمرين : أحدهما معنوى والآخر لفظي. فأما المعنوى فهو أن مسمى هذه الألفاظ ومعانيها مذمومة فلا يجوز اتصاف الرب تعالى بها. وأما اللفظي فإنها لا تطلق عليه إلا على سبيل المقابلة فتكون مجازا ، ونحن نتكلم معكم في الأمرين جميعا. فأما الأمر المعنوى فيقال لا ريب أن هذه المعانى يذم بها كثيرا ، فيقال فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء ، ولا تكاد تطلق علي سبيل المدح بخلاف أضدادها ، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازا في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيب وذم ، والصواب

٤٠٤

أن معانيها تنقسم إلى محمود ومذموم ، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم والكذب ، فما يذم منها إنما يذم لكونه متضمنا للكذب أو الظلم أو لهما جميعا ، وهذا هو الذي ذمه الله تعالى لأهله كما في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (البقرة : ٩) فإن ذكر هذا عقيب قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة : ٨) فكان هذا القول منهم كذبا وظلما في حق التوحيد والإيمان بالرسول واتباعه ، وكذلك قوله : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) (النمل : ٤٥) الآية. وقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (فاطر : ٤٣) وقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) (النمل : ٥٠ ، ٥١) فلما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعانى المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو حقيقتها ، فإذا أطلقت لغير الذم كان مجازا ، والحق خلاف هذا الظن ، وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم ، فما كان منها متضمنا للكذب والظلم فهو مذموم ؛ وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود ، فإن المخادع إذا خادع بباطل وظلم ، حسن من المجازى له أن يخدعه بحق وعدل ، وذلك إذا مكر واستهزأ ظالما متعديا كان المكر به والاستهزاء عدلا حسنا كما فعله الصحابة بكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وأبي رافع وغيرهم (١) مما كان يعادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخادعوه حتى كفوا شره وأذاه بالقتل وكان هذا الخداع والمكر نصرة لله ورسوله.

وكذلك ما خدع به نعيم بن مسعود المشركين عام الخندق حتى انصرفوا (٢) ، وكذلك خداع الحجاج بن علاط لامرأته وأهل مكة حتى أخذ ماله (٣) ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحرب خدعه» (٤) وجزاء المسيء بمثل إساءته في جميع الملل ، مستحسن في جميع العقول.

__________________

(١) أخرجه البخارى (٣٠٣٠) ومسلم (١٧٣٩) وغيرهما.

(٢) أنظر خبرهم في «مختصر زاد المعاد» للشيخ محمد عبد الوهاب بتحقيقنا طبعة نزار الباز بمكة المكرمة.

(٣) أنظر خبرهم في «مختصر زاد المعاد» للشيخ محمد عبد الوهاب بتحقيقنا طبعة نزار الباز بمكة المكرمة.

(٤) أنظر خبرهم في «مختصر زاد المعاد» للشيخ محمد عبد الوهاب بتحقيقنا طبعة نزار الباز بمكة المكرمة.

٤٠٥

في معنى قوله تعالى

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ)

ولهذا كاد سبحانه ليوسف حين ظهر لإخوته ما أبطن خلافه ، جزاء لهم على كيدهم له مع أبيه حيث أظهروا له أمرا وأبطنوا خلافه ، فكان هذا من أعدل الكيد ، فإن إخوته فعلوا به ذلك حتى فرقوا بينه وبين أبيه ، وادعوا أن الذئب أكله ، ففرق بينهم وبين أخيهم بإظهار أنه سرق الصواع ولم يكن ظالما لهم بذلك الكيد ، حيث كان مقابلة ومجازاة ، ولم يكن أيضا ظالما لأخيه الذي لم يكده بل كان إحسانا إليه وإكراما له في الباطن وإن كانت طريق ذلك مستهجنة ، لكن لما ظهر بالآخرة براءته ونزاهته مما قذفه به ، وكان ذلك سببا في اتصاله بيوسف واختصاصه به ، لم يكن في ذلك ضرر عليه ، يبقى أن يقال : وقد تضمن هذا الكيد إيذاء أبيه وتعريضه لألم الحزن على حزنه السابق ، فأى مصلحة كانت ليعقوب في ذلك؟

فيقال : هذا من امتحان الله تعالى له ، ويوسف إنما فعل ذلك بالوحي ، والله تعالى لما أراد كرامته كمل له مرتبة المحنة والبلوى ليصبر فينال الدرجة التي لا يصل إليها إلا على حسب الابتلاء ، ولو لم يكن في ذلك إلا تكميل فرحه وسروره باجتماع شمله بحبيبه بعد الفراق. وهذا من كمال إحسان الرب تعالى أن يذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر ، ويعرفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بضدها. كما أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يكمل لآدم نعيم الجنة أذاقه مرارة خروجه منها ، ومقاساة هذه الدار الممزوج رخاؤها بشدتها ، فما كسر عبده المؤمن إلا ليجبره ولا منعه إلا ليعطيه ، ولا ابتلاه إلا ليعافيه ولا أماته ألا ليحييه ، ولا نغص عليه الدنيا إلا ليرغبه في الآخرة ، ولا ابتلاه بجفاء الناس إلا ليرده إليه.

فعلم أنه لا يجوز ذم هذه الأفعال على الإطلاق ، كما لا تمدح على الإطلاق والمكر والكيد والخداع لا يذم من جهة العلم ولا من جهة القدرة ، فإن العلم والقدرة من صفات الكمال ، وإنما يذم ذلك من جهة سوء القصد وفساد الإرادة وهو أن الماكر المخادع يجوز ويظلم بفعل ما ليس له فعله أو ترك ما يجب عليه فعله.

٤٠٦

إذ عرف ذلك فنقول : إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقا ، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى ، ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه الماكر المخادع المستهزئ ، الكائد فقد فاه بأمر عظيم تقشعر منه الجلود ، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه ، وغرّ هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال فاشتق له منها أسماء ، وأسماؤه كلها حسنى فأدخلها في الأسماء الحسنى ، وأدخلها وقرنها بالرحيم الودود الحكيم الكريم. وهذا جهل عظيم فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقا ، بل تمدح في موضع وتذم في موضع ، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله مطلقا ، فلا يقال أنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزىء ويكيد ، فكذلك بطريق الأولى لا يشتق له منها أسماء يسمى بها ، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى المريد ولا المتكلم ولا الفاعل ولا الصانع ، لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم ، وإنما يوصف بالأنواع المحمودية منها ، كالحليم والحكيم ، والعزيز والفعال لما يريد ، فكيف يكون منها الماكر المخادع المستهزئ. ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى الداعى والآتي ، والجائي والذاهب والقادم والرائد ، والناسي والقاسم ، والساخط والغضبان واللاعن إلى أضعاف أضعاف ذلك من الأسماء التي أطلق على نفسه أفعالها في القرآن وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل ، والمقصود أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق ، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق ، فكيف من الخالق سبحانه ، وهذا إذا نزلنا ذلك على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله ، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه ، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلا ، وأنه يجوز عليه كل ممكن ولا يكون قبيحا ، فلا يكون الاستهزاء والمكر والخداع منه قبيحا البتة ، فلا يمتنع وصفه به ابتداء لا على سبيل المقابلة على هذا التقرير ، وعلى التقديرين فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجازه ، إذ الموجب للمجاز منتف على التقديرين ، فتأمله فإنه قاطع ، فهذا ما يتعلق بالأمر المعنوى.

٤٠٧

أما الأمر اللفظي فإطلاق هذه الألفاظ عليه سبحانه لا يتوقف على إطلاقها على المخلوق ليعلم أنها مجاز لتوقفها على المسمى الآخر كما قدمنا من قوله (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (الرعد : ١٣) وقوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (الأعراف : ٩٩) فظهر أن هذا الفرق الّذي اعتبروه فاسد لفظا ومعنى. يوضحه :

* * *

الوجه السادس والعشرون : إن هاهنا ألفاظا تطلق على الخالق والمخلوق أفعالها ومصادرها وأسماء الفاعلين والصفات المشتقة منها ، فإن كانت حقائقها ما يفهم من صفات المخلوقين وخصائصهم ، وذلك منتف في حق الله تعالى قطعا لزم أن تكون مجازا في حقه لا حقيقة ، فلا يوصف بشيء من صفات الكمال حقيقة وتكون أسماؤه الحسنى كلها مجازات ، فتكون حقيقة للمخلوق مجازا للخالق. وهذا من أبطل الأقوال وأعظمها تعطيلا. وقد التزمه معطلو الجهمية وعمومهم ، فلا يكون رب العالمين موجودا حقيقة ، ولا حيا حقيقة ، ولا مريدا حقيقة ، ولا قادرا حقيقة ، ولا ملكا حقيقة ، ولا ربا حقيقة ، وكفى أصحاب هذه المقالة بها كفرا. فهذا القول لازم لكل من ادعى المجاز في شيء من أسماء الرب وأفعاله لزوما لا محيص له عنه. فإنه إنما فر إلى المجاز لظنه أن حقائق ذلك مما يختص بالمخلوقين ولا فرق بين صفة وصفة ، وفعل وفعل ، فإما أن يقول الجميع مجاز أو الجميع حقيقة.

وأما التفريق بين البعض وجعله حقيقة وبين البعض وجعله مجازا فتحكم محض باطل ، فإن زعم هذا المتحكم أن ما جعله مجازا ما يفهم من خصائص المخلوقين وما جعله حقيقة ليس مفهومه مما يختص بالمخلوقين طولب بالتفريق بين النفي والإثبات وقيل له : بأي طريق اهتديت إلى هذا التفريق؟ بالشرع أم العقل أم باللغة؟ فأى شرع أو عقل أو لغة أو فطرة على أن الاستواء والوجه واليدين والفرح والضحك والغضب والنزول حقيقة فيما يفهم من خصائص المخلوقين ، والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة حقيقة فيما لا يختص به

٤٠٨

المخلوق.

فإن قال : أنا لا أفهم من الوجه واليدين والقدم إلا خصائص المخلوق ، وأفهم من السمع والبصر والعلم والقدرة ما لا يختص به المخلوق ، قيل له : فبم تنفصل عن شريكك في التعطيل إذا ادعى في السمع والبصر والعلم مثل ما ادعيته أنت في الاستواء والوجه واليدين؟ ثم يقال لك : هل تفهم مما جعلته حقيقة خصائص المخلوق تارة وخصائص الخالق تارة ، أو القدر المشترك ، أو لا تفهم منها إلا خصائص الخالق ، فإن قال بالأول كان مكابرا جاهلا ، وإن قال بالثاني قيل له فهلا جعلت الباب كله بابا واحدا وفهمت ما جعلته مجازا خصائص المخلوق تارة والقدر المشترك تارة ، فظهر للعقل أنكم متناقضون. يوضحه :

* * *

الوجه السابع والعشرون : إن هذه الألفاظ التي تستعمل في حق الخالق والمخلوق لها ثلاث اعتبارات : (أحدها) أن تكون مقيدة بالخالق كسمع الله وبصره ووجهه ويديه واستوائه ، ونزوله وعلمه وقدرته وحياته ، (الثاني) : أن تكون مقيدة بالمخلوق كيد الإنسان ووجهه ويديه واستوائه ، (الثالث) : إن تجرد عن كلا الإضافتين وتوجد مطلقة ، فإثباتكم لها حقيقة ، إما أن يكون بالاعتبار الأول أو الثاني أو الثالث ، إذ لا رابع هناك ، فإن جعلتم جهة كونها حقيقة تقيدها بالخالق لزم أن تكون في المخلوق مجازا. وهذا مذهب قد صار إليه أبو العباس الناشي ووافقه عليه جماعة ، وإن جعلتم جهة كونها حقيقة تقيدها بالمخلوق لزم أن تكون في الخالق مجازا. وهذا مذهب قد صار إليه إمام المعطلة جهم بن صفوان ، ودرج أصحابه على أثره (١) ، وإن جعلتم جهة كونها حقيقة القدر المشترك ، ولم تدخل القدر المميز في موضوعها لزم أن تكون حقيقة في

__________________

(١) تقدم التعريف بجهم والجهمية.

٤٠٩

الخالق والمخلوق. وهذا قول عامة العقلاء ، وهو الصواب ، وإن فرقتم بين بعض الألفاظ وبعض ، وقعتم في التناقض والتحكم المحض. يوضحه :

(خصائص الإضافات لا تخرج اللفظ عن حقيقته)

الوجه الثامن والعشرون : إن خصائص الإضافات لا تخرج اللفظ عن حقيقته وتوجب جعله مجازا عند إضافته إلى محل الحقيقة. وهذا من مثار أغلاط القوم. مثاله لفظ الرأس ، فإنه يستعمل مضافا إلى الإنسان والطائر والسمك والماء والطريق والإسلام والمال وغير ذلك ، فإذا قيد بمضاف إليه تعين ، ولم يتناول غيره الأمور المضاف إليها ، بل هذا القيد غير هذا القيد. ومجموع اللفظ الدال في هذا التقييد غير مجموع اللفظ الدال في هذا التقييد الآخر ، وإن اشتركا في جزء اللفظ كما اشتركت الأسماء المعرفة باللام فيها ، فلم تضع العرب لفظ الرأس لرأس الإنسان مثلا وحده ، ثم إنهم وضعوه لرأس الطائر والماء وغيرها ، فهذا لا يمكن أحدا أن يدعيه إلا أن يكون مباهتا. وكذلك لفظ البطن والظهر والخطم والفم ، فإنه يقال : ظهر الإنسان وبطنه ، وظهر الأرض وبطنها وظهر الطريق وظهر الجبل وخطم الجبل ، وفم الوادي وبطن الوادي. وذلك حقيقة في الكل فالظاهر لما ظهر فتبين. والباطن لما بطن فخفي فالحسي للحسي والمعنوي ونسبة كل منهما إلى ما يضاف إليه كنسبة الآخر إلى ما يضاف إليه والعرب لم تضع فم الوادى وخطم الجبل وظهر الطريق لغير مفهومه ، حتى يكون استعماله في ذلك استعمالا له في غير موضوعه ولم تتكلم بلفظ فم وظهر ورأس مفردا مجردا عن جميع الإضافات ، فتكون إضافته مجازا في جميع موادها ، ولم تضعه لمضاف إليه معين يكون حقيقة فيه ثم وضعته لغيره وضعا ، ثانيا ، فأين محل الحقيقة والمجاز من هذه الألفاظ المقيدة؟

الوجه التاسع والعشرون : إن من الأسماء ما تكلمت به العرب مفردا مجردا عن الإضافة ، وتكلمت به مقيدا بالإضافة كالإنسان مثلا والإبرة ، فإنهم يقولون إنسان العين وإبرة الذراع وقد ادعى أرباب المجاز أن هذا مجاز ، وهنا لم

٤١٠

يستعمل اللفظ المجرد في غير ما وضع له ، بل ركب مع لفظ آخر ، فهو وضع أولا بالإضافة ، ولو أنه استعمل مضافا في معنى ثم استعمل بتلك الإضافة بعينها في موضع آخر أمكن أن يكون مجازا ، بل إذا كان بعلبك وحضرموت ونحوهما من المركب تركيب مزج بعد أن كان أصله الإفراد وعدم الإضافة لا يقال فيه أنه مجاز ، فما لم تنطق به إلا مضافا أولى أن لا يكون مجازا فتأمله.

الوجه الثلاثون : إن مثبت المجاز والاستعارة ، قد ادعى أن المتكلم وضع هذه اللفظة في غير موضوعها ولا سيما الاستعارة ، فإن المستعير هو آخذ ما ليس له في الحقيقة ، فإذا قال هذه اللفظة مجاز أو استعارة فقد ادعى أنها وضعت في غير موضعها ، فيقال له : فهما أمران مستعار ومستعار منه ، فلا تخلو الكلمة التي جعلت الأخرى مستعارة منها وهي أصلية غير مستعارة أن تكون قد جعلت كذلك لخاصة فيها اقتضت أن تكون هي الأصل المستعار منه ، أو تكون كذلك لأن لغة العرب جاءت بها وثبت استعمالهم لها.

فإن قلتم : إنما كانت مستعارا منها وهي أصل لعلة أوجبت لها ذلك في نفس لفظها ، قيل لكم : ما هي تلك العلة وما حقيقتها؟ ولن تجدوا إلى تصحيح ذلك سبيلا.

وإن قلتم إنما كانت أصلا مستعارا منها لأن العرب تكلمت بها واستعملتها في خطابها ، قيل لكم فهذه العلة بعينها موجودة في الكلمة التي ادعيتم أنها مستعارة وأنها مجاز ، والعرب تكلمت بهذا وهذا ، فإما أن تكونا مستعارتين أو تكونا أصليتين ؛ وأما أن تجعل إحداهما أصلا للأخرى ومعيرة لها الاستعمال ، فهذا تحكم بارد.

فإن قلتم : إنما جعلنا هذه أصلا لكثرتها في كلامهم ، وهذه مستعارة لقلتها في كلامهم. قيل هذا باطل من وجوه : (أحدها) أن كثيرا من الحقائق نادرة الاستعمال في كلامهم ، وهى الألفاظ الغريبة جدا التي لا يعرف معناها إلا الأفراد من أهل اللغة مع كونها حقائق. (ثانيهما) : أن كثيرا من المجازات

٤١١

عندكم قد غلب على الحقيقة بحيث صارت مهجورة أو مغمورة ، ولم يدل على أن الغالب هو الحقيقة والمغلوب هو المجاز ، (وثالثها) : أن هذا لا يمكن ضبطه ، فإن الكثرة والغلبة أمر نسبي يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ويكثر عند هؤلاء ما يقل بل يعدم عند غيرهم ، فما الذي يضبط به الكثرة الدالة على الحقيقة والقلة الدالة على المجاز ؛ ولن تجدوا لذلك ضابطا أصلا.

(جهالة التحكم في استعمال الألفاظ)

الوجه الحادى والثلاثون : إن حكمكم على بعض الألفاظ أنه مستعمل في موضوعه ؛ وعلى بعضها أنه مستعمل في غير موضوعه تحكم بارد ، فإنا إنما نعلم أن هذا المفهوم موضوع اللفظ فيه ؛ فإذا رأيناهم في نظمهم ونثرهم وقديم كلامهم وحديثه قد استعملوا هذا اللفظ وفي هذا المعنى كان دعوى أنه مستعمل في موضوعه في هذا دون الآخر دعوى باطلة متضمنة للتحكم والخرص والكذب.

فإن قلتم : لما رأيناه إذا أطلق فهم منه معنى ، وإذا قيد يفهم منه معنى آخر ؛ علمنا أن موضوعه هو الذي يدل عليه إطلاقه.

قيل لكم : هذا خطأ فإن اللفظ المفرد لا يفيد بإطلاقه وتجرده شيئا البتة ، فلا يكون كلاما ولا جزء كلام ، فضلا عن أن يكون حقيقة أو مجازا ، ومعلوم أن تركيبه التركيب الإسنادي تقييد له ، وإذا ركب فهم المراد منه بتركيبه ، فالذى يسمونه مجازا عند تركيبه لا يفهم منه غير معناه ؛ وذلك موضوعه في لغتهم ؛ فدعوى انتقاله عن موضوعه إلى موضوع آخر وهم إنما استعملوه هكذا ـ دعوى باطلة ، ولنذكر لك مثالا.

ففي «الصحيح» عن أنس رضي الله عنه قال : كان فزع بالمدينة فاستعار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا لأبى طلحة يقال له مندوب ، فركبه فقال ما رأينا من فزع وإن وجدناه

٤١٢

لبحرا (١). فادعى المدعى أن هذا مجاز ، وكان ظن أن العرب وضعت البحر لهذا الماء المستبحر ثم نقلته إلي الفرس لسعة جريه فشبهته به فأعطته اسمه ، وهذا إن كان محتملا فلا يتعين ولا يصار إلى القبول به لمجرد الاحتمال فإنه من الممكن أن يكون البحر اسما لكل واسع ، فلما كان خطو الفرس واسعا سمى بحرا ، وقد تقيد الكلام بما عين مراد قائله بحيث لا يحتمل غيره ، فهذا التركيب والتقييد معين لمقصوده ، وأنه بحر في جريه لا أنه بحر ماء نقل إلى الفرس.

(يوضحه) إنهم قصدوا تسمية الخيل بذلك فقالوا للفرس جواد وسابح وطرف ، ولو عرى الكلام من سياق يوضح الحال لم يكن من كلامهم ؛ وكان فيه من الإلباس ما تأباه لغتهم ؛ ألا ترى أنك لو قلت رأيت بحرا وأنت تريد الفرس ، أو رأيت أسدا وأنت تريد الرجل الشجاع لم يكن ذلك جاريا على طريق البيان : فكان بالألغاز والتلبيس أشبه منه بالمائدة وهؤلاء المتكلفون والمتكلمون بلا علم يقدرون كلاما يحكمون عليه بحكم ثم ينقلون ذلك الحكم إلى الكلام المستعمل ، وهذا غلط ؛ فإن الكلام المستعمل لا بد أن يقترن به من البيان والسياق ما يدل على مراد المتكلم ، وذلك الكلام المقدر مجرد عن ذلك ؛ ولا ريب أن الكلام يلزم في تجرده لوازم لا تكون له عند اقترانه وكذلك بالعكس ، ونظير هذا الغلط أيضا أنهم يجردون اللفظ المفرد عن كل قيد ثم يحكمون عليه بحكم ثم ينقلون ذلك الحكم إليه عند تركيبه مع غيره ؛ فيقولون الأسد من حيث يقطع النظر عن كل قرينه هو الحيوان المخصوص ، والبحر بقطع النظر عن كل تركيب هو الماء الكثير وهذا غلط ؛ فإن الأسد والبحر وغيرهما بالاعتبار المذكور ليس بكلام ولا جزء كلام ولا يفيد فائدة أصلا ؛ وهو صوت ينعق به ؛ يوضحه.

الوجه الثاني والثلاثون : إنكم إما تعتبروا تحقيق الوضع الأول الذي يكون اللفظ بالخروج عنه مجازا أو تعتبروا تقديره ، فإن اشترطتم تحقيقه بطل التقسيم

__________________

(١) أخرجه البخارى (٢٨٢٠ ، ٢٨٥٧) ، ومسلم (٢٣٠٧).

٤١٣

إلى الحقيقة والمجاز ، لأن الحكم المشروط بشرط لا يتحقق إلا عند تحقق شرطه ؛ ولا سبيل لبشر إلى العلم بتحقيق هذين الأمرين ؛ وهما الوضع الأول والنقل عنه ، وإن اعتبرتم تقديره وإمكانه فهو ممتنع أيضا ؛ إذ مجرد التقدير والاحتمال لا يوجب تقسيم الكلام إلى مستعمل في موضوعه الأول ومستعمل في موضوعه الثاني ؛ فهب أن هذا الحكم ممكن أفيجوز هذا الحكم والتقسيم بمجرد الاحتمال والإمكان يوضحه.

الوجه الثالث والثلاثون : إن هذا التقسيم إما أن تخصوه بلغة العرب خاصة أو تدعوا عمومه لجميع لغات بني آدم ، فإن ادعيتم خصومه بلغة العرب كان ذلك تحكما فاسدا ، فإن التشبيه والمبالغة والاستعارة التي هي جهات التجوز عندكم مستعملة في سائر اللغات ، وإن كانت لغة العرب في ذلك أوسع وتصورهم المعاني أتم ، فإذا قلت زيد أسد أمكن التعبير عن هذا المعنى بكل لغة. وإن ادعيتم عموم ذلك لجميع اللغات فقد حكمتم على لغات الأم ، على أنها كلها أو أكثرها مجازات لا حقيقة لها ، وأنها قد نقلت عن موضوعاتها الأصلية إلى موضوعات غيرها ، وهذا أمر ينكره أهل كل لغة ولا يعرفونه بل يجزمون بأن لغاتهم باقية علي موضوعاتهما لم تخرج عنها ، وإنهم نقلوا لغتهم عمن قبلهم ، ومن قبلهم كذلك على هذا الوضع ، لم ينقل إليهم أحد أن لغتهم كلها أو أكثرها خرجت عن موضوعاتها إلى غيرها.

الوجه الرابع والثلاثون : أنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى متكلم حقيقة ، وأنه تكلم بالكتب التي أنزلها على رسله ؛ كالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرها ؛ وكلامه لا ابتداء له ولا انتهاء ، فهذه الألفاظ التي تكلم الله بها ؛ وفهم عباده مراده منها لم يضعها سبحانه لمعان ثم نقلها عنها إلى غيرها ، ولا كان تكلمه سبحانه بتلك الألفاظ تابعا لأوضاع المخلوقين ، فكيف يتصور دعوى المجاز في كلامه سبحانه إلا على أصول الجهمية المعطلة ، الذين يقولون كلامه مخلوق من جملة المخلوقات ولم يقم به سبحانه كلام؟ وهؤلاء اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتكفيرهم.

٤١٤

وأما من أقر أن الله تعالى تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها حقيقة ، وأن موسى سمع كلامه منه إليه بلا واسطة ، وأنه يكلم عباده يوم القيامة ، ويكلم ملائكته ، فإنه لا يتصور على أصله دخول المجاز في كلامه ، ولو كان ثابتا ولا سيما على أصول من يجعل كلام الله معنى واحدا لا تعدد فيه ، وهذه العبارات دالة على ذلك المعنى ؛ فليس بعضها أسبق من بعض تلك المفهومات له بالوضع الأول وبعضها بالوضع الثاني ، وكذلك من يجعل الألفاظ الدالة على المعاني قديمة لا يسبق بعضها بعضا ؛ فكيف يعقل عند هؤلاء وضع أول يكون حقيقة ، ووضع ثان يكون مجازا؟ وسنذكر إن شاء الله تعالى فساد دعواهم في الألفاظ والقرآن أنها مجاز لو كان مجاز حقا.

فإن قيل : الرب سبحانه خاطبهم بما ألفوه من لغاتهم واعتادوا من التفاهم منها ، فلما كان من خطابهم فيما بينهم الحقيقة والمجاز ، جاء الله لهم بذلك ليحصل لهم الفهم والبيان قيل : خطاب الله تعالى سابق على مخاطبة بعضهم بعضا. فهل كان في كلامه سبحانه ألفاظ وضعت لمعان ثم نقلها سبحانه عنها إلى معان آخر؟ فهل يتصور هذا القدر في كلامه ؛ وإن كان ذلك في مخاطبة بعضهم بعضا؟ يوضحه :

الوجه الخامس والثلاثون : وهو أن الله هو الذي علمهم البيان بألفاظهم عما في أنفسهم فعلمهم المعانى وصورها في نفوسهم ، وعلمهم التعبير عنها بتلك الألفاظ كما قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فهو سبحانه علم الإنسان أن يبين عما في نفسه وأقدره على ذلك وجعل بيانه تابعا لتصوره واحتياجه إلى التعبير عما في نفسه ، وذلك من لوازم نشأته وتمام مصلحته ، والمعانى التي يدعى أن اللفظ حقيقة فيها أو يكون معها ، وحاجتهم إلى التعبير عن الجميع سواء فكيف يدعى أن اللفظ وضع لبعضها دون بعض مع شدة الحاجة إلى التعبير عن الجميع؟ هذا مما يأباه العقل والعادة ، ولا سيما على

٤١٥

قول الغلاة الذين يدعون أن أكثر اللغة مجاز ، وأن الأفعال كلها مجاز ، فهل كانت الطبيعة والاستعمال والألسن معطلة عن استعمال تلك المجازات حتى أحدث لها وضع ثان ولا ريب أن الذين قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز لم يتصوروا لوازم قولهم ، ولو تصوروه حق التصور لما تكلموا به.

الوجه السادس والثلاثون : مما يبين بطلان هذا التقسيم أن أصحابه متنازعون في أشهر الكلام وأظهر استعمالاته نزاعا كثيرا لا يمكن له الحكم لطائفة على طائفة ، فلو كان الفرق الّذي ادعيتموه ثابتا في نفس الأمر أمكن الحكم بينكم مثال ذلك أن العام المخصوص إما أن يقال كله حقيقة ، وإما أن يقال كله مجاز وإما أن يقال بعضه حقيقة وبعضه مجاز ، سواء قيل أن التخصيص المتصل حقيقة والمنفصل مجاز والباقي حقيقة ، أو قيل الاستثناء وحده حقيقة دون سائر المنفصلات ، فأي قول من هذه الأقوال قبل على تقدير التقسيم إلى الحقيقة والمجاز فهو باطل إلا قول من جعل الجميع حقيقة ، فيلزم بطلان التقسيم على التقديرين.

بيان ذلك أن الذين قالوا العام المخصوص كله حقيقة ، وهم أكثر العلماء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ، بل أكثرهم أصحاب مالك والشافعي وأحمد ولم يذكروا في ذلك نزاعا واحتجوا بحجج تستلزم نفي المجاز.

قال الشيخ أبو إسحاق الأسفرائيني (مسألة) في العموم إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أو مجازا؟ فاختلف الناس في ذلك : فذهبت طائفة إلى أنه يكون حقيقة فيما بقى سواء خص بدليل متصل كالاستثناء ، أو بدليل منفصل كدليل العقل والقياس وغير ذلك ، قال : وهذا مذهب الشافعي وأصحابه ، وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ؛ قال : وذهبت طائفة إلى أنه يكون مجازا في الثاني ، وسواء خص بدليل متصل أو منفصل. وهذا مذهب المعتزلة بأسرها وهو قول عيسى بن أبان وأكثر أصحاب أبي حنيفة. وحكى بعض الأشعرية أنه مذهب الأشعري أيضا ؛ وذهبت طائفة إلى أنه إن خص بدليل متصل كان حقيقة في الباقي ؛ وإن خص بدليل منفصل كان مجازا. ذهب إلى هذا الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة.

٤١٦

قال : وفائدة الخلاف في هذه المسألة أن من يقول إن ذلك حقيقة في الثاني يحتج بلفظ العموم فيما يخص منه بمجرده من غير دليل يدل عليه ، ومن يقول إنه يكون مجازا لا يمكنه الاحتجاج بالعموم المخصوص فيما بقى إلا بدليل يدل على أنه محمود على ذلك. قال وهذا الذي حكى عن الأشعرى لا يجيء على قوله من وجهين (أحدهما) أن اللفظ المشترك عنده بين العموم والخصوص ، إذا دل الدليل على العموم كان حقيقة فيه ، وإذا دل الدليل على الخصوص وكان حقيقة فكيف يصح على قوله أن يقال إنه حقيقة فيما بقي بعد التخصيص (والثاني) أنه يقول إن اللفظ المستعمل فيما بقى يحتج فيه بمجرده من غير دلالة ، وهذا معنى قولنا إنه حقيقة في الثاني ، فإذا سلم هذا لم يكن تحت قولنا إنه مجاز فيما بقى معنى فإن من قال ذلك يكون مجازا فيما بقى استدل بنكتة واحدة ، وهي أن لفظ العموم موضوع للاستغراق بتجريده ، فإذا دل الدليل على تخصيصه فإنه يحمل على الخصوص ويعدل بعده عن موضوعه بالقرينة التي دلت على خصوصية اللفظ ، وإذا عدل به عن موضوعه إلى غيره كان استعماله فيه مجازا لا حقيقة ، ألا ترى أن اسم الأسد موضوع في الحقيقة للبهيمة ، وإذا استعمل بقرينة في الرجل الشجاع كان مجازا. وكذلك الحمار اسم في الحقيقة للبهيمة. وإذا استعمل بقرينة في الرجل البليد كان مجازا وكذلك لفظ العموم إذا استعمل في الخصوص بقرينة كان مجازا ، قال : ودليلنا أن لفظ العموم إذا ورد مطلقا فإنه يقتضي استغراق الجنس فإذا ورد دليل التخصيص فإن ذلك الدليل يبين ما ليس بمراد باللفظ ويخرجه عنه ليكون هذا الدليل قد أثر فيما يخرجه عنه ويبين أنه ليس بمراد به يؤثر فيما بقي ؛ بل يكون ما بقى الحكم ثابت فيه باللفظ حسب والذي يدل على هذا أن دليل التخصيص مناف لحكم ما بقى من اللفظ مضاد له فلا يجوز أن يؤثر فيه ويثبت الحكم مع مضادته له ومنافاته ، فإنما يؤثر في إسقاط الحكم عما أخرجه وخصه ؛ إذا كان كذلك كان الحكم ثابتا فيما لم يدخله التخصيص بنفس اللفظ من غير قرينة ، وكان حقيقة فيه لا مجازا فيصير لأهل الحرب عندنا اسمان كل واحد منهما حقيقة فيهم ، أحدهما حقيقة فيهم بمجرده وهو قوله اقتلوا أهل الحرب ، والآخر حقيقة فيهم عند وجود قرينة ، وهو أن

٤١٧

يقولوا اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة ، وليس يمتنع مثل هذا : ألا ترى أنه إذا قال اعطوا فلانا ثوبا أصفر ، كان ذلك حقيقة في الثوب الأصفر بهذا اللفظ ، فإذا قال : اعطه ثوبا ولا تعطه غير الأصفر ، كان ذلك حقيقة فيه عند وجود القرينة فكذلك هذا مثله ، ويخالف هذا إذا استعمل اسم الحمار في الرجل البليد واسم الأسد في الرجل الشجاع ؛ لأن ذلك اللفظ يحمل عليه بالقرينة الدالة عليه لا بمجرد اللفظ. فإن القرينة تدل على المراد باللفظ وهي مماثلة له في الحكم فهى دالة على ما أريد به. فكان اللفظ مستعملا بالقرينة فكان مجازا. وليس كذلك استعمال لفظ العموم في الخصوص فإن ما بينت المراد باللفظ ، وإنما بينت ما ليس بمراد فكان استعمال اللفظ في المراد بنفسه لا بالقرينة ، فإنه لا يجوز أن يكون مستعملا بالقرينة والقرينة مضادة له. فكان ذلك حقيقة فيما استعمل فيه لا مجازا.

قال : ودلالة على من ساوى بين القرينة المتصلة والمنفصلة ـ يعنى فجعل الجميع مجازا ـ وهو أنا نقول لا فرق عند أهل اللغة بين قول القائل لفلان خمسة دراهم وبين قوله عشرة إلا خمسة. في أن كل واحد من اللفظين يعبر به عن الخمسة ويدل عليها ، فلما كان لفظ الخمسة فيها كذلك قالوا عشرة إلا خمسة يجب أن يكون حقيقة فيها. وهكذا يجب حكم كل دليل على تخصيص اللفظ بما يتصل به فأما من فرق بين الدليل المتصل والمنفصل فإنه فصل بين الموضوعين بأن قال الكلام إذا اتصل بعضه ببعض بني بعضه على بعض فكان ذلك حقيقة فيما بقى. وإذا انفصل بعضه عن بعض لم يبين فكان مجازا فيه. قال : وهذا غلط لأنه فرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة في أن اللفظ مبنى عليها ودلالة على ما ليس بمراد منه وما بقى يكون ثابتا فيها باللفظ لا بقرينة. فيجب أن لا يفترق حالهما بوجه. وقد وافق أبا حامد على ذلك أئمة أصحاب الشافعي. كالقاضي أبي الطيب الطبري وأبي اسحاق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ.

* * *

٤١٨

قال أبو الطيب :

وإذا خص من العموم شيء لم تبطل دلالته في الثاني. وقال عيسى بن أبان يصير مجازا وتبطل دلالته. واحتج من نصر قوله بأن اللفظ صار مستعملا في غير ما وضع له. فاحتاج إلى دليل يدل على المراد به ، فإن لفظه لا يدل عليه. وصار بمنزلة المجمل الذي لا يدل على المراد بلفظه ويحتاج إلى قرينة تفسره وتدل على المراد به. قال وهذا عندنا غير صحيح لأن فاطمة احتجت بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (النساء : ١١) فلم ينكر أحد احتجاجها بهذه الآية وإن كان قد خص منها الولد القائل والرقيق والكافر ، وإنما خصوا ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنة خاصة. فدل هذا على أن تخصيص العموم لا يمنع من الاحتجاج به فيما لم يخص منه.

قال وأيضا : فإن دلالة اللفظ سقطت فيما عارضه الخاص لأنه أقوى منه وفيما عداه باقية لأنه لا معارض له فجاز الاحتجاج به فيما لم يخص منه.

فإن قال : هذا منتقض على أصلك بالعلة إذا خصت فإنه لا يجوز الاحتجاج بها فيما لم يخص منها. فالجواب : أن العلة إذا خصت كانت منتقضة فلم تكن علة لذلك الحكم وليس كذلك العموم فإنه إذا خص منه شيئا كان دلالته باقية فيما لم يخص منه لأنه إنما كان دليلا في جميع ما تناوله من الجنس لكونه قولا لصاحب الشريعة لا معارض له فيه وهذا المعنى يوجد فيما لم يخص منه لأن التخصيص يحصل باقتراض الشرط أو الصفة أو الغاية ولا يمنع الاحتجاج به ، فكذلك التخصيص باللفظ المنفصل.

قال وأما الجواب عن قول المخالف أنه مستعمل في غير ما وضع له ، وأنه غير دال على المراد به ويحتاج إلى قرينة ، فلا نسلم أنه غير مستعمل في غير ما وضع له ، لأن هذا اللفظ موضوع للعموم بمجرده وللخصوص بقرينة وهذا غير ممتنع في اللغة لأنا أجمعنا على أنه موضوع بمجرده للعموم والخصوص بقرينة متصلة به

٤١٩

مثل الاستثناء ، فإن قوله اقتلوا المشركين إلا أهل الكتاب ، ليس مجازا وهو مستعمل فيما وضع له والقرينة المنفصلة في معنى القرينة المتصلة ، والخاص مع العام بمنزلة الاستثناء مع المستثنى منه ، وكذلك قول القائل : خرج زيد ، يكون إخبارا عن خروجه ، وتضم إليه لفظة ما ؛ فيكون إخبارا عن ضده ، وتضيف إليه الهمزة فيكون استفهاما ، وكل ذلك حقيقة ؛ فكذلك في مسألتنا ، قال : هذا يؤدي إلى ألا يكون في اللغة مجاز ، إذ قولنا «بحر» موضوع للماء الكثير بمجرده ، وللعالم أو الجواد بقرينة ، والأسد موضوع للبهيمة بمجرده والرجل الشديد بقرينة ، والحمار للبهيمة وللرجل البليد بقرينة ، وإذا كان كذلك بطل هذا الجواب.

قيل : لو لزمنى هذا في التخصيص لزمه في الاستثناء فإن المخالف يقول في الاستثناء مثل ما نقول نحن في التخصيص ولا فرق بينهما.

وجواب آخر : وهو أن هذه المواضع إثباتها مجازا إما بالتوقف من جهة أهل اللغة وليس في تخصيص العموم أنه مجاز توقيف فلم يجعله مجازا إلا ظاهر استعمال الحقيقة. وجواب آخر : وهو أن هذا كلام في العبارة لا يجدى شيئا وإنما المقصود هل يبطل التخصيص دلالة اللفظ ويمنع الاحتجاج به أم لا؟ وعند المخالف تبطل دلالة اللفظ ويمنع الاحتجاج به ، وهذا ظاهر الفساد.

وقوله : إن اللفظ لا ينبئ عن المراد وهو بمنزلة المجمل خطأ لأن المجمل غير دال بلفظه على شيء والعموم دال على ما تناوله ، وإنما أخرج بعضه بدليل أقوى منه وبقى الباقي على موجب اللفظ وبيانه.

* * *

٤٢٠